الخطاب والحقيقة: إشكالية الباريسيا (1) (المحاضرة الأولى والثانية/ جامعة كاليفورنيا- بيركلي) (2)

فئة :  ترجمات

الخطاب والحقيقة: إشكالية الباريسيا (1) (المحاضرة الأولى والثانية/ جامعة كاليفورنيا- بيركلي) (2)

الخطاب والحقيقة: إشكالية الباريسيا (1)

(المحاضرة الأولى والثانية/ جامعة كاليفورنيا- بيركلي) (2)

ميشيل فوكو

ترجمة: حسام جاسم 

المحاضرة الأولى: معنى كلمة الباريسيا (Parrhesia):

تظهر كلمة الباريسيا (parrhesia) [παρρησία] لأول مرة في الأدب اليوناني لدى يوربيدس (Euripides) [حوالي 484-407 قبل الميلاد]، وظهرت في جميع خطابات العالم اليوناني القديم منذ نهاية القرن الخامس قبل الميلاد. ولكن لا يزال من الممكن العثور عليها أيضًا في النصوص الآبائية (patristic) (4) المكتوبة في نهاية القرن الرابع وخلال القرن الخامس الميلادي، عشرات المرات، على سبيل المثال، لدى يوحنا فم الذهب (Jean Chrisostome) [345-407 م].

هناك ثلاث صيغ للكلمة: الصيغة الاسمية "parrhesia"، وصيغة الفعل "parrhesiazomai" [παρρησιάζομαι]، وهناك أيضًا كلمة "parrhesiastes" [παρρησιαστής] -- وهي ليست متكررة جدًّا ولا يمكن العثور عليها في النصوص الكلاسيكية، بل تجدها فقط في الفترة اليونانية الرومانية - في بلوتارخ (Plutarch) ولوقيان (Lucian)، على سبيل المثال، في حوار لوقيان، "الصياد أو الموتى يعودون إلى الحياة"، إحدى الشخصيات تحمل أيضًا اسم "باريسيادس" (Parrhesiades) [Παρρησιαδής].

تتم ترجمة كلمة "Parrhesia" عادةً إلى الإنجليزية (free speech)؛ بمعنى "حرية التعبير" و(في الفرنسية "francparler" (الكلام المباشر والصريح)، وفي الألمانية "Freimüthigkeit" (الصراحة))، حيث (Parrhesiazomai) أو (parrhesiazesthai) تكون لاستخدام الباريسيا (parrhesia). أما (parrhesiastes)، فهو الشخص الذي يستخدم الباريسيا؛ أي: هو الذي يقول الحقيقة.

في الجزء الأول من محاضرة اليوم، أودّ أن أعطي نظرة عامة حول معنى كلمة الباريسيا "parrhesia"، وتطور هذا المعنى من خلال الثقافة اليونانية والرومانية.

1- الباريسيا والصراحة:

بدايةً، ما هو المعنى العام لكلمة "الباريسيا"؟ من الناحية اللغوية، تعني كلمة "parrhesiazesthai" "قول كل شيء" - حيث تأتي من [πάυ] "pan" (كل شيء) و[δήµα] "rhema" (ما يقال). ومن يستعمل الباريسيا، يسمى الباريسياستيس (parrhesiastes)، هو شخص يقول كل ما يدور في ذهنه: فهو لا يخفي شيئاً، بل يفتح قلبه وعقله بشكل كامل للآخرين من خلال خطابه.

في الباريسيا، من المفترض أن يقدم المتحدث وصفًا كاملاً ودقيقًا لما يدور في ذهنه، حتى يتمكن الجمهور من فهم ما يفكر فيه المتحدث بالضبط، حيث تشير كلمة "الباريسيا" إذن إلى نوع من العلاقة بين المتحدث وما يقوله.

ففي الباريسيا، يوضح المتحدث بشكل واضح وجليّ أن ما يقوله هو رأيه الخاص. ويفعل ذلك من خلال تجنب أي نوع من الأشكال البلاغية التي من شأنها أن تحجب ما يفكر فيه. بدلاً من ذلك، يستخدم الباريسياستيس أكثر الكلمات وأشكال التعبير المباشرة التي يمكنه استخدامها. في حين أن البلاغة تزود المتحدث بأدوات تقنية تساعده على السيطرة على عقول جمهوره (بغض النظر عن رأي الخطيب فيما يقوله)، فإن البلاغة في الباريسيا تعمل على التأثير على عقول الآخرين من خلال إظهار ما يعتقد به بالفعل بشكل مباشر قدر الإمكان.

إذا ما ميزنا بين ذات المتحدث (ذات النطق) والذات النحوية للمُلفظ، فيمكننا أن نقول إن هناك أيضًا ذات الإفصاح (enunciandum) - والتي تشير إلى الإيمان أو الرأي الذي يعتنقه المتحدث. في الباريسيا يؤكد المتحدث على حقيقة أنه هو ذات النطق وذات الإفصاح- أي إنه هو نفسه ذات الرأي الذي يشير إليه. وبالتالي، فإن "نشاط الكلام" (speech activity) المحدد للنطق الباريسياني يأخذ الشكل التالي: "أنا من يفكر في هذا وذاك".

أستخدم عبارة "نشاط الكلام" (speech activity) بدلاً من "فعل الكلام" (speech act) لجون سورل (John Searle) (أو "المنطوق الأدائي" (performative utterance) لأوستن (Austin)) من أجل التمييز بين المنطوق الباريسياني وارتباطاته وأنواع الارتباط والالتزام المعتادة التي تنشأ بين شخص ما وما يقوله/تقوله.

فكما سنرى، فإن الالتزام الذي تنطوي عليه الباريسيا مرتبط بوضع اجتماعي معين، وباختلاف في المكانة بين المتحدث وجمهوره، وبحقيقة أن الباريسياستيس يقول شيئًا يشكل خطرًا على نفسه وبالتالي ينطوي على مخاطرة، وما إلى ذلك.

2- الباريسيا والحقيقة:

هناك نوعان من الباريسيا يجب علينا التمييز بينهما؛ أولاً، هناك معنى ازدرائي للكلمة ليس بعيدًا جدًّا عن "الثرثرة"، والذي يتلخص في قول أي شيء أو كل شيء يخطر ببال المرء دون قيد أو شرط. يظهر هذا المعنى الازدرائي عند أفلاطون (Plato)، على سبيل المثال، كوصف للدستور الديمقراطي السيئ، حيث يحق لكل فرد أن يخاطب مواطنيه، وأن يخبرهم بأي شيء - حتى الأشياء الأكثر غباءً أو خطورة على المدينة.

يوجد هذا المعنى الازدرائي أيضًا بشكل متكرر في الأدبيات المسيحية، حيث يعارض هذا النوع من الباريسيا "السيء" الصمت بوصفه انضباطًا أو كشرط ضروري للتأمل في الله. وبوصفها نشاطًا لفظيًا يعكس كل حركة من حركات القلب والعقل، فإن الباريسيا بهذا المعنى السلبي تشكل بوضوح عقبة أمام التأمل في الله.

ومع ذلك، في معظم الأحيان، لا تحمل الباريسيا هذا المعنى الازدرائي في النصوص الكلاسيكية، بل معنى إيجابيًا؛ فكلمة "parrhesiazesthai" تعني "قول الحقيقة". ولكن هل يقول الباريسياستيس ما يعتقد أنه حقيقة، أم إنه يقول ما هو حقيقي حقًا؟ في رأيي، يقول الباريسياستيس ما هو حقيقي؛ لأنه يعلم أنه حقيقي، ويعرف أنه حقيقي؛ لأنه حقيقي بالفعل.

الباريسياستيس ليس صادقًا ويقول ما هو رأيه فحسب، بل إن رأيه هو أيضًا الحقيقة، حيث يقول ما يعرف أنه حقيقي.

السمة الثانية للباريسيا، إذن، هي أن هناك دائمًا تطابقًا دقيقًا بين الإيمان والحقيقة.

سيكون من المثير للاهتمام مقارنة الباريسيا اليونانية بالمفهوم الحديث (الديكارتي) للبراهين. فمنذ ديكارت، كان التطابق بين الإيمان والحقيقة يتم الحصول عليه من خلال تجربة (عقلية) معينة من البراهين. أما بالنسبة إلى اليونانيين، فإن التطابق بين الاعتقاد والحقيقة لا يحدث في تجربة (عقلية)، بل في نشاط لفظي، ألا وهو الباريسيا. ويبدو أن الباريسيا، بالمعنى اليوناني، لم تعد موجودة في إطارنا المعرفي الحديث. وينبغي لي أن أشير إلى أنني لم أجد أي نصوص في الثقافة اليونانية القديمة، حيث يبدو أن الباريسياستيس لديه أي شكوك حول امتلاكه للحقيقة.

والواقع أن هذا هو الفرق بين المشكلة الديكارتية والموقف الباريسياني؛ فقبل أن يحصل ديكارت على برهان واضح ومميز لا يقبل الشك، لم يكن متأكداً من أن ما يعتقده هو في الواقع حقيقة. ولكن في المفهوم اليوناني للباريسيا، لا يبدو أن هناك مشكلة فيما يتصل باكتساب الحقيقة، لأن امتلاك الحقيقة مضمون بامتلاك صفات أخلاقية معينة: فعندما يتمتع شخص ما بصفات أخلاقية معينة، فإن هذا يشكل دليلاً على أنه قادر على الوصول إلى الحقيقة ـ والعكس صحيح، حيث تفترض "اللعبة/ الطريقة الباريسيانية" أن الباريسياستيس هو شخص يتمتع بالصفات الأخلاقية المطلوبة، أولاً، لمعرفة الحقيقة، وثانياً، لنقل هذه الحقيقة إلى الآخرين.

إن كان هناك من "برهان" على صدق الباريسياستيس، فهو شجاعته. إن حقيقة أن المتحدث يقول شيئاً خطيراً ـ يختلف عما يعتقده الأغلبية ـ هي مؤشر قوي على أنه الباريسياستيس. وإذا طرحنا مسألة كيف يمكننا أن نعرف ما إذا كان شخص ما يقول الحقيقة، فإننا نطرح سؤالين. أولاً، كيف يمكننا أن نعرف ما إذا كان فرد معين يقول الحقيقة؟؛ وثانياً، كيف يمكن الباريسياستيس المتظاهر أن يكون على يقين من أن ما يعتقده هو في الواقع الحقيقة؟ حيث يعد السؤال الأول ـ الاعتراف بشخص ما بوصفه باريسياستيس ـ سؤالاً بالغ الأهمية في المجتمع اليوناني - الروماني، وكما سنرى، فقد أثاره وناقشه بشكل صريح بلوتارخ وجالينوس (Galen) وآخرون. أما السؤال المتشكك الثاني، فهو سؤال حديث بشكل خاص، وأعتقد أنه غريب عن اليونانيين.

3- الباريسيا والخطر:

يقال إن شخصًا ما يستخدم الباريسيا ويستحق اعتباره الباريسياستيس فقط، إذا كان هناك خطر أو مجازفة عليه في قول الحقيقة. على سبيل المثال، من المنظور اليوناني القديم، قد يخبر مدرس القواعد الأطفال الذين يعلمهم الحقيقة، وقد لا يكون لديه شك في أن ما يعلمه صحيح. ولكن على الرغم من هذا التطابق بين الإيمان والحقيقة، فإنه ليس الباريسياستيس. إلا أنه، عندما يخاطب الفيلسوف بذاته صاحب السيادة، أو الطاغية، ويخبره أن طغيانه مستبد وسيء؛ لأن الطغيان يتعارض مع العدالة، فإن الفيلسوف يتحدث بالحقيقة، ويعتقد أنه يتحدث بالحقيقة، وأكثر من ذلك، يخاطر أيضًا (لأن الطاغية قد يغضب، وقد يعاقبه، وقد ينفيه، وقد يقتله). وهذا هو بالضبط موقف أفلاطون مع ديونيسيوس في سرقوسة (Dionysius)- والذي توجد بشأنه إشارات مثيرة للاهتمام للغاية في الرسالة السابعة لأفلاطون، وأيضًا في حياة ديون لبلوتارخ. وآمل أن ندرس هذه النصوص لاحقًا.

إذن، كما ترى، فإن الباريسياستيس هو شخص يخوض المجازفة. بطبيعة الحال، هذه المجازفة ليست دائمًا مجازفة بالحياة. فعندما ترى، على سبيل المثال، صديقًا يرتكب خطأً وتخاطر بإثارة غضبه بإخباره أنه مخطئ، فأنت تتصرف كباريسياستيس. في مثل هذه الحالة، لا تخاطر بحياتك، ولكنك قد تؤذيه بتعليقاتك، وقد تتضرر صداقتكما نتيجة لذلك. وإذا كان الخطيب في مناظرة سياسية يخاطر بفقدان شعبيته؛ لأن آراءه تتعارض مع رأي الأغلبية، أو أن آراءه قد تؤدي إلى فضيحة سياسية، فإنه يستخدم الباريسيا. وبالتالي، ترتبط الباريسيا بالشجاعة في مواجهة الخطر: فهي تتطلب الشجاعة لقول الحقيقة على الرغم من بعض المخاطر. وفي شكلها المتطرف، يتم قول الحقيقة في "لعبة" الحياة أو الموت.

ولأن الباريسياستيس مضطرون إلى المخاطرة في قول الحقيقة، فإن الملك أو الطاغية لا يستطيع عمومًا استخدام الباريسيا؛ لأنه لا يجازف بأي شيء.

عندما تقبل اللعبة/الطريقة الباريسيانية التي تتعرض فيها حياتك للخطر، فإنك تقيم علاقة محددة مع ذاتك: فأنت تخاطر بالموت لقول الحقيقة بدلاً من الاسترخاء في أمان حياة لا يتم فيها التحدث عن الحقيقة. بالطبع، يأتي تهديد الموت من الآخر، وبالتالي يتطلب علاقة بذاته: فهو يفضل ذاته كقائل للحقيقة بدلاً من أن يكون كائنًا حيًا زائفًا يكذب على ذاته.

4- الباريسيا والنقد:

إذا قلت أثناء المحاكمة شيئًا يمكن استخدامه ضدك، فلا يجوز لك استخدام الباريسيا، على الرغم من حقيقة أنك صادق، وأنك تعتقد أن ما تقوله صحيح، وأنك تعرض نفسك للخطر بقولك هذا. ففي الباريسيا يأتي الخطر دائمًا من حقيقة أن الحقيقة المذكورة قادرة على إيذاء أو إثارة غضب المحاور. وبالتالي، فإن الباريسيا دائمًا "لعبة" بين الشخص الذي يقول الحقيقة والمحاور. وقد تكون الباريسيا المعنية، على سبيل المثال، نصيحة للمحاور بأن يتصرف بطريقة معينة، أو أنه مخطئ فيما يفكر فيه، أو في الطريقة التي يتصرف بها، وما إلى ذلك. أو قد تكون الباريسيا اعترافًا لشخص يمارس عليه السلطة، وقادر على توبيخه أو معاقبته على ما فعله. إن وظيفة الباريسيا كما ترى ليست إظهار الحقيقة لشخص آخر، بل لها وظيفة النقد: نقد المحاور أو المتحدث نفسه. "هذا ما تفعله وهذا ما تفكر فيه؛ ولكن هذا ما لا ينبغي لك أن تفعله ولا ينبغي لك أن تفكر فيه". "هذه هي الطريقة التي تتصرف بها، ولكن هذه هي الطريقة التي ينبغي لك أن تتصرف بها". "هذا ما فعلته، وقد أخطأت في القيام بذلك".

الباريسيا هي شكل من أشكال النقد، إما تجاه الآخر أو تجاه الذات، ولكن دائمًا في موقف يكون فيه المتحدث أو المعترف في وضع أدنى بالنسبة إلى المحاور، حيث يكون الباريسياستيس دائمًا أقل نفوذًا من الشخص الذي يتحدث معها/معه، حيث تأتي الباريسيا من "الأدنى"، كما هي الحال، وموجهه نحو "الأعلى". وهذا هو السبب في أن اليوناني القديم لن يقول إن المعلم أو الأب الذي ينتقد طفلًا يستخدم الباريسيا. ولكن عندما ينتقد فيلسوف طاغية، وعندما ينتقد مواطن الأغلبية، وعندما ينتقد تلميذ معلمه/معلمته، فإن مثل هؤلاء المتحدثين قد يستخدمون الباريسيا.

ولكن هذا لا يعني أن أي شخص يمكنه استخدام مصطلح الباريسيا. فبالرغم من وجود نص في يوربيدس يستخدم فيه خادم مصطلح الباريسيا، فإن استخدامها يتطلب في أغلب الأحيان أن يعرف الباريسياستيس نسبه ومكانته؛ أي إنه عادة ما يتعين على المرء أولاً أن يكون مواطناً ذكراً ليقول الحقيقة بصفته باريسياستيس. والواقع أن الشخص المحروم من الباريسيا يكون في نفس وضع العبد إلى الحد الذي يجعله عاجزاً عن المشاركة في الحياة السياسية للمدينة، أو عن ممارسة "لعبة الباريسيا".

وفي "الباريسيا الديمقراطية" ـ حيث يتحدث المرء إلى المجلس الشعبي، أو الإكلسا (ekklesia) ـ يتعين على المرء أن يكون مواطناً، بل يتعين عليه في واقع الأمر أن يكون من بين أفضل المواطنين، وأن يتمتع بتلك الصفات الشخصية والأخلاقية والاجتماعية المحددة التي تمنحه امتياز التحدث.

ولكن الباريسياستيس يخاطر بامتيازه في التحدث بحرية عندما يكشف عن حقيقة تهدد الأغلبية؛ فقد كان من المعروف في مجال القانون أن يتم نفي زعماء أثينا فقط لأنهم اقترحوا شيئًا عارضته الأغلبية، أو حتى لأن المجلس اعتقد أن النفوذ القوي لبعض الزعماء يحد من حريته. وعلى هذا النحو، كان المجلس "محمي" من الحقيقة. وهذه هي الخلفية المؤسسية لـ "الباريسيا الديمقراطية" ـ والتي يجب تمييزها عن "الباريسيا الملكية"، حيث يقدم المستشار للحاكم نصيحة صادقة ومفيدة.

5- الباريسيا والواجب:

إن آخر سمة من سمات الباريسيا هي:

في الباريسيا، يُنظَر إلى قول الحقيقة بوصفه واجبًا. فالخطيب الذي يتحدث بالحقيقة لأولئك الذين لا يستطيعون قبول حقيقته، على سبيل المثال، والذين قد يُنفونه، أو يُعاقَبونه بطريقة ما، يكون حرًا في التزام الصمت. لا أحد يجبره على الكلام، لكنه يشعر أن من واجبه أن يفعل ذلك. ومن ناحية أخرى، عندما يُرغَم شخص ما على قول الحقيقة (على سبيل المثال، تحت الإكراه والتعذيب)، فإن خطابه لا يكون أداءً باريسيانيًا. فالمجرم الذي يجبره قضاته على الاعتراف بجريمته لا يستخدم الباريسيا. ولكن إذا اعترف طواعية بجريمته لشخص آخر من منطلق الشعور بالالتزام الأخلاقي، فإنه يقوم بعمل باريسياني لزجر صديق لا يعترف بخطئه، أو بقدر ما يكون من الواجب تجاه المدينة مساعدة الملك على تحسين نفسه كحاكم، حيث إن الباريسيا مرتبطة بالحرية والواجب.

ولتلخيص ما سبق، فإن الباريسيا هي نوع من النشاط اللفظي، حيث يكون للمتحدث علاقة محددة بالحقيقة من خلال الصراحة، وعلاقة مؤكدة بحياته الخاصة من خلال الخطر، ونوع مؤكد من العلاقة بذاته أو بالآخرين من خلال النقد (النقد الذاتي أو انتقاد الآخرين)، وعلاقة محددة بالقانون الأخلاقي من خلال الحرية والواجب.

وبتعبير أدق، فإن الباريسيا هي نشاط لفظي يعبر فيه المتحدث عن علاقته الشخصية بالحقيقة، ويخاطر بحياته؛ لأنه يدرك أن قول الحقيقة واجب لتحسين أو مساعدة الآخرين (وكذلك ذاته). في الباريسيا، يستخدم المتحدث حريته ويختار الصراحة بدلاً من القناعات، والحقيقة بدلاً من الزيف أو الصمت، وخطر الموت بدلاً من الحياة والأمن، والنقد بدلاً من الإطراء، والواجب الأخلاقي بدلاً من المصلحة الذاتية واللامبالاة الأخلاقية.

هذا، إذن بشكل عام، هو المعنى الإيجابي لكلمة "باريسيا" في معظم النصوص اليونانية التي تظهر فيها من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي.

المحاضرة الثانية: تطور كلمة الباريسيا

الآن ما أودّ أن أفعله في هذه المحاضرة ليس دراسة وتحليل جميع أبعاد وخصائص باريسيا، بل إظهار والتأكيد على بعض جوانب تطور اللعبة الباريسيانية في الثقافة القديمة (من القرن الخامس قبل الميلاد) إلى بدايات المسيحية. وأعتقد أنه يمكننا تحليل هذا التطور من ثلاث وجهات نظر.

1- الباريسيا والبلاغة:

تتعلق الأولى بعلاقة الباريسيا بالبلاغة - وهي علاقة إشكالية حتى في يوربيدس. في التقليد السقراطي -الأفلاطوني، تقف الباريسيا والبلاغة في تعارض قوي؛ ويظهر هذا التعارض بوضوح شديد في حوار غورغياس (Gorgias)، على سبيل المثال، حيث تظهر كلمة "باريسيا".

الخطاب الطويل المستمر هو أسلوب بلاغي أو سفسطائي، في حين أن الحوار من خلال الأسئلة والأجوبة هو سمة مميزة للباريسيا. إن الحوار هو أحد التقنيات الرئيسة للعب اللعبة الباريسيانية.

إن التعارض بين الباريسيا والبلاغة يمر عبر محاورة فيدروس (Phaedrus) ـ حيث إن المشكلة الرئيسة، كما تعلمون، لا تتعلق بطبيعة التعارض بين الكلام والكتابة، بل تتعلق بالفرق بين اللوغوس (logos) الذي يتحدث بالحقيقة واللوغوس الذي لا يستطيع أن يقول مثل هذه الحقيقة. إن هذا التعارض بين الباريسيا والبلاغة، والذي كان واضحاً للغاية في القرن الرابع قبل الميلاد في جميع كتابات أفلاطون، وسوف يستمر لقرون في التقليد الفلسفي.

على سبيل المثال، نجد عند سينيكا (Seneca)، فكرة مفادها أن المحادثات الشخصية هي أفضل وسيلة للتحدث بصراحة وقول الحقيقة بقدر ما يمكن للمرء أن يستغني في مثل هذه المحادثات عن الحاجة إلى الأدوات البلاغية والتحسينية. وحتى خلال القرن الثاني الميلادي، لا يزال التعارض الثقافي بين البلاغة والفلسفة واضحاً للغاية ومهمّاً.

ولكن من الممكن أن نجد بعض الدلائل على إدماج الباريسيا في مجال البلاغة في أعمال الخطباء في بداية الإمبراطورية. ففي كتاب كينتيليان (Quintillian) "معاهد البلاغة/أوريتوريا" (Oratoria) (الكتاب التاسع، الفصل الثاني)، على سبيل المثال، يشرح كوينتيليان أن بعض الأشكال البلاغية تتكيف على وجه التحديد لتصعيد مشاعر الجمهور؛ ويطلق على هذه الأشكال الفنية اسم "التعجب".

ويرتبط بهذه الأشكال نوع من التعجب الطبيعي الذي يلاحظ كوينتيليان أنه ليس "مصطنعًا أو مصممًا ببراعة". ويطلق على هذا النوع من التعجب الطبيعي اسم "حرية التعبير" [libera oratione]، والذي يخبرنا أنه أطلق عليه كورنيفيسيوس (Cornificius) الرخصة [licentia]، و"الباريسيا" عند الإغريق. وبالتالي، فإن الباريسيا نوع من "الأشكال" بين الأشكال البلاغية، ولكن بهذه الخاصية: أنها خالية من أي تشكيل؛ لأنها طبيعية تمامًا، حيث الباريسيا هي الدرجة الصفرية من تلك الأشكال البلاغية التي تعمل على تصعيد مشاعر الجمهور.

2- الباريسيا والسياسة:

إن الجانب الثاني المهم في تطور الباريسيا يتعلق بالمجال السياسي. وكما يظهر في مسرحيات يوربيدس وفي نصوص القرن الرابع قبل الميلاد، فإن الباريسيا سمة أساسية للديمقراطية الأثينية. بطبيعة الحال، لا يزال يتعين علينا التحقيق في دور الباريسيا في الدستور الأثيني. ولكن يمكننا أن نقول بشكل عام إن الباريسيا كانت بمثابة دليل للديمقراطية فضلاً عن كونها موقفاً أخلاقياً وشخصياً مميزاً للمواطن الصالح. وقد تم تعريف الديمقراطية الأثينية بشكل صريح للغاية على أنها دستورية (بوليتيا) (politeia) يتمتع فيه الناس بالديمقراطية، والإيزيغوريا (isegoria) (الحق المتساوي في الكلام)، والإيزونوميا (isonomia) (المشاركة المتساوية لجميع المواطنين في ممارسة السلطة)، والباريسيا.

والباريسيا، التي تعد شرطاً أساسياً للخطاب العام، تحدث بين المواطنين كأفراد، وأيضاً بين المواطنين الذين يتم اعتبارهم على أنهم تجمعًا. وعلاوة على ذلك، فإن الأغورا (agora) هي المكان الذي تظهر فيه الباريسيا (5).

خلال الفترة الهلنستية تغير هذا المعنى السياسي مع صعود الملكيات الهلنستية، حيث أصبحت الباريسيا حينها متمركزًا في العلاقة بين الملك ومستشاريه أو رجال البلاط. ففي الدستور الملكي للدولة، من واجب المستشار استخدام الباريسيا لمساعدة الملك في قراراته، ومنعه من إساءة استخدام سلطته.

فالباريسيا ضرورية ومفيدة لكل من الملك والشعب الذي تحت حكمه، حيث الملك نفسه ليس الباريسياستيس، لكن حجر الاختبار للحاكم الصالح هو قدرته على لعب اللعبة/الطريقة الباريسيانية. وبالتالي، يقبل الملك الصالح كل ما يقوله له الباريسياستيس الحقيقي، حتى لو تبين أنه من غير السار بالنسبة إليه سماع انتقاد لقراراته. ويُظهِر الملك نفسه أنه طاغية إذا تجاهل مستشاريه الصادقين، أو عاقبهم على ما قالوه. إن تصوير الملك من قبل أغلب المؤرخين اليونانيين يأخذ في الاعتبار الطريقة التي يتصرف بها مع مستشاريه - وكأن مثل هذا السلوك مؤشر على قدرته على الاستماع إلى الباريسياستيس.

هناك أيضًا فئة ثالثة من الأطراف الفاعلة في اللعبة/الطريقة الباريسيانية الملكية، وهي الأغلبية الصامتة: الأشخاص بشكل عام الذين لا يحضرون التبادلات بين الملك ومستشاريه، ولكنهم، وبالنيابة عنهم، يشير المستشارون إلى الملك عند تقديم المشورة له.

المكان الذي تظهر فيه الباريسيا في سياق الحكم الملكي هو بلاط الملك، وليس الأغورا.

3- الباريسيا والفلسفة:

أخيرًا، يمكن تتبع تطور الباريسيا من خلال علاقتها بمجال الفلسفة، التي تعدّ فنًا من فنون الحياة (techne tou biou).

في كتابات أفلاطون، يظهر سقراط (Socrates) في دور الباريسياستيس. وعلى الرغم من ظهور كلمة "باريسيا" عدة مرات في كتابات أفلاطون، إلا أنه لم يستخدم كلمة "الباريسياستيس" مطلقًا - وهي الكلمة التي ظهرت لاحقًا كجزء من المفردات اليونانية.

ومع ذلك، فإن دور سقراط هو في العادة دور الباريسياستيس؛ لأنه يواجه الأثينيين باستمرار في الشارع، وكما هو مذكور في الاعتذار، يشير إليهم إلى الحقيقة، ويأمرهم بالعناية بالحكمة والحقيقة وكمال أرواحهم. وفي محاورة آلسيبايديز الكبير (Alcibiades Major) أيضًا، يتولى سقراط دور الباريسياستيس في الحوار. فبينما كان أصدقاء آلسيبايديز وعشاقه يغازلونه جميعًا في محاولتهم للحصول على وده، يخاطر سقراط بإثارة غضب آلسيبايديز عندما يقوده إلى هذه الفكرة:

"قبل أن يتمكن آلسيبايديز من إنجاز ما هو عازم على تحقيقه، أي أن يصبح الأول بين الأثينيين الذي يحكم أثينا ويصبح أقوى من ملك بلاد فارس، قبل أن يتمكن من رعاية أثينا، يجب عليه أولاً أن يتعلم كيف يعتني بذاته". وبالتالي، فإن الباريسيا الفلسفية مرتبطة بموضوع رعاية الذات (epimeleia heautou).

بحلول عصر الأبيقوريين، تطورت علاقة الباريسيا بالعناية بالذات إلى الحد الذي أصبحت فيه الباريسيا نفسها يُنظر إليها في المقام الأول على أنها تقنية للتوجيه الروحي من أجل "تعليم الروح". على سبيل المثال، كتب فيلوديموس (Philodemus) [110-140 قبل الميلاد] (الذي كان مع لوكريتيوس (Lucretius) [99-55 قبل الميلاد] أحد أهم الكتاب الأبيقوريين خلال القرن الأول قبل الميلاد)، كتابًا عن الباريسيا [Περί παρρησίας] والذي يتعلق بالممارسات التقنية المفيدة في تعليم ومساعدة بعضنا البعض في المجتمع الأبيقوري. وسوف ندرس بعض هذه التقنيات الباريسيانية كما تطورت، على سبيل المثال، في الفلسفات الرواقية (Stoic) لإبيكتيتوس (Epictetus) وسينيكا وغيرهما.

 

هوامش المترجم:

1. المصدر الأصلي للترجمة:

Michel Foucault. (1999). Discourse and Truth: The Problematization of Parrhesia. Retrieved from https://foucault.info/parrhesia/

2. الخطاب والحقيقة: إشكالية الباريسيا هي ست محاضرات ألقيت في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، للفترة أكتوبر-نوفمبر 1983) قام بتحريرها جوزيف بيرسون في عام 1985، حيث تم تجميع النص من تسجيلات صوتية مكونة من ست محاضرات ألقاها ميشيل فوكو، وقد ألقيت المحاضرات كجزء من ندوة فوكو بعنوان ""الخطاب والحقيقة"". ونظرًا لأن فوكو لم يكتب أو يصحح أو يحرر أي جزء من النص التالي، فإنه يفتقر إلى موافقته بالنشر ولا يقدم ملاحظاته الخاصة عن المحاضرات. وعلى الرغم من أن النص الحالي هو في المقام الأول نسخة حرفية من المحاضرات، فقد تم حذف الجمل أو العبارات المكررة، وتم دمج الردود على الأسئلة - كلما أمكن ذلك - في المحاضرات نفسها، وتمت مراجعة العديد من الجمل - كل ذلك على أمل إنتاج مجموعة من الملاحظات أكثر قابلية للقراءة." أعيد تحريره في عام 1999 لموقع www.foucault.info.

3. حسام جاسم/ كاتب مستقل من العراق.

4. الآبائية (patristic)/ الآبائيات أو الباترولوجيا هو فرع من علم اللاهوت يهتم بدراسة كتابات آباء الكنيسة الأوائل في الفترة بين القرنين الثاني والخامس الميلادي. اشتق المصطلح من باتر أو «پاتر» بالإغريقية والاتينية والتي تعني أب.

5. الأغورا (agora)/ هي ساحة دائرية كان المزارعون بأثينا يلتقون بها منذ عام 406 ق.م ولكنها لم تكن حكراً عليهم بل كانت موضع التقاء الفلاسفة أيضاً. شكلت الأغورا مركزاً إدارياً ودينياً وتجاريا في الدولة بحيث إنها كانت المكان العمومي الذي كانت تُتخذ فيه القرارات الأساسية في المجتمع الإغريقي (اليوناني) القديم.