الخوف من الله .. الخوف على الله: الله بين صورتين سيكولوجيتين
فئة : مقالات
ثمة صورتان ذهنيتان يتموضع بهما الله داخل المخيال الإسلامي بصيغته الفاعلة في الوقت الحالي؛ الأولى هي (الخوف من الله) بصفته قوة هائلة قادرة على بثّ الرعب في النفس الإنسانية، سواء أكانت مُمتثلة لتعاليم الله أم غير ممتثلة لها. والثانية هي (الخوف على الله)، لا سيما ساعة يتعرّض النص القُرآني بصفته كلام الله، إلى المُساءلة الاستقصائية عن جدواه في العمران البشري.
إنَّ الصورة الأولى (الخوف من الله) لا تفتأ تتحطّم ساعة تشتغل الصورة الثانية (الخوف على الله)، فالله القادر على كل شيء -كما يتمثله المخيال الإسلامي بصورته المعمول بها حالياً- يُخاف عليه من قبل المسلم، كما لو كان عاجزاً عن الدفاع عن نفسه.
ثمة قَلْبٌ هَهُنا لأُفُقَي (أعلى) و(أسفل)، ففي الوقت الذي كان من الممكن أن يُمارس الشعور العاطفي من قبل الله على الإنسان، من حيث إن الأول قادر على كل شيء، والثاني يرتهن لشرط الضعف الإنساني، فقد قُلِبَت الآية من قبل أتباع الله، فصار الله (تحت) وَهُم (فوق)، إذ تراكم الاحتياج الإلهي للعطف الإنساني في المخيال الإسلامي، وصار الدفق النفساني مُتعاضداً مع التراكم الذهني، فَلم يعد يُرى الإله القدير المقتدر إلا وهو بحاجةٍ إلى خوف المسلمين عليه، ولتوضيح الصورة لا بد من تفكيك الصورتين ومن ثم تركيبها من جديد.
الخوف من الله
إن الصورة الذهنية المُتداولة في المخيال الإسلامي حول (الله) هي صورة الخوف الشديد منه، ليس لناحية قدرته على إحداث تغيير فوري في البنية الوجودية للإنسان، بل في -أيضاً- إنزال العقاب الشديد فيمن يُخالفون أوامره ولا يمتثلون لتعاليمه كما تجسدت –كمرحلةٍ أخيرة ونهائية- في الدين الإسلامي. وإذا كان المُسلم يمتح هذه الصورة لـ إلهه، فهو يستقي الصورة المبدئية من نصوص قرآنية متعددة منها:
"وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَاب" (البقرة: 196)
"فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العقاب" (البقرة: 211)
"والله شَدِيدُ العِقَاب" (آل عمران: 11).
ولقد حرص المُسلم؛ المسلم الفردي والمسلم الجمعي، على التأكيد –المرة تلو الأخرى- على صورة الله (الشديد العقاب). وبالتقادم، تمَّ تضخيم صورة الله المُخيف، عبر استدعاء الآيات القرآنية التي تُبيّن الله كإلهٍ مُخيف، إلى درجة أصبح المسلم غير قادر على التحرِّك عمراناً وبناءً في هذه الأرض، نتيجة الخوف الشديد. وفي لحظةِ نكوص كبير، تقهقر المسلم ناحية الداخل. فلقد تجلّى المُسلِم الخائف من الله المُخيف، على هيئة إنسان مبتور الإرادة، إذ ظهر كذاتٍ لا حول لها ولا قوة، نتيجة للانسحاق الكبير الذي تتمثله الذات في داخلها خوفاً عظيماً، وتجسّده رُعباً دائماً في واقعها، فكُلّما أرادَ المسلم القيام بعملٍ ما، استعظم ذلك وشعر بأنّ يد الله ستطاله وتقضي عليه، إن لم يكن في هذه الحياة، ففي الحياة الآخرة.
إنَّ (الله المُخيف) كما تمثّله (المُسلم الخائف)، عزل المُسلم عن سياقاته الاستخلافية في الأرض، وجعل منه محض كائن مُترَهْبِن لا يفتأ يستغفر الله لكي يغفر له خطاياه المُتنامية، فهو ينزح ناحية الداخل –من جهة- كَمَن أصابه حرق فانكمش جِلده، مُعطّلاً بذلك سياقاته الخارجية ودفقياتها الزمنية. ومن جهة ثانية، ينزح ناحية الآخرة مُعطّلاً بذلك فكرة الخلافة الإلهية للإنسان بعمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية، في الحياة الدنيا.
ولربما كان لذلك التوجّه السلبي في النظر إلى الله بصفته كائناً مُخيفاً؛ دورٌ في العطالة الحضارية التي أصابت العالَم الإسلامي منذ قرون عديدة، فالمسلم الخائف عاجز عن تقديم تأويل مُختلف وجديد لـ إلهه المُخيف!. فهو، الآن، في اللحظة الراهنة، لا زال يخضع لتأويل قديم عن أحد الأقانيم الوجودية التأسيسية (الله)، فالذهنية التي أنتجت الإله المُخيف، من خلال الاشتغال على الحقل الدلالي لـِ الإله (شديد العقاب)، لا زالت تفعل فعلها في المخيال الجمعي الآني، ولا زالَ النظر إلى الله يتم بعينٍ واحدةٍ لإحداث قهر لدى كُلّ ما لا يتمثّل الخطاب الإسلامي بصيغته المعمول من قبل من يمتحون من بئر التأويل القديم لنص قُرآني عُرف عنه أنه صالح لكلّ زمان ومكان!.
ولربما ساهمت الفتاوى -بصفتها صادرة عن علم الفقه- في تعزيز صورة الإله المُخيف، من خلال بلورة سياق ذهني وواقعي لله، بصفته مخيفاً، نتيجة للعقاب الشديد الذي يمكن أن يصيب المخالفين في حال لم يمتثلوا للشِرعة الإلهية كما أقرها علم الفقه وتداعياته الفقهية.
إنَّ ثقافة (الحلال) و(الحرام) التي أقرّها علم الفقه الإسلامي وسادت المجتمعات العربية الإسلامية ولا زالت، أصابت الوشيجة الرحمانية التي تربط الإنسان بالله، في مقتل. إذ حالَ الله إلى كائنٍ مُخيف، وأحالت التداعيات الذهنية والواقعية لهذا الإله، الإنسان المسلم إلى كائنٍ خائف مُستلَب الإرادة. وأصبحت العلاقة التي تربط الله بالإنسان علاقة (خائف) بـِ (مُخيف)؛ لا علاقة (مُستَخْلِف) بـ (مُستَخْلَف) قائمة على الرحمة التي تسعى إلى الارتقاء بالإنسان إلى مصافّ علوية عبر تدرّجات تراكمية وانبنائية في ملحمة إنسانية عظيمة؛ يسلتهم الإنسان عبرها عَظمة الله اللا مُتناهية ويُحاول بلورتها فعلاً حضارياً في اكتشاف نواميس هذا الكون ومقتنياته، فلا تناهيات الكون تتطلّب قوة لا مُتناهية لاجتراح المعجزة الاستخلافية الإلهية للإنسان على أكمل وجه.
إن المسلم الخائف عاجز تماماً عن تحريك قدميه قيد أنملة باتجاه الاستخلاف الذي أُوكِلَ إليه إلهياً، فهو يخاف أن يتحرّك فيحلّ عليه غضب الله، ويُودعه نار جهنم؛ فالصورة النمطية التي انطبع بها عقله وحالت إلى سلوك عملي من ثمَّ، جعلت همّه الأكبر في الحياة الدنيا الخوف من المُخيف، لكي لا تحلّ عليه اللعنة الإلهية الأبدية في الدنيا والآخرة. إنه يخضع لشرطٍ فقهي قبل أن يُقدم على أي عمل يقوم به في حياته الشخصية والمهنية، ورسالته الحضارية أيضاً، فهو يُريد أن يعرف إنْ كان ما سيقوم به (حلالاً) أم (حراماً)، لأنّ صورة الله المُنطبعة في ذهنه هي صورة الإله المُخيف لا صورة الإله المُسْتَخْلِف الذي أوكل إلى الإنسان فتح السموات والأرض، واكتشاف نواميس هذا الوجود.
إذن، نحنُ أمام استحقاق مرير فيما يتعلّق بعلاقة المسلم بإلهه، فالأول خائف والثاني مُخيف، وما بينهما هوّة جحيمية أشرعَ أبوابها علم الفقه الإسلامي، والاستدعاء الانفصالي لكثير من الآيات القُرآنية التي صوّرت الله إلهاً شديد العقاب، لا مجال مع عقوباته اللامتناهية إلا الخوف، الخوف الشديد، والذي بموجبه ستتعطّل مَلَكات الإنسان ودفقاته البنائية والإعمارية لهذه العالم.
لكن هذا (الخوف من الله) أنتجَ صورةً مُضادة؛ صورة (الخوف على الله)، وهذا ما سأفصلّه حالاً.
الخوف على الله
مقابل الصورة؛ صورة (الخوف من الله)، التي أُنْتِجَت وفُعلّت إسلامياً، ثمة صورة أخرى تقف على الطرف الآخر؛ إنها صورة (الخوف على الله).
إنَّ الله المُخيف يتحوّل في ذات المخيال إلى إلهٍ خائف، يستوجب حمايةً من ذات المسلم الخائف، في توليفة عجيبة أنتجتها التراكمات المعرفية الإسلامية، في واحدةٍ من الانفصامات الذهنية التي تعيشها الذات الإسلامية، وتُمَظْهِر انفصاماتها واقعاً ملموساً. فالمسلم الخائف من الله المُخيف لا يفتأ ينتقل من دور المفعول به خوفاً إلى دور الفاعل دفاعاً عن الله، إذ يعتقد أن الله بحاجةٍ إلى حمايته.
أتفهّم الحماس اللاهوتي من المسلم بإزاء الله، كجزءٍ من سيرورة إيمانية كبرى تُجلّي العلاقة (الاتصالية/ الانفصالية) بين الله والإنسان، والشغف الإنساني بالارتقاء في مدارج الكمال الإلهي، لكن أن يتحوّل الله كُلِّي القدرة إلى خاضع لشرط تابعيه، تعوزه معونتهم، فتلك فجيعة لاهوتية عظيمة، أحالت المسلم إلى كائن غاضب أبد الدهر. فهو إذ يُنتج إلهاً خائفاً غير قادر على درء الخطر عن نفسه اللامتناهية،، مُستعيناً بقوةٍ مُتناهية، فإنَّ التمثّل المُنعكس على هذا المسلم هو انعكاس سلبي يقيناً. فإذا كانت القوة اللامُتناهية بحاجةٍ إلى دعمٍ وإسنادٍ من القوة المُتناهية، فإنّ الشعور المُنعكس على المسلم هو شعور مُتناهٍ ومحدود وغير قادر على مواكبة التطورات اللامتناهية في هذا الوجود.
إنَّ الفجوة الفاصلة بين المسلم الذي لا يعرف شيئاً عن إلهه إلا بوصفه إلهاً قاسياً، تجعل منه مُطالباً عند حدٍّ معيّن باستبدال الدور بينه وبين الله، بوصفه إلهاً سيكولوجياً لا إلهاً أنطولوجياً (هذا موضوع أناقشه في موضع آخر بتفصيل أوسع)، فالعلاقة بين (الخائف/ المخيف)، ثنائية (الجلاد/ الضحية) تتطلَّب إحداث إزاحة في المواقع، لكي تكتمل المعادلة على المستوى السيكولوجي، فالضحية الخائفة تُريد أن تصبح جلاداً مخيفاً، لغاية ممارسة الدور الذي مُورس بحقّها. لذا يعمد المسلم –في لحظة حضور إيمان عكسي- إلى نزع الصفة الكمالية عن الله وموضعته ضمن سياقات الضعف الإنساني، ومحاولة دفع الخطر الذي يتهدّده، من خلال الدفاع المستميت عن الله بصفته كائناً خائفاً يستوجب دفاعاً من كائن مُخيف. فالخوف من الله (الصورة الأكثر حضوراً عن الله في المخيال الإسلامي) تتقاطع معها في ذات المخيلة، وتتساوى معها حضوراً إيمانياً صورة (الخوف على الله)، ولا يمكن أن تكتمل الصورة الأولى إلا بالثانية، فالسلم الشاعر بخوفٍ رهيب من الله يخاف على الله أن ينهار مع أول انتقاد يوجّه -على سبيل المثال- للنص القُرآني وللإله المتجلِّي في هذا النص.
إنَّ الحقل الدلالي -كخلاصة وتركيب لما سلف- الذي يتحرّك فيه حرف الجر المزدوج (من/ على) في جملة (الخوف من/ على الله) هو حقل سيكولوجي بامتياز، ينزح ناحية حلول عرفاني بين الكائن المتناهي وذاك اللامتناهي، بحيث يتموضعان في بؤرة سيكولوجية واحدة، ومن هناك يمارسان ذات الدور التشابكي، إذ لا معنى للخوف من الإله بدون خوف عليه، ولا معنى للخوف على الإله من دون الخوف منه.
إنهما -الله والمسلم- متساويان سيكولوجياً، ولا معنى لأية مسافة تفصل بينهما وجودياً، بموجب معادلة (الخوف من/ على الله) التي رُوِّجت في العالَم الإسلامي منذ ما ينيف على 13 قرناً ولا زالت، وكأنها المعادلة الأكمل، الأنقى، الأطهر، الوحيدة إيمانياً.