الدولة "النيو-ليبرالية" من الحكم إلى "الحوكمة": تفتت السلطة ونهاية السياسي (جزء1)
فئة : مقالات
الدولة "النيو-ليبرالية" من الحكم إلى "الحوكمة"
تفتت السلطة ونهاية السياسي (جزء1)
"في هذه اللحظة يتفكك أمام أعيننا كل هيكل السلطة الذي كان يحافظ على درجة من الوحدة العالمية ويتشكل الآن هيكل للسلطة مختلف تماما على كل مستويات المجتمع الإنساني"[1]
يمكننا القول عن الرأسمالية إنها شبيهة بطائر الفنيق الأسطوري الذي ما إن يحترق حتى ينبعث من رماده. فهي إلى حد الآن غير قابلة "للزوال"، على الرغم من أن ماركس كان قد توقّع فناءها السريع منذ نهاية القرن التاسع عشر بعد ظهور "القوة التاريخية" الجديدة (البروليتاريا) كتشكيلة اقتصادية وسياسية تستعيض عن المنظومة الرأسمالية بالاشتراكية. لكن مجريات التاريخ لا تمضي في هذا الاتجاه، بقدر ما تعكسه، وبدل أن تفنى الرأسمالية "المتوحشة" و"الظالمة" تدور الدوائر على الأنظمة الاشتراكية فتُهلكها في زمن وجيز، وتُبقي على الرأسمالية التي لا تفتأ في التحول من حال لآخر على الرغم من المحن القاتلة التي واجهتها، ولعل آخرها وليس آخر أزمة 2008 المالية التي عصفت بالبنوك الأمريكية الكبرى، ما اضطر الحكومة الفيدرالية إلى التدخل لإنقاذها[2]. لكن قبل ذلك استطاعت الرأسمالية العالمية أن تحقق نقلة نوعية في أساساتها بعد أن أضحت السيد الأوحد للعالم وذلك في أعقاب انهيار الأنظمة الاشتراكية مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتمكنت من إعادة الانتشار داخل عالم بات تحت سيطرة شركاتها المتعددة الجنسيات وأحلافها العسكرية التي تطوّق العالم وأقمارها الاصطناعية التي تراقبه من فوق. وقد شّرع لها كل هذا العبور إلى مرحلة جديدة من تاريخها أطلقت عليها "العولمة".
وهي تعني في منطوق مخترعيه انبساط النموذج الأمريكي للحياة "الجيدة" على مساحة الكون بأسره بعد اندحار الخصم الشيوعي. وطبيعي أن تترافق هذه التسمية التي تريد محو مرحلة الإمبريالية الاستعمارية والدموية من الذاكرة الكونية، مع تغييرات في سياساتها الداخلية، حيث تغدو الليبرالية الديمقراطية الكلاسيكية أكثر انفتاحا على اقتصاد السوق من جهة، وعلى مختلف الأطياف المجتمعية التي فتحت أمامها منافذ العبور إلى مرافئ السلطة المادية واللامادية، وذلك عبر سياسات تشاركية غير مسبوقة بين الدولة الليبرالية و"المجتمع المدني" في سياق ما يعرف بـ "الحوكمة". وبهذا الانفتاح تنتقل الليبرالية الكلاسيكية إلى مرحلة متقدمة من تاريخها باتت تعرف بالليبرالية الجديدة أو النييو-ليبراليةNéo-Libéralisme[3]، والتي تعني خصخصة جهاز الدولة نفسه وتحييده تماما عن التدخل في مجريات السوق مع استبدال الفاعليين السياسيين بالتكنوقراطيين من جهة، والنشطاء المدنيين من جهة اخرى[4].
ماذا يعني أن تتخلى الدولة عن قرارها السيادي في سياق "حوكمة" التكنوقراط والنشطاء المدنيين؟ هل نحن إزاء نهاية "الفعل السياسي" التقليدي وزوال السياسي نفسه من الفضاء العام؟
الدولة "النيو ليبرالية": دولتان في واحدة!
من المفارقات العجيبة أن نتحدث اليوم بهذه الأريحية عن نمط من الدول لا يديره السياسيون ولا يحتكم في مرجعياته إلى رؤية سياسية أو إيديولوجيا حزبية. والحقيقة لسنا هنا بصدد التنظير لهذا النموذج من الدول، وليست الفكرة ضربا من الإيتوبيا، بل هي واقعة فرضها تغوّل السوق الرأسمالية على الدولة-الأمة ودفعها بالتدريج إلى التخلي عن دورها "الأبوي" و"الحمائي" (بالمعنى الكاينزي) للمجتمع، وتحرير قوانين السوق من كل أشكال الرقابة والضبط و"عذاب الضمير". ويعني هذا أن مجتمعات ما بعد الدولة-الأمة باتت محكومة بدولتين متوازيتين: دولة الواجهة "الديمقراطية" والهيئات التمثيلية الصورية لعموم الشعب، ودولة "الظل" اللامرئية واللاشخصية المتحكمة في حركة الأموال عبر البنوك والبورصات. ويمكن أن نطلق على الدولة- الواجهة صفة "الدولة السياسية". وفي المقابل نطلق على "الدولة الخفية" الاخطبوطية صفة "دولة السوق".
ومن الطبيعي أن تتحكم الثانية في الأولى، باعتبار أن السياسي بات رهين تحكمات الاقتصادي ومافيات البنوك والبورصات، بل يمكننا القول إن دولة السوق هي التي تشكّل واجهتها السياسية وفق رؤيتها المصلحية والبرغماتية والطبقية، حيث يستحيل "التوازي" الظاهري للدولتين، إلى تكامل أدوار بين الجهازين: جهاز الدولة السياسي الموصول من جهة بالشعب، باعتباره صاحب السيادة الأولى، ومفوضها لمن هم في هيئات الحكم (حكومة ونوابا). ومن جهة أخرى، هي الجهاز الذي يحتكر "العنف الشرعي" وآليات تنفيذه (شرطة وجيش وجهاز قضائي). وبقدر ما تستقر هيمنة الدولة السياسية على شعبها وتنتزع منه "شرعية" احتكارها للسيادة والعنف، يكون بوسع دولة السوق أن تعمل في كنف الحماية الأمنية والقانونية التي تؤّمنها "دولة الواجهة السياسية"، حتى ليبدو لنا في بعض الأحيان أن "العنف الأقصى" لدول "الرأسمالية المتأخرة" لا يتجلى إلا متى أصبحت مصالح الشركات والبنوك المتعددة الجنسيات في خطر جراء الحروب الأهلية او الانتفاضات الشعبية. ولعلها الأسباب غير المعلنة لسلسلة الحروب التي شنتها الإمبريالية المتعولمة (أو دولة السوق الكونية الجديدة) على كل من العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا حاليا.
لقد أصبحنا اليوم، إزاء طور رأسمالي "إمبراطوري"[5] جمع بين يديه سلطة الدولة السياسية وسلطة السوق المالية، وجعل من الأولى خادمة للثانية. والنتيجة حبلى بالتغيرات الراديكالية، سواء في ما يتعلق بمصير "السياسي" ونقصد به "رجل السياسة" والفعل السياسي؛ فالأول بات في قبضة خبراء المال والأعمال، فهم الذين يوظفونه ويعزلونه متى شاءوا. أما الفعل السياسي في الأغورا، والذي كان الفلاسفة القدماء يتباهون به، باعتباره علامة من علامات الحرية والديمقراطية والتنوير، فقد ارتد إلى أشكاله الدنيا، وصار إلى منابر ومنتديات وحلقات نقاش افتراضية أو صالونات متلفزة لنخبة مثقفة معزولة كليا عن الحراك الاجتماعي.
لقد اختزلت "الرأسمالية المتأخرة" ما بعد الصناعية (فريدريك جيمسون)[6] أو رأسمالية "الموجة الثالثة" (الفين توفلر) كل شيء إلى حدوده القصوى بفضل نظام الرقمنة الشمولي، فغدا العالم على كبره مجرد قرية إلكترونية، والاقتصاديات العالمية عل اختلافها وتفاوتها محكومة ببعض البورصات والبنوك المالية، وبدت الدول على تنوعها وعراقتها، مهددة بالتفكك والتلاشي جراء الفتن الدينية أو حتى طاعون حيواني. أما العالم برمته (واقصد النظام-الايكولوجي)، فهو مهدد بالفناء الحقيقي جراء الحرب النووية القادمة أو جراء التسوناميات أو النيازك المرتقبة[7].
فهل وصلنا فعلا إلى "رأسمالية التسونامي" الأخير، وهل أن ما يوصّف بـ "الدولة- النيو ليبرالية" هي المؤهّلة اليوم للتكفير عن خطايا الدولة-الأمة في الطور الإمبريالي السابق؟
الدولة النيو-ليبرالية: من التقسيم الطبقي إلى التعدد الثقافي
أدى ضمور الدور السياسي للدولة النيوليبرالية الدنيا وهيمنة اقتصاد السوق على مقدرات المجتمع وكافة أطيافه، إلى تغيرات جذرية في العلوم السياسية الكلاسيكية وخاصة في العلم السياسي الماركسي الذي حصر النزاع الأخير في التاريخ بين البروليتاريا والبورجوازية بكافة أطيافها وألوانها. وإذا كان من المشروع أن نتحدث عن صراع طبقي بين طبقتين واضحتي المعالم والحدود بهذا الشكل، فإنه يجب علينا التأكيد على السياقات التاريخية والاقتصادية التى تجعل من مثل هكذا تقسيم ممكنا وشرعيا. ونشير إلى أن ماركس كان يتحدث عن عصرين من عصور الرأسمالية يصح عليهما مثل هذا الصراع، وهما العصر المركنتيلي (التجاري ق.17- 18) والعصر الصناعي (ق.19 -20). وبعد الحربين العالميتين، ستتغير الخارطة الجيو-سياسية والاقتصادية للأحلاف الكبرى للنظام الرأسمالي، وعندما تتربع الولايات المتحدة على عرش هذا الصرح، وعندما يغدو الدولار هو مرجع الثروة الكونية بدل الذهب، عندها تلج الرأسمالية العالمية مرحلتها الأخيرة المسماة بالمالية أو بالرأسمال المالي، ويصبح مصير العالم بأسره رهين استقرار المعاملات المالية في بورصات نيويورك ولندن وطوكيو، عندها فقط ندرك أن عصر "الصراع الطبقي" لم يعد قادرا على تفسير مثل هذا التحول الضخم في محركات التغيير ومفاعليه وفاعليه. ويتعين علينا أن نعيد مراجعة أسس العلم السياسي الكلاسيكي على ضوء هذه المستجدات الحاسمة.
وعموما يمكن القول إنه وبعد تجربة الدولة-الأمة الأوروبية وتفاقم أزمات النظام الرأسمالي في الطور الإمبريالي/الكولونيالي، المنذرة بنهايته الوشيكة، نجحت الآلة الرأسمالية الجهنمية في تأجيل تنفيذ "موتها" مرة أخرى، وذلك بابتكار حزمة من الحيل البارعة من قبيل "العولمة" و"ما بعد الحداثة" و"الحوكمة" و"التعددية الثقافية"، إلخ. وما يهمنا هنا بالخصوص هي الحيلة الأخيرة التي اعتمدتها الرأسمالية الأنغلوسكسونية كمخرج من مأزق الدولة-الأمة الأوروبية.
في النموذج الأنكلوسكوني (أمريكا والكندا ) أصبحت الدولة النيو ليبرالية تعرّف نفسها بـ "الدولة المتعددة الثقافات"(كيمليكا)[8] أو "الديمقراطية المتعددة- الأعراق" "Démocratie multiraciale"[9] التي تسعى جاهدة لأن تكون "مستقيمة سياسيا" Politiquement correcte بمعنى أن تعترف بمظالمها التاريخية في حق الشعوب الأصيلة، وأيضا حيال الأطياف القادمة عن طريق الهجرة. وترتكز التعددية الثقافية للدولة النيو ليبرالية على سياسات استقطابية تتلخص في إدماج السود في مدارس البيض وإدراج المقررات الأفرو- آسيوية في المدارس التي يؤمّها التلاميذ السود"[10]. وهو ما حدث بالفعل في أمريكا[11]، وحق المشاركة في الحياة السياسية وخاصة تغيير النظرة العنصرية والقيمية الجماعية التي تتعامل مع السود واليهود على خلفية انتماءاتهم العرقية والدينية.
بفضل حيلة "التعددية الثقافية" الإدماجية، استطاعت الدولة النيو ليبرالية أن تغير مجريات العدالة الاجتماعية من المجال الطبقي والصراع الإيديولوجي بين أصحاب العمل والأجراء إلى "مصالحات" رمزية وتقاربات "ثقافية" ووعود إدماجية في نسيج من المواطنة تذوب فيه الفوارق والهويات والمطالب، لينخرط الكل في نشاطين لا ثالث لهما: الإنتاج والاستهلاك.
لم تعد الدولة النيو ليبرالية طبقية بالمعنى الماركسي، لأن الحدود بين الطبقات تلاشت بمفعول انخراط طبقات المجتمع في سياسة الاستهلاك بشكل تساوى فيه البرجوازي بالعامل، بل أصبح في مقدور هذا الأخير أن يشارك صاحب العمل في حصص الأسهم، وأن يدير معه الشركة الخفية الاسم وأن يتمتع بقروض يسيرة عن طريق تعاونية المصنع أو الشركة لاقتناء أفخر أنواع السيارات، وأن يسافر إلى أرقى الأماكن في العالم.
وهكذا وجدت الدولة النيو ليبرالية مخارج أزماتها في: أ/ انتهاج سياسة التعددية الثقافية بدل السياسة الطبقية المنذرة بالانفجار. ب/ إغراق المجتمع بأسره في حمى الاستهلاك وتحويله إلى مصعد اجتماعي من شأنه إحداث ديناميكية اجتماعية.
وبانتهاج هذه الإستراتيجية، وبعد نزعها لفتيل الحرب الطبقية، بات يتوجب على الدولة النيو ليبرالية أن تُحدث تغيرات في بنيتها، وأن تتخلى عن الحكم بالمفهوم الطبقي الكلاسيكي، لتستعيض عنه بـ "الحوكمة"، باعتبارها الاختراع الأنسب والأكثر تطابقا مع سياسات التعددية الثقافية ومجتمع "الرفاه الاستهلاكي" و"ديمقراطية المرح".
فهل تفيد "الحوكمة" نهاية الدولة السيادية أم هي لا تعدو أن تكون إعادة توزيع مراكز السلطة بالشكل الذي يخفي بأكثر عناية وإتقان مراكز القرار الجديدة أو "أسياد العالم الجدد" (ليوتار)؟
(يتبـــــــــع)
[1] الفين توفلر، تحول السلطة: المعرفة والثروة على أعتاب القرن الحادي والعشرين (الجز الأول)، ترجمة لبنى الريدي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص 17
[2] Alain Touraine, La fin des societies, Paris, Seuil, 2013, pp.37-38
[3] انظر لمزيد التعمق:
- Serge Audier, Neo-Libéralisme: Une archéologie intellectuelle, Paris, Grasset, 2012
- Claude Simon, L’idéologie néo-libérale: ses fondements, ses dégats, Paris, Temps présent, 2016
- René Passet, L’illusion néo-libérale, Paris, Flammrion, 2001
[4] "لا يجوز للدولة أن تتدخل وتدخلات الدولة في الأسواق (بعد خلقها وتأسيسها) يجب أن تظل في الحدود الدنيا المجردة (..) فالدولة لا تستطيع أن تمتلك المعلومات الكافية التي تؤهلها للتخمين بخصوص إشارات السوق (الأسعار) وأيضا لأن جماعات المصالح القوية سوف تعمل حتما على تشويه تدخلات الدولة والتأثير فيها (ولا سيما في الدول الديمقراطية) لما فيه فائدتها الخاصة" دافيد هارفي، الوجيز في تاريخ النيوليبرالية، ترجمة وليد شحادة، دمشق، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2013، ص 7
[5] Michael Hardt, Antonio Negri, Empire, Paris, Exils, 2000
[6] Jameson, Frédéric, Le Postmodernisme ou la logique culturelle du capitalisme tardif, Traduit de de l'américain par Florence Nevoltry. ENSBA éditeur, coll. "D'art en questions", 2007
[7] تنزع النيو ليبرالية -بحسب بيار بورديو- إلى "فصل الاقتصاد عن الوقائع الاجتماعية، والتحطيم الممنهج لكل الكيانات الجماعية القادرة على التصدي لمنطق السوق على غرار الأمة التي ما فتئ نفوذها يضمر، والجماعات العاملة، من خلال انتهاج سياسة تأجير فردانية، وتثمين الكفاءات دون غيرها، وبالنتيجة تفتيت وحدة العمال وجمعيات الدفاع عن حقوقهم على غرار النقابات والتعاونيات..." انظر:
Pierre Bordieu, « L’essence du néolibéralisme », in Le monde diplomatique, Mars 1998, p.3
[8] كمليكا، ويل، أوديســا التعــددية الثقافـية. سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع، ج2 ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة عدد378، الكويت، يوليو 2011
[9] تعود هذه العبارة للرئيس الامريكي الأسبق بيل كلينتون وقد وردت في خطابه في سان دياقو يوم 14 يونيو 1997. انظر:
Laurent Zeechini, "Bill Clinton appelle les Etats –Unis à devenir la première vraie démocratie multiraciale", Le Monde, 17 juin 1997, p. 3
[10] Charles Taylor, Multiculturalisme, Différence et démocratie, Paris, Aubier 1994. p.89-90
[11] Micheal Walzer, Traité sur la tolérance, Paris, Gallimard, 1998, p. 159