الدولة العربية التقليدية ووهم الخلافة عند عبد الله العروي
فئة : قراءات في كتب
الدولة العربية التقليدية ووهم الخلافة عند عبد الله العروي
على سبيل التوطئة:
لا ريب أن التفكير في موضوع الدولة يعد تفكيرا بالغ التعقيد؛ ذلك أنه يطرح مجموعة من الإشكالات التي تتناسل بشكل غريب من قبيل: كيف تحدد الدولة على وجه الدقة؟ ما هي خصائصها ومكوناتها؟ ما هي غاياتها؟ لا يجب أن نتفاجأ من كل هذه التساؤلات، فنحن لسنا إزاء مفهوم قابل للتحديد العلمي يمكن مقاربته على نحو تجريبي.
والحالُ أننا إزاء مفهوم "قابل للتأويل"، فعلى سبيل المثال قد نجد بعض الاطمئنان إذا اعتقدنا للوهلة الأولى بأن الدولة هي مجموع المؤسسات التي تجعل من تعايش أعراق وطبقات اجتماعية أمرا ممكنا، لكننا نصطدم بتساؤلات أخرى لا تقل صعوبة وخطرا عن كل ما سبق: فهل اتخذت الدولة شكلا واحدا في كل العصور؟ من يتحكم في الآخر الدولة أم المجتمع؟ بعبارة أخرى، هل تعتبر الدولة انعكاسا لنمط تفكير وعيش المجتمع أم إن المجتمع ليس سوى تنظيم يتشكل بحسب إرادة الدولة؟ هل المجتمع يخضع لإرادة الدولة، حيث لا يستطيع منها خلاصا أم إن الدولة ليست سوى ترجمان لإرادة الأفراد؟
الواقع أن أي حديث عن الدولة مهما اختلفت مرجعياته، وأيا كانت دوافعه وغاياته، فإنه يلتقي عند فكرة أن الدولة "كيان مؤسساتي-اجتماعي" همه حماية الأفراد والسؤدد عنهم. إنها الإطار الذي تتحقق فيه طبيعة الإنسان (أرسطو). إنها الطود العظيم الذي يصد عنه كل ما من شأنه تهديد البقاء(هوبس)
إننا إذن، إزاء موضوع مثير للجدل، عرف نقاشات تركزت حول مفهوم الدولة وظروف نشأتها وتاريخها وأشكال حضورها عبر التاريخ. وقد أدى ذلك كله إلى ظهور نظريات الواحدة تلو الأخرى من أجل الإمساك بماهية الدولة ووظيفتها وآلية عملها. في هذا السياق، تأتي مساهمة الأستاذ عبد الله العروي من خلال كتابه "مفهوم الدولة"، وهو الكتاب الذي حاول عند مشكلة الدولة انطلاقا من تجربتين مختلفتين، وهما التجربة الغربية والتجربة العربية الإسلامية.
ينتقل الأستاذ بين مواقع مختلفة، فتارة تجده يتحدث من زاوية الرجل الملم بالتاريخ، وتارة أخرى من زاوية الفلسفة الأمر الذي يدفع القارئ إلى التساؤل: ما الذي يبرر كل هذه الانتقالات؟ بعبارة أخرى ما هو مقصد الرجل؟ وعلى ماذا يراهن؟
إن الغاية الأساسية بالنسبة إلى الباحث هي تفكيك بنيات الدولة العربية الراهنة التي تتخبط بين التخلف تارة والاغتراب تارة أخرى. إنها محاولة لتشخيص مكمن العلة تماما، مثلما يفعل الطبيب الذي يقوم بجس النبض والكشف عن الأعراض من أجل تقديم البلسم الشافي. بهذا المعنى، يجب أن نفهم محاولة العروي، فالرجل يسعى إلى تشخيص مكامن الخلل ولفت النظر إلى المشكل لربما نصبح قادرين على الخروج من زجاجة التخلف والانتكاس.
تتنوع كتابات العروي بين الفلسفة والسياسة والتاريخ. لقد كان المحرك الأساسي للأستاذ العروي هو البحث عن أسباب التخلف وطرائق تجاوزه، وهو ما يتحقق عبر مساءلة "مكونات العقل العربي بهدف الكشف عن آليات هذا العقل وعن أسسه المعرفية، والابتعاد جهد الإمكان، عن المناظرة الإيديولوجية والمذهبية التي تحكمت في الفكر العربي منذ عصر النهضة إلى الآن".[1]
في هذ السياق، يأتي كتاب "مفهوم الدولة" الصادر عن المركز الثقافي العربي، والذي يتكون من 240 صفحة (طبعة 2014). ويرى العروي –كما يفصح عن ذلك في المقدمة- أن التفكير في الدولة يقتضي البحث في ينابيع السلطات.
إن التفكير في الدولة من منظور فلسفي يقتضي تخطي الظروف الزمانية والمكانية، والبحث عن الدلالة المجرد لمفهوم الدولة بعيدا عن الصراعات السياسية والتأويلات الإيديولوجية.
1: في دلالة الدولة:
يتساءل عبد الله العروي في الفصل الأول عن دلالة الدولة، منطلقا في ذلك من تصورين مختلفين؛ يرتبط التصور الأول بنظرة معنية للحياة الدنيا بوصفها حياة عابرة لا قيمة لها بالمقارنة مع حياة الآخرين التي هي حياة السعادة الأبدية الخالدة. في مقابل ذلك، يستحضر العروي التصور الذي يرى أن الدولة تتحدد بوصفها كيانا اصطناعيا لا تتجاوز قيمتها "قيمة الحياة الدنيا كلها".[2]
وفق هذا التصور، تصبح الدولة ليس غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة هدفها خدمة الفرد ليتوصل إلى أن الدولة عبارة عن ظاهرة طبيعية للاجتماع البشري، وهي إما دولة "طبيعية صالحة وإما فاسدة؛ لأنها غير طبيعية".[3]
إذا كانت الدولة الطبيعية ليست سوى الدولة التي توجد في خدمة المجتمع، فإن الدولة الفاسدة هي تلك التي تسير ضد إرادة المجتمع. وقد تلجأ في ذلك لاستخدام العنف من أجل سلب حريات الأفراد. في هذا الصدد يستشهد العروي بالنموذجين السابقين، ليبين أنه رغم اختلافهما على مستوى تعريف الدولة، فإنهما يلتقيان عند الفكرة القائلة إن الدولة الطبيعية العادلة هي تلك التي لا تحيد عن قاعدتي الحق والخير.
2: كيف تتشكل الدولة؟
يرى العروي أنه ليس من الممكن تعريف الدولة إلا من خلال وسائلها مستشهدا في ذلك بالمدرسة الوضعانية، فرغم تعدد أجهزة الدولة ووسائلها، بل واختلاف هذه الأجهزة عبر التاريخ، إلا أن مفهوم الدولة ظل هو هو عبر كل العصور. فالدولة تتكون "من مسلحين وجباة وقضاة، وفوق هؤلاء جماعة تقوم بربط الاتصال فيما بينهم، ويوجد فوق الجميع السلطان".[4] هذا هو الشكل المجرد للدولة، سواء في شقها الحاضر أو الماضي.
الدولة ليست سوى ظاهرة اجتماعية؛ أي إنها تعبر عن مظاهر الحياة الاجتماعية. في سبيل إثبات هذه الفكرة يسوق العروي مثال الدولة الحديثة، ليبين كيف أنها انعكاس لمظاهر العقلنة التي ميزت العصر الحديث، فلو أخذنا على سبيل المثال مفهوم "البيروقراطية"، فإن هذا المفهوم ظهر في ظل التنظيم الذي أصبح خاصية أساسية من خصائص العقل الحديث فما معنى هذا القول؟ وما معنى أن تكون الدولة جهازا منظما؟
لكي تكون الدولة منظمة يجب أن يكون اقتصادها منظما فضلا عن تنظيم الإدارة وانتقاء الموظفين ذوي الكفاءات والمواهب وتنظيم التعليم. وهذه العناصر كلها، يجب أن تكون مترابطة مع بعضها البعض. يستحضر هنا العروي مثال نابليون بونابرت[5] الذي أصبح معه التعليم "بالجيش والبيروقراطية والاقتصاد، إذ يمد كل هذه الهيئات بالمهندسين والحقوقيين والمحاسبين والعمال المدربين".[6]
لقد قام العصر الحديث على مسلمة أساسية تتمثل في أن العقل هو أساس جميع المعارف (ديكارت نموذجا)؛ والعقل هو الذي يضفي النظام على الأشياء بما فيها الدولة نفسها. أن تقوم الدولة على أساس العقل معناه ببساطة أن تتجاوز نقائص الدولة القديمة التي كان جيشها ضعيفا واقتصادها غير منظم.
الدولة الحديثة ليس سوى "هي مجموع أدوات عقلنة المجتمع".[7]
يستشهد العروي بماكس فيبر[8] الذي اعتبر أن الدولة تحمل قدرا من العقلنة عبر تاريخها غير أن الدولة الحديثة وحدها هي التي جعلت من العقلنة شعارا وغاية لها.
وعلى الرغم من اختلاف التعاريف التي قدمت للدولة من لدن فلاسفة مثل هيغل وماركس وماكس فيبر، فإن تعريفاتهم تلتقي عند مستويات معينة لا يمكن إغفالها، تتمثل في تجاوز التفكير الماورائي؛ أي الذي يربط غاية الدولة بتحقق الخلاص الأخروي (كما اعتقدت فلسفات العصر الوسيط) والإعلاء من قيمة الفرد فضلا عن إعطاء القيمة للمجتمع المدني على حساب الدولة. هذا إن دل على شيء، إنما يدل على أن الدولة الحديثة تختلف بالمقارنة مع الدولة التقليدية، فإذا كانت الدولة الأولى تتجه نحو "هنا والآن"؛ أي إن لها غايات "علمانية ووضعية"، فإن الدولة التقليدية ظلت دولة ماورائية محكومة بغايات تتجاوز حدود الواقع، ومن ثمة فقد ظلت دولة طوباوية.
3 في الدولة الطوباوية:
إن هذا التوصيف ينطبق على الدولة العربية التقليدية؛ فبأي معنى تكون الدولة التقليدية في الوطن العربي دولة طوباوية؟
إن الدولة الطوباوية هي الدولة التي تهتم بما يجب أن يكون وليس بما هو كائن؛ أي إنها تنسلخ عن الواقع وتتعلق بشعارات "ماورائية".
في الفصل الرابع من كتاب "مفهوم الدولة" يرى بعد الله العروي أنه من الواجب البحث عن الواقع التاريخي الذي أفضى إلى تشكل الدولة التقليدية في الوطن العربي، ففهم هذا الواقع هو ما سيسمح بفهم كيفية تشكلها، ومن ثمة فهم طبيعة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين.
صحيح أن هناك حكاما من عدة أجناس تعاقبوا على الحكم، إلا أنهم جميعا كانوا يدعون الشرعية الإسلامية، وهي الشرعية التي تظل حسب الباحث قابلة للشك؛ لأن الدولة كما نظر لها فقهاء السياسة الشرعية لم تتحقق، بل ظلت مجرد أفكار طوباوية؛ ذلك أن مؤلفات أولئك الفقهاء تحدثنا عن "الدولة كما يجب أن تكون، لا عن الدولة كما هي في الواقع".[9]
لقد ظلت هذه التصورات من وجهة نظر الباحث حبيسة نظرة طوباوية، ولعل ذلك ما يفسر عنايتها بالجانب الخلقي والتربية، فكيف ظهرت الدولة العربية التقليدية؟ وما هي خصائصها؟
يلاحظ الباحث أن العرب قد عرفوا نوعا من الدولة عُرفت بالدولة الدهرية، وهي الدولة التي كانت تركز على غايات دنيوية تتمثل في السلطة والتوسع وقهر الخصوم ومراكمة الثروات. لكن عندما نتحدث عن "الدولة العربية التقليدية المدعومة بالدين"، فنحن نتحدث عن المرحلة التي أعقبت الفتوحات الكبرى. هذه الدولة حسب العروي ليست نتاجا عربيا خالصا، بل خليطا هجينا من مجموعة من المكونات الفارسية والبيزنطية، ولعل ذلك ما يفسر أوجه التشابه على مستوى نظام الحكم، حيث إن الخليفة كان على رأس الجهاز الحاكم الذي يتمتع بسلطة مطلقة، تماما مثلما كان الحال مع كسرى[10] وأردشير[11] نفس هذه الفكرة يشير لها الأستاذ عز الدين العلام في كتابه "الآداب السلطانية"، إذ يرى أن التنظيم الهرمي الآسيوي قد شكل "أحد المكونات الأساسية للدولة الإسلامية، وتمثل خاصة في مختلف الآثار والتفاعلات التي أحدثها وراثة العرب لأجهزة الدولتين البيزنطية والفارسية".[12]
لقد كانت "الدولة الإسلامية" حسب العروي دولة هجينة تتداخل فيها مكونات عربية تعود للعصر الجاهلي، خاصة وأن العرب عرفوا الملكية حتى قبل ظهور الديانة الإسلامية، فإذا كان الإسلام نفسه لم يقطع مع كثير من العادات الجاهلية، فإن الدولة "الإسلامية" نفسها بقيت تحتفظ ببعض خصائص الإرث الجاهلي. ليس هذا فحسب، بل إن هناك حضورا للتقاليد الفارسية كما يلاحظ الباحث؛ وذلك ما يتضح بجلاء على مستوى التراتبية السياسية والهرمية التي كان يعرفها نظام السلطة، حيث نجد في أعلى الهرم السلطان الذي يعتبر الآمر والناهي، تليه طبقة الموظفين السامين ثم القضاة وجامعي الضرائب في الوقت الذي تقبع فيه الرعية في أسفل الهرم. الدولة "الإسلامية" تأثرت ببعض الأفكار التي حملها الإسلام على الأقل ظاهريا؛ ذلك أننا لو تأملنا هذه الدولة بعيدا عن أية نزعة إيديولوجية- يعتبر الباحث- لوجدنا بأنها كانت تدعي المرجعية الدينية فحسب، فقد كانت لها في العمق أهداف دنيوية (التوسع، السلطة، مراكمة الثروة..) في الوقت الذي كان تقدم نفسها للرعية بأن لها غايات أخلاقية-دينية.
يعتقد عبد الله العروي أن "الخلافة" لم تستمر لزمن طويل، لذلك يستند على ابن خلدون لتبيان أن الحكم الذي ساد في تاريخ المسلمين هو نظام الحكم الطبيعي المبني على القهر والسلطة، وبما أن "نظام الخلافة" لم يصمد طويلا خاصة بعد أن ظهرت الحاجة لبعض العناصر العقلية، والمصالح المتعارضة، فإن محاولة استعادة هذا النمط من الحكم ليست سوى تعلق بأحلام طوباوية.
إن العرب حسب تصنيف ابن خلدون - كما يورده العروي- لم يعرفوا سوى الملك الطبيعي، غير أن العروي لا يتوقف عند هذا الحد، فمادام الواقع متغير فإن نظام الخلافة لم يعد له من مبرر. وهذا ما يدفعه إلى الاستشهاد بالإمام الغزالي الذي أكد على ضرورة أن تتكيف السياسة مع وقرارات السلطان مع متغيرات الواقع. ليس هذا فحسب، بل إن دولة الخلافة تتعارض أشد التعارض مع الطبيعة البشرية، وربما هذا ما يفسر انهيارها السريع.
يميز الباحث بين الخلافة والإمارة، فالفرق بينهما هو ما عجزت الأطروحات الاستشراقية عن إدراكه، إذ اهتمت بالتاريخ السياسي للمسلمين دون أن تقف عند المعيار الحاسم للتمييز بينهما.
إن الاختلاف أو قل المعيار الأساسي لتمييز الإمارة عن الخلافة وهما نمطا حكم مختلفين؛ فالخلافة ليست سوى "تطبيق الشرع لتحقيق مقاصده".[13] أما الدولة السلطانية، فإن لها غايات دنيوية.
4: وهم إعادة نظام الخلافة
إن التمسك بالخلافة هو تمسك بطوبى ما عاد بالإمكان أن تتحقق إلا بوجود معجزة أو حدث خارق بعد أن انحلت أسباب قيامها، بل إن قيامها أصبح شبه مستحيل بالنظر إلى الواقع المتغير. لذلك يفسر العروي محاولة الفقهاء للدفاع عن حكم الخلافة بأنه ليس سوى محاولة لمواجهة اليأس الناتج عن عدم توافق مبادئ الشريعة مع متطلبات الواقع المتغيرة.
وعليه، إذا انطلقنا من هذه المقاربة التي يعقدها العروي، فإن العرب عرفوا دولة سلطانية ذات غايات دنيوية اعتمدت على القهر والعنف في كثير من الأحيان للمحافظة على السلطة، فقد كان من الطبيعي، إذن أن يفضي هذا النظام السلطاني إلى سلب حرية الأفراد، حيث أصبحت الحرية امتيازا للطبقة الحاكمة وتلك المقربة من مركز القرار. أما باقي الأفراد، فلم يكونوا أحرارا يقول العروي في هذا الصدد: "إن ما ينقص السلطنة هو الحرية كهدف لكل فرد، لذلك قيل: لا حرية في نظام السلطنة، رغم وجود حريات خصوصية لأفراد وجماعات معينة. إن مفهوم الحرية الأصلية منعدم في السلطنة؛ لأن الدولة ملك للعصبة الحاكمة متمثلة في شخص السلطان، فالخزينة والبيروقراطية والجيش كل ذلك ملك له يتصرف فيها كما يشاء وبالطبع قد يشاء العدل فيتصرف حسب منطق العقل، كما قد يشاء العكس وهو الغالب".[14]
يرى عبد الله العروي أن التسلط والهيمنة هما الخاصيتان المميزتان للدولة العربية التقليدية، ولعل ذلك ما يفسر استعمال مصطلحي "الغلبة والتناوب"؛ فالغلبة هي نوع من الهيمنة التي تنتهي بالاستئثار بالمال والسطلة.
مادامت الخلافة حسب العروي عبارة عن حلم طوباوي لم يتحقق، فمن غير الممكن الحديث عن وجود دولة إسلامية من الناحية التاريخية، بل إن الواقع يثبت حسب العروي أن الدولة عند العرب قد قامت على حب المال والسلطة، فهي بذلك تتعارض أشد التعارض مع دولة الخلافة كما تصورها الفقهاء والمدينة الفاضلة كما تصورها الفلاسفة. فإذا كان الحاكم في المدينة الفاضلة على سبيل المثال يسعى نحو الكمال عبر البحث عن السعادة الجماعية لأفراد مدينته، فإن الحاكم في الدولة التي تقوم على الملك الطبيعي – وهو الشكل الذي عرفه العرب- لم يبحث إلا عن سعادته الشخصية، وهو الأمر الذي أكد عليه الباحث عز الدين العلام معتبرا أن حياة السلطان لم تكن تخلو من اللهو وجلسات المؤانسة، وكان السلطان يتدخل ليس فقط في شكل المجلس، بل حتي في اختيار نوع النبيذ لجلسائه.[15]
يبدو إذن من خلال تصور العروي أن عبارة "الإسلام دين ودولة"؛ أي العبارة التي ترى بأن الإسلام جاء بتصور حول شكل الدولة هو تصور يفتقر إلى الدقة؛ وذلك لأن أنصاره ينطلقون من نظام الحكم الطبيعي ليعبروا بذلك عن حلمهم المرتكز على بناء دولة الخلافة.
يوجه العروي في هذا الصدد النقد للتصورات السلفية التي ترى أن للإسلام مشروعا سياسيا، وهو في هذه النقطة يتفق مع الأستاذ علي عبد الرازق؛ فلو أن الإسلام جاء كمشروع سياسي حسب عبد الرازق لما وجدنا تضاربا في السياسات وتنوعا على مستوى الأجناس التي تعاقبت على حكم المسلمين. يقول علي عبد الرازق: "إن زعامة النبي عليه السلام كانت كما قلنا زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير".[16]
ويتفق الأستاذ علي عبد الرازق مع العروي في تصوره القائل إن نظام الحكم في الإسلام قام على منطق السيف والغلبة، وهو ما نلمسه جليا في حدث بيعة أبي بكر الصديق؛ فهذه البيعة "قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف".[17]
خاتمــة:
يبدو أن مشروع العروي من خلال - كتاب مفهوم الدولة- قد تركز أساسا على تشخيص مكامن الخلل التي عرفها العرب في تاريخهم السياسي. إن التخلف الحالي له جذوره في الماضي، حيث إن العرب لم يعرفوا أي نوع من الحكم القائم الحرية، لقد تعاقبت عدة دول في التاريخ السياسي العربي، وكلها كانت ترفع شعار "الإسلام" لكن لا أحد منها يمكن أن يوصف بالدولة الإسلامية، وعلة ذلك تكمن في أن الإسلام لم يقدم تصورا واضحا لشكل الدولة ونظام الحكم، لعل هذا "الفراغ" هو دفع الفقهاء عبر التاريخ إلى التعلق بطوبى الخلافة، رغم أن التاريخ حسب العروي يكشف بما لا يدع مجالا للشك بأن العرب لم يعرفوا سوى نظام الملك الطبيعي الذي هو نظام حكم الفرد القائم على السلطة والقهر والهادف إلى التوسع ومراكمة الثروة.
إن نظام حكم كهذا ما كان ليستوعب فكرة وجود حرية؛ لأن الفرد كان مقيدا وخاضعا لسلطة مطلقة؛ لأنه كان يعلم علم اليقين بأن الخروج عن طاعتها يمكن أن يكلفه الشيء الكثير. إن الإسلام من وجهة نظر العروي لم يحمل مشروعا سياسيا بالمعنى الحقيق للكلمة، ولا تصورا واضحا حول الدولة وأما أولئك الذين يدافعون عن الخلافة، فإن محاولاتهم تلك لا تعدو أن تكون محاولات لمحاربة اليأس المتسرب للنفوس جراء التناقض الذي يفرضه الواقع المتغير. وحيث إن الشيخ (الفقيه) يدرك أن سلطته تكاد تكون منعدمة في ظل دولة ليبرالية حديثة تحمي الحقوق والحريات، فإنه لا يجد غير الارتماء في أحضان الماضي معتقدا أنه الخلاص الممكن والسحري من "جحيم الحرية" كما يتصور هو الحرية.
لعل هذا الانهزام والضعف هو ما يبرر دفاع بعض الفقهاء عن الخلافة التي ليست سوى طوبى لا تسمن ولا تغني من جوع يقول العروي: "يدرك الشيخ أن نفوذه يقل يوما بعد يوم داخل الدولة الليبرالية، فيكون أول من يبادر إلى اختزال كل ماضي العرب في عملية تحرير العقيدة، مما يعطيه الحق في القول: أنا الوارث الحق والوحيد للتراث؛ لأني الحافظ المؤتمن على العقيدة".[18] إن خطورة هذه الفكرة لا تكمن فقط في الادعاء بأن الشيخ أو الفقيه هو من يمتلك وحده حق الفهم والتفسير، لا بل إن المشكل أخطر من ذلك بكثير، فباسم هذا الاعتقاد ينتهك الفقيه "الفضاء العمومي" ويتدخل في حريات الناس، ويطالب بتطبيق الشريعة – وهو يغفل بأن ما يحمله، إنما تصوره هو ولا يعكس بالضرورة موقف الإسلام- وعن هذا الاعتقاد الناشئ عن الإحساس باليأس تتولد طوبى الخلافة.
وفي الأخير، يمكن اعتبار "نظام الخلافة" عبارة عن فولكلور أي ثقافة اندثرت ولم يعد لها وجود، ويمكن تشبيه من يدافع عن فكرة الخلافة بالتشبيه الذي قدمه العروي في كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، إذ يقول: "إننا نرى اليوم ملايين المشاهدين لأفلام الوسترن، من أبناء أمريكا الشمالية وغيرها ينفعلون لرؤية جواد يطوي الأرض طيا، تحيط به صخور منحوثة، ويتبعه سحاب من الغبار المتناثر، في حين أن لا شيء يثيرهم في الآلات الميكانيكية التي يستعملونها كل يوم. يستحسنون في تلك الأفلام حالات من التصرف الأهوج والإقدام المتهور والحب الفج الوقح لا يقوون على تحملها ساعة واحدة في حياتهم اليومية".[19]
المصادر والمراجع:
ü عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة العاشرة 2014، الدار البيضاء-المغرب
ü عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، الناشر المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995
ü هكذا تكلم العروي، مجموعة من الباحثين، منتدى معارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2015
ü علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، مطبعة مصر شركة مساهمة، الطبعة الثانية 1344-1925
ü عز الدين العلام، الآداب السلطانية، دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي، المطابع الدولية الكويت، فبراير 2006
[1] - هكذا تكلم العروي، مجموعة من الباحثين، منتدى معارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2015، ص 142
[2] - عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة العاشرة 2014، الدار البيضاء-المغرب ص 14
[3] - مفهوم الدولة، مصدر سبق ذكره، ص 18.
[4] - مفهوم الدولة، صص 80- 81 مصدر سابق.
[5] - نابليون بونابرت قائد عسكري، وسياسي فرنسي قاد عدة حملات عسكرية ضد من كان يعتبرهم أعداء فرنسا، حكم فرنسا نهاية القرن 18 م
[6] - مفهوم الدولة، ص 94 مصدر سبق ذكره.
[7] - مفهوم الدولة ص 100 مصدر سبق ذكره.
9- ماكس فيبر1864 -1920 عالم اجتماع وفقيه قانوني وعالم اقتصاد يعتبر من أهم المنظرين للمجتمع الغربي الحديث، اثرت أفكاره على العديد من الفلاسفة علماء الاجتماع.
[9] - مفهوم الدولة ص 120.
[10] - كسرى الأول (501-579 ق م) بن قباذ بن يزدجرد حكم الإمبراطورية الساسانية ما بين 531-579 للميلاد.
[11] - أردشير بن بابك بن ساسان: مؤسس الإمبراطورية الساسانية، وقد أصبح الملوك الساسانيين ولد في فارس في إحدى قرى مدينة إصطخر.
[12] - عز الدين العلام، الآداب السلطانية، دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي، المطابع الدولية الكويت، فبراير 2006 ص 137.
[13] - مفهوم الدولة، ص 138 مصدر سابق.
[14] - مفهوم الدولة ص 145 مصدر سبق ذكره.
[15] - عز الدين العلام، الآداب السلطانية ص 131
[16] - علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، مطبعة مصر شركة مساهمة، الطبعة الثانية 1344-1925 ص 90
[17] - الإسلام وأصول الحكم، ص 92.
[18] - عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، الناشر المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص 107
[19] - نفس المصدر ص 144.