الخطاب الديني في الفضائيات العربية
فئة : مقالات
هذه المحاضرة هي في البداية وبالمحصلة، بعض عناصر للنقاش، إذ الموضوع شاسع وواسع، ويحيل على العديد من الحقول المعرفية، وعلى العديد من المقاربات التي قد تتقاطع حينا وقد تتعارض أحيانا أخرى. ولما كان الأمر كذلك، فقد صيغت على شكل ملاحظات وأفكار، الغاية منها هي إثارة النقاش وفتح السبل أمام البحث في هذا الجانب من جوانب العلوم الاجتماعية والإنسانية: أول عنصر تمهيدي هو التالي: من الصعب رصد الخطاب الديني بجل الفضائيات العربية، والتي يتعدى عددها الألف، بين العام والخاص، بين الجامع والمتخصص، المقتنية لهذا القمر الصناعي أو ذاك، والمغطية لهذا المجال الجغرافي أو ذاك. والذي سنقف عنده هنا هو ما يسمى بالفضائيات الدينية (أو ذات النزوع الديني)؛ أي تلك التي تتشكل معظم مفاصل شبكتها البرامجية من المادة الدينية الصرفة، وإلى حد ما القنوات الجامعة التي تفرد للدين حيزا من الشبكة البرامجية، لكن ضمن باقي المواد المتنوعة لشبكتها. ثاني عنصر: التساؤل في الخطاب الديني بالفضائيات العربية هو من التساؤل في طبيعة وخلفيات ومرجعية المادة المقدمة، وكذا الطريقة التي يتلقاها بها الجمهور مباشرة بالأستوديو أو من خلال الشاشة؛ أي من خلال وسيط مادي. ليس المهم هنا استحضار عناصر باث الرسالة ومتلقيها من خلال وسيط، لأن لذلك محدوديته النظرية والعملية، والتي لا مجال للتفصيل فيها هنا. التساؤل المهم هنا هو غاية وكيفية موسطة الدين تلفزيونيا، وهل بالإمكان حقا موسطته؟ والمقصود بهذه الموسطة هو طريقة تمثل التلفزة للفعل الديني، بما هو نصوص أساس (قرآن كريم وسنة نبوية شريفة تحديدا)، بما هو اجتهادات منطلقة من هذه النصوص أو على هامشها، وكذا من خلال التوظيفات السياسية التي يخضع لها الدين، ناهيك عن الممارسات الدينية اليومية التي يثوي خلفها الناس بصورة عامة، والتي لا تخرج عن نطاق ممارستهم للتدين بعفوية وبراءة ووفق إدراكاتهم الخاصة. ثالث عنصر: قبل الحديث عن الخطاب الديني في الفضائيات، لا بد فيما يبدو لنا، من التوقف بعجالة عند الملامح الكبرى لما بات منذ مدة يسمى بالإعلام الديني، كما تتطلع هذه الفضائيات للتعبير عنه، أو تعمل على مظهرته بهذا الوسيط أو ذاك، ولا سيما الوسيط التلفزيوني: - أول ملمح ل 104 فضائية دينية (وهو العدد الذي أوردته آخر إحصاءات اتحاد إذاعات الدول العربية)، هو الهيمنة المطلقة للفضائيات الدينية الخاصة، قياسا إلى القنوات الدينية العمومية أو الحكومية: 96 للأولى و 8 فقط للثانية؛ أي ما نسبته 92 بالمائة من المجموع، معظمها يبث باللغة العربية، أو ببعض اللهجات المحلية أو بهما معا، ناهيك عمن تبث بلغات عالمية كالإنجليزية مثلا. - ثاني ملمح: هناك تساو في العدد نسبيا، بين القنوات الدينية الجامعة والقنوات الدينية المتخصصة: 59 للأولى و 45 للثانية. في الفضائيات الجامعة، نجد تنوعا في المادة الدينية، في حين أن القنوات المتخصصة تركز على مادة دون أخرى، وفق طبيعة التخصص: قرآن كريم أو أحاديث نبوية أو ابتهالات أو مديح أو ما سوى ذلك. - ثالث ملمح: إعلام هذه الفضائيات لا يختلف عن باقي أنواع الإعلام في الشكل أو المظهر أو المضمون، الفارق الوحيد بينهما هو كون الفضائيات الدينية تشتغل على الدين مباشرة وتشكل شبكتها البرامجية على أساسه. الخطاب الديني المترتب عنها هو ذاك الكلام المسموع والمرئي الذي يتخذ من "التراث الإسلامي" عموما مادته وجوهره. - رابع ملمح: المادة الدينية في الفضائيات المتخصصة هي القاعدة والأصل، في حين أن ذلك لا يمثل إلا الاستثناء بالنسبة للقنوات الجامعة، اللهم إلا في المناسبات الكبرى (موسم الحج وشهر رمضان مثلا)، حيث تتكثف المادة الدينية بهذه القناة الجامعة أو تلك، مجاراة للأجواء الروحية السائدة. القائم في هذه الحالة أن الفضائيات غالبا ما ترتكن إلى الجانب النقلي في الدين، ولا تستحضر كثيرا الجانب العقلي؛ أي جانب الاجتهاد، وقياس الأمر بما لم يرد فيه نص قاطع مع مراعاة السياق، وهو أمر قد نتفهمه في المناسبات الرمزية، لكننا لا نستسيغه في باقي أيام وأشهر السنة. رابع عنصر: لو ساءلنا جانب المضمون في خطاب هذه الفضائيات الدينية (على الأقل قياسا إلى ما حددته في مرجعياتها ودفاتر تحملاتها) للاحظنا أنها تركز على الجوانب التالية: - أول عنصر في غايات وأهداف الخطاب الديني هو "الحفاظ على الذاتية الثقافية". في هذه النقطة، يبدو أن جانب اللغة يعتبر من إحدى نقط الضوء لهذا التوجه، لا سيما في ظل العولمة اللغوية الكاسحة، على الرغم من أننا بحاجة إلى دراسات معمقة لإثبات مدى خدمة هذا الجانب من لدن هذه الفضائيات. - ثاني عنصر في المضمون، ويتمثل في رهان هذا الخطاب على توفير الحد الأدنى من السكينة الروحية. بهذه النقطة أيضا، يبدو أن ثمة تجاوبا نسبيا للجمهور مع هذا الخطاب، لا سيما عندما يجد المرء فيه ما لا يجده بالمسجد أو بمراكز الدعوة أو بالمدارس الدينية. - أما ثالث عنصر الذي يراهن عليه الخطاب الديني في الفضائيات العربية، فهو التمرير لقيم الاعتدال ونبذ العنف والتشدد، والابتعاد عن الانغلاق والتعصب. هذا الأمر نجده في العديد من الفضائيات المتخصصة، لكننا نجده أكثر في الفضائيات العمومية الجامعة. خامس عنصر: لو اقتربنا أكثر من مضمون الخطاب الديني، لاستقراء ما يروج من بين ظهرانيه، للاحظنا التالي: - أولا: تحول العديد من هذه الفضائيات إلى منابر في الفتوى الارتجالية والمتحجرة، والنابعة من "شيوخ" ليس لهم المعرفة ولا الكفاءة ولا الدراية ولا الروية الضرورية لذلك. وهذا نلاحظه في "الفضائيات السلفية" تحديدا. الخطير في هذه الفتاوى، أنها تتحول صوبا إلى مصدر في العنف والتشدد والتكفير والتبديع والتفسيق، والتي نراها هنا أو هناك، منذ مدة. - ثانيا: إعمال العديد من هذه الفضائيات للتعصب المذهبي في معالجة هذه القضية أو تلك، لا سيما بإزاء المختلفين أو الرافضين لخطاب ذات الفضائيات. ولنا هنا أن نلاحظ سلوك هذه الفضائية أو تلك، مع المختلفين مع صاحبها مذهبا أو انتماء دينيا أو تخندقا طائفيا. - ثالثا: تكريس طقوس الشعوذة والسحر التي لا تقدم الأمور كثيرا، إذ التداوي بالقرآن مثلا، هو أمر قائم من الناحية النفسية، لكنه لا يجب أن يعفي المريض من زيارة الطبيب. الواضح بالعديد من الفضائيات الدينية أنها تستهين بالعلم وبالطب، وتتجاوز عليه سلوكا وتفكيرا وممارسة. وهذا أمر مثير للملاحظة. سادسا: هذه الأمور قد لا نجدها بقوة في خطاب الدعاة الجدد بهذه الفضائيات. إنهم حالة خاصة تستدعي الدراسة والتمحيص. فرهانهم على الإسلام المعتدل، وعلى التدين الفردي والتمتع بمباهج الحياة، يجعلهم يركزون على الجانب الروحي والاجتماعي، عوض التركيز على الجانب السياسي. والسر في ذلك أن ظهورهم أتى في سياق كسر التقاطب الكبير بين الإسلام التقليدي الرسمي والإسلام الحركي أو إسلام "التطرف الجديد" وفق البعض. * نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور يحيى اليحياوي في صالون جدل الثقافي - الرباط بتاريخ 2014/02/08