الديمقراطية ثقافة
فئة : مقالات
استعمالات جديدة لكلمة ثقافة أصبحت تفرض علينا نفسها، وهي تُبعدنا عن المفهوم الذي تعوّدنا قبوله، ذلك المفهوم الذي، وإن لم يكن يقع على معناه إجماع كبير، إلا أنه كان ينحصر أساسا في المعنى الأنثربولوجي. وهكذا أصبحنا نتحدث اليوم عن «ثقافة سينمائية» و«ثقافة حقوق الإنسان»، و«ثقافة التسامح»، و« ثقافة المواطنة» و«ثقافة الديمقراطية»...
بدهي أن اللفظ لا يحيل هنا إلى ما يخصّ الفئة التي نطلق عليها «رجال الثقافة» أو «المثقفين»، وهو لا يعني بالأوْلى معرفة وتحصيلا، كما أنه لا يدل على المدَنية والتحضّر، بل إنه لا يحيل حتى إلى المعنى الأنثربولوجي الذي نعنيه، على سبيل المثال، عندما نتحدث عن «ثقافات الشعوب البدائية».
أذهب إلى الافتراض أننا عندما نتحدث عن «ثقافة حقوق الإنسان» على سبيل المثال، فإننا نحيل إلى المعنى الأصلي للكلمة الفرنسية culture، تلك الكلمة التي لا تردّ هنا إلى «الفلاحة» كما قد يتبادر إلى الذهن أول مرة، وإنما إلى اللفظ الألماني الذي يحيل بدوره إلى المعنى الإغريقي لكلمة «بايْدِيا».
«البايْدِيا» الإغريقية هي ما يمكن أن ننقله إلى العربية بـ«التربية» والتنشئة والترويض والتمرّس. والظاهر أن هذا هو المعنى الذي أصبحت تتداول فيه كلمة ثقافة في اللغة العربية. فعندما نتكلم عن «ثقافة حقوق الإنسان»، على سبيل المثال، فإننا لا نحيل إلى تحصيل ومعرفة، وربما لا نعني أساساً نظريات ومفهومات، وإنما نحيل إلى تربية وتنشئة وتكوين، تربية على حقوق الإنسان، مع ما يتطلبه ذلك، شأن كل تربية، من صبر ورياضة، وتمرين وتعوّد، وتعثر وتلكؤ، وتقدّم وتراجع، وتقويم وتصحيح، وكل ما يقتضيه تعوّد الفرد على «قبول الاختلاف» ومعاشرة «الآخر».
وغير خافٍ أن هذه التنشئة لا تتم بين عشية وضحاها، ولا تتحقق بطيّ صفحة وفتح أخرى، وإنما لا بد وأن تستغرق الزمن. إرساء «ثقافة حقوق الإنسان» إذاً غرس وتثقيف، و«فلاحة»culture في أرض وعرة.
على هذا النحو، فإن كلمة ثقافة في معناها «الجديد» وفي جميع تلك الأمثلة التي أوردناها، تعني أساساً هذه الفلاحة والغرس، مع ما يتطلبانه من رعاية وعناية ومتابعة.
هذا المعنى بالضبط هو ما نقصده عندما نتحدث هنا عن «ثقافة الديمقراطية»، وعن كون الديمقراطية ثقافة. فالديمقراطية ليست معرفة تلقّن، ولا علما يُحصّل، ولا شعارا يُتبَنىَّ، وانما هي تنشئة وتربية وتمرين. إنها هندسة وتدبير، ممارسة وتجريب، وهي برنامج قد يستغرق أجيالا، برنامج يغرس الديمقرطية حتى تتجذر في المحلية، وتغدو سلوكا يتشربه الفرد صباح مساء. إنها «بايديا»؛ أي مجاهدة واجتهاد، مع ما يطبع كل اجتهاد من شعور ملازم بعدم الرّضا والنقصان، وطموح دائم نحو الزيادة والاكتمال. ليس غريبا إذاً أن يكون شعار الديموقراطي هو كما كتب جاك دريدا : «أن تكون ديمقراطيا معناه أن تقرن أفعالك وأقوالك دوما بالاعتراف بأنك في مجتمع غير ديمقراطي». الديمقراطية إذاً وضع يائس، وهو لا يمكن إلا أن يُصاحب بشعور بالنقص وعدم الاكتمال، بل باستحالة التحقق.والمفارقة هنا هي أن هذه الاستحالة هي الغذاء الحقيقي للديمقراطية؛ فالديمقراطية لا تكون إلا عندما لا تكون. إنها من الأفعال المستحيلة، شأنها شأن العقلنة وروح النقد والتحديث والإبداع...كل هذه الأمور لا تعمل إلا في حالة من التأزم، إلا مع شعور بالأزمة.إنها بنات أزمات.الديمقراطية الحقيقية لا تنفصل عن أزمة الديمقراطية، مثلما أن العقلانية لا تنفصل عن أزمة العقلانية، وأن الإبداع مشدود إلى أزمة الإبداع.
بهذا المعنى، فلا تعني الأزمة توقفا ولا نُدرة، وإنما حركة وغليانا و«ازدهارا».الأزمة هي تلك الحال التي تتأجج فيها روح التغيير، ويحتد فيها الجدال، ويترعرع فيها النقد، و«تُبنى» فيها الديموقراطية ويزدهر فيها الإبداع الحقيقي.
يؤكد التاريخ صحة هذا الاقتران، فكل الفترات التي عرفت محاولات لإرساء الديمقراطية في مختلف صورها كانت فترات أزمات، وكل مساعي التحرّر والانعتاق صوحبت بفترات توتّر وصراع وتأزم. وليس مردّ ذلك فحسب المقاومات «الخارجية» التي تعترض الدَّمَقْرطة والتحرّر والتّحديث والانعتاق، وإنما مرجعه أيضا وربما أساسا «طبيعة» الديمقراطية والتحرّر والعقلانية والتحديث، فهذه الأمور تنطوي علي عوائقها الذاتية، ليس بمعنى أنها تعوق ذاتها وتعترض سبيل نفسها، وإنما بمعنى أنها تنظر إلى نفسها كمقاومات، وتعتبر أن وجودها نفي وسلب أكثر منه إثباتا وإيجابا.إنها تحسّ بالعوز كلما ازدادت غنى، وبالظمأ كلما ازدادت ارتواء، وبالنقصان كلما ازدادت اكتمالا، وهي لا تتحقق إلا عندما يتعذر تحققها، ولا تكون بالفعل إلا عندما لا تكون.
الديمقراطية إذاً، وكما سبق لعبد الله العروي أن كتب، «لا تحلّ بعد ثورة أو تغيير شامل في الآفاق والنفوس»، وإنما هي «ما نجرّب، ما نرى ونلمس، وما لا نفتأ نجدّد ونصحّح»، إنها بتعبيره أيضا: «ترميم مستمر لفتق متجدّد».