الخطاب العربي وفشل المشاريع المطلقة
فئة : مقالات
الخطاب العربي وفشل المشاريع المطلقة
يوسف هريمة
خلف كل أزمة تاريخ طويل من العثرات، والإشارات على انتهاء صلاحية خطاب لا بد له أن يستبدل، أو في أحسن الأحوال أن يجدد ضمن رؤية تستوعب حاضرها، وتقبل على مستقبلها بأفق جديد، ونظرة أخرى تتجاوز الأزمة، والصدمة إلى أبعاد يمكننا أن نقول عنها إنها أبعاد التغيير والتحول والتطور. مشكلتنا أننا لا نملك في غالب الأحيان إلا التشخيص؛ فكلنا نقر بوجود أزمة أو محنة تمر منها ثقافتنا وفكرنا ومعرفتنا، غير أنه في الوقت نفسه نختلف في مكامن الخلل، ومواطن الداء، ونتفرق حينها إلى أعداء وضحايا شعبوية لم نستفد منها طيلة مساراتنا سوى المزيد من التأزيم. هذا الواقع ليس وليد اللحظة التاريخية بشروطها الموضوعية، بل هو نتاج نمط تفكير استوعب فينا كل شيء إلى الحد الذي غدت فيه عقولنا مجرد أدوات للتكرار والاجترار. إنه يشبه ما قاله فرناندو بيسوا بأن هذه الأنماط من التفكير تشبه إلى حد كبير غبارا أو قذارة متجمّعة على سطح أو في زاوية، أو ركن بيت من البيوت. لكنّ مشكلتها أنّها في حاجة دائمة إلى التّنظيف. في الحقيقة نهتم كثيرا بغسل الجسد، ونظافته وطهارته. لكن لا نكترث لغسل المصير، والرّؤية، وطرائق التّفكير.
الخطاب العربي وحالة العصاب الجماعي:
قبل أن نتحدث عن الحالة المرضية التي ينتجها الخطاب العربي بتلاوينه المختلفة، لا بد من الإشارة إلى موضع الاستلاب الإنساني في ثقافتنا، حيث يمكن تقسيم ذلك إلى قسمين أساسيين لم ينتجا إلا العنف والدمار والتخلف وكل أشكال الرجعية:
الاستلاب الأول هو الاستلاب اللاهوتي: والمقصود به هو خطاب تتبناه مجموعة من الجماعات والأفراد والحركات تعتبر أن وظيفتها الأساسية ليست هي الانتقال من حالة التخلف إلى حالة التطور، بل وظيفتها هي الانتقال من حالة الضلال إلى الهداية المطلقة؛ فكل شيء داخل هذه العقلية مزود بانقسام حاد بين ثنائيات حدية تقصي الآخر وتلغيه مقابل إقامة مشروعها الوهمي.
الاستلاب الثاني هو المشروع الحداثي العلماني: وهذا المشروع أيضا مشروع ينزع نحو تقديس الإنسان، وتقديس أشيائه، ومسمياته، وبما أن الإنسان هنا داخل هذا المشروع يملك مفاتيح الطبيعة، باعتباره سيدها لا جزءا منها، فقد أباح لنفسه كل شيء؛ لأنه غاية كل شيء.
وحصيلة هذه العقلية الاصطفائية، العرقية، الفاشية، النخبوية هي أصوليات متحاربة فيما بينها، تسبح في حقول من الدم، وتقتات على هذا الخراب. وإلا كيف يحصل هذا الخراب ما دامت مبادئنا سامية ومثالية؟ وكيف أصبح الإنسان مهددا، بينما تتالى المؤتمرات والبيانات الداعية لحفظ حقوقه؟.
إن الحالة التي يمرّ منها الخطاب العربي المعاصر هي الحالة التي سماها جورج طرابيشي بحالة العصاب الجماعي، والخطاب هنا هو ما تنتجه النخبة المثقفة، سواء كانت نخبة دينية أو ذات توجهات حركية، أو ما تنتجه النخبة الحداثية المعاصرة. وعندما نتحدث عن حالة العصاب الجماعي، فإن المقصود هو ما تنتجه هذه النخب، ويكون متمركزا على نماذج معدة سلفا يصعب عليهم تجاوزها، أو التفكير خارج أسوارها. ولعل أهم سمة لهذه الحالة العصابية الجماعية هو تركيزها على الماضي الديني أو الحداثي، وتسويقه على أنه خطاب ممتد ومخترق للشروط الموضوعية التي أنتجته. وبما أن كل حركة إلى الوراء أو نكوص نحو الماضي يجد مبرراته اللاشعورية في عدم القدرة على الاندماج في الواقع العصي على الاختراق كما هو حال الأصوليات الدينية، فإن هذا الخطاب نفسه سيعكس موقفا ضمنيا من الحاضر والآن، وبالتالي من ثقافة العصر ومؤسسات الدولة الحديثة. لهذا، نجد فجوة كبيرة بين الخطاب والتطبيق عند أغلب من ينتج هذه الأنواع من الخطابات التي تستدعي مفاهيم قديمة ومحاولة إسقاطها على واقع متغير وسائل وغير ثابت. لهذا كان لزاما أن نشير في هذا الصدد إلى أن هذا الخطاب العصابي الجماعي، والذي بتنا فيه ضحايا نزعات استلابية سيقودنا لا محالة إلى المزيد من التأزيم والتخلف؛ لأن الظلامية مثل الثورات كما قال طرابيشي في قسوتها على أبنائها. فإذا كانت الثورات تأكل أبناءها، فإن الظلامية تبدأ به، فهي لا تطيق وجود أصلا لشيء يقودنا نحو الخروج من صناديق تفكيرنا.
الخطاب العربي المعاصر ونزعة النضال ضد الدولة:
في حوار مثير بين جان زيغلر وريجيس دوبريه، يؤكد زيغلر أن الكثير من الناس، وهو واحد منهم يأمل أن يفكك مفهوم الدولة؛ لأنه جهاز يقوم على القسر والإكراه، بل هناك من يتمنى أن تهزم الدولة ويمشي في جنازتها. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك من يأمل أن يعيد الحلم من جديد بتوحيد عمال المجتمع، وكذلك انعدام الطبقية داخل أروقته. هذا المنحى الحالم يجيب عنه دوبريه بأن الدولة ليست هي الخير، ولكنها القدر الأقل من الشر؛ أي أسوأ الشرور التي ستنجم عن غيابها. لماذا الحالمون والأخلاقيون عاجزون اليوم عن التجنيد الفعلي لفكرة التضامن في هذا العالم، على الرغم من أن هذه الفكرة تستجيب لأبسط عناصر المنطق، وتتطابق مع بديهة الأخلاق نفسها؟ هل لأنها تحتاج إلى الدعم الإعلامي؟ فما جدوى الفكرة التي تحظى بالدعم الإعلامي؟ هكذا يتساءل جان زيغلر.
المشكلة في كل هذا الكلام هو أن هناك من يصر ولا زال على أن الرأسمالية يمكن أن تكون فكرة أخلاقية، مع أن الرأسمالية لها منطقها الداخلي بغض النظر على أن يعجبك هذا التصرف أو ذاك السلوك؛ أي إن لها منطقا على قدر لا بأس به من الجنون كما يؤكد دوبريه؛ غير أنها لا تأبه لواقع أن منطقها مجنون.
من هنا عاد الخطاب الأخلاقي في شكله المعاصر إلى الحضور والظّهور والتميّز. ولا نقصد هنا بعودة الخطاب الأخلاقي كما سنرى عودة الأخلاق في حدّ ذاتها. فالعقل الدّيني دوماً يحتاج إلى سواتر، أو لنقل مبرّرات لتصدير أزماته أو مآزق تفكيره، وهي استراتيجية نابعة من عقل يرى في المظلومية وسيلته الأقوى من أجل الحشد والتّعبئة والاستقطاب، وتلك وظائف الإيديولوجيا. من هنا تأتي مقاربة الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل، لتلقي بظلالها على الواقع الفرنسي؛ لأنّها تنطلق منه لتفسير عودة الخطاب الأخلاقي بين جيلين متمايزين. كما تكشف بالنّسبة إلينا بعضاً من ملامح أزمة خطاب العودة التي تنتهجها بعض الأصوليات الدّينية، والإيديولوجيات الشّعبوية التي تركب على موجة الأخلاق لتفسير التخلّف، والضّعف والبنية المهترئة لمجتمعاتنا. ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ عودة الخطاب الأخلاقي في عالمنا ليست عودة مرتبطة بيقظة أخلاقية، شعر معها هذا الإنسان أنّ أزمته الرّاهنة وليدة هذا الغياب، ولا أنّ النّاس تخلّصوا من عُقدهم المكبوتة، وغرائزهم السّلبية لصالح ما هو إيجابي، بقدْر ما تكشف هذه العودة عن واقعٍ جديد له حيثيات ظهوره، وسياقات تشكُّله سيكشف عنها سبونفيل بالتّحليل والنّقاش، حينما يؤكّد: "أنّ العودة إلى الأخلاق تتمُّ جوهرياً من خلال الأخلاق ليس لأنّ النّاس هم حقّا أكثر صلاحا، بل لأنّ الأخلاق غدتْ أكثر مادّة لحديثهم، بحيث يسعنا في الأقلّ الافتراض أنّهم يتحدّثون عنها بمقدار ما هي غائبة عن سلوكهم".
ولفهم هذا الحضور في الواقع الخطابي، وغيابه في الواقع الفعلي للمروّجين له والمستهلكين، لا بدّ لنا من الإقرار أنّ الخطاب حجاب؛ ففي كلامنا وخطاباتنا نمارس الكثير من الحجب والمواراة والإخفاء. فما نستبعده أو ننفيه، قد يحضر بشكلٍ أو بآخر. فقد نفاجأ بالاستبداد من وراء عشق الحرية، أو ندعو إلى المساواة فيما لا نقدر إلاّ على إنتاج التّفاضل والتمايز، أو نتوجّه نحو المستقبل لكي نصطدم بالماضي أمامنا. فنيتشه الذي أعلن موت الله، قد أخرجه من الباب، ليعود من النّافذة. حين لبس عباءة الألوهية والنّبوة، بإعلانه أنّه يكتب للبشرية إنجيلها الجديد، ممارسا بذلك لاهوتا مضاعفا.