الدولة العلمادينيّة: مقاربة نقديّة
فئة : مقالات
الدولة العلمادينيّة: مقاربة نقديّة
تشير العديد من أدبيات علم الاجتماع الديني والاجتماع السياسي ودراسات الحركات الدينية إلى قصور مفاهيم مثل العلمانية والدولة المدنية والحكم الديني عن تفسير العديد من ظواهر وجود الدين وفاعليته في المجال العام للدولة الحديثة، وينبع هذا القصور من أنّ هذه المفاهيم قد تمّ إنتاجها على نحو ضدي يناقض كلّ واحد منهما فيه الآخر، لوقوعها في القلب من الجدالات بين الثنائيات الفكرية خاصة في حالة الفكر العربي المعاصر. ومن ناحية أخرى، يعبّر واقع المجتمعات المعاصرة عن تجاوز مركّب لهذه المفاهيم النظرية على نحو يستدعي إعادة تأطير المفاهيم الكائنة وصياغة مفاهيم مركّبة لتواكب تعقد الواقع الاجتماعي والسياسي وتغيره السريع. من بين هذه المحاولات ما قام به عالم اجتماع الشرق الأوسط آصف بيات عندما استخدم مفهوم الدولة العلمادينيّة Seculareligious State (العلمانية الدينية) 1عند دراسته واقع تطور الدين والتدين في المجال العام في مصر في العقود الأربعة الأخيرة. وعلى الرغم من أنّ بيات لم يقم بتنظير للمفهوم منفصل عن تحليل آليات تدين المجال العام في مصر على خلفية صراع الدولة مع حركات الإسلام السياسي والتحولات الخطابية التي أصابت الدولة والمجتمع والإسلام السياسي، إلا أنّ المفهوم يشير إلى العديد من عناصر الجدل الفكري السائد حتى الآن، خاصة علمانية الدولة وتدينها بعد انفجار جدالات ما بعد ثورة يناير 2011، وما أعقبها من تحولات سياسية أطاحت في النهاية بحكم الإسلام السياسي، وأنتجت نظاماً معبّراً عن الدولة والتباس علاقتها بالدين كسلوك في المجال العام وكمؤسسات عاملة فيه.
ويسعى هذا المقال إلى تجلية هذا المفهوم وتبيان أبعاده وما ينطوي عليه من إشكالات، وكذلك علاقته بمفاهيم أخرى تعالج قضيته مثل مفهوم الدين العام Public Religion، لدى خوسيه كازانوفا، وأخيراً أوجه قصوره عن تفسير الواقع الحالي. من خلال العناصر الآتية:
- "العلمادينة" كما قدّمها بيات
- إعادة تعريف العلمانية
- العلمادينية والدين العام
- نقد المفهوم
في دراسته لتطور الحالة الإسلاميّة في كل من مصر وإيران منذ سبعينيات القرن العشرين حتى العقد الأول من الألفية الحالية، والتي انتهت باضطرابات الثورة الخضراء في إيران 2009-2010، وثورة يناير 2011 في مصر، تحدّث آصف بيات عن عمليات أسلمة قام بها نظام الثورة في إيران 1979، ونظام الحكم السلطوي في مصر. قلبت عمليات الأسلمة في الحالة الأولى إيران رأساً على عقب حيث أسّست لنظام ثيوقراطي ديني قائم على ولاية الفقيه وحكم الملالي، وتقييد الحريات العامة وتحجيم حقوق المرأة والهيمنة الإيديولوجية على المجال العام، من خلال إطلاق القوى الشعبية الثورية في الشارع والجامعة والمدرسة، فضلاً عن أسلمة القوانين العامة على أنقاض نظام الشاه العلماني. كانت الأسلمة في إيران أعنف وأسرع، ومختلفة في منطقها وأهدافها عمّا جرى في مصر في الفترة ذاتها.
وقع في مصر على مدى عقود ما يطلق عليه بيات "ثورة إسلامية سالبة"، نتج عنها "تديين الدولة ودولنة الدين"، في إطار ظاهرة الدولة العلمادينيّة، وهي ظاهرة تشكلت كتحول في بنية وخطاب الدولة المصرية نتيجة لعاملين أساسييْن:
يتمثل الأول في أزمة الشرعية التي أثارتها المعارضة الإسلاموية، والثاني تدين قطاعات واسعة في أجهزة ومؤسسات الدولة سواء في الطبقة السياسية أو في الجهاز البيروقراطي. وتفاعل العاملان على خلفية مجتمع اجتاحت قطاعات عريضة منه مشاعر مختلطة من التدين والقومية مشكلة اتجاها أهلانيّاً Nativism يضع الذات في مواجهة الآخر، خاصة مع ازدياد موجات الاغتراب الثقافي والانقسام الاجتماعي على خطوط عديدة.
على نحو دال وقاطع، عبّر القائمون على الدولة في مصر، عن كون النظام لن يسمح بقيام دولة علمانية، وأكّد شيخ الأزهر السابق في أكثر من مرّة أنّ الأزهر في مصر لا يقبل الفصل بين الدين والدولة. مثل هذه التأكيدات إلى جانب وجود نصوص دستورية وقانونية ومؤسسات دينية تديرها الدولة وتتحكم فيها، تنفي أن تكون مصر دولة علمانية. ففيمَ كانت علمانية الدولة التي جرى تديينها فأنتجت هذه المركب الهجين العلماديني الذي يتحدث عنه بيات؟ في الواقع يستبطن مفهوم بيات أنّ علمانية الدولة في مصر أبعد ما تكون في جوهرها أو شكلها هذا عن الفصل بين الدين والدولة، أو الحكم والمؤسسات الدينية. ولم تشهد مصر على امتداد تكوين دولتها الحديثة هذا الفصل على مستويات عديدة.
لم تقم هذه الدولة على تضاد أو رفض للدين، على النحو الذي قامت به نماذج التحديث وبناء الدول في فرنسا (الثورة الفرنسية) أو في تركيا، (الكمالية العلمانية) بل إنها، ولأسباب متعلقة بوقوع هذا التحديث في إطار إصلاحات في العالم العثماني بعد احتكاكه بالغرب، والأهم لأسباب متعلقة برؤية التحديث داخل النخبة السياسية العثمانية ومن بعدها المصرية، قامت بتوظيف الدين كخطاب وكمؤسسات في إطار عملية التحديث وأدمجت مؤسساته التقليدية داخل مؤسساتها بالتدريج، وبالتالي لم تنفصم عنه بل ألحقته بها، وجعلت من النخبة الحاملة إياه موظفي دولة، لكنها أزاحته من موقع المرجعية النهائية للسلطة، وجعلت من نفسها مرجعية القوانين والسلوك العام للمؤسسات والأفراد.
يناقض كازانوفا المنظور الليبرالي التقليدي في تمييزه بين الخاص والعام، ووضعه الدين في دائرة الخاص الشخصي والمنزلي، حيث يصبح ما خارجه مجالاً عامًاً. هذا التمييز ناتج عن تصور ضيق لكل العلاقات السياسية بما فيها الدينية؛ حيث يتمّ التمييز فقط من جهة خطوط الفصل القانونية- الدستورية؛ بيد أنّ مشكلة العلاقة بين الديني والسياسي لا يمكن أن تختزل ببساطة في مسألة الفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة7. حيث تتصاعد حالة من "تعميم الدين" أي إدخاله في إطار المجال العام. ويعيد كازانوفا صياغة مفهوم روسو عن "الدين المدني"8 ليقدم نظرية "الدين العام".
ويقدّم كازانوفا في دراسته لحالة التعميم هذه نموذجاً لعملية تعميم الدين لخمس حالات في العالم الغربي شماله وجنوبه هي: الكاثوليكية الإسبانية، والكاثوليكية البولندية، والكاثوليكية البرازيلية، والمسيحية الإنجيليّة، والكاثوليكية في الولايات المتحدة. وهي حالات تتراوح فيها عملية "تعميم الدين" بين مساندة المؤسسات الدينية للتحول الديمقراطي بدعم حركات التحول أو الانفصال عن السلطة الاستبدادية، والمشاركة في الحركة التحررية مثلما هو شأن "لاهوت التحرير اللاتيني"، أو المشاركة في المجتمع المدني وإعادة تشكيل اليمين الديني السياسي، كتحالف اليمين الإنجيلي مع المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة. ويمكننا تلمّس عدة اختلافات جوهرية بين هذا المفهوم ومفهوم الدولة العلمادينيّة لدى بيات، هذه الاختلافات تمثل فروقاً جوهرية بين حالتي وجود الدين في المجال العام في الدول التي تناولها كازانوفا، والحالة المصرية التي بنى عليها بيات مفهومه، ولعل أهمّ هذه الاختلافات هي التالية:
- عبّرت الدولة العلمانية الدينية عن قصور في شرعية الدولة تمّ علاجه عبر اللجوء إلى المؤسسات والجماعات الدينية وتبنّي خطابها، وبالتالي لم يكن حضور الدين في المجال العام أو في خطاب الدولة ومؤسساتها إلا تأكيداً لسلطوية الدولة التي راحت توسع من سلطتها المعنوية والأخلاقية على المواطنين. أمّا الدين العام فهو مفهوم أكثر إيجابية من منظور الحداثة الليبرالية، حيث قام بدور إدماجي لجماعات سياسية واجتماعية وحركات دينية في منظومة الدولة الديمقراطية.
- فيما عبّر المفهومان عن عملية تأثر الدولة بتدين المجتمع Socialization of the state وبتأثير الحركات الدينية المنظمة على سياساتها وخطابها، إلا أنّ الدين العام يعبّر عن توازن بين الدين والدولة، وهو توازن محكوم بالوضع الدستوري العلماني الفاصل بين الدولة والكنيسة. أمّا مفهوم "الدولة العلمادينيّة"، فهو تعبير عن دولنة الدين؛ فالدين ومؤسساته جزء من أجهزة الدولة. وبهذا يصبح الفارق بين المفهومين هو فارق دستوري ديمقراطي قوامه الفارق بين بُنيتيْ الدولة الحداثية السلطوية والدولة الحداثية الديمقراطية.
- استبطن الدين العام إعادة تأويل للدين على أسس ديمقراطية استيعابية تحررية، وربما تكون حالة الأصولية البروتستانية الغربية شاذة عن هذه الحالة، حيث تمّت إعادة تقديم الإيمان القويم بكلّ ما يحوي من مضادة للأفكارة التقدمية. أمّا الدولة العلمادينيّة، فقد حافظت على فهم أصولي للدين، وهو هنا الإسلام بما رسخ التأويل الأصولي له بل ودفعت نحو مأسسته هذه السلطة، ومنحها سلطة الرقابة على المجتمع لتقويمه حسب رؤيتها، وهو وجه هام للمسألة الدينية في مصر تناوله بيات بمهارة. 10
لذا يبدو أنّ مفهوم الدولة العلمادينيّة تجسيد أقرب لحالة التفاعل السلطوي بين الدولة والمجتمع. وعلى الرغم من تفسيرية المفهوم بالنسبة للحالة المصرية أو حتى غيرها من حالات عربية11، إلا أنّ المفهوم يغفل بنيوية التفاعل بين الدولة والإسلام في مصر منذ نشأة الدولة الحديثة في مصر وعلى مختلف مراحل تطورها المختلفة، فقد اقتصر توصيف بيات على الفترة التاريخية السابقة على ثورة يناير 2011، عندما أشار إلى أنّ هذه الدولة تأسست بناء على أزمة الشرعية في مواجهة الحركات الإسلامية السياسية، خاصة العنيفة منها وبناء على تدين الجزء الأكبر من القائمين على الدولة في النخبة السياسية والجهاز البيروقراطي، وربما الأمني أيضًا، إلا أنّه أغفل أنّ علاقة الدين الملتبسة بالدولة أقرب إلى المركّب الجيني في جسد الدولة حتى في أكثر مراحل الدولة علمنةً. يقول شريف يونس في دراسته سابقة الذكر: "لم تكن الدولة المصرية الحديثة أصلاً دولة علمانية أو دولة مواطنة بشكل كامل، فلم ينشأ أبداً زواج مدني، ولا قوانين موحدة للأسرة غير تابعة للديانات، ولم يتح فيها للأفراد حرية الاعتقاد واقعيّاً في معظم تاريخها. وقد نصّ أول دستور متكامل لمصر (1923) على أنّ الإسلام دين الدولة".
1 في ترجمته لكتاب Life as Politics: How the Ordinary People change the Middle East لآصف بيات، ترجم الدكتور أحمد زايد مصطلح Seculareligious State على أنه الدولة العلمانية الدينية، إلا أنني آثرت في ترجمتي لكتاب Post-Islamism: The Changing faces of Political Islam من تحرير بيات والتي ستصدر قريباً إن شاء الله أن أترجمها إلى "الدولة العلمادينية" كونها أقرب إلى الاشتقاق والمزج اللغوي الذي قام به بيات بين مصطلحي Secular وReligious، آملاً أن يشاع استخدام المفهوم على أثر هذا التقديم النقدي الموجز له. انظر، آصف بيات، الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط (القاهرة: المجلس القومي للترجمة 2014).
2 Asef Bayat, Unsettled Islamism in Egypt in Bayat, Post-Islamism, p. 212
3 Ibid. p. 214
4 Ibid. p. 216
5 شريف يونس، البحث عن خلاص (القاهرة، الهيئة العامة للكتاب 2014)، ص ص 189- 190
6 خوسيه كازانوفا، الأديان العامة في العالم الحديث، ت: قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005).
7 المرجع السابق، ص 89
8 بعد أن استهجن جان جاك روسو النظم الدينية السائدة في عصره وكذلك الأفكار الدينية المتمردة على الكاثوليكية مثل دين المواطن ودين الإنسان، دعا إلى "إعلان إيمان ديني صرف يقرّ الحاكم مواده لا بالتحديد كعقائد دينية، بل كمشاعر مجتمعية يستحيل بدونها أن يكون المرء مواطناً صالحاً أو من الرعايا المخلصين". انظر المرجع السابق، ص ص 92-93
9 المرجع السابق.
10 Asef Bayat, Unsettled Islamism in Egypt, pp. 219-220
11 تناول الباحث الفرنسي توماس بيريه حالة تدين الدولة السورية وتحالفها مع العلماء الأصوليين تحت حكم البعث. انظر توماس بيريه، مكونات التيار الإسلامي: المصلحون السياسيون، والعلماء والديمقراطية، سلسلة مراصد، العدد 14 (مكتبة الإسكندرية، وحدة الدراسات المستقبلية، 2012).