الدولة الديموقراطيّة بين تسارع التاريخ ونهايته
فئة : مقالات
الدولة الديموقراطيّة بين تسارع التاريخ ونهايته*
إذا كان كلّ مجتمع يصنع قضاته كما يصنع مجرميه، وينشئ من الحقيقة بالقدر الذي يحتاجه، فإننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى أن نعرف قضاتنا من جناتنا، ونكتنه حقيقة الأحداث التي تمرّ بها المنطقة العربية وآفاق السعي نحو التأسيس الديموقراطي الذي تحلم به الشعوب وليس الأحزاب. هل ما عرفته البلاد العربية في بعض أصقاعها كان ثورة بالفعل؟ وإن كانت كذلك، فهل هي ثورات من عمق المأساة الشعبيّة أم هي تصدّعات يفرضها الآخر قسر إرادتنا؟ هل كنّا جزءاً من صنّاع التاريخ الحديث أم كنّا على العكس من ذلك عشباً تحت سنابك الأقوياء، وقطعة من رقعة الشطرنج العالمية التي يحرّكها الجبابرة؟
لكن، سواء أكنّا فواعل أم مفاعيل، فإنّنا في حاجة إلى من يفكّر لنا سياسياً بالعمق النظري اللازم أو بالنفعانيّة الضروريّة، لأنّ المتتبّع للكتابات السياسيّة في العالم العربي المعاصر لا يسعه "إلا أن يسجّل طغيان الطابع الازدواجي الانتقائي على هذه الكتابة، فسواء تعلّق الأمر بالكتابة السياسيّة ذات التوجّه الليبرالي أو الاشتراكي في أغلب ما ينشر منها أو الكتابة المتدثّرة بعباءات الفكر السلفي فإنّ طغيان الازدواجيّة والانتقائيّة أمر ظاهر مكشوف... وكلمّا تأملنا مفاهيم الخطاب السياسي عثرنا على مزيج انتقائي من قيم الماضي وقيم المعاصرة".[1]بل إنّنا نتوه وسط كمّ من التحاليل والآراء التي لا تستند إلى رؤى واضحة وعلميّة، أو تهتمّ برصد سياسات الحركة الفكريّة وما يقابلها من مستويات التفاعل الشعبي والقاعدي.
عندما قرأت كتاب فرنسيس فوكوياما[2] عن نهاية التاريخ قدّرت أنّ الفكر الحديث في الغرب تجاوز الفكر الفلسفي النسقي نحو ممارسة عمليّة للخطاب السياسي بحيث انبنت النظريّة على مشروع الإرادة السياسيّة التي تعلن صراحة صوت القوة، قوّة إنجاز ما نفكّر فيه لنجعله الحقيقة التاريخيّة الوحيدة. وربّما يُعدّ كتاب فوكوياما من أبرز ما ظهر في الفكر السياسي على الصعيد الإيديولوجي بعد الحرب الباردة، حرب المعسكرين. وليست أهميته في عمق التحليل وطرافة الاستنتاج أو في غزارة المادة البحثيّة وإنّما في قدرة الفكر وهو يعلن شعاراته اللبراليّة على أن يدافع عن نفسه وينشئ حصوناً جديدة لنشأة مستأنفة. ليست أصالة الكتاب في وجاهة الحجاج أو إفحام الحقائق التاريخيّة، فنحن في زمن يغرق فيه الخطاب السياسي بين قطب التقدّم اللاعقلاني من جهة وقطب سلطة الكبت من جهة ثانية.[3] إنّ جوهر الموضوع هو أنّ الكتاب مبنيّ على إيديولوجيا القوّة، على فكرة محاربة الإيديولوجيا ولكن بالإيديولوجيا، على فكرة فرض الذات على العالم نموذجاً كونياً، وهي الثقة التي تعوزنا حتى في أعمق تنظيراتنا الفلسفيّة.
لا يكتشف فوكوياما كوناً جديداً، ولا يفتح أرضاً عذراء، ولا يأتي بما ليس معروفاً من تراث الليبرالية، لأنّ الليبرالية ليست في النهاية سوى الاسم السياسي الذي اتخذته تيّارات الفكر المنفعي الذي وسم الفكر الأنقلوسكسوني منذ منعطف الحداثة. بيد أنّ ما يضيفه فوكوياما إلى الخطاب الأنقلوسكسوني- الأمريكي المعاصر هو نزوعه إلى تغيير المقدّمات التقليديّة لهذا الخطاب، فعوض أن يعتمد تراث الواقعية النفعيّة كما هو الأمر عند أقطابه من جون لوك وبنتام حتى جون ستيوارت ميل فإنه ينصرف إلى المعين الأوروبي الألماني عند محطة مركزيّة فيه وهو هيغل، حيث يؤكّد فوكوياما أنّ الفلسفة الهيغلية تمكّننا أكثر من التصوّر الماركسي من فهم أو آلية التطور التاريخي، بل وأفضل من كل العلوم الاجتماعية التي استوحت بشكل عام رؤيته للتمفصل بين الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية والحياة السياسية. ولا يتوقّف فوكوياما عند هذا العلم المشهور للفكر التاريخي، بل يمضي قدماً نحو العمق الإغريقي فيصل مقدماته بما فهمه من التحليل الأفلاطوني للذات والمدينة، ثم لا ينسى أن يتوقّف عند أهم مؤسسي العقد الاجتماعي والمجتمع المدني وهو جون جاك روسو.
كان الخطاب الفلسفي لليبرالية يشكو إشكالاً جوهرياً هو إشكال التأسيس والبحث عن المفهوم، كما كان يعاني نقصاً في الأبنية الفكرية الكبرى التي شهدتها أوربا، فهناك ظمأ حقيقي في صلب الخطاب السياسي الأمريكي لتأصيل قواعد التأسيس، ولا سبيل إلى مثل هذا الأمر إلا بالعودة إلى رحم المعاقل الفكرية الأوروبية والغوص في لججه واللواذ بالتراث الإغريقي الضارب في التاريخ. وإنّ الرجوع إلى أفلاطون وهيغل وكوجيف قد لعب أكثر من مجرد الاستدلال على ما يريد الكاتب إثباته، فقد صار لآراء هؤلاء الفلاسفة دور المقدمات المنطقية الأولية التي تمتلك حقيقتها من ذاتها، وبذلك أخرج فوكوياما أفكار هذه النخبة من المفكرين والفلاسفة من معرض التحليل والنقد ليجعلها مباني نهائية لما فهمه من تحقّق نهاية التاريخ. لقد أعرض عن نهاية التاريخ باعتبارها فرضية قابلة للنقاش وعاج على خلاصة مؤدّاها أنّ هذه النهاية حقيقة مسلّم بها، وليس من سبيل إلى مراجعتها، بل حصر القضيّة في الوقوع على الحدث التاريخي الذي ينجز هذه النهاية ويعلن واقعيّتها.
إنّ أطروحة نهاية التاريخ ليست إلا مبدأ تقسيمياً للعالم بين قطب نحن فيه وقطب آخر مواجه لنا، جزء من العالم هنا وبقيته هناك، وحدود نهاية التاريخ هي النظام العالمي الجديد الذي يتّكئ على مبدأ الاستقطاب الثنائي. فبعد سقوط المعسكر الشرقي الذي كان يمثّل للجناح الأمريكي هذا الآخر، بدأ البحث عمّن يملأ فراغ "الآخر"، وهكذا فالمجال الذي تركه الثقل الشيوعي لم يلبث أن امتلأ بالشقّ العربي الإسلامي، وصارت ثنائية المركز/ الهامش مشحونة بهالة الواقعيّة.
إنّ التصور الهيغلي الذي بلور مفهوم الدولة الشموليّة المتجانسة هو الذي اعتبره كوجيف ـ سائراً على خطى هيغل ـ الحقيقة المطلقة التي تقفل التاريخ بوصفه صيرورة من الأفكار والإيديولوجيات تتحرّك بحسب منطق جدلي ذاتي، إذ وفق هذا التصوّر فإنّ العالم لا بدّ أن ينقسم إلى شقّين: الشق الأول يجمع البلدان والأمم التي تعيش نهاية، ويجمع الشقّ الآخر الأمم والبلدان اللاحقة بالتاريخ وفق تعبير فوكوياما المعتمد على التأويليّة الكوجيفيّة لهيغل.
وبحسب فوكوياما فإنّ الليبرالية هي أفضل نظام سياسي واجتماعي عرفته البشريّة، والعالم كلّه مدرك لهذه الحقيقة. فهل الديموقراطية الليبرالية هي حقيقة كونية؟ وماذا تعني نهاية التاريخ؟ وأيّ تاريخ ذاك الذي يواجه نهايته؟ من يحدّد النهاية؟ وهل لا بدّ من نظرية أخرى تسرّع الحدث نحو منتهاه حتى نحقّق ما خطّطنا له من نهاية التاريخ؟
إنّنا حين نقول عبارة "نهاية التاريخ" فإنّنا نحسّ بأننا نطوي التاريخ طيّاً، وكأنّ التاريخ جسد ملقى على قارعة الطريق ونحن نشهد خاتمته. لكنّ نقطة النهاية لا يمكن تحديدها، فهي قد تمتدّ إلى ما لا نهاية، لأنها ليست حادثيّة، إنّها مجرّد تصوّر لأمر وليست تعيينا لواقعة، ولذلك فإنّ ليبرالية فوكوياما تبدو خاصّة جدّاً لأنها تفرض خاتمة، ولكنها ليست أيّة خاتمة، بل هي ليبرالية تصنع الخاتمة التي تريد. اتكأ فوكوياما على الفلسفة الهيغليّة والمنحى النيتشوي لدحض الدكتاتوريّة في صورتها الماركسيّة والمنافحة عن النظام الديمقراطي اللبرالي الذي عدّه نهاية التاريخ حسب عبارة هيغل.
لكنّ نقطة الانطلاق في تصوّر هذا المفكّر الأمريكي ذي الأصول اليابانية هو أفلاطون الذي قرّر أنّ الانسان مزيج من العقل والرغبة والتوموس، ولسنا ندري كيف أوّل فوكوياما التوموس عند أفلاطون بأنّه الوجدان أو روح الحياة حتى ينتهي إلى أنّ العقل والرغبة يفسّران ازدهار الصناعة وتطور الاقتصاد، أمّا التوموس فإنه يفسّر الطموح نحو الديمقراطية اللبرالية بما أنّ الناس لطالما ناضلت ضدّ الاستبداد والقهر. إذن ليس الصراع الطبقي هو الذي يحرّك التاريخ كما يرى ماركس، وإنّما التوموس هو الذي يصنع ذلك. لكنّ هذا التوجّه "لا يستقيم تاريخياً بما أنّ نظرية الديمقراطيّة عند أفلاطون سلبيّة في كنهها، وكذلك لا يستقيم فلسفياً لأنّ أفلاطون كان يعني بالوظيفة الثالثة (التوموييديس) الغضب الذي يتمكّن منّا ليعاضد الفضيلة والأخلاق ويساعد العقل على مواجهة صعوبة الحياة".[4] ثم ما الذي يبرّر نزوع الذات إلى معانقة النظام الديمقراطي اللبرالي بالذات؟ يجيب فوكوياما بأنّ التكنولوجيا والعلوم الحديثة التي كانت شرط نجاح الرأسمالية هي التي تكون شرط تحقق الديمقراطية، فلا تقدّم صناعياً في ظلّ نظام قهريّ استبداديّ، ولا رواج للديمقراطية في ظلّ اقتصاد غير رأسمالي. لكن هل العلوم والتقنيات تحقّق الديمقراطيات فعلاً؟ أليست العلوم والتقنيات وراء إنتاج المجتمع المعقلن الذي ديدنه النجاعة والتحكم بحيث صار من يملك هذه التكنولوجيّات يملك السلطة والاستغلال والهيمنة؟
إنّ العقل ينتج القوة، ويكون ذلك في صالح الإنسان ما استمرّ العقل يقود القوة، لكن إذا انقلبت الأدوار وصارت القوّة متحكّمة في العقل فلا أمل في الديمقراطية، ولا حتى في مجرّد احترام الذات البشرية. "إنّ القوة التي استحالت إلى مقولات للعقل تصبح حاجزاً أمامه لإدراك الحقيقة، "على عكس" العقل الذي لم تسكنه بعد مقولات القوّة فإنه يملك الفرصة نحو الاتجاه إلى إدراك حقيقة الأشياء والظواهر والنظم والعلاقات كما هي في ذاتها"[5]، والعقل المعاصر هو عقل الهيمنة الذي تؤكده حركات الاستعمار وعقل التناقض الذي تبرهن عليه أصقاع مديدة من العالم تعيش الخصاصة والجوع والجهل"، فالتخلف كما يفكر فيه من طرف العقل الكوني (الأفكار التي لها السيادة عالميا) ليس واقعاً ينبغي العمل على تجاوزه بل هو واقع من الضروري استمراره"[6]، فلا يبدو تصوّر الديمقراطية بهذا الشكل أمراً ناجعاً وناجحاً لأنه تصور يتأسس على الرغبة في تنميط العالم وفق نموذج غربي أمريكي يريد أن يحلّل مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان باعتماد فكر أحادي مسيس"، ومهما وافقنا فوكوياما في إقراره بوجوب إحلال الحكم الديمقراطي محل الأنظمة الاستبدادية، فإننا لا نوافقه في اعتبار الحلّ الأمريكي هو الأوحد، وهو نهاية التاريخ".[7]
والحقيقة أنّ إيديولوجيّة نهاية التاريخ الأمريكية الصنع كانت سابقة تاريخياً ـ وليس منطقياً ـ لأيديولوجية "تسارع التاريخ" الأوروبية الإخراج. وفي كلتا الحالتين شهدنا رغبة محمومة للفكر الغربي في سدّ الشغورات الأيديولوجية التي تركتها الفلسفات منذ انحسار أنساقها الكبرى.
كانت فكرة تسارع التاريخ تحاول أن تثبت اللحظات التي تسبق آنات النهاية، آنات الحسم. وإذا كانت فكرة نهاية التاريخ الذي لم ينته قد وضعت حداً للأسطورة الأمريكية في الاكتمال فإنّ فكرة تسارع التاريخ تحاول أن تفتكّ من الفلسفة الإنقلوساكسونية - الأمريكية زمام المبادرة لتعلن الخواء النظري لليبرالية جديدة، وتؤكّد في مقابل ذلك أهميّة الحدث وتسارعه في خلق الأنظمة العقلانية والايبستمولوجية والشروط المعرفية والوجودية الجديدة. لقد عرف القرن العشرون تحولات سياسية وإقليمية وإيديولوجية كبرى، بدت للمتأمّل متسارعة بل وتتراكم ككرة الثلج. لكنّ القول إنّ التاريخ يتسارع فذلك يلخّص التاريخ في بعده السياسي من جهة، ويوهم من جهة ثانية بأننا "نجعل من التاريخ إمّا ذاتاً فاعلة وإمّا موضوعاً ماحقاً، في الحالة الأولى يجب الانتماء إلى الحلوليّة الهيغليّة لقبولها، لأنّ التاريخ عندها هو تاريخ انتهاء الكينونة المتطورة التي لا تتميّز عن الكون كلّه بما فيه الإنسان، وفي الحالة الثانية يجب الانضمام إلى حتميّة يكون الإنسان لعبتها اللاواعية".[8]
لقد عرف العالم العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين أحداثاّ متسارعة، لعلّ أهمّها ما يعرف بثورات الربيع العربي التي رفعت كلّها شعارات الحريّة والكرامة والديموقراطيّة. ولكنّ هذه الثورات، وإلى حدود كتابة هذه الأسطر وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات، لم تستطع أن تضع لها نهاية بتحقيق التحوّل الديموقراطي واكتساب الإنسان كرامته، بل إنّ أدنى متطلبات الحياة قد ضاع وسط ضوضاء الصراعات السياسية والإيديولوجية الجوفاء.
إنّنا حين ننظر إلى فشل محاولات التأصيل الديمقراطي في العالم العربي نؤكّد أنه لا سبيل إلى نجاحه ما لم تكن ثمّة إرادة سياسيّة حقيقيّة لإنجاحه. ليس الإشكال أن تكون الديمقراطية أثينية أو أمريكية أو فرنسية، فلكلّ فضاء ثقافي واجتماعي ـ سياسي طابعه الديمقراطي. ومثلما أنّ حكم الشعب نفسه بنفسه يتغيّر من مجتمع إلى آخر وفق التصوّر الذي يعطيه كلّ مجتمع لمفهوم "شعب" فإنّ أفضل ما تعرف به الديمقراطية هو أنها "الجهد المتواصل للذين يمارس عليهم الحكم بالوقوف ضدّ تجاوزات السلطة"، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي آلان.
إنّ الديموقراطية لا تتأسّس إلا حيث يكون للعقل والتجربة مجال متّسع يشغل الوجود الاجتماعي والنظام الاقتصادي والمجال السياسي، وهذا ـ لعمري ـ من أكبر أسباب فشلها في العالم العربي، فنحن لم نتعلّم من التاريخ شيئاً، ومازال وجودنا الاجتماعي تتحكّم فيه الأسطورة، ويحرّكه المخيال الديني، ومازال نظامنا الاقتصادي ينبني على الرّيع أو الأنشطة الهامشية والخدماتية أو المعونات الخارجية، أما أنظمتنا السياسية فهي الصورة المصغرّة للمجتمع الذي لا يستطيع أن يضع برامج دقيقة للحياة ولا خططاً واضحة للمستقبل.
نحن في أمسّ الحاجة إلى نظام ديموقراطي، ولكنّ الديموقراطية الحقّة لا تكون إلا سليلة الحضن الثقافي، فقد عرفنا الديموقراطية على الطراز الأمريكي في العراق وأفغانستان وشهدنا مآسيها. إنّ الديموقراطية صيرورة، وليست نموذجاً يعاد، إنّها عمليّة تاريخيّة تبنى وفق السياق الثقافي والحضاري لكلّ مجتمع، فلا تصدّر ولا تستورد.
إنّ الديموقراطية هي الابنة الشرعية للوغوس الإغريقي أولاً، لكنّها نمت وأخذت شكلها الحديث مع الإنسيّة الأوروبية ومع العقلانية المعاصرة، فعلى نظرة جديدة للعقل تأسّس في المجال السياسي والاجتماعي تصوّر قوي للحكم وللحقوق والحريات يرتفع فوق أرضية صلبة من التعاقد والانضباط والتعقّل. ورغم أنّ صيرورة العقل مازالت تواجه محنة الانزياح نحو العنف والقهر والتوظيف المتوحش إعلامياً وعسكرياً واقتصادياً فإنه ليس في إمكاننا أن نواجه العقل أو نسفه معجزاته أو نحاربه، وإنّما يجب أن نحوطه بأخلاقيات التسامح والسماحة وإيتيقا الحوار بل ونحوطه أيضاً وقبل ذلك بقيم الحضارة التي تكتنف ذلك العقل من أجل أن تتّقد جذواته فتدفئ ولا تحرق، ولنا في ما يحصل في بعض البلاد العربية برهان على أنّ ضعف البناء العقلاني ـ رغم الاستناد أحياناً إلى قيم الحضارة الإسلامية ـ قد منع من تصوّر واضح للديموقراطية يكون ردءاً لنا من العنف والإقصاء المتبادل، لأنّنا مازلنا نلهث وراء منابع العقلانيّة.
ليست تعنينا نظرية تسارع التاريخ، ولا نظرية نهاية التاريخ، فهي من تلك النظريات الشمولية التي توهم بأنّها صالحة للإنسانية وتستوعب قضاياها، وهي إنّما تعبّر عن نسق فكري تبرهن عليه فلا تصدق إلا على ذاتها. ليس يعني الإنسان ـ والإنسان العربي خصوصاً ـ هذه الفرضيات النظرية، وإنّما يعنيه ما يتحقّق من استحقاقات الإنسانيّة. إنّ التاريخ لا وجود له في غياب الإنسان، فليس من تاريخ إلا وهو تاريخ البشر، وحتى الطبيعة لا تاريخ لها إلا بالقياس إلى تاريخ الإنسان. التاريخ هو "تاريخ البشر للبشر وبالبشر"[9]، فالطبيعة لا تاريخ لها إلا بما يصلها بتاريخ الإنسان، لأنّ "الطبيعة هيكل من القوانين أمّا التاريخ فهيكل من الوقائع"[10]. فأن نتحدّث عن نهاية التاريخ أو عن تسارع التاريخ إنّما نصنع مراكب إيديولوجية لنبحر بها في أوهام العالم، لأنّ الإنسان هو الذي يبطئ أو يسرع أو يبدأ أو ينهي، هو معيار كل شيء ومقياسه. قد تتسارع الأحداث، ولكنّ نسبة الفعل إليها من باب المجاز لأنّ للأحداث المتسارعة أو المتثاقلة مقدّمات وأسباب يصنعها الإنسان. ورغم أنّ التاريخ تصنعه الإرادة كما يصنعه القدر فإنّه لا يتوفر على المعنى إلا حين يتّصل بالإنسان فيكسبه المعنى، لأنّه الكائن الوحيد الذي يقيّم أفعاله.
ما يهمّنا من التاريخ هو استحقاقات الإنسانيّة فيه، وأؤكّد أنّ هذه الاستحقاقات هي الديموقراطيّة.
*- مجلة يتفكرون، العدد الثالث، شتاء 2014
[1]ـ كمال عبد اللطيف، التأويل والمفارقة، ص 9
[2]ـ فرنسيس فوكوياما من الموظفين السامين في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو من مواليد 1952، نشر سنة 1989 مقالاً من ثلاثين صفحة سمّاه "نهاية التاريخ"، صدر بالمجلة الأمريكية ناشيونال اينتريستnational interest ثم توسّع في أطروحته وأخرجها في شكل كتاب عنوانه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، والفكرة الجوهرية فيه هي أنّ الديموقراطية الليبرالية تشكل اليوم موضوع توافق عالمي رغم أنها لم تنتشر في كامل أرجاء المعمورة، غير أنها تبدو المرشح المثالي لكلّ نظام سياسي مقبل، لأنّ الأنظمة الملكية والفاشية والشيوعية لم تستطع أن تكون بديلاً عن الديموقراطية الليبرالية لأسباب تاريخية وفكرية يحاول الكاتب تحليلها بالاستناد إلى كبار الفلاسفة اليونان والأوروبيين.
[3]- H. Marcuse, L’Homme Unidimensionnel, Édition minuit Paris 1968, PP. 27– 45
[4]ـ فتحي التريكي، العقل والحرية، دار تبر الزمان، تونس 1998، ص 116
[5]ـ محمد وقيدي، بناء النظرية الفلسفية: دراسات في الفلسفة العربية المعاصرة، دار الطليعة للنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 10
[6]ـ المرجع السابق، ص 15
[7]ـ فتحي التريكي، العقل والحرية، ص 125
[8]ـ جان لوك شابو، إيديولوجية تسارع التاريخ، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 94- 95، فيفري 1992، ص 119
[9]ـ عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الجزء الأول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص 34
[10]- Paul Veyne; Comment on écrit l’histoire; texte intégral; Seuil 1978, P. 22