الدين التوحيدي واللغة

فئة :  ترجمات

الدين التوحيدي واللغة

الدين التوحيدي واللغة[1]

الدين التوحيدي واللغة

إن التعاون التاريخي الطويل بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، وجوارهم الجغرافي حول البحر الأبيض المتوسط، والتداخل بينهم في كل مكان، في عالمنا ذي البنيات المتجانسة؛ أي في هذا العالم الواقعي الذي يسخر من كل خلط تاريخي، يخلق- شئنا أم أبينا -مجتمعا فعليا بين اليهود والمسلمين والمسيحيين؛ وذلك حتى لو كان هناك سوء فهم كبير يفصل بينهم، وحتى لو كان بينهم تعارض.

فسواء أردنا ذلك أم لا! لكن لماذا لا نريد ذلك؟ لماذا سيتم إنشاء هذا المجتمع ضد إرادة أعضائه؟

إن كل واحدة من هذه العائلات الروحية قد علَّمت النزعة الكونية للعالم أجمع، حتى وإن لم تتفق تتفاهم دائمًا على كيفية التعليم. فثمة صداقة بين مصائرنا الأساسية.

إن الدين التوحيدي ليس حسابًا إلهيًا، بل إنه هبة، ربما خارقة للطبيعة؟ أن ترى إنسانا مشابهًا لإنسان آخر بشكل مطلق في ظل تنوع التقاليد التي يعمل كل واحد على استمرارها. إنه مدرسة محبة الأجانب ومناهضة العنصرية، بل إنه أكثر من ذلك: إن الدين التوحيدي يرغم الآخر على الدخول في الخطاب الذي سيوحده معي، وهذه نقطة بالغة الأهمية. ولمّا كان منطق الهيلينيين يؤسس، كما نعلم، للاتفاق بين الناس، فإن هناك شرط لذلك: يجب أن يوافق المحاور على الكلام، وأن يتم جلبه إلى الخطاب، غير أن أفلاطون يقول لنا في بداية "الجمهورية" أنه لا يمكن لأحد أن يجبر شخصًا آخر على الدخول في خطاب. ويقول لنا أرسطو إن الإنسان الذي يبقى صامتا يمكن أن يرفض إلى أجل غير مسمى منطق عدم التناقض. إن الدين التوحيدي، بوصفه كلمة الله الواحد، هو بالضبط الكلمة التي لا يمكننا ألا نصغي إليها، والتي لا يمكننا أن لا نستجيب لها. إنها الكلمة التي تجبرنا على الدخول في الخطاب؛ وذلك لأن أصحاب الديانات التوحيدية جعلوا العالم يسمع كلمة الإله الواحد، والتي يمكن للنزعة الكونية اليونانية تحقيقها في الإنسانية وتقودها إلى الاتحاد شيئا فشيئا. إن هذه الإنسانية المتجانسة التي تتشكل تدريجياً أمام أعيننا في خوف وقلق، والتي بدأت سلفا في إظهار تضامنها من خلال التعاون الاقتصادي، نحن أصحاب الديانات التوحيدية من أنشاها! إذ ليس فعل القوى الاقتصادية هو الذي خلق التضامن الفعلي الذي يوحّد الأعراق والدول في جميع أنحاء العالم، بل العكس هو الصحيح: إن قدرة الدين التوحيدي على جعل الإنسان متسامحًا مع الإنسان الآخر وعلى دفع الإنسان الآخر إلى الجواب، هي التي جعلت اقتصاد التضامن هذا ممكنا في كليته.

إن الإسلام- هو قبل كل شيء- أحد العوامل الرئيسة في هذا التشكل للإنسانية. فقد كانت مهمته شاقة ورائعة؛ إذ تجاوز منذ زمن بعيد القبائل التي ولد فيها، وانتشر في ثلاث قارات، كما وحّد عددًا لا يحصى من الشعوب والأعراق. لقد فهم الإسلام أفضل من أي أحد أن حقيقة كونية أفضل من الخصوصيات المحلية. فليس من قبيل المصادفة أن تَذكُرَ موعظة تلمودية أن إسماعيل-رمز الإسلام-هو أحد أبناء التاريخ المقدس النادرين الذين صيغ اسمه وأعلن عنه قبل أن يولد، كما لو كانت وظيفته في العالم قد تم التنبؤ بها منذ الأزل ضمن اقتصاد الخلق.

لم تتوقف اليهودية عن الانحناء أمام عظمة هذا الإنجاز، وأمام هذا التعاون السيادي في عمل التوحيد، بوصفه الهدف والمسوغ لكل توحيد خاص؛ ذلك أن أحد أعظم شعرائها ولاهوتييها، وهو يهودا اللاوي (Jehouda Halévy)، الذي لا يمكنه-بوصفه يهوديا-أن ينكر حق اليهودية المكتسب في هذا المجال بكل تأكيد، كان يكتب بالعربية وقد أشاد برسالة الإسلام.

إن هذا الاعتراف حي في كل يهودي جدير بهذا الاسم؛ لأن اليهودي، ولعل هذا أحد تعريفاته، هو الإنسان الذي تتركه هموم الساعة وصراعاتها متاحًا في كل وقت لحوار على الأعالي، وهو حوار له على الأقل نفس الأهمية الحاسمة التي تحظى بها الصراعات والهموم اليومية، غير أنه ليس من اللائق أن لا يجد مثل هذا السلوك صدى له عند نفس أولئك الذين أنجزوا-بكثير من العظمة-المهمة التي من أجلها جاءت اليهودية بالرسالة الأولى.

إن هذا ما أردت قوله في اجتماع دعيت إليه من قبل الطلاب اليهود- من قبل رجال دين شعب رجال الدين- للتعبير عن موقف اليهودية في مواجهة الإسلام. إن ذكرى الإسهام المشترك في الحضارة الأوروبية خلال العصور الوسطى، عندما اخترقت النصوص اليونانية أوروبا من خلال المترجمين اليهود الذين ترجموا الترجمات العربية، لا يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام إلا إذا كنا لا نزال اليوم نؤمن بقوة الكلمة دون خطابة أو دبلوماسية. إن اليهودي منفتح على الكلمة، ويؤمن بفعالية الحقيقة دون أن يتخلى عن أي من التزاماته.

قد تقولون: إنها أماني تقية وكلمات سخية! أعلم أنه لم يعد بإمكاننا أن نؤمن بالكلام؛ لأنه لم يعد بإمكاننا التكلم في هذا العالم المضطرب. لم يعد بإمكاننا أن نتكلم؛ لأنه لم يعد بإمكان أحد أن يبدأ خطابه دون أن يشهد على الفور بشيء آخر غير ما يقوله. يترصد التحليل النفسي وعلم الاجتماع بالمخاطبين. فمن خلال إدانتنا للغموض، يبدو أننا نقوم به بشكل مسبق.

لكننا نحن اليهود والمسلمين والمسيحيين- نحن أصحاب الديانات التوحيدية–هنا لنلغي السحر، ولنقول كلمات تنتزع نفسها من السياق الذي يشوهها، ولنقول كلمات تبدأ من قائلها؛ وذلك حتى نستعيد مجددا الكلمة الحاسمة؛ أي الكلمة النبوية.

[1]- Emmanuel LEVINAS, Difficile liberté: Essais sur le judaïsme. Albin Michel, Paris, 1976, pp. 268-271