الدرس اليوناني: حينما تغالب البطنة الفطنة
فئة : مقالات
في البدء كانت الفلسفة في اليونان، والآن تمر بلاد الحكمة - التي نهضت بالعقل لحظة سكون الحواس عن التفكير في العالم - بأيام عصيبة لم تدع لعقلها الفلسفي فرصة معاودة النظر في استشكالات الواقع، التي تطرحها جيوب المواطنين وتعكسها قلاقل البورصات والأبناك.
كانت أثينا هي دائرة المعارف الإنسانية من منطلق فلسفي وقلبها النابض بالعلوم، وصارت أن تحولت البوصلة إلى الجيران الأوربيين من ألمانيا وفرنسا، وآلت إليهما الحكمة الفلسفية، فتحولت معها القوة الاقتصادية إلى مفعول لضخ الطاقة في هاتين الدولتين، أكسبتهما سلطة القرار في الاتحاد الأوربي وإمكانية فرض الشروط على الجيران وفق طموحهما.
وهكذا استطاعت ألمانيا وفرنسا أن تنتزعا الزعامة الفكرية داخل أوربا وتستوليا على النفوذ المالي بها، لتندحر اليونان إلى القعر تاركة الزمام للقوى الصاعدة، وهكذا تفشل أثينا أمام الماكينة الألمانية، وتحني الرأس لأنوار فرنسا، دون أن تتحرك فيها غيرة السبق الفلسفي أو أن يستفيق في جيلها حكيم من طينة سقراط أو أفلاطون أو أرسطو.
فالفلسفة لم تكن في الأصل إلا فنا في التدبير أو بالأحرى فنا للعيش، كما يفصح عن ذلك مؤلف لعبد السلام بن عبد العالي، ويستتبع ذلك أن التفكير في الفلسفة ليس رياضة ذهنية محضة تبغي التجريد والسياحة في عوالم النظرية، لكن الواضح أن الفلسفة غدت درسا في الواقع وتفكيرا في المعيش عاجلا أو آجلا، لأن الأب الروحي للفلسفة سقراط لم ينطق بالحكمة لمجرد التشهي والارتفاع عن الموجود، بل كان مدفوعا بسؤال الواقع الذي أومأ إليه بتبني قضية المجتمع، الذي صار في حاجة إلى الحرية والانعتاق ضدا في الاستبداد والاستبلاد.
تمر قرون وأجيال على تاريخ الفلسفة وتتشعب مدارسها والمقاربات من داخلها، وتتوسع القضايا والإشكالات المدروسة، ويمتد السؤال الفلسفي ليلامس مناطق جديدة تهم حتى طبيعة السؤال الفلسفي وماهية الفلسفة والفيلسوف، كاستمرار لحيوية هذا السؤال وكإعلان دائم عن انخراط الفلسفة في الكائن والممكن.
لكن قدوم رياح العولمة وفتوحات التقنية وزحف التكنولوجيا ، جعل السؤال المعرفي ذا طبيعة إشكالية معقدة، لأن المتدخلين في الشأن العام كثر، والحلول في الواقع أضحت جزءا من الأزمة والمشكلة.
والحال أن الفلسفة لم تكن تعول في سياقها التاريخي على المال، بل كانت تواجه الإقطاع وتنظر للمدينة الفاضلة التي يتساوى فيها الناس، ويجلس فيها الفيلسوف في مقام الحكيم الموجه، لكن يبدو أن السياسي أحكم آليات الإغلاق عليه، وصار بيده تدبير شؤون العامة.
ومادام الساسة هم الذين يملكون عصم المالية والسيولة، فإنهم أقدر على رسم الخطط وتحديد مسار الدولة والمجتمع، وتحت عينهم تصنع قرارات مصيرية قد تدفع الدولة إلى الإفلاس، وهو مفهوم يتم الاستشهاد به في واقعة جنوح اليونان إلى أزمة مالية خانقة، أمام تعنت الدائن الأوربي الذي أنهكته السياسات الإصلاحية التي لم تصلح شيئا من سقوط اليونان في مستنقع هذا الإفلاس.
وقد كان من جميل الفلسفة وعصر الأنوار الذي أنتجته، أن صنعت من أوربا قوة اقتصادية توازي أبا الهول الأمريكي، إضافة إلى وحدتها على مستويات السياسة الخارجية والمالية والمحاكم العدلية وغيرها، لكن يبدو أن التصدع صار عنوان المرحلة التي أربكت حسابات الأوربيين، وجعلت النقاش حادا في مسألة الوحدة ومستقبل الجوار بين الشركاء الأوربيين.
وهي النازلة التي من المفروض أن تستدعي العقل الفلسفي إلى أتون الأزمة المالية، التي ألمت باليونان مصدر الاستنارة الفلسفية منذ النشأة، ومن المفارقة العجيبة كما سبقت الإشارة أن الفلسفة لما كانت هي مصدر إلهام للوحدة الأوربية وكان اليونان بؤرة انبثاق هذه الحكمة الفلسفية، فإنه ومن مكر التاريخ تطرق التصدع إلى الكيان الأوربي من اليونان نفسها رحم هذه الحكمة، وعكست صورة العبد الآبق الذي يفر من مسؤولياته الجسيمة تاركا سيده يهيم في غضبه.
فالمسؤولية التاريخية لليونان التي هي إرادة المعرفة وإشاعة الفلسفة، أناخ كلكلها بمسؤولية جديدة من صميم الواقع، وهي الحفاظ على الوحدة الأوربية مكسب المشاورات العسيرة لهؤلاء الشركاء، وبالمقابل الخضوع للحكامة المالية التي أملاها العقل الأوربي القلق من تواتر الأزمات الاقتصادية الهائلة.
فالتفلسف الذي كان من قبل فنا في التقلب في العيش، انقلب بفعل فاعل مادي إلى فن في التقشف في العيش؛ فالعجز في الموازنة العامة أدى إلى أزمة ثقة في الأسواق المالية، مما سيضطر الفلسفة إلى التفكير في تحكيم العقل لحفظ المال وصونه بالتدبير عن التبذير، لأن دول منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي مصمم على تفعيل خطة الإنقاذ المالي بالاتفاق مع المفوضية الأوروبية، وتتضمن الخطة قروضا من دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد تحتاجها الحكومة اليونانية للنفقات المالية.
ولعل خطة الإنقاذ هذه قضية يمثل هاجس فشلها أو خروج اليونان من منطقة اليورو كابوسا لأوروبا، وقلقا شديدا وتوترا في مناطق أخرى من العالم، يتم عبرها تصدير العصيان من مخططات الرأسمالية المتوحشة التي ترهن مصائر الناس لتطلعات الكبار ذوي النفوذ السياسي والاقتصادي.
بمعنى آخر ستمثل الطريقة التي ستتعامل بها أوروبا مع أزمة اليونان نموذجا قائما لدول أخرى ضعيفة في منطقة اليورو، علما بأن تعثر سداد اليونان لديونها واحتمال خروجها من منطقة اليورو يمثل ضربة لمشروع الوحدة الأوروبية، الذي يعمل عليه قادتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد شكل انتصار الاتجاه الرافض لشروط الدائنين في استفتاء عام يوم 5 يوليوز 2015 حدثا أوروبيا لم تعتده من قبل هذه القارة، وأطلق يد حكومة "أليكسس تسيبراس" اليسارية، لتتصدى بقوة لشروط الدائنين في مفاوضات عنيدة بين الطرفين.
وجاءت نتيجة الاستفتاء أكثر من مفاجئة على المستوى السياسي والاقتصادي، لأنه يؤشر على دلالات خطيرة تهم مستقبل منطقة اليورو التي دشنت تجربة الوحدة، ويضع احتمالات تتراوح بين الانهيار المالي الإقليمي أو الكوني والانسحاب من الوحدة الأوربية.
وإذا كان الاستفتاء قد كشف عما يشعر به اليونانيون إزاء شروط المقرضين الأوروبيين وصندوق النقد الدولي، فإن تصويت اليونانيين على رفض هذه الشروط لاستمرار تقديم القروض، سيفضي إلى رفض سياسة التقشف وإلى تصاعد الاحتجاجات وإلى نشوء عقيدة يسارية جارفة، تلملم شتات النقابات والمجموعات اليسارية مختلفة المشارب، لمناهضة سياسة التقشف وتداعياتها.
لأن هذه السياسة من شأنها المس بالوضع المعيشي لطبقات شعبية متعددة من العمال والفلاحين والفئات الوسطى وغيرها، ومن شأنها كذلك الإسهام في تراجع الأجور وزيادة الضرائب، وخصخصة القطاع العام، عبر بيع جملة من القطاعات الحيوية (المواصلات والاتصالات والصحة والشواطئ وغيرها) التي كانت تعد جزءا من الحق العام.
وقد كان لتطبيق هذه السياسة ممن قبل نتائج وخيمة، كوقوع العديد من الدول محل التطبيق في مآزق اجتماعية وأشكال من الاستنزاف والابتزاز، إلى حد تعجز فيه الدولة المدينة عن تسديد ديونها وجعلها معلقة بين الاستهلاك والاستدانة دون توقف.
وهو ما يفسر شراسة الدفاع التي أبان عنها حزب "سيريزا" ضد أي تقشف يعصف بقدرات الفئات الشعبية التي استطاع استمالتها إلى حزبه، وتحول بفعلها إلى قوة سياسية صاعدة تضاهي قوة الأحزاب التقليدية، وهو ما عكسته نتيجة الاستفتاء التي أطلقت عنان الحركة والزحف لهذا الحزب.
لكن يبدو أن الأوضاع في طريقها إلى التهدئة خشية الانزلاق في مسار قد يؤدي إلى انهيار اليويو وتفكك الوحدة الأوربية، وانفجار أزمة اقتصادية عالمية جديدة كالتي وقعت في أمريكا سنة 2008، وبفعلها شهدت الأبناك الدولية ومجموعة من المؤسسات الاقتصادية رجة مالية أفضت أحيانا إلى الإفلاس الحاد.
وجدير بالذكر أن ربع قرن من بدء العمل باليورو كانت كافية لإثبات فشل أو نجاح هذه التجربة الفتية والاستثنائية، وهو تمرين في حق الرأسمالية التي وعدت بالرفاهية والنمو، لكن أية رفاهية وأي نمو يطال الفقراء والمستضعفين، إذا كانت شروط السوق في قبضة الأثرياء وأصحاب النفوذ دون غيرهم من البؤساء؟
لكن بعيدا عن اهتمامات السياسيين ووساوسهم المادية، أين يتموقع المفكر والمثقف مما يقع، فماذا بقي من الحكمة اليونانية لكي تجلو عن العقل الفلسفي الأوربي غشاوته التي أوقعته في الأزمة، وجعلت حصانه يكبو في تمرين الوحدة، هل انفصلت الحكمة عن السياسة فأفضت إلى تخبط في توقع المستقبل وتشخيص الواقع، أم أن بين التنظير والتنزيل مسافة لا يدركها إلا الممارسون للشأن العام؟
وفي جميع الأحوال، هل ستنجح الفلسفة من جديد في التحول بالمجتمع من "تدبير المتوحد" إلى "تدبير الوحدة"؟ فحاصل اليونان بين منزلتين كلاهما مرتان، بين إغراءات تدبير المتوحد وما يقتضيه من استقلال عن منطقة اليورو، وبين إملاءات تدبير الوحدة ومحاولة الاندماج الإيجابي في الجسم الأوربي بما له وما عليه.
فالسؤال الفلسفي المعاصر لن يكون مجديا، ما بقي بعيدا عن لملمة إشكالات من طبيعة التأزم في العيش، وانقلاب الحياة إلى مؤشرات تصعد وتهبط في الأسواق بشكل يقلب موازين العيش اليومي للمواطنين، فهل للعولمة مكان في الطرح الفلسفي في شقها المتوحش الذي يستنزف الإنسان ويرديه طريحا بين كماشات المديونية والعجز، أمام تصلب أرباب المال وارتفاع إيقاع الحياة، وهل سيكون بمقدور الفلسفة أن تعدل من هذا الإيقاع بجلب المعنى للحياة ودحر المبنى فيها، أم أن طموح أفلاطون في مدينته الفاضلة سيبقى معلقا بين السماء والأرض، حتى تنتشله أيادي العطف والشفقة، فالواقع لا يرتفع، إنما ترتفع مؤشرات الأسواق التي يحكمها منطق الربح وتنأى عن التفكير العقلاني.