الديمقراطيّة و"تطبيق الشريعة": الآفاق والحدود
فئة : مقالات
الديمقراطيّة و"تطبيق الشريعة":
الآفاق والحدود
إن قبول الديمقراطية من الأفكار القارّة عند مفكّري الإسلام السياسيّ، في سياق علاقتهم بالدولة وبخلفيّتها العقديّة، وقد اتّخذ ذلك شكل محاولة توطين للمفاهيم الغربيّة عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وتأكيدًا لمدنيّة السلطة في الإسلام، في محاولة لتقريب الدولة من منظومة السلطة الإسلاميّة، هذا ما يعبّر عنه على الأقلّ، قبولهم الانخراط في العمل السياسي الرسمي، عبر تبنّيهم للعمليّة الديمقراطيّة شرطًا للوصول إلى السلطة وممارستها، بعد الثورة العربيّة الراهنة، وهو أمر يستجيب، لما وعدوا به في نصوصهم التنظيريّة من استعداد للتأقلم مع شروط المنظومة الديمقراطيّة، وإن بمنطقهم الخاص الذي لا يتوافق معها إلاّ سطحيًّا. يمكن العودة، في هذا السياق، إلى رسالة "نظام الحكم" في مجموعة رسائل حسن البنّا، إذ يقول: "وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابيّ ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدًا عن النظام الإسلاميّ ولا غريبًا عنه".[1] ولكنّ الديمقراطيّة التي يقترحون من نوع آخر، فهي ديمقراطيّة مقيّدة بالشريعة، هذا ما يقرّبها من الشورى عندهم، ويؤصّلها في التصوّر الإسلاميّ عن الحاكميّة الذي يجد أساسه النظريّ في فلسفتهم التوحيديّة؛ ففي هذا المعنى يقول فهمي هويدي: "ينبغي في هذا الصدد أن يفرّق بين مصدر السلطة ومصدر القانون؛ فالأولى مرجعها إلى الأمّة، وليس لأحد أن يزجّ باسم الغيب فيها. أمّا القانون، فهو يتحرّك في إطار المرجعيّة والمقاصد التي حدّدها القرآن والسنّة". ويقول يوسف القرضاوي: "فالالتزام من الدولة بقانون الشريعة هو الذي يعطيها الشرعيّة."[2] فبالشريعة والشورى يصنع الإسلاميّون نظريّتيهم في الحقّ والسلطة الضروريّتين لكلّ دولة، معلنين قدرة المنظومة الإسلاميّة على معارضة الدولة بنظريّتها الخاصّة في الحكم. وبصرف النّظر عن التلفيقيّة الكبرى التي يقعون فيها بين المنظومتين الشرعيّة الإسلاميّة والدولتيّة، وعن الالتباس الظاهر في التسوية التي ينجزونها بين الشورى والديمقراطيّة، وبين الشريعة والحقّ الدولتيّ، يصحّ التساؤل التالي: هل يمثّل تطبيق الشريعة حلاًّ فعليًّا لمشكلة الديمقراطيّة؛ أي لمشكلاتها التكوينيّةوالتاريخيّة التطبيقيّة التي تتجلّى الآن في ما يسمّى بأزمة الديمقراطيّة؟[3]
إنّ ما يشرّع هذا السؤال هو الأهميّة التي يحظى بها الحقّ في كلّ نسق دولتي، في الفترة التي نستعدّ فيها نحن العرب المسلمين للدخول في مرحلة جديدة من تاريخ تجربتنا الدولتيّة، بعد أن تأكّدت هِنات تجربتنا الدولتيّة السابقة، فلا جدال في أنّ التعالق بين الحقّ والسلطة هو المكوّن الأساسيّ لنظريّة الدولة، فالدولة من هذا المنظور هي أقصى درجات تجريد السلطة السياسيّة، بواسطة الحقّ والقانون، هذا ما يقرّره علماء القانون الدستوري. ففي هذا السياق، يقول عياض بن عاشور إنّ من يمتلك السلطة يمتلك الحقّ في النهاية.[4] ويقرّر فتحي عبد الكريم أنّ من يملك حقّ الأمر يملك السلطة،[5] فـ"الثنائيّة حق- دولة اعتقاد إحيائيّ يعود إلى الإنسان البدائيّ" كما يقرّر هانس كلسن أحد أبرز حقوقيّي القرن العشرين.[6] لذلك، تبقى ملكيّة الحق في قلب الصراع السياسي بين مختلف الأطراف الاجتماعيّة المتدخّلة في الشأن السياسيّ، والمتنازعة على صياغة نمط الدولة.
وعلى الرغم من أنّ الفكر الغربيّ لم يكفّ، خلال كامل صيرورته التاريخيّة، عن ارتباطه بفكرة العدالة، فإنّه عرّض تصوّره للحقّ الذي يجسّدها لعمليّة تحوير مستمرّة مساوقة لتحوّل غائيّته بحسب القيم والأنساق التي قامت عليها، من الأخلاق إلى الدين إلى الفرد إلى الجماعة، حتّى بات دور الحقّ يقتصر على ضمان نجاعة اشتغال الآلة السياسيّة التي تمثّلها الدولة. هذا ما يتّضح من اتصال النظريّة الحقوقيّة الغربيّة بمفهوم العدالة منذ أصولها الأرسطيّة القديمة وصولاً لآخر نظريّاتها فيها، لا سيما مع نظريّة جون راولس وما أثارته وما زالت تثيره من جدل واسع بين الليبراليين والجماعاتيين في الوقت الراهن. ومقابل ذلك، ظلّت المنظومة التشريعيّة الإسلاميّة، منذ بداية تشكّلها زمن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، تواصل عمليّة الملاءمة بين وصايا النصّ وشروط وضعيّتها التاريخيّة، فإنّها أجبرت رسميًّا على التوقّف عند التسوية المفروضة بين الشريعة والعدالة التي ثبّتها فقهاء الشريعة وأصوليّوها، وختمها ابن خلدون، وبقي يردّدها الصحويّون إلى حدّ الآن، وهي الآن تطرح قيدًا على الديمقراطيّة، يحوّر معناها، ويعد بتمكينها من شروط تحقّقها الكاملة. فإلى أيّ مدى يمكن القول مع دعاة الإسلام السياسيّ بقدرة تطبيق الشريعة على تحقيق الديمقراطيّة؟
يفترض هذا السؤال ضرورة، أن ننطلق من تعريفات دقيقة للمفاهيم التي نتعامل معها، فدون تعريفات قد نضيع في كلّ اتّجاه، وإنّ دور هذه العمليّة، فضلاً عن هذا المطلب العلميّ المنهجيّ، أن يمدّ هذه الإجابة بخيط استرسالها المنهجيّ، وإذا كان مفهوم الشريعة عند الإسلاميّين، يعني التأويل القانوني الدولتي لكامل المنظومة العقائديّة والتعبّديّة والمعاملاتيّة المشروحة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، في ظلّ تصوّرهم السياسي لمفهوم الحاكميّة، فإنّ الغموض النظريّ لمفهوم الديمقراطيّة وتنوّع تشكيلاته التاريخيّة، يضطرّنا إلى ضبطه بتقاطع بين منهجي فلسفة السياسة، وتاريخ الأفكار،فما هي الديمقراطيّة؟
على الرغم من أنّها من أكثر الكلمات تداولاً، وأكثر الأنظمة انتشارًا في التطبيق والشعارات والرغبات، تبقى الديمقراطيّة من أكثر الكلمات صعوبة في التعريف، فبعد تعريفها اليوناني المرجع الذي يحدّدها باعتبارها نظامًا سياسيًّا يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ولنفسه. وقد اختفت الديمقراطيّة من التطبيق منذ القرن الرابع لما قبل الميلاد، لتظهر بعد ألفي عام تقريبًا في القرن الثامن عشر، ولتعرف منذ ذلك التاريخ تحوّلات عدّة في التطبيق والتنظير قادتها إلى مفارقة معناها اليونانيّ الذي فهمه روسّو ممارسة مباشرة متساوية للسلطة، لتتبنّى معنى يصيّرها في الواقع تسمية لأنظمة مختلطة بين الأرستقراطيّة والأوليغارشيّة، بعد أن أرغمها مونتسكيو على أن تحتضن معنى التمثيل، وأرغمتها اللّيبراليّة في العصر الحديث على أن تتحمّل بمعنى الحريّة إلى أقصى مداه من المجال العام إلى المجال الشخصيّ، ومن خضوعها لسلطة الدولة إلى خضوعها لسلطة المال والاقتصاد. لم تكن الديمقراطية في جميع هذه الأطوار تسمّي أنظمة واقعيّة بقدر ما كانت تراهن على مثال، تنزاح عنه في الغالب، لتنقض دعواها الأصليّة بالمساواة والحريّة في ممارسة السلطة بين جميع الناس، حتّى قال عنها جيوفانيّ سارتوري (Giovanni Sartori) إنّها اسم فضفاض لشيء لا وجود له. فمنذ أن عرّفها بريكليس (ت 429 ق م) بأنّها حكم الشعب لنفسه بنفسه، فضح أرسطو وأفلاطون شكليّة تعلّقها بالحريّة، وبالمساواة، ودعواها بتحرير الناس من كلّ استعباد، وهو ما انتقده في صورتها الحديثة الأمريكيّة ألكسي دي توكفيل، وعين هذا النقد مارسه على تطبيقها الأوروبيّ أبرز دعاتها روسّو، بعد أن تحوّلت بتراكبها مع التمثيل إلى أكبر عمليّة تبرير لتوكيل السيادة، ولنفي المساواة. وتواصل نقدها بالصورة نفسها مع أبرز نقّادها المعاصرين، يركّز على المفارقة الكامنة فيها بين الشعار والتطبيق.[7]
ثمة مبادئ قارة في الديمقراطية خلف جميع تعريفاتها الزمنيّة المتتالية، وخلف كلّ النقد الذي وجّه إليها ثمّة تعلّق قارّ بالمبادئ نفسها، فمبادئها القارّة يمكن أن نقف عليها في الإحصاء التالي لـ بول فالاديي (Paul Valadier):
-إنّها تتأصّل في رغبة في الحريّة والمساواة، وهي رغبة في مراقبة السلطة التي تمارس على الفرد وعلى المجتمع.
-إنّها تبحث عن الحدّ من تبعيّة الإنسان للإنسان بإدخاله في تبعيّة للقانون اللامشخصن.
-إنّها تفترض طريقة في حلّ النزاعات الاجتماعيّة تقصي العنف والأهواء والتلاعب، وتخلق قنوات تعبير عن الأمزجة المختلفة المتواجدة في مجتمع ما، وقبولاً بعلنيّتها وتعارضها، يؤسّس عليه بحثًا عن سبل تعايشها.
-إنّها في الممارسة بحث عن التوافقات، مرتبط بإرادة السلم، وبحث مستمرّ عن الخير والعدالة.[8]
أمّا المبادئ القارّة لهذا النقد، فقد كانت فضحًا لغياب المبادئ السابقة في التطبيق، وكشفًا لتهاوي حلولها المبتكرة بالتمثيل، فقد انتقدت في أنموذجها اليوناني من جهة صوريّة المساواة بين المواطنين في تقلّد الوظائف الكبرى، ومن جهة أهليّة العامّة لصياغة القرار السياسي، وانتقدت من هذه الزاوية نفسها لما تبنّت حلّ التمثيل، فلا هي محقّقة للمساواة، ولا هي منقذة من استبداد العامّة، ومن استبداد الخاصّة بالعامّة، تبقى مشكلة المساواة والحريّة في جميع الأحوال معضلة الديمقراطيّة في جميع أطوارها. فإذا كانت الديمقراطيّة في سياقها الغربيّ النقدي تعجز عن تجاوز هناتها التكوينيّة في الممارسة باستمرار، فهل بإمكان مقولة تطبيق الشريعة أن تقدّم لها هذا الحلّ النهائيّ الذي يحمي الحريّة والمساواة، ويحوّلها إلى حكم يصلح للبشر لا للآلهة كما ادّعى روسّو، دون أن يصيّرها متاريس للاستبداد؟
يمكن تلمّس الإجابة عن هذا السؤال في مجموعة من المعطيات تؤكّد خلوّ الشريعة من دلالتها السياسيّة المركّبة عليها من قبل الإسلاميّين، وخضوعها إلى عمليّة تحميل إيديولوجيّ لا تراعي الفواصل الإبستيمولوجيّة الأكيدة بين نسق الدولة الغربيّة، والنسق التاريخي والذهني للديانة الإسلاميّة، وهي عمليّة تحميل تشوّه قابليّة المنظومة الدينيّة الإسلاميّة لأن تكون إحدى المداخل الممكنة لمبادئ الديمقراطيّة وقيمها المشروحة آنفًا. إذ يبدو استنادًا إلى تحليلات كثيرة أنّ اتّخاذ مفهوم الشريعة لمعنى سياسيّ دقيق ومطابقتها بنظريّة الحقّ الدولتيّة كان وليد النظرة المعياريّة الوضعيّة للآليّات الاجتماعيّة التي سبّبها ميلاد الدولة الوطنيّة في الغرب، فهذه النظرة التي طبّقها الغربيّون على مجتمعاتهم أوّلاً، مارسوها على المجتمعات التي اكتشفوها واستعمروها فيما بعد. وهذه النظرة أدّت إلى إدخال أدوات تحليليّة جديدة، وفئات تحليل، في دراسة هذه المجتمعات. وفي هذا السياق، عرف المسلمون مفاهيم الحقّ العام، والحقّ الشخصيّ، وغيرها من مفاهيم المنظومة الحقوقيّة الغربيّة. ولهذا صدرت عديد الاحتجاجات على هذه النظرة القانونيّة للمعياريّة الإسلاميّة من قبل الغربيّين أنفسهم، فمنهم سنوك هورغرانج (Snock Hurgronge)، وجوزاف شاخت (Joseph Shacht) وجورج بوسكي (Georges Bousquet) كل هؤلاء اعتبروا أنّ المعياريّة الإسلاميّة التي يمثّلها الفقه أساسًا، هي مجموعة قواعد وواجبات تشرح دين الإسلام، وتحكم سلوك المؤمنين به وعلاقاتهم، أكثر من كونها نظامًا قانونيًّا، ولذلك فإن فكرة تقعيدها تتنافى كليًّا مع الرّوح المحرّكة لها في القرآن الكريم.
من هنا ظهرت فكرة اعتبار الشريعة نظريّة للحقّ الدولتيّ، وكانت الدعوة إلى تطبيق الشريعة، كما يؤكّد حمّادي الرديسي ومحمّد شريف فرجاني، مجرّد إيديولوجيّة حديثة، وليدة تعميم مفهوم الدولة القوميّة واقعًا وتنظيرًا. وقد تولّى عمليّة التمهيد لها جيل الإصلاحيّة الأولى الطهطاوي (ت1873م)، وخير الدين التونسي(ت1890م)، وأحمد بن أبي الضياف (ت 1874م)، قبل أن يقدّم صياغتها النظريّة الأولى على النمط الغربيّ عبد الرزّاق السنهوري (1895م- 1971م). ثمّ في سياق معارضة نسقيّة لنظريّة الدولة القوميّة أبو الأعلى المودودي (ت 1979م) في كتابه المعروف تدوين الدستور الإسلاميّ.[9]
إنّ هذه الأحكام حول إيديولوجيّة البعد القانونيّ الدولتيّ لمقولة الشريعة، تجد في الواقع ما يفسّرها في الشرحين المعجميّ والاصطلاحيّ لمفهوم الشريعة اللّذين يردّان إلى استعمالها القرآني في سورة الجاثية الآية 18، وفي سورة الشورى الآيتين 13 و21، وفي سورة المائدة الآية 48، ففيهما يلوح أنّ المعنى القانونيّ للشريعة يظهر أطوارًا، ليختفي أطوارًا أخرى خلف المفهوم العام للدين، ففي هذا السياق قال ابن منظور في معناها الاصطلاحيّ المركّب على معناها اللّغويّ: "وبها يسمّى ما شرع اللّه للعباد شريعة من الصوم والصلاة والحجّ والنكاح وغيره، فالشريعة ما سنّ اللّه من الدين وأمر به كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة وسائر أعمال البرّ"[10]. والتعريف نفسه يمكن الوقوف عليه في معجم ابن فارس، وفي كشّاف التهانوي، وفي صفوة التفاسير لمحمّد علي الصابوني،[11] إذ يلوح معناها دالاًّ على الدين في كليّته، لا على المعنى القانونيّ الدولتي المراد اختزالها إليه. وعلى هذا الأساس فرغم أنّ مصطلح الشريعة كان قارًّا في مباحث الفقه الإسلاميّ، دالّاً عليها إطارًا لمباحثه، فإنّ استعمالها السياسيّ باعتبارها نظريّة للحقّ الدولتيّ، واجه تشكيكًا قويًّا من قبل أبرز الدارسين للموضوع كالصادق بلعيد، وحمّادي الرديسيّ، وحمّادي ذويب، ومحمّد الشرفي.
وفي هذا السياق، فإنّ من المداخل التي اعتمدت للدلالة على ضعف معناها القانوني المركّب الاهتمام بشرح دلالة اللفظة المعبّرة عنها في القرآن الكريم، إذ ذكرت مرّتين بصورة الفعل، ومرّتين بصورة الاسم، وفي كلتا الحالتين فإنّ تفسيرها أقرب إلى الدين منه إلى القانون، ذلك أنّ السور الثلاث التي ذكرت فيها مكيّة موضوعها الاعتقاد وما يلحق به من ثواب وعقاب، لا بشؤون الواقع والمعاملات الإنسانيّة، وفي الآجلة لا في العاجلة، وبين المخلوق وربّه، لا بينه وبين سلطة سياسيّة تحكمه. لا ينظّم القانون الشرعيّ هنا العلاقة بين الجماعة بل يوجّهها نحو غايات ومقاصد إسكاتولوجيّة. في هذا السياق يؤكّد محمّد شريف فرجاني أنّ دلالة العبارة في الآيات السابقة ليست قانونيّة. وفضلاً عن ذلك، فإنّ الآيات ذات البعد القانونيّ الممكن، وهي آيات الحدود الخمس المتعلّقة بالحرابة والسرقة والقذف والقصاص والزنا، لا تمثّل بالضرورة آيات قانونيّة، إنّما هي حدود على المشرّع ألاّ يتعدّاها دون أن يعني ذلك أنّه ملزم بتطبيقها، بما أنّ العفو أكثر إيمانًا، مادامت عبارته في القرآن تتكرّر أكثر من خمسة عشر مرّة، وما دامت التوبة مجيزة للعفو في شأن كلّ مخالفة من المخالفات المرتكبة، كما يبدو ذلك في الآية 16 من سورة النساء والآية 38 من سورة المائدة والآية 25 من سورة النور.[12]
هذه التحليلات ونظيرتها المتعلّقة بضعف البعد القانوني في القرآن الكريم، ممّا ساقه الصادق بلعيد في شأن الحدود القرآنيّة، كما في شأن الأحكام[13] والفرق بين أحكام الفقه التي تقسّم حسب الوجوب والتحريم والندب والكراهة مقارنة بحسم القاعدة القانونيّة وإلزاميّتها، تساهم في إبراز الطبيعة الأخلاقيّة لما هو معدود في القرآن الكريم قانونًا أو شريعة ذات مضمون سياسيّ، وهو تحليل له في تصوّرات الإسلام ما يبرّره حين ينظر إليه هادفًا إلى إصلاح النفس، طامحًا إلى تكوين الإنسان الأعلى الذي بصلاحه يصلح المجتمع. وهذا المدخل في الواقع قد يجد سنده اتساع معنى القرآن الكريم.[14]
فهل يمكن التسليم، من منطلق هذه المعطيات السابقة الكاشفة لإيديولوجيّة الموافقة بين الشريعة ونظريّة الحقّ الدولتيّة، بقدرة الشريعة حسب هذا الفهم على تحقيق الديمقراطيّة الحقّة؟ يقول الإسلاميّون إنّ الديمقراطيّة الحقة هي التي تتولّد من التصوّر الإسلاميّ المخصوص للسيادة الذي سمّاه لهم المودودي بلفظ "الحاكميّة"،[15] وهي العبارة التي تمثّل الخلفيّة النظريّة لمعارضتهم لنظريّة الدولة، بنظريّتهم الخاصّة في الحكم الإسلاميّ، ويقرّرون أن تطبيقها الواقعي السياسيّ يكون عبر الخلافة البشريّة، المتقيّدة بتطبيق الشريعة. لكن إذا كانت الحاكميّة تعني ملكيّة اللّه للسلطة، وأنّ البشر مجرّد مستخلفين عليها، يعبّرون عن الإرادة الإلهيّة ما التزموا بتطبيق الشريعة، ينتخب بالبيعة منهم أفضلهم لتولّي الإشراف عل هذه المهمّة سياسيًّا، ويبرز منهم أعلمهم لتولّي ترجمة الشريعة، أفلا يوشك التباس معنى الشريعة، إذا تراكب مع هِنات الانتخاب، مع هِنات التمييز بين العلماء وغير العلماء، في مضاعفة قدر التهديد على الحريّة والمساواة اللذين ما تنفكّ الديمقراطيّة في مجالها الأصليّ تعاني منه؟ وإذا كانت الديمقراطيّة في حدّ ذاتها مفهومًا شديد الالتباس، نتيجة تعدّد تشكيلاته التاريخيّة، أفلا يزيد تأكيد أنّ النظام الإسلاميّ يقدّم شكلها الأصفى التباسًا على ذلك الالتباس الأوّليّ، مادام تصوّره بدوره حاملاً لهذا الالتباس؟
لا يعني هذا مطلقًا تعارض الإسلام مع الديمقراطيّة، فالأمر في النهاية مرتبط بنوع تمثّلنا لمدلوله ومحتواه، فبالعودة إلى تعريف فالاديي يمكن أن نعثر في فهم متحرّر من سلطة الأنموذج التأويلي السنيّ المهيمن على مداخل لتجسيد قيم الديمقراطيّة من الإسلام، أليس الإسلام في جوهره، طموحًا إلى تساوي البشر بتحريرهم من كلّ أشكال الاستعباد، كما قد تكشفه قراءة عقيدة التوحيد فيه من منظور تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، أو من المنظور التأويلي المنفتح على التفسير الاعتزالي والصوفي الذي يعترف بالإنسان منطلقًا وغايةً للدين؟ وإذا كانت الشرعيّة الديمقراطيّة لا تقنع بكلّ وسائل التسييج المؤسّساتيّة المانعة للاستبداد بداية بالانتخاب، فإنّ التعويل على النظريّ الأخلاقيّ في الإسلام، قد يبقينا في فلك فكرة روسو، نرى الديمقراطيّة حكمًا لا يصلح إلاّ للآلهة.
[1] حسن البنّا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا، مصر، المكتبة التوفيقيّة، د.ت.، ص 250. كما يمكن النظر في كتابات أعلام الصحوة الإسلاميّة، تلامذة البنّا وورثة فكره، فهمي هويدي، وعبد السلام ياسين، وفتحي يكن، وغيرهم.
[2] فهمي هويدي، مقال: الإسلام والديمقراطيّة، المستقبل العربيّ، عدد 168، 1992، ص 10، ويوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، القاهرة/ بيروت، 1997، ص 32
[3] حول هذا الاستنتاج المتعلّق بواقع الديمقراطيّة اليوم يمكن العودة إلى الكتابات التالية:
-Luciano Canfora, L’imposture démocratique, du procés de Socrate à l’élection de G.W.Bush, Paris, Flammarion, 2003
-Pierre Rosanvalon, La Démocratie inachevée, histoire de la souveraineté du peuple de France, Paris, Gallimard, 2000
-Hassan Khalil, Démocratie: le grand dégout?, Liban, Dar-alfarabi, 2011
[4] Ben Achour Yadh, politique, religion et droit dans le monde arabe, (1996), p 16
[5] فتحي عبد الكريم، الدولة والسيادة في الفقه الإسلاميّ، دراسة مقارنة، 1984، ص163 وما بعدها
[6]Kelsen Hans, théorie générale du droit et de l’etat, (1997), p 224
[7] في هذا السياق، يعتبر ريمون آرون (Raymond Aron) أنّ الأنظمة التمثيليّة البرلمانيّة الحاليّة ليست إلاّ أوليغارشيّات. انظر كتابه
Démocratie et totalitarisme, Paris, Gallimard, 1965, pp 131-140
وهو عين النقد الموجّه إليها من قبل لوسيانو كانفورا (Luciano Canfora) في كتابه:
L’imposture démocratique, du procés de Socrate a l’élection de G.W.Bush, Paris, Flammarion, 2003
[8]Cedric Polère, Millenaires, le centre Ressourses retospectives du Grand Lyon, avril, 2007, p 17
[9] في هذا السياق، يقول بودوان دوبري (Baudouin Dupret) عن السنهوري إنّه المهندس الأكبر لعمليّة تقنين القانون العام الإسلاميّ في الشرق الأوسط.
Baudouin Dupret, La Charia aujourd’hui, usages de la reference au droit islamique, La découverte, 2011, pp 13-14
[10] ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، 1992، مادّة (شرع)، ص 175
[11] أبو الحسن ابن فارس، معجم مقاييس اللغة العربيّة، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت، دار الجيل، ط1، 1991، مج 3، ص 262. ومحمّد علي التهانوي، كشّاف اصطلاحات الفنون، بيروت، دار صادر، د.ت، ص 759- 760. ومحمّد علي الصابوني، صفوة التفاسير، بيروت، دار الجيل، ط1، 2003، مج 3، تفسير الآيتين 13 و21 من سورة الشورى، ص 126، 129. وانظر أيضًا، أمين الخولي، مقال: شريعة، دائرة المعارف الإسلاميّة، مركز الشارقة للإبداع الفكريّ، ط 1، 1998، ج 20، ص ص 6198- 6229
[12]Ferjeni Med Cherif, Le politique et le religieux dans le champs islamique, 2005, pp 67-116
[13] Belaid Sadok, Islam et Droit..,2000, p 59
[14] انظر: ألفة يوسف، تعدّد المعنى في القرآن، دار سحر للنشر، ط2، د.ت.
[15] يمكن العثور على هذا التأكيد في كتب جميع منظّريهم دون استثناء، لا سيما في كتابي القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، والسياسة الشرعيّة في ضوء نصوص الشريعة الإسلاميّة ومقاصدها، القاهرة، مكتبة وهبه، 1998