الدولة المُحايِدة/ العَلمانية
فئة : مقالات
بصرف النظر عن النقاش الفكري المتواصل حول مسألة الدولة بشكل عام ومحتوى الدولة بشكل خاص، ومن أجل الاقتضاب في القول بما يحتمله المقام، فإنّ الدولة التي يمكن القول إنّ المسار الطويل الذي شهده العالم قد أفضى إليها، بحكم نجاعتها وقدرتها على امتصاص الأزمات وتدبير الاختلاف، والانفساح أمام المواطنين الراغبين في العيش المشترك على رقعتها الترابية، هي الدولة التي يُطلق عليها عادة علمانية أو مدنية، وإذ لا أرتكن شخصياً إلى المصطلحات لأنها إمّا ملتبسة أو مشحونة بتاريخ من الخلاف غير المحمود، فإنّ الذي يمكّن من المساعدة على تعريف هذا الكيان الموسوم بالدولة الذي فرض نفسه على الجميع رغم تحذيرات المدارس المختلفة والمتناقضة أحياناً، هو الجنوح نحو تسليط الضوء على مضمون الدولة وأهدافها وماهيتها. ولأنّ الغاية من المقال تتمثّل في تسليط الضوء على الجانب المعنوي المتعلق بالدولة، فإنّ وصف الدولة بكونها محايدة قد يساعد على فك الاشتباك حول تسميتها، وهو وصف إجرائي من أجل تجاوز الحمولات التي تُلصق بالدولة عادة، بين من يصفها بالعلمانية ومن يَسِمها بالإسلامية وغيرها من الأوصاف. ولكي لا يبقى هذا التوصيف معلقاً ومن دون معنى، نفضل إبراز بعض تجليات الدولة المحايدة في علاقتها بتدبير المختلف وتسطير المشترك، وهذه أهمها:
إنّ الدولة المحايدة لا تسعى إلى فرض دين معين أو مذهب محدّد على مواطنيها، وفي المقابل هي لا تسمح بأن يفرض بعض المجتمع ديناً أو مذهباً على البعض الآخر بالإكراه أو المنع. بمعنى أنها ليست مفصولة عن الدين ولا هي ملتصقة به، وإنما هي في علاقة حُريّة به، لا هو يتدخّل في شؤونها من منطلق أنه دين، ولا هي تَحُول دون تحرّكه على مستوى الأشخاص وداخل المجتمع. فهذه الدولة لا يمكن أن تفرض لباساً أو طريقة في الحياة على المواطنين أو تمنعهم من اختيار نمط حياتهم ما لم يساهم بالإخلال بالأمن العام والخاص. لكنها لا تسمح لجزء من المجتمع بأن يفرض نوعاً من الحياة على المواطنين، أو يستغل مقدّرات الدولة بما هي ملك مشترك بين سائر المواطنين، من أجل تَسييد رؤيته للحياة أو فرض رقابته على المجتمع. وقد سبق للعديد من الفلاسفة أن نظّر من أجل أن تكون الدولة في خدمة الحرية وحقوق المواطنين، لا أن تحول دون ممارسة الأفراد لاختياراتهم، فالدولة بالنسبة لـ"سبينوزا" لا تتأسّس على إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كلّ فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. ويخلص صاحب "رسالة في اللاهوت والسياسة" إلى أنه لا يمكن فقط السماح بحرية الرأي، وهو الأمر الذي لا يشكل خطراً على التقوى وسلامة الدولة، بل لا يمكن القضاء على حرية إبداء الرأي دون القضاء على سلامة الدولة والتقوى[1]. بمعنى أنّ مصلحة كلّ من الدولة أو الدين أن تكون هناك حرية للضمير، يتقوّى بها الإنسان والبُنيان.
أمّا في علاقتها بالمقدسات ودُور العبادة، فإنّ الدولة المحايدة، لا تمنع بناء المعابد ووعظ الناس فيها والاعتكاف داخلها أو إبقائها مفتوحة طيلة الوقت أو غيرها من صنوف التصرف الجوّاني للمواطنين، ما دام الأمر لا يُستغَل في حياكة مؤامرات ضدّ الدولة أو يسعى إلى الإضرار بحريات الآخرين، أو يتمّ تحريف الطقوس الدينية عن غاياتها وتتحول إلى مجمّعات للتدريب العسكري أو تعليم العنف أو التحريض على باقي أطياف المجتمع. غير أنه من غير المعقول أن يطلب من هذه الدولة بناء المعابد أو تأدية أجور رجال الدين، وإنما يُترَك ذلك للمؤمنين. فهي إن فعلت ذلك حيال أتباع دين ما أو طائفة معينة، فإنّ أتباع الأديان والطوائف الأخرى أو حتى غير المؤمنين سيتضررون من إنفاق الدولة على فئة دون أخرى، بما أنّ الدولة مشتركة بينما الدين شأن خاص. فالأديان لا تبني الدول وإنما قد تبني الأمم، والفروق بين الدول التي تنبني على أسس المواطنة وحرية المعتقد والمساواة أمام القانون، وبين الأمم التي تؤسس على رابطة الدين أو العرق أو اللغة، تكمن في أنّ الأولى تشترط الإقليم والسيادة والسلطة بينما لا يشترط في الثانية غير وجود شعب يؤمن بدين ما أو يتكلم بلغة ما، وهو ما نلاحظه في عصرنا الحالي من خلال تعدد الأمم والدول، فالدولة المغربية ليست هي الأمّة الإسلامية أو العربية، والدولة الفرنسية ليست هي الأمّة المسيحية أو الفرانكفونية، فالأديان قد تزول بينما تبقى الدول، وكم من دولة غيرت دينها! وكم من دين انتقل من دولة إلى أخرى!
والدولة المحايدة أيضاً لا يمكنها أن تتدخل في حرية المتدينين أو تلزمهم بطريقة معينة في التعبد، أو تفرض عليهم مذهباً أو ديناً معيناً، لكنها في المقابل لا تسمح لجزء من المجتمع بأن يتدخل في حرية الأجزاء الأخرى خارج المسوح به في إطار حرية التفكير وإبداء الرأي، ونشر المعتقدات بالسبل القانونية وفي إطار التدافع الحضاري السلمي. ولهذا، يتعايش داخلها كلّ أهل الأديان والطوائف والأعراق والأيدلوجيات، على أساس المواطنة والمساواة، بحيث لا يمكن لدين معين أن يهيمن على باقي الأديان بواسطة الإكراه، أو أن تتسيّد طائفة على أخرى أو عرقية على باقي العِرقيات، وإنما الكل سواسية بصرف النظر عن الأحجام والأعداد والتاريخ. فالدولة حسب كبار الفلاسفة هي "جماعة من الناس تكوّنت من أجل هدف واحد، هو تحقيق مصالحهم المدنية والحفاظ عليها والارتقاء بها إلى الأحسن. وأقصد بالمصالح المدنية الحياة والحرية وصحة الجسم وامتلاك الخيرات الخارجية، مثل المال والأراضي والمنازل والأثاث وما شابه ذلك"[2].
وأمّا القوانين التي تَعتمدها هذه الدولة من أجل تدبير علاقتها بالمواطنين وعلاقة المواطنين فيما بينهم، فهي تلك التي يُشرّعها المجتمع بصرف النظر عن مصدرها سواء أكان دينيّاً أم إنسانياً، لكن شريطة أن تكون صادرة عن هيئات منتخَبة، ويتمّ اعتماد وسائل الحجاج والإقناع والاستخدام العمومي للعقل في سبيل إقرارها، لا على أساس الفرض بالنصوص والمصادر سواء كانت دينية أو بشرية، مادامت هذه الدولة تضمّ غير المؤمنين كما تسمح بالتعددية الدينية، ومادام الله لم يفوّض "العناية بالأرواح للقاضي المدني أو لأيّ شخص آخر، ولا يبدو أنه أجاز لأي إنسان إجبار الآخرين على تقبل ديانته"[3]. فإذا ارتأت أغلبية معينة أن تشرّع قوانين تراها الأقلية بأنها ضدّ معتقداتها أو أفكارها، فهذا ما يمكن للديمقراطية أن تسمح به، لكن دون أن تؤدي تلك القوانين إلى إغلاق المجال أمام الأقلية في أن تبدي رأيها، أو تحرمها من حقها في الوجود، ودون أن تُمنَع الأقلية من أن تَنتهج السبل التي تساعدها على أن تصبح أكثرية في المستقبل، كما على تلك القوانين أن تحترم حقوق الإنسان المتعارف عليها، وتضمن حقّ الجميع في الحرية الإعلامية، وتصون عرضه وحياته. أي ألا يتمّ الاقتصار على الجانب الإجرائي من الديمقراطية (مسألة الأغلبية والأقلية) بل يجب استحضار الجانب القيمي منها، فالديمقراطية لا تطير إلا بجناحين: الأول إجرائي تقني، الثاني قيمي مبدئي.
وإذ يتمايز في الدولة المحايدة أهل الدين عن أهل السياسة، ولا يتمّ الخلط فيها بين ما هو سياسي بما هو ديني، فإنها لا تسعى لفصل المجتمع عن هوياته، أو تَحول بين المرء وثقافته وعاداته، ما لم تحمل في طياتها أضراراً ضدّ المجتمع أو الذات (التقاليد التي تؤدي إلى قتل البنات مثلاً أو تعريضهن إلى صنوف من التمييز أو حرمانهن من التعليم أو إجبارهن على البغاء أو الزواج...). كما أنّ حياد الدولة لا يُلزمها بمنع وجود المذاهب والطوائف الدينية أو الفلسفات الحياتية، وإنما يجبرها على التدخّل بكلّ قوة وعنف وعدل ضدّ كلّ احتراب طائفي أو عرقي أو إيديولوجي. فهي التي تتعايش فيها كلّ الأقليات بجانب الأغلبيات، وتجعل أهمّ اللغات الفاعلة لغات رسمية، كما أنّها لا تسمح بأن تسيطر أقلية أو أغلبية على حساب باقي المجتمع، أو تسود فيها لغة على حساب باقي اللغات، وهي التي تحمي المؤمنين وتحفظ معابدهم، كما تحمي غير المؤمنين وتحفظ فلسفاتهم.
في الدولة المحايدة لا يمكن مصادفة تلك الفئة من الناس التي تُطلق عليها الأدبيات السلطانية "الرعية أو عامة الناس"، وإنما الأساس الذي يبنى عليه وجود الإنسان ضمن الدولة وتمتعه بحقوقه وقيامه بواجباته، هو أساس المواطنة الكاملة والرغبة في العيش المشترك، بما يضمن للإنسان حياة كريمة في ظلّ المساواة التامة، وبما يحقق للإنسان الخروج من ضيق منطق الرعية إلى رحابة مفهوم المواطن وما يلحقه من حقوق وواجبات، بدل أن يبقى عرضة لمزاج الحاكم وجُودِه وكرمه، أو بخله وتسلطه. فدولة القانون يرتبط فيها الناس عبر مؤسسات ينظمها قانون أسمى ومستقلة عن شخصية الحاكم.
باختصار يمكن القول إنّ الدولة المحايدة لا تهدف إلى تعليم الناس الدين أو تسعى إلى دفع الناس إلى الجنة، لكنها في الوقت نفسه تسمح للناس بأن يتعلموا أديانهم، كما تتيح لهم حرية البحث عن جنّاتهم كلّ حسب دينه ومذهبه. إنها إذن، دولة لا يحكم فيها النظام السياسي ضدّ السماء ولا معها ولا بأمر منها. دولة لا يمكن أن تكون مستقلة إلا إذا كان المعبد مستقلاً، بحيث لا مجال لقوة الدين من دون قوة الدولة. إنها دولة قد تكون وُجدت في جميع الأديان والحضارات، وربما تعثرت إقامتها في كلّ الحضارات والأديان، لكنها دولة من شأنها أن تساعد الإنسانية على وضع حد للاحتراب الطائفي، ووقف نزيف الدماء، وأن تحول دون المزيد من المآسي. لكن هل هذه الدولة منزلة من السماء أو جاءت نتيجة لضربة حظ؟
في الواقع إنّ هذه الدولة نتجت عن سيرورة تاريخية، تحكّمت فيها العديد من العوامل التي من أهمّها: الإصلاح الديني الذي قام به مجموعة من المصلحين الدينيين والفلاسفة؛ التطور العلمي الذي ساهم في تغيير رؤية الإنسان للعالم، ورفع الطابع السحري عن الكون والطبيعة، أو ما يطلق عليه ماكس فيبر تعبير "انهيار جدران الدّير"[4]؛ الصراعات الطائفية بين أتباع الأديان التي فرضت القبول بحيادية الدولة حيال جميع العقائد أو ما يسمى بـ"العَلمانية الإجرائية"؛ دور الحكم المطلق (وهنا تكمن الغرابة) الذي أسّس للدولة الوطنية، وانتزع العديد من الأقاليم من سيطرة الحكم الديني الامبراطوري؛ التطور الاقتصادي الذي ساعد على خلق نظرة مغايرة للدنيا، حيث تحول الإنسان من زاهد في الدنيا إلى مقبل على الحياة؛ لكنّ أهمّ عامل ساهم في التأسيس للفضاء الحر والمستقل كان عامل الثورة. فلقد أسهم عصر الثورات في التأسيس للحريات بشتى أصنافها: السياسية، والدينية، والمدنية...، ولم يكن الثوار يهدفون إلى إقامة حكم علماني، وإنما كان صراعهم مع رجال الدين لأنهم تحولوا إلى حكام سياسيين أو مدافعين عن الإقطاع. أمّا في الدول التي لم يكن فيها لرجال الدين دور في الحكم ولم يُشرعنوا للديكتاتورية، فإنّ الثورة تحالفت مع هؤلاء ولم تدخل في صراع مع الدين (الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية، وفي إسبانيا في المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية).
إنّ الدولة الحيادية أو الدولة المدنية (أو العلمانية لمن يحلو له وصفها بذلك) هي نتيجة وليست مُنطلَقاً. إذ لم يصادف التاريخ أنّ هيئة مدنية أو سياسية انبرت من أجل دولة محايدة/علمانية كغاية في حدّ ذاتها، كما أنّ حيادية الدولة/علمانتيها هي ممارسة عملية وليست شعاراً يتمّ تضمينه الوثائق الدستورية. العلمانية تتضمّن: الحرية، والمساواة، وحرية المعتقد، والمواطنة المتكافئة، وحقوق الإنسان. فالدول التي يعتقد الناس أنها عَلمانية لا تقول ذلك في دساتيرها (باستثناء فرنسا تقريباً) بل تمارس ذلك عملياً، ولا تدخل في صراعات مع معتقدات الناس. وقد اشتُهر عن أليكسس ديتوكفيل، وهو أحد كبار الباحثين في الديمقراطية الأمريكية، قوله: إنّ الحكومة الأمريكية أكثر علمانية، بينما المجتمع أكثر تديّناً.
[1] سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم، حسن حنفي وفؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، ط1، 2005، ص 37
[2] Locke, Lettre sur la tolérance, tr. Jean Le Clerc, Garnier Flammarion, 1992, pp.168-169 تم اقتباسه عن: الدولة، إعداد وترجمة: محمد الهلالي وعزيز لزرق، سلسلة دفاتر فلسفية نصوص مختارة، دار توبقال للنشر، ط 1، 2011، ص 59
[3] نفسه.
[4] خوسيه كازانوفا: الأديان العامة في العالم الحديث، ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2005، ص 29