الدّولة والمقدّس في فكر محمّد عبده
فئة : مقالات
يعد الأستاذ محمد عبده (1266ه- 1323ه) (1849م-1905م) رائد حركة تجديد الفكر الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لكنّ محاولته لم تَعْدُ كونها محاولة أجهضتها عدّة عوامل، منها ارتباط التحديث بالاستعمار في الوجدان والعقل المسلم، ممّا جعل التحديث متهمًا، لأنه الفكر القادم من العدوّ المستعمِر، ومن ناحية أخرى كان لتلاشى المدرسة الفلسفية وانقطاع صلة المسلمين بها منذ قرون أثره في جمود العقل المسلم الذي آثر الانكفاء على نفسه ممجدا لذاته، قادته إلى ذلك جماعاتٌ دينية منغلقة، استبعدت التفكير بوصفه تنظيرا حول الإسلام، لا يعدو كونه فلسفة لا تنتج عملا، وقدّمت نفسها بوصفها حركات عملية ممثلة للإسلام في شموليته، مكتفية – بزعمها–أنّ المصحف دستورها، وكأنّ المصحف ينطق، وليس هم كرجال ينطقون لنا بفهمهم للمصحف، وتوقّفت محاولات تجديد الفكر الإسلامي في عالمنا العربي لكن لم تتوقف حركة التاريخ فمضى ما يزيد عن قرن من الزمن، ومازلنا في النقطة نفسها التي ناقشها محمد عبده حول علاقة الإسلام بالدولة.
وبعد قرابة قرن من رحيل محمد عبده أعاد الدكتور محمد خلف الله أحد تلاميذ الشيخ أمين الخولي السؤال ثانية: ما علاقة الإسلام بالدولة؟ في محاولة منه للتفريق بين علاقة الإسلام الوثيقة بالمجتمع متى اختار الإيمان، وعلاقة الإسلام المنفصلة بشكل الدولة ونظم إدارتها؛ ليهدم المقولة التأسيسية للخطاب الديني "الإسلام دين ودولة"، فانتهى به البحث إلى ما كتبه محمد عبده حول علاقة الدولة بالوحي والمقدّس التي انتهت بوقوف علاقة القرآن بالدولة عند مبادئ عامة متمثلة في الحق والعدل ورعاية المصلحة العامة،
فدراسة خلف الله هي إعادة طرح لأفكار الشيخ محمد عبده الذي كثيرا ما أشار إليه خلف الله بلقب "الأستاذ الإمام"، وهو كلمة رشيد رضا في تفسير المنار حين يريد استدعاء آراء الشيخ محمد عبده، ويُمثّل كتاب "القرآن والدولة" حلقةً متأخرةً في مسيرة بحثية ممتدة لخلف الله، فما انتهى إليه في تلك الدراسة يختلف في بعض جوانبه عما بدأه في دراسته "مفاهيم قرآنية".
ونحاول هنا إبراز معالم تلك النظرية الفكرية في علاقة الإسلام بالدولة من خلال تلك المحاور الأساسيّة التي جعلتها فاتحة لأبواب تلك الأفكار المتزاحمة في تراث محمد عبده: الإسلام دين الله والتدين صناعة البشر، حقّ التشريع بين الله ورجال الدين، الأمّة مصدر للسلطات، التأسيس العقلي لمفاهيم الإجماع، وأولي الأمر، والدعوة، والمعروف، والمنكر.
(1)
الإسلام دين الله، والتديّن صناعة البشر
احتمى الدكتور محمد خلف الله بعنوان "القرآن والدولة" من جدلية مفهوم الإسلام الذي باتت له دلالتان مختلفتان في ثقافتنا، ولعل هذا أحد أسباب الصمم الفكري عند الجماعات حين تتحدث إليها عن الإسلام أو تحدثك هي عنه... وميّز الشيخ محمد عبده بين مفهوميْ الإسلام حين تحدّث عن الإسلام الحقيقي الثابت الذي بيَّنه القرآن الكريم بوصفه كتاب هداية إلهية يختلف تمامًا عن الإسلام العرفي في لغة معاصريه الذين أطلقوا على التديّن اسم الإسلام.([1])
فمفهوم الإسلام في القرآن بدلالتيه العامة والخاصة لا يتفق مع إسلام الجنسية في الاستعمال المعاصر، والإسلام في دلالته العامة في لغة الوحي هو الشرع والملّة والدين أطلق على ملل الأنبياء جميعا من آدم إلى محمد عليهم السلام؛ فالأنبياء جميعا ومن تبعهم مسلمون، فالإسلام اسم قديم قدم الحياة الدينية، رسالته تحقيق الهداية بتصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات، وقدرتها على التصرف في الكائنات؛ لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هو من أمثالها. كما استعمل القرآن الكريم الإسلام بمفهومه الخاص اسما على ديانة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه على دينه.
أما إسلام الجنسية أو الإسلام العرفي في لغة المسلمين وغير المسلمين في العصر الحديث، فهو اسم يُوضع في خانة الديانة، أو هو ما عليه هؤلاء الأقوام المعرفون بالمسلمين من عقائد وعادات وتقاليد وأعمال، وأصبح الإسلام متغيّرا تبعا لفهم وسلوك مسلمي كل منطقة، باختصار: "الدين ما عليه المتديّنون؛ "فالبوذية مفهومها ما عليه الناس المعرفون بالبوذية، واليهودية: ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم اليهود، وهكذا.. وينفصل -تدريجيا- الدين بهذا المفهوم من خلال ممارسات أتباعه عن أصل قواعده ومقاصده سواء كانت سماوية أو وضعية، وتكون العبرة بما عليه أهله، لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم.
وجدير بالذكر أنه نُقل عن الصحابة أنهم لم يفهموا "تحريف" التوراة بتحريف نصّها كما يظنّ المسلم المعاصر، بل بتحريف اليهود لتأويلها، "ما يقال من أن علماءهم بدَّلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم، فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه أن ذلك بعيد وقال معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزّل على نبيها فتبدّله أو ما في معناه، قال وإنما بدّلوه وحرّفوه بالتأويل، ويشهد لذلك قوله تعالى وعندهم التوراة فيها حكم الله ولو بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله، وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنما المعنى به التأويل."([2])
وترتّب على تحويل الإسلام إلى جنسية ما نعيشه اليوم من تعدد مفهوم الإسلام بتعدد ممارسات المتدينين التي باتت تُوصف بالإسلام الجهادي، والإسلام السياسي، وغيرها.. و"لو أقيم الإسلام على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلا رابطة خير لأهلها غير ضارة بغيرهم لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين."([3])
ترتّب على تحويل الإسلام إلى جنسية ما نعيشه اليوم من تعدد مفهوم الإسلام بتعدد ممارسات المتدينين التي باتت تُوصف بالإسلام الجهادي، والإسلام السياسي، وغيرها
(2)
حقّ التشريع بين الله ورجال الدين
نزل القرآن الكريم للقضاء على نفوذ الكهنة والأحبار التي استمدت سلطتها من التحدّث باسم الإله، وليس لاستبدالها بنفوذ جديد لرجال الدين، فالإسلام لا يعرف الوساطة الإنسانية في الاتصال بالله، ولا الوساطة الإلهية في تفاعل الإنسان مع الكون، واحتفظ الله بحق التشريع لذاته، وأنكر أن يكون لأيّ رجل من رجال الدين حقًا في تحريم أو إيجاب، وجعل مثل هذا الادعاء سببًا للإشراك به، وجعل الذين يتبعون هذا الصنف من رجال الدين كمن اتخذ أربابا من دون الله، ليس لاعتقادهم أنهم آلهة العالم –بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم.
ومن الآيات التي تنكر هذا الصنيع، وتراه متناقضا مع مراد الله قوله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" [سورة الأعراف، الآية 32] "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ." [سورة الأعراف، الأية 33] "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [سورة الأنعام، الآية 151] "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [سورة التوبة، الآية 31]، وروى الرازي في تفسيره للآية أن عديّا بن حاتم، وكان نصرانيا، دخل على رسول الله وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى آية "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ" قال: فقلت: لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه؟ ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم."([4])
وحصر القرآن الكريم سلطات الأنبياء والمرسلين في الإبلاغ والبيان لما نُزِّل إليهم من وحي، ليس لهم سلطان على الناس، وأنهم لا يملكون لأنفسهم أو لغيرهم من الناس نفعا ولا ضرًّا، فالأنبياء ليس لهم علم بالغيب "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ" [سورة الأعراف، الآية 188]، "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ" [سورة الكهف، الآية110] "وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وعيد" [سورة ق، الآية45] "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر" [سورة الغاشية، الآية22]، "فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ" [سورة الشورى48]
إذا كانت تلك سلطة الأنبياء، فكيف يثبت لرجال الدين ما لم يثبت للأنبياء. فالقرآن الكريم أنكر على أقوامٍ قالوا برأيهم هذا حلال وهذا حرام، ووصف صنيعهم بالكذب واتباعه بالشرك، "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ" [سورة الشورى21]
وأرى أننا أمام مقدّمة أولى تجعل التشريع الديني حقا إلهيا لا يقترب منه الإنسان في تعريف الله بنفسه عقيدة، وفي طريقة الاتصال به عبادة. وهنا يتفق النيسابوري والرازي ومحمد عبده وخلف الله مع الخطاب الظاهري السلفي، إلاّ أنهم سرعان ما يفترقون عنه في المقدّمة الثانية التي تجعل الإنسان مشرّعا بمقتضى تفويض الله له في أموره الدنيوية المسكوت عنها من الوحي قطعي الثبوت قطعي الدلالة.
فنحن أمام "دينيّ" ثابت يُشرّع فيه الله للإنسان، و"دنيويّ" متغيّر يُشرّع فيه الإنسان بمقتضى تفويض الله له، فدائرة التشريع الإلهي التي لا يتدخّل فيها الإنسان مقيّدة بدائرة العقيدة والعبادة؛ لأنها تتعلّق بذاته حقيقة، فتكون العقيدة، وطريق اتصال الإنسان بالله فتكون العبادة، "العقيدة إنما تدور حول ما هو ثابت أزلي خالد وهو الله سبحانه وتعالى: ذاته وصفاته. وإن الحياة الدينية، باعتبارها عبادات إنما تتم على الوجه الذي أراده الله منّا، والله سبحانه وتعالى هو الذي نسخ بعض العبادات في الأديان السابقة، وجاء بخير منها في الإسلام."([5]) ويدخل فيها ما جاء من نص قطعي الثبوت والدلالة في المعاملات.
وما يتعلق بالإنسان في علاقته بالحياة، فسكت الله عن تفاصيله ليس نسيانا ولا قصورا بل قصدا لطبيعة الإنسان المتأثرة ببيئته زمانا ومكانا وتطور أفكاره نتيجة خبرات متنامية بالحياة وكشف أسرارها، فالإنسان في حركة دائمة وتفكير مستمر بدافع الحاجة والمصلحة، غاية ما تدخل فيه الوحي في هذا الجانب هو وضع مبادئ عامة. "فالحياة المدنية أو المعاملات، إنما تتغير لارتباطها بالإنسان، والإنسان غير أزلي ولا خالد، وإنما متغير.."([6]) وتغيّر المجتمعات البشرية المستمرّ دفع الأصوليّين أنفسهم لوضع قاعدة تقول بتغيّر الأحكام تبعا لتغيّر الأزمان.
وقد يُقال لماذا لا يكون التشريع الإلهي شاملا لكل نواحي الحياة؛ لتكون الحاكمية لله بفهم المتدين الظاهري في قراءة آيات مثل "إن الحكم إلاّ لله"، ولتكون شمولية الإسلام المستوعبة لكل تفاصيل الحياة بما في ذلك الدولة؟؟
وأرى أن هذا الفهم الحرفي المغلوط لفكرة شمولية الإسلام لكل تفاصيل حياة الإنسان هو محاولة لصبّ الحياة عبر مسيرتها الطويلة في قالب واحد حتّى تطابق رؤية الإسلام لتفاصيل الحياة، وهذا لا يستقيم وحيا ولا عقلا؛ لأنها محاولة لتثبيت المتغيّر، وتجميد المتحرّك وهو الحياة؛ لذا اكتفى الوحي من علاقة الإنسان بالدنيا (الكون) بالمبادئ العامة التي تحمي كلا منهما من الآخر، فعلاقة الإسلام بالدنيوي مجموعة من القيم مثل العدل والمساواة والحرية التي تتشكّل في آليات متطورة تبعا للإنسان، وهذا يتسق مع خصائص الإسلام القرآني في عشرات الآيات القرآنية التي قدّمت الإسلام بوصفه ديانة إنسانية عالمية واقعية (قابلة للتطبيق)، إذ كيف للثابت وهو الدين أن يُجاري تفاصيل المتغيّر زمانا ومكانا، وهو حياة الناس إذا لم يكن ذلك في منظومة القيم وحدها!!
كون الإسلام ديانة عالمية يتطلب أن تكون رسالة الإسلام فيما يتعلق بحياة الإنسان مبادئ عامة لتحتفظ بالمرونة التي تجعلها صالحة للناس في كل زمان ومكان.
وعلاقة العرب بالإسلام في مسيرته لا تتجاوز نقطة البداية؛ فمنهم وقع اختيار الله على محمد بن عبدالله ليكون نبيا رسولا، فارتبط الإسلام في ظهوره بأمّة العرب التي أوجد رسول الإسلام في حياتهم عمليا ارتباطا مؤقتا سرعان ما انتقل إلى غيرهم، فالإسلام لا يرتبط بعنصر بشري، وتقاليد العنصر البشري المكتسبة من بيئته ليست جزءًا من الدين..
وكونه أيضا ديانة إنسانية يجعل غايتها المتجددة العمل من أجل صالح البشرية، وهدفها الدائم تحقيق الخير العام للإنسان في أي أرض يكون، وفي أي زمن يُوجد.
وقابلية الإسلام للخلود بوصفه خاتم الرسالات تقتضي قابليته للتطبيق العملي؛ لذا اقترن الإيمان والعمل في القرآن الكريم في عشرات الآيات القرآنية، فالإيمان هو الطاقة الروحية الدافعة إلى العمل الصالح الذي لا يكون صالحا إلا إذا ارتبط بقيمة روحية داخلية إرضاء الله، وخارجية تحقيق الخير للجميع وتقديم الصالح العام على المصلحة الفردية.
ويعلّق خلف الله على تفسير الأستاذ محمد عبده([7]) لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [سورة البقرة آية 143] بأنّ الآية شاهد على ضرورة صلاحية الإسلام للتشكّل في الواقع، فالآية واضحة في "أنّ التغيّرات الجذرية في المجتمعات البشرية لا تتقرّر، ولا تستقرّ، ولا يُصبح لها كيان ووجود، ما لم تكن هناك نماذج بشرية تُحقق هذا الكيان، ويقتدي بها الناس.
لابدّ من وجود نماذج بشرية يتمثل فيها بصورة حسية المبدأ والعقيدة؛ فهي تمارس الحياة العملية على أساس مما هناك من معتقدات دينية، ومبادئ أخلاقية، وقيم اجتماعية."([8])
(3)
الأمّة مصدر السلطات
نقل القرآن الكريم التشريع إلى الأمّة، بقوله تعالى "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" [سورة آل عمران، الآية159] فالله عز وجل وضع القواعد اللازمة لبناء المجتمعات، ووكّل لها بناء الدول بحرّيّة تامة واستقلال كامل بما يحقق أمورها الدنيوية ومصالحها الاجتماعية، و"ذلك أنه جعل أمرنا شورى بيننا، ينظر فيه أهل المعرفة والمكانة الذين نثق بهم، ويقررون لنا في كل زمان ما تقوم به مصلحتنا، وتسعد أمّتنا."([9])
وسكوت الله -عز وجل- عن نظام الشورى عن قصد. فسبحانه لا يضلّ ولا ينسى، فهو من الأمور التي فوّض الله المسلمين فيها؛ فالناس تُشرّع لأنفسها في أمور حياتها، لأنهم هم أصحاب المصلحة في إقامة مثل هذا النظام، ولهم أن يقيموه على الأساس الذي يجعله صالحًا للزمان الذي يعيشون فيه وللوطن الذي ينتسبون إليه.
إذا كانت أمور سياسة حياة الناس يُرجع إليهم فيها، والوحي يتنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكيف نُصادر تلك الممارسة اليوم، وقد توقف إرسال الأنبياء، وانقطع الوحي، إذا تأملنا مناسبة نزول أمر الله "وشاورهم في الأمر" ستجدنا أمام موقف أخفقت فيه "الشورى" حين انحاز الرسول إلى رأي القائلين بالخروج من المدينة لمواجهة أهل مكة فكانت النتيجة غير مرضية، ورغم ذلك جدّد القرآن الكريم الثقة في المبدأ، وأمر به بما يزيده ترسيخا، وتوقُّف الوحي عند المبدأ وسكوته عن آليات تطبيقه، إنما هو فرصة للاستفادة من المنجز الحضاري الإنساني العام المتطوّر في هذا الميدان، لكن تجربة الجماعات الدينية -في ظني- فعلت نقيض ذلك فاستدعت كلمة الشورى؛ لتضفي على ممارستها شرعية دينية، دون أدنى تركيز على تفعيل آليات شورى جيدة؛ لأنها لا تهتم بتطوير وتجديد بنيتها الفكرية قدر اهتمامها بالقشرة الظاهرية لإكساب ممارستها وصف الإسلامية... فتطلق اسم الشورى على ممارسات قاصرة في تبادل الرأي.
وأرى أن الأولى إذا كان الرأي والمشاركة المجتمعية لصناعة القرار في أمورنا الدنيوية أمر به الإسلام دون تفاصيل أو آليات أن نستفيد في آليات صناعتها من تجارب الأمم الأسبق إلى التمدن في طرق تواصلها مع شعوبها والاستماع إليهم حتى نكون محققين للمبدأ.
وننتقل إلى آية أخرى تعزّز سلطة الأمة في بناء الدولة بوصفها جزءًا من الجانب الدنيوي في حياة الناس، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [سورة المائدة، الآية101] لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا في ضوء تفويض الله للمسلمين في أمور دنياهم يتخذون فيها من القرارات ما يرونه محققًا للصالح العام.
إن هذه الآية تحكى عن وقائع حدثت في زمن النبي، حيث كان المسلمون الأوّلون يتوجّهون بالأسئلة في الأمور التي تعنُّ لهم إلى الرسول يطلبون منه أن يبيّن لهم رأي الدين في هذه الأمور.
وكان النّبي يتوجه إلى ربه لعلّه أن يُنزل من السماء آيةً تردُّ على أسئلتهم، وتجيبهم عن طلباتهم، فجاءت الآية تطلب منهم الكفّ عن توجيه هذه الأسئلة للنبي التي تستلزم أن ينزل فيها الوحي للأسباب التالية:
أولا: احتمالية أن تكون الإجابة عن أسئلتهم مسيئة إليهم من حيث إنها تكلّفهم القيام بعمل فيه مشقّة، أو تطلب منهم ترك القيام بعمل قد تعوّدوا عليه، وطابت به أنفسهم.
ثانيًا: أنهم حين يسألون في حال وجود الرسول ونزول الوحي عليه قد تحصّل الإجابة عنها، فيكون ذلك سبباً لتكاليف، في ترك السؤال عنها سلامة من الإلزام بها، لأنها مما عفا الله عنه أي تركه في دائرة الإباحة والاختيار.
ثالثًا: أنّ الإكثار من الأسئلة، وانتظار الوحي الذي يجيب عن هذه الأسئلة، مقررًا الفعل أو الترك، قد كان دأب الذين من قبلهم، ولم يكن أبدًا في صالحهم، ومن هنا كفروا به. "فطلب القرآن الكريم إلى المؤمنين أن يكفُّوا عن السؤال في كل صغيرة وكبيرة من الأمر حتى لا يكون في الإجابة ما يسيء إليهم حين تكون الإجابة على غير ما يرغبون فيه. وحتى لا ينتهي الأمر بهم وبالأجيال التالية إلى الكفر بمضمون هذه الإجابة حين تتغير الأزمنة وتتغير الأمكنة. ويصبح المضمون عاجزا عن أن يمدّ المؤمنين بالطاقة التي تدفعهم إلى ممارسة الحياة بأسلوب يضمن تحقيق الصالح العام، ويستهدف الخير العام."([10])
رابعًا: أنّ المسائل التي تتغيّر بتغيّر الأمكنة والأزمنة يجب أن تترك للناس يتخذون فيها من القرارات ما يعتبرونه مصلحة لهم في الوقت الذي يعيشون فيه، وفي المكان الذي يقيمون فيه، وفي المجتمع الذي ينتسبون إليه.
وإذا كان التوقف عن سؤال النبي في كل صغيرة وكبيرة في أمور حياتهم هو أمر الله والوحي يتنزل، فإن من الأوجب "أن نتوقف عن توجيه الأسئلة لرجال الدين –تلك الأسئلة التي تستهدف منها التعرف على رأي رجال الدين في مسائل الحياة الدنيوية ... لكن رجال الدين لا يستطيعون القيام بما لم يقم به الأنبياء عليهم السلام. لقد ألزم القرآن الكريم النبي عليه السلام أن يُشاور أصحابه، وأن يتخذ وإياهم القرار الذي يحقق الصالح العام."([11])
وإذا كان القرآن الكريم قد فوّض الناس في التشريع لدنياهم وفق المصلحة العامة دون الخروج على النصوص التي أحلّت أو حرّمت، فهل يجوز تقديم المصلحة العامة على النصّ اقتداءً بعمر بن الخطاب في تعطيل بعض النصوص للصالح العام مثل إيقاف حدّ السرقة زمن المجاعة، وإعادة النظر في طريقة تقسيم الغنيمة رغم وجود الآية القرآنية قطعية الدلالة؟؟
يُسلّم الجميع بأنّ عمر بن الخطاب قد عطّل بعض النصوص من أجل الصالح العام، إلاّ أنهم يختلفون. فيرى الفريق الأول أن هذا خاصٌّ بعمر لصحبته وورعه وتقواه، ويرى الفريق الثاني أنه يجوز أن نتخذ من عمل عمر سُنّة ونتّبعه.
الفريق الأول ما عليه علماء الظاهرية كما وصفهم الشيخ محمد عبده لتمسّكهم بظاهر الآيات والأحاديث، وعليه رأي أكثر علماء الفقه، وانحاز إلى الفريق الثاني الشيخ محمد عبده مستدعيا من تراث السلف كلام الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفّى سنة 716ه في مسألة المصالح الذي وصفه -بلا مبالغة- بأنه لا مثيل له في كلام علماء المشارقة، كما أنه لا يوجد في كلام علماء المغاربة مثل ما قاله العلاّمة أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 790ه حيث رأى الطوفي أنّ التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، فجعل المصلحة العامّة، وليست المصالح المرسلة كما هي عبارة الإمام مالك أقوى مصادر التشريع المقدّمة على غيرها في التشريع للمعاملات.
ووصف عبده كلام الطوفي في شرحه لحديث أبي سعيد الخدري من الأربعين النووية" لا ضرر ولا ضرار" بأنه وفّى الموضوع حقه في الاستدلال على المسألة بعدّة أدلّة من الكتاب والسُنّة تفصيلية وإجمالية، وبإجماع ماعدا الجامدين من الظاهرية، وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية على مسألة رعاية المصالح إثباتا ونفيا، والمفاسد نفيا، ودعم ذلك بالاستدلال عليها بالنظر العقلي، ولم يكتف بهذا حتى جعل رعاية المصلحة مقدمة على النص والإجماع عند التعارض.
يُسلّم الجميع بأنّ عمر بن الخطاب قد عطّل بعض النصوص من أجل الصالح العام
فنقل عن الطوفي قوله: اعلم أنّ أدلة الشرع التسعة عشر أقواها النص والإجماع ثم هما، إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها. فإن وافقاه فيها فبها ونعمت ولا تنازع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة.
وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما -لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما- كما تقدّم السنّة على القرآن بطريق البيان؛ لأنّ المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة والوسائل. والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل أي واجب اعتبارها وملاحظتها أولا وبالذات؛ لأنها هي سرّ الشريعة ولبابها."([12])
وما قرّره الطوفي في رعاية المصلحة هو أدقّ وأوسع من القول بالمصالح المرسلة وأدلته أقوى، وقد صرح هو بذلك، فقال: "واعلم أنّ هذه الطريقة التي قرّرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام... وإنّما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها؛ لأنّ العبادات حقّ للشارع خاصّ به، ولا يمكن معرفة حقّه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلاّ من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولأنّ غلام أحدنا لا يعدّ مطيعا خادما له إلاّ إذا امتثل ما رسم سيّده وفعل ما يعلم أنّه يرضيه، فكذلك ههنا... لهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل وضلّوا وأضلّوا. وهذا بخلاف حقوق المكلفين؛ فإنّ أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعوّل. ولا يقال: إنّ الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلّته لأنّا نقول: قد قرّرنا أنّ المصلحة من أدلّة الشرع، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح، ثم إنّ هذا إنّما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات. وأمّا مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل. فإذا رأينا الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنّا أُحِلْنا في تحصيلها على رعايتها".([13])
ومن أدلة الطوفي العقلية في تقديم رعاية المصلحة على النّص أنه من المحال أن يراعي الله -عز وجل- مصلحة خلقه في مبدئهم، ومعادهم ومعاشهم، ثم يمهل مصلحتهم في الأحكام الشرعية إذ هي أهمّ فكانت بالمراعاة أولى؛ لأنها أيضا من مصلحة معاشهم؛ لأنّها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ولا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنّه رعاها لهم.
وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه. فإن وافقها النصّ والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام. وإن خالفها دليل وفّق بينه وبينها بتخصيصه وتقديمها بطريق البيان.([14])
(4)
تأسيس عقلي لمفاهيم: الإجماع، أولو الأمر، الدعوة، المعروف، المنكر
أسّس الشيخ محمد عبده لما كان يظنّه مفهوما جديدا لأولى الأمر([15]) إلاّ أنه اكتشف أنّ من القدامى من سبقه إلى الفهم نفسه لدلالة أولى الأمر، فقد رفض النيسابوري والرازي قول القائلين بأنّ أولى الأمر هم الولاة والسلاطين أو جماعة من علماء الدين؛ لأنّ التكليف بطاعة أولى الأمر واجب في الآية، وهذا الوجوب يقتضي العصمة من الخطأ؛ لأن الله لا يأمر بطاعة في خطأ، والعصمة من الخطأ –في نظره- ثابتة للأمّة مجتمعة على رأي، وليست لبعضها لاسيما الحكّام الذين قد يأمرون بالخطأ قصدًا إليه، كما يقول الرازي: "طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة؛ لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم."([16]) فامتنع عقلا أن تكون الدلالة لبعض الأمّة حكّاما أو فقهاء، فالإجماع لن يتحقق إلاّ بالأمّة مجتمعة، ولا يتصور الرجوع في كل مسألة إلى جميع الأمة؛ لذا احتاجت الأمّة إلى ممثلين لها ينوبون عنها هم أهل الحلّ والعقد.([17])
ولما كان مفهوم "أهل الحل والعقد" ملتبس الدلالة عند الرازي، أوضح الشيخ محمد عبده مفهوم أهل الحلّ والعقد بأنه مرادف لأولى الأمر الذين "هم في زماننا كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة، وكبار الزرّاع والتجار، وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، والنابغون من الكُتُّاب والأطباء والمحامون والمهندسون ... أولئك الذين تثق بهم الأمة، وترجع إليهم في مشكلاتها حيث يكونون ... وأهل كل بلد يعرفون من يوثق به عندهم ويحترم رأيه فيهم، ويسهل على رئيس الحكومة في كل بلد أن يعرفهم، وأن يجمعهم للشورى إن شاء."([18])
وخالف الدكتور محمد خلف الله رأي محمد عبده، ففصَل دلالة أهل الحلّ والعقد عن أولى الأمر، فأهل الحل والعقد هم ممثّلو الشعب المنتخبون ينقلون مشكلات المجتمع التي تعوقه عن الانطلاق في ميادين الحياة، أمّا أولو الأمر فهم أهل الاحتراف المهني والفني في كلّ صنعة وأهل البراعة العلمية في كل اختصاص الذين ينظرون في تلك المشكلات، ويقدّمون لها حلول، واقترح أن تكون المجالس التشريعية ضعف عدد دوائرها؛ ليتم اقتسامها بين أهل الحل والعقد من جانب وأولى الأمر من جانب آخر.([19])
وانتقل مفهوم الإجماع-تبعا للمفهوم الجديد لأولى الأمر وأهل الحل والعقد في طرح محمد عبده وخلف الله- من كونه مفهوما فقهيا يعتمد عليه رجال الدين في التنظير للدولة باستنباط الأحكام إلى مفهوم سياسي واسع يُستمد من الناس عبر ممثليهم (أهل الحل والعقد)، أو(أولو الأمر) لاستحداث تشريعات للمستجدات التي لا تتوقف أو تطوير التشريع بما يزيل عقبات تعوق حركة النمو الحضاري الإنساني لتحقيق الخير العام أو المصلحة العامة، ملتزمة بالمبادئ العامة للإسلام. وهذه هي صورة الإجماع -أحد مصادر التشريع الإسلامي-من منظور الرازي والنيسابوري وعبده وخلف الله، إجماع الأمة عبر ممثليها؛ لأنه لا يمكن أن تشارك الأمّة عقلا في كلّ مسألة؛ لذا كان ضرورة التمثيل النيابي لتحقيق الإجماع في شكله السياسي إحدى سلطات التشريع، وتحتفظ الأمّة بحقها في مشاركة كل أفرادها لاتخاذ بعض القرارات المصيرية في حياتها مثل اختيار الرئيس وفي قضايا السلم والحرب والاتحاد والانفصال.
من ناحية ثانية، ففي تفسير الشيخ محمد عبده([20]) لقوله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [سورة آل عمران، الآية 104]اتسعت دلالات الدعوة إلى الخير والمعروف والمنكر بوصفها مفاهيم تأسيسية في الإسلام.
فالدعوة ليست قاصرة على الدعوة إلى الإيمان كما هو شائع في لغة رجال الدين، بل دعوة لكل خير كما تشير إلى ذلك دلالة اللغة في الآية، فالخير عام يُطلق على كل ما يُحقق المصلحة العامة للإنسان في الدنيا والآخرة، وانتقل بالمعروف والمنكر من الفهم الذي يحصرهما في الشرعي إلى دلالة أرحب، فالمعروف: هو ما عرفته العقول والطباع السليمة، والمنكر: ما أنكرته العقول والطباع السليمة، مستلهما عبده مفهوم الحسن والقبح العقلي من التراث الإسلامي الاعتزالي.
وأرى أنّ هذا الفهم أولى لأنّه يخرجنا من النظرة الضيقة لدلالة كلمة الأمّة في قوله: "ولتكن منكم أمّة" بأنها جماعة الحِسْبة([21]) التي تحمل الناس على الخضوع لربهم خضوعا لا يتجاوز ظاهر الجوارح؛ لتكون جماعة مهمّتها التعرّف على ما فيه منفعة الناس، وخدمة الصالح العام، فتبيّن للناس حقيقته، وما يترتب عليه من مصالح، وتنكر ما فيه مضرّة أو مفسدة، وتبين للناس ما فيه من أضرار تلحق بالصالح العام، ويصبح الأمر أو النهي من جهة الاختصاص ومن خلال القنوات الشرعية، وهدف هذه الجماعة الدائم هو الدعوة إلى الخير العام.
ويطوّر خلف الله مفهوم الأمة في الآية، فهي الجماعة المُشرِّعة (المجلس التشريعي) تأتي بالانتخاب كآلية للاختيار الحرّ من الناس، كما تنتخب من داخلها رئاسة تنظم وتدير أعمالها؛ لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلاّ معتلاّ. ويشترط في تلك الأمة الانسجام والاتحاد وعلى قدر نجاح هذه الجماعة التشريعية في عملها تتحقّق الخيرية للمسلمين، فليست الخيرية صكًا ربانيًا للقائلين "إنا مسلمون"، بل مكتسبة من أفعالهم التي تحقق الإسلام، كما في قوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" [سورة آل عمران، الآية 110]
فبالإضافة إلى الإيمان العميق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتحليل وتحريم ما ورد في شأنه نص قطعي، وفي الوقت الذي لا تملك دولة سلطانا ولا رقابة على الإيمان؛ لأن القلوب مستودعات الإيمان، ولا يملك الإنسان الاطلاع عليها، تملك الدولة بالقانون تقويم الخير والشر السلوكي الظاهر، فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلتي تحقيق الخير العام لكل الناس، والمعروف متمثل في كلّ منفعة، والمنكر متمثّل في كل ضرر، وبعبارة أخرى الأمر بالمعروف هو الأمر بما تعارف الناس عليه بما فيهم أولو الأمر أو أهل الحل والعقد على أنّ فيه خيرا لهم، والنهي عن المنكر أي الكفّ عن قول أو عمل أي شيء يضر بالصالح العام، وينكره الناس لأن فيه شرّا لهم.
إنّ النبوة في الإسلام، إنما تبلغ كمالها في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها
ومن إنكار المنكر الأخذ على أيدى الظالمين، فإنّ الظلم أقبح المنكر والظالم لا يكون إلاّ قويا –ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة؛ لأنها لا تخاف ولا تُغلَب، وحذّر القرآن من تجاهل إنكار المنكر لأنه يؤدّي إلى فساد وانحراف يكون سببا في اضمحلال وتلاشي الأمم، كما علّل القرآن الكريم ضعف وتأخر الأمم بأنهم "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [سورة المائدة، الآية 79]
ومن أعمال الأمّة (الجماعة المنتخبة) أنها تقوّم وتراقب أداء الحكومة في تطبيقها للتشريعات القانونية التي استقرت عليها. وتحقيق الأمة لهذه الأهداف، يتطلب قدرات ذهنية خاصة في أعضاء هذه الأمانة وإمكانيات عملية وطاقات روحية وصفات خلقية وما أشبه ممّا يساعد الداعي على تحقيق الغايات المستهدفة من الدعوة.([22])
هكذا تتحوّل آيات القرآن إلى خطاب مفتوح على العقل يستلهم منها منظومة القيم والمبادئ العامة والأفكار الحيّة الصالحة لكل زمان ومكان، فيُقدّم القرآن الكريم منطلقا للغايات الاستراتيجية مُوكلا المجتمعات في وضع الآليات والخطط التفصيلية والمرحلية لتحقيق هذه الغايات.
وأخيرا لم تحمل آية قرآنية واحدة شكلا تنظيميا للمملكة بلغة القدامى أو الدولة بلغة المعاصرين، كما لم تتجاوز ممارسات النبي في الشكل التنظيمي جانبه البشري الذي يُعمل عقله، ويستعين برأي من حوله، ويستدعي الممارسات الشائعة في عصره، فلم يتدخل الوحي في الشكل التنظيمي؛ لأن الغاية لم تكن إقامة مملكة بل تكوين مجتمع على هدي من رسالة السماء إلى الأرض، وحتى يمنح العقل الإسلامي الحرية في أن يختار من الشكل العام للدولة ما يتناسب وظروف الزمان والمكان.
وفي الوقت الذي أخذ الدكتور خلف الله يؤكد هذه المعاني في نقله لفكر الشيخ محمد عبده، عاد ووضع على رأس الأفكار التي استقاها من دراسته لتفسير محمد عبده لافتة حداثية فعنوَن لمبادئ الإسلام بسلطة المحكمة الدستورية العليا كما عنْوَن للدعوة في القرآن الكريم بأمانة التنظيم السياسي، ([23]) وليست قيم القرآن ومبادئ الإسلام في حاجة إلى طلاء حداثي، وليس الشكل التنظيمي للدولة الحديثة سوى منتج إنساني متغيّر.
وبعبارة خلف الله "لم ترد في القرآن الكريم آيةً واحدةً عن الشكل التنظيمي للدولة ووردت فيه آيات كثيرة عن الوظيفة الاجتماعية للدولة، وعن بعض المؤسسات التي يجب أن تقوم لتحقق هذه الوظيفة الاجتماعية، ولتلعب الدور الذي يجب أن تلعبه في المجال الذي أنشئت هذه المؤسسة فيه: سياسيا كان هذا المجال أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو تربويا، أو صحيًا، أو ما أشبه... القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لو تعرضا للشكل التنظيمي للدولة، لأصبح هذا الشكل صيغة دينية مقدسة لا يصح الرجوع عنها، ويجب العمل بها في كل الظروف، وفي جميع العصور، وعند كافّة المسلمين مهما تختلف الأزمنة والأمكنة ... ولو حدث هذا لأصبحت النتيجة قيودا يفرضها الإسلام على العقل البشري مع أنه الذي خاطب العقل واعتمد على العقل في تقرير الكثير من المبادئ والأحكام.
إنّ الذي اقتضته الحكمة الإلهية من عدم تعرض القرآن الكريم للشكل التنظيمي للدولة هو الذي اقتضته الحكمة نفسها من أن يكون محمد خاتم النبيين وأن يكون الإسلام آخر الأديان المفروضة من السماء.. فمولد السلام هو مولد العقل الاستدلالي. إنّ النبوة في الإسلام، إنما تبلغ كمالها في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على نبوة قائمة أو منتظرة، فترك الإنسان معتمدا في النهاية على وسائله هو في المعرفة... إنّ إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، وإنّ مناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين.. إن ذلك كله من مصادر المعرفة الإنسانية. وإنّه في الوقت ذاته صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة."([24])
المصادر والمراجع
- ابن خلدون، (أبو زيد عبدالرحمن بن محمد) المقدّمة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408ه-1988م.
- فخر الدين الرازي (أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين)، التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، 1425هـ -2004م.
- محمد أحمد خلف الله (دكتور)، القرآن والدولة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
- محمد أحمد خلف الله (دكتور)، مفاهيم قرآنية، العدد 64 عالم المعرفة الكويت، يوليو 1984م.
- محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م.
- مصطفى زيد، (دكتور) المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، مكتبة دار العلوم، القاهرة، الطبعة الثانية، 1946م.
الدوريات:
- محمد رشيد رضا، مجلة المنار، مطبعة المنار، القاهرة، 1315ه.
([1]) ينظر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج3، ص214، 213 الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م.
([2]) ابن خلدون: المقدمة، ج2، ص16، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408ه-1988م.
([4]) فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، ج3، ص31، ط دار الكتب العلمية، 1425هـ -2004م.
([5]) د. محمد أحمد خلف الله القرآن والدولة، ص33، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
([7]) تفسير المنار، ج2، ص 142: 140
([9]) تفسير المنار ج5 ص ص 153، 154
([12]) محمد رشيد رضا، مجلّة المنار، ج9، ص721، مطبعة المنار، القاهرة، 1315ه. - د. مصطفى زيد، "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي"، ص 105مكتبة دار العلوم، القاهرة، الطبعة الثانية، 1946م.
([13]) تفسير المنارـ ج، 164، 163 بتصرف، ومن أراد الاطلاع على سياقه برمّته فليرجع إلى المجلّد التاسع من مجلة المنار ص 715: 740
([14]) ينظر: القرآن والدولة، ص111: 108
([15]) جاء في موضعين من القرآن الكريم "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولو الأمر منكم"، [سورة النساء، الآية، 59]، "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" [سورة النساء، الآية83]، ومنهما تأسست سلطة ونفوذ الحكّام ورجال الدين في الخطاب الإسلامي الذي استند في فهم الآية إلى أحد التأويلات التي تجعل "أولى الأمر" هم الحكَّام، و"الذين يستنبطونه منهم" هم الفقهاء بمعنى خاص أو رجال الدين بمعنى عام، وأصبح هذا هو المدلول الثقافي المتداول للآية. ونتجت عن هذا الفهم مرجعية دينية لهؤلاء بموجب الآية الكريمة، ومن شأن مثل هذا الفهم أن يخلق حالة من الاستسلام؛ لسلطتي الحاكم والفقيه مستمدة من الله الذي أمرنا بذلك بقيد أن تكون في غير معصية.
([16]) التفسير الكبير، ج2، ص117
([17]) ينظر: السابق ج2، ص118، 117
([19]) ينظر: القرآن والدولة، ص ص 73 - 74
([20]) ينظر: تفسير المنار، ج4، ص42: 39
([21]) ما زال مِن المسلمين مَن يفهم المعنى فهما ضيقا محكوما ببعض التفسيرات التراثية، فنرى أنصار بيت المقدس في اليمن تنشئ إدارة الحسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و"داعش" تُنشئ ديوان الحسبة في الموصل بالعراق.
([22]) ينظر: القرآن والدولة، ص88: 83
([23]) القرآن والدولة، ص97، 81
([24]) القرآن والدولة، ص122: 115 بتصرف.