الدّين بين الفلسفة واللاهوت: أديب صعب، جون هيك، والتعدديّة الدينيّة


فئة :  مقالات

الدّين بين الفلسفة واللاهوت: أديب صعب، جون هيك، والتعدديّة الدينيّة

مـقدمـة:

لم يـستوقـفني في كتاب الفـيلسوف اللبناني أديب صعب "وحدة في التـنوع"، ما يمكن أن أصفه بالفصل الأخير من أطروحته الفـلسفية حول ماهية الدين وتعددية الأديان فـقط؛ بل استوقـفني، أيضًا، الانطباعات الإيجابية العـديدة، والترحيب المنقطع النظير بمؤلفـاته، والثـناء على أطروحتـه، بدءًا من الثـلاثية؛ (الدين والمجتمع)، (الأديان الحيّة)، و(المقـدمة في فلـسفة الدين). ومما يسترعي الانتباه؛ إجماع كـافة الذين عـلَّـقوا على كـتابات صعب، (والذين تَـشغـل كلماتهم نصف حجم كتاب "وحدة في التـنوع" تـقريبًا)، واتّـفاقهم المحموم على ريادية أطروحة صعب، وأصالتها غير المسبوقة في العالم العربي، لدرجة أنَّ المعلّـقين من الفلاسفة، رحّبوا به فـيلـسوفًا حقـيقيًّا، وأصيلًا، ومبتـكراً؛ كما رحب به المعلّـقون من اللاهوتيـين؛ لاهوتـيًّا حقًّا، على حدّ سواء.

ما أثـار استغرابي في أطروحـة صعـب: أنه ومن بين العديـد من المراجع التي يستخدمها في كتبه، ومن بين العديد من الفلاسفة واللاهوتيـين الذين يستوحي منهم، ويعيد القارئ إلى أفكارهم، لا يمكن للـقارئ أن يلحظ شاهدًا واحدًا، أو نقاشًـا لأيّ من كتـبِ أو أفـكارِ فيلسوف ولاهوتي أديان بريطاني، مهم ومعروف جـدًّا في العالم المعاصر، هـو (جـون هـيك)، والذي من المستغرب جـدًّا لمن أنهى دراساته العليا في جامعة لندن في بريطانيا، مثـل: أديب صعب، أن لا يكون قد سمع به، أو قرأ له شيئًا، أو اطلع على أطروحاته المهمة، وإن اختلف المرء معها, في مجالي؛ الفلسفة، ولاهوت الأديان على حدّ سواء.

أودّ في هـذه الدراسة، أن أعرض، أولًا، أطروحة صعب كما يمكن أن نلخصها من قـراءة كـتبه، وأن أقـدّم، ثانيًا، أطروحة (جون هيك John Hick) الفلسفية عن لاهوت الأديان.

لا يبـدو أنَّ العالم العربي، أو على الأقل، أولئك الذين أغدقوا على أديب صعب ومساهماته المديح المفرط، والتبجيل المبالغ فيه، قـد اطلع على كـتابات جون هيك بعد، مع أنَّ أطروحته عن الدين وتعددية الأديان، شغلت الأوساط الغربية الفلـسفية، وأثارت الكثير من اللغط في الأوساط العالمية اللاهوتية، في العـقدين الأخيرين من القـرن الماضي. إن سبب عرضي لأطروحة هذا الفيلـسوف (التعدّدية الدينية) هـو أن أبيّن، بالمقارنة والموازاة، أنَّ عدم ذكر صعب جون هـيك في أطروحته، وعدم تعاطيه مع أفكاره فيها، قـد يعود إلى أنَّ أطروحة صعب في جوهرها، ما هي إلا تكرار واستـقاء؛ بل وترداد، يكاد يكون ببغائي، أحيانًا، لأطروحة جون هيك، وإن كان نقـل صعب لنظرية الأخير إلى العربية أمرًا لم يسبـقه إليه أحد أقـرانه من الفـلاسفة العرب من قبل.

أديب صعب وماهية الديني في الأديان:

يحرص صعب في بداية تحليله للدين ولتـاريخ نـشوء الأديان، على عدم تسمية منهجه بالبحث المقـارن للأديان؛ إذ يعتـقد أنَّ كلمة (مقارن) تدل على تـفضيل دين معـّين على الأديان الأخرى، وتـقيـيمها قياسًا له؛ لذلك يدعو منهجه البحثي بــ(الدراسة التـاريخية الوصفية)، التي تتمحور حول وصف تطور الأديان التـاريخي في موازاة بعضها البعض، ومن ثم، استخلاص النـقاط المشتركة الأساسية التي تُـجمِع عليها خطابات تلك الأديان، بصفتها ظاهرة تاريخية بشرية[1].

يرى صعب أنَّ المنهج التحليلي الوصفي للـتاريخ الديني، يكـشف للباحث أنَّ جوهر الأديان، هو أوَّلًا، فكرة وجود فـساد في حياة الإنسان، وأهمية وضرورة وإمكانية إصلاح هذا الفـساد، وأنَّ النـفس البشرية والعالم حقلان للصراع بين الخير والـشر[2]، وهو، ثـانيًا، فكرة إمكانية خلاص الإنسان من فـساده، بواسطة طقوس تمثــل الممارسات الدينية، ومعتـقدات تمثّل المبـادئ العـقـدية.

إنّ الدين هو موقـف الإنسان مما يعتــنقه من طقوس ومعتـقدات، تعكس أخلاقـه وقـيمه في الحياة، وباستـثـناء مسألتي الخلق ونهاية العالم؛ فالديـن مجرد "سعي دائم لتحقيق الـقـداسة في الذات البشرية، اقــتداءً بمؤسسي الأديان ومعلّميها"[3].

لكن، أين الله من هذا التعريف السابق؟ يقول صعب: إنَّ فكرة وجود حقـيقة مطلقة (لله/الآلهة)، أمر محوري في الـدين؛ إذ يتحدث كل دين عن مثــل تلك الحقيقة، إما بلغة تعددية أو بلغة توحيدية[4]. أمّا المقصود بفكرة "الحقيقة المطلقة"، سواء تعديدًا أو توحيدًا، فهـو أنَّ ذات الإنسان تــنتمي لمبدأ سامٍ، ولا يمكنها الانعتـاق وتحقيق الـقداسة بمعزل عن افـتراض هذا المبدأ[5]. في المحصلة، تـتحدث جميع الأديان، برأي صعب، عن نفس الافــتراض لحقـيقة قَــبليّـة (apriori)، أو لمبدأ مزعوم، وهي لا تختـلف في رؤيتها لهذا المبدأ، وإنما فقط في درجة وطبيعة اهـتمام بعض الأديان، بالحديث بلغة شخصانية عنه (اليهودية، والمسيحية، والإسلام)، أو بالحديث عنه بلـغة لاشخصانية عند أديان أخرى.

الـدين، بالدرجة الأولى، هو ظاهرة بـشرية تـاريخية، لها عـلاقـة بنـيوية وتكويـنية بحياة الإنسان، وعلاقـته السوسيولوجية والوجودية بوجوده التـاريخي، يظهر هذا الجوهر المركزي البـشري (Anthropocentric) للدين، برأي صعب، في اشـتراك جميع البـشر على اختـلاف أديانهم في التـساؤل حول أمور مشتركة، تتعـلق بالأصل البـشري، وأصل الـوجود، وبالمصير النهائي بعد الموت، وبهدف الحياة، وبالثـواب والعـقاب، وبوجود الـشر. والدليل الأكبر على أنثروبولوجية الدين؛ هو أنَّ النـاس تسأل تلك الأسئلة، مهما كان موقـفهم من الله، وكأنها أسئلة لا تـقوم الإجابة الدينية عليها على فكرة "الله" بالدرجة الأولى؛ بل على (تعـلُّق تلك الأسئلة بأصل الحياة، ومصيرها، ومعناها، وبكل الـشؤون الأساسية الأولى والأخيرة في الوجود)[6]. يسمّي صعب هذا النوع من التـديُّـن بـ"الديـن الطبيـعي"، ويقول صراحةً: إنَّ نظريته الفلسفية الدينية، تـدور حـول هذا النـوع من التعبـير البـشري الفطري عن سعي الإنسان للأفـضل، وهو يعتــقد أنَّ أيّة فلـسفة عـامة عن الدين، هي فلـسفة عن الدين الطبيعي في الجوهر. وأكثر من ذلك، لا يـشكل الوعي الديني المرتبط بالإنسان وسلوكه الديني، منطلق الدين الطبيعي وفلـسفـته فـقط؛ بل يشكـِّل، أيضًا، منطلق أديان الوحـي، وأساس الديـن بحـد ذاتـه.

من هنـا، فإنَّ صعب يـصرُّ على أنَّ دراسة تاريخ الأديان، هي شرط معرفي ومنهجي لفلـسفة الدين[7]، بكلماتٍ أخرى، أن ندرس ماهـية الدين فلـسـفيًّا؛ يعني أن نستوعب مظاهره الحياتـية، وإسقاطاتـه الوجودية الأنثروبولوجية، لا أن ننطلق من فهم حقيـقة مطلـقة، توجد موضوعيًّا في العالم الخارجي؛ فالاهـتمام بالموجود الموضوعي الخارجي والـقائم بذاتـه، ينافي طبيعة الفلـسفة ذاتها[8].

على أسـاس هذا المنـطق الجمـعي، يدعو صعب إلى وحدة بين الأديان، تقـوم على استـخلاص الديـني من كل ديـن، وتلخـيصه في فهم عام يـوحـِّد الأديان، ويظهـر هذا بشـكلٍ جلـيِّ في كتـابه "وحدة في التـنوع"؛ حيث يؤسـِّس فهـمه لـوحـدة الأديان في تعـددها، على فـهم الديـن كـظاهرة تاريخية عن سلوك ووعي الإنسان الوجودي، من منطلـق أنَّ دراسة حقائـق واقـعية تتـعلّق بحياة الإنسان وهاجـسه القيـمي، تمكنـنا من تصـنيف الطـقوس والعـقائـد المختـلفة التي يمارسها ويعتــنقها الـناس، وتجعلنا نكـتــشف (الـدين) في الأديان، والواحد في المتـعدِّد[9]. وبما أنَّ (الواحد) بين الأديان هو أساس جوهرها ومعناها؛ فإنَّ اختلافـات الأديان مجرد ظروف مظهرية تاريخية (غير دينية)، قادت كل ديـن إلى تكوين صيـغ لغوية معينة للتعبـير عن الـديني فيه، وبـرغم عـدم إنـكاره لوجـود بعض الاختلافـات التي تتجاوز مجرد الفرق الـشكلي أو اللغوي بين الأديان، إلا أنه يـؤكـِّد على أنَّ أي خـلاف بين الأديان، لا يمنح لأحدها أفضلية على الآخر[10].

من هـنا، لا ينبغي على الحـوار بين الأديان، كما يرى صعب، أن يمـثِّــل سعيًا لإزالة أو لـنـفي التــنّوع الديني، أو لصـهر الناس في بوتـقة دينية واحدة، وينـبغي أن يكون الهدف من الحـوار؛ هو المضي أبعـد من الأديـان نحو الدين الكامن وراءها، ونحو ما يتماهى خلـف الأديـان، ويمثـــِّل الحقيقي خلف مظاهرها المختـلفة[11]، وهـذا يستدعي تـشكيل لاهـوت أديان تعـدّدي، يـشير إلى الدين الكامن خلف الخلافـات العقائـدية.

يـعرِّف صعب اللاهـوت بأنه: (حالة دفـاعية بحـتة عن معـتــقداتٍ دينية معيّـــنة)، ويقسم أنماط الـدفاع اللاهوتي إلى ثلاثة؛ "لاهوت إيجابي": يعرض، ويفسِّر، ويبرّر مبادئ دينية. "لاهوت سجالي": يتحدّى الأديان الأخرى. و"لاهوت فلـسفي": يبحث في المفهوم الديني المحوري خلف كل دين[12]. وفي محاولة منه للتخلي عن اللاهوت الدفاعي بـشقـّـيه، الإيجابي والسجالي، بغية الـتخلص من مغالطاتهما المتمثّــلة بتحويل الحوار الديني إلى هجوم، أو دفـاع عن هـجوم، على حد تعبـيره[13]، ويقـترح صعب حل الـنزاع بين الأديان بالاعتماد على اللاهوت الفلـسفي؛ لأنه يأخـذنا، كما يقـول، إلى الجوهر الأساسي الكامن خلف الأديان، وهو: الخلاص الـبشري، وتحسين الـسلوك الإنساني، كون الأخلاق؛ هي الجزء الأكبر من ماهية الـدين[14].

يمكن بواسطة هذا اللاهـوت الفلـسفي، أن نحقـق وحـدة في قـلب التــنوع؛ لأنَّ اللاهوت الفلـسفي، على حـد قـول صعب، يؤسّـس لاهـوت التــنوع نفـسه على ركيزة الجوهر الواحد خـلف المتــنوِّع[15].

جـون هـيك ولاهوت الأديان التـعدُّدي:

عبر مسيرته العلمية، كـرَّس جون هـيك دراساتـه لفلـسفة الديـن وعـلاقـة الدين بنظريات المعرفـة العامـة، إلا أنـه طوَّر في العـقود الثـلاثة الأخيـرة من مسـيرته المهنـية (خاصة بعد اـنتـقاله للتعليم في جامعة برمنغهام) اهتمامًا بلاهوت الأديان؛ إذ بـدأ يطور لاهوت أديان تعـدّدي كانطي الجذور (من عمانوئيل كانط)، وواقـعي المنهج (realist)، وصـفه شخصـيًّا بــ(الـثورة الكوبرنيكية في الديـن)، وتتجلّى ثـوروية نظريتـه، على حـد زعمه، في دعوتها لفـهم الدين على أساس (مركزية الحقيقي realitycentrism)، قالبًا بذلك، مرتكـزات اللاهوت المسيحي عن الأديان، رأسًا على عـقِب، باستبداله مركزية-المسيح (christocentrism)، بخطابٍ فلـسفيٍّ عامٍّ عن الحقـيقة، يدعوه هيك بــ(المركزية-الربوبية theocentrism)[16].

لا يرفض هـيك، كما لم يرفض عمانوئيل كانط، إمكانية وجود حقـيقة مطلـقة قــبلية، تتجاوز في وجودها الـذاتـي ما يـصفه ويعـقله العقل، ويـستـدل على وجوده من خلال الخبرة في العالم الطبيعي، وهو مثـل ملهـمه الفلـسفي الشهير، يرى أنَّ الحقـيقة الـقـَبلية، تـقع ضمن إطار الميتافـيزيقية، والتي لا يجب على العـقل أن ينشغل بها؛ لأنها تـقع خارج حدود نـشاطه المعرفي وقـواعد تفكيره. وبالتالي، أيّ حديثٍ عن تلك الحقيقة القـبلية، سواء كان دينـيًّا صرفًا، أو منطقـيًّا سببيًّا، لا يصيب تلك الحقـيقة بعينها؛ بل يفـترض وجودها، وضرورته المنطقية الصرفة، دون أن يحيط بتلك الحقيقة في ذاتها أبدًا، أو يتمكن من الاستحواذ عليها، وهذا لا يعني أنَّ اللغة الدينية تعجز عن التعـبـير الدقــيق عن فـكر الإنـسان العقـلي، وافتراضاته الذهنية المحضة عن هذه الحقـيقة القــَبلية المفتـرَضَة؛ فاللغة الدينية، تعـبِّر عن فكرة الإنـسان عن هذا الافـتراض، من خلال حديثها عن أعمال، وأفـكار، وقـيم الإنسان نفسه، والتي تــنقل بدورها، ما يؤلـّــِف نظام الإنسان العـقلي من آلـية معرفة وتـفكير.

من هنا، فإنَّ الدين الحقيقي، برأي جون هيـك، يقوم على أرضية معرفية، تـتَّــصف بواقعية نـقدية، تجعل المـرء يأخـذ بعين الاعتبار رمزية وأسطورية اللـغة الديـنية، المستخدمة للحديث عن فـكرة الله، أو المطلق الـقــَبلي، وتـدفعه للبحث عن هذه الـفكرة خلف، أو ما وراء، التعابـير والرمـوز والمـفردات الديـنية الحرفـية[17].

يجعلنا إدراك حـدود اللـغة الديـنية، برأي جون هيـك، نرفض أي ادعاءٍ يصدر عن أي ديـنٍ بعينه، بأنَّ لغــته أو عـقـائـده وطـقوسه، تــقدِّم دون سواها، حرفـيًّا وكـليًّا، الحقـيقة المطـلقة بعيـنها؛ إذ لا يوجد دينٌ قـادرٌ على فـعل ذلك، وبالتالي، لا يمكن رؤية المطلق نـفسه، ولا الاستدلال على الفكرة الناظمة لمعرفتـه في العقـل البـشري، إلا بالتـحليل التـاريخي الاختباري، الذي يمضي أبعد من الأديان نفسها، إلى البحث في الجوهر الكامن والثـابت خلف تطور لغـاتها، ونــشوء رموزها الأسطورية المخـتـلفة.

يؤسس جون هيك على الأرضية الفـلسفية المذكورة في الأعلى، لاهـوت الأديان التـعدّدي الخاص به في كتاباتـه اللاحقـة، ويرفض أن يـقبل الفـكرة الحداثـوية التـقـليدية عن الأديـان، كعامل تـقـسيم وتـفرقـة بـين البـشر، بسبب تضارب وتــنازع عـقـائدها المتـناقـضة مع بعضها البعض، سعيًا وراءَ إثـباتِ احتكارِ الحقيقة والمرجعية لها[18]. لدحض هذه الـفكرة، يدرس جون هيـك أصول الأديان التـاريخية، ويدعو للـنظر خلـف فـروقـات الأديـان إلى الظاهـرة الجمعية المشتركة بينها، والـتي تمثـل "الـحالة الـروحية أو الـوضع الـوجودي، الذي يـشكله تجاوب الإنـسان في الحاضر مع الحقـيقة المقـدسة الـسامية"[19]، وتـبين دراسة الـتـداعيات الـتـاريخية لتــلك الحـالة الـروحية لهـيك، أنَّ كل التــقالـيد الدينـية ما هي إلا تعبـيرات متـنوعة عن ممارسات وسلوكيات حـياتـية، يـُـعبَّر عنها بطقـوسٍ وتعاليـم ومفـرداتٍ لغـوية، تختـلف بتـفاوت السياق الحضاري والأنثـروبولوجي الخاص بكل جماعة دينـية على حدة.

المسألة، هنا، فلــسفـية إبستـمولوجية بامتـياز؛ فـبالنـسبة لهيـك، تــتَّصف الدراسة التحليلية، بأنها لا تستــنتج تـعريـفًا مسـبقًا عن "الحقـيقي المطـلق" (الذي يصبو إليه الإنسان لتحقيق خلاصه)، من خلال تـفـسير الأديان على قــاعـدة هذا التـعريف ذاتـه. وتـتـبع الـرؤيـة الوصفية لـتـعددية الأديان منهجًا استدلالــيًّا (deductive)، على حـدّ زعمِ هيـك، وليس منهجًا استـقرائيًّا (inductive)؛ أي تـنظر لـتاريخ حـياة الإنـسان الدينـية، وتصـف مظاهـرها ومعانــيها، ثـم تـقارن بين مظاهر الـتديُّـن المختـلفة عند البـشر وبعـدها، وفي الختـام، تَخلـص إلى ماهـية الحقيـقة الديـنية التي يصبو إليها الإنـسان لخلاصه.

تستـدل المدرسة التـعدّدية، على حـدِّ زعمِ هيـك، ماهـية الدين، من دراسة وتحليل الـتاريخ الوضعي، ولا تـستقرئه على قـاعدة فـهمٍ مسبـقٍ لـتـلك الماهـية من خلال تـفـسيرٍ معيـنٍ للـتاريخ الديـني، والذي يقـوم على الـفهم التــنزيلي نفـسه[20]، ويبـين المنهج الاستـدلالي أنَّ الديـني في الأديان، هـو؛ الافـتراض القَـبلي العـقلي، الذي يفـرز سلوكًا وأخلاقًـا محــددة.

ما هـو الديـن إذن؟ إنه، برأي هيـك: "فهـمٌ للكون، وطريقـة ملائـمة للعيـش فـيه كـذلك، الأمر الذي يـشمل الرجوع إلى نـظام ما وراء الـعالم الطبـيعي، أي؛ الله أو الآلهة، أو إلى المطلق، أو إلى نـظام ماورائي، أو سيرورة ماورائـية"[21]. كـيف نعرف أنَّ هـذا ما تـعنيه الأديـان بكـلمة ديـن؟ نعرف هذا من خلال دراسة تـاريخ الجـنس البـشري ذاته، فنرى هناك، أنَّ الهاجـس الـناظم لهذا الـتاريخ، هـو اعـتـقاد الإنـسان بأشـياء مقـدسـة تـسكن العالم أو تسكـنه، ورغبـته في دراستها[22].

يـبـين مجمل تـاريخ الأديـان، أنَّ فـكرة الحقـيقي، تمثــّلت بـشكلٍ فـاعـلٍ للـبشر جميعًا، وما اختـلاف تجاوب البـشر معها، إلا مجرد تـفاوتٍ في المعطيات والـظروف الـتاريخية. المهم، أنَّ هـذا الـتـوق للـتواصل مع مطلق، سيستمر في حـياة الـناس، حتى ولو وصلنا إلى مستـقبلٍ باتت فـيه أديـان الـيوم ذكرى من الماضي، ولن يعني هذا زوال الديني من الكيان البـشري؛ فالإنسان حيوان ديني بطبـيعته، يقترح جون هيك، وهذه الطبيعة؛ هي السبب الأقــوى لـتـوقـع شراكـة ووحـدة دينـية في عـالم المستـقبل، ولن تعـني مثـل تـلك الـشراكة، برأي هيـك، ذوبان التـعدّد وزوال التــنوع في طرائـق العبادة، والتعبـير عن المطلق بين الـناس. على العكس، هذا يعني؛ أنَّ التـعدّدية: هي الـدافع الأساسي وراء الـشراكة، والـتعاون، والوحـدة بين البـشر[23].

في منهجـية أطـروحة صعـب التـعدّدية:

لا يمكن لـقارئ أطروحة صعب، إلا أن يرى فيها تـبـنيًا واضحًا، وبلا تحفُّــظات، لأطـروحة تـعدّدية غربــية ومعاصرة، بـشكل عام، ولأطروحة جون هيـك التـعدّدية، بـشكل خاص؛ فكلٌّ من هـيك وصعـب، يقـدم رؤية مركزية-بـشرية للدين، وكلّ منهما يتجنــّب الحديث عن الحقـيقة الإلهية بحـدّ ذاتها، ويبرر هـيك ذلك، بالاعتماد على مفهوم كانطي للدين، ولحقيقة وجود الله. ويبرره صعب، من خلال ادّعاءه؛ أنَّ اهتمام الفلسفة واهتمامه الفلسفي الشخصي، يقـتصر على الدين الطبيعي، وليس دين الوحي. وكلا الباحـثين، أيضًا، يـدَّعي أنَّ منهجية التحليل الوصفي للدين، كظاهـرة تاريخية، تعـبر عن هواجس وجودية أخلاقـية عند الإنسان، وهي المنهجية المعرفية الأصدق والأصـحّ لفهم ماهية الديني في الدين. الأهـم من هذا: أن كليهما يفرض على النظرة اللاهوتية للديني والخاصة بالأديان، قـاعدة معرفية فـلسفية، تــماهي بشكلٍ خاطئ بين ما هو لاهوتي، وما هو فلسفي.

يتـبنّى أديب صعب فـهم جون هيـك لعلاقـة الأديـان ببعضها على قـاعـدة فلـسفة الديـن، بـدل أن يؤسِّـسها على قـاعـدة لاهـوت أديـان؛ إذ إنّه يـقع في نفـس خـطأ مُلهـمِه بتأسـيسه لاهـوت الأديـان، بحد ذاته، على قـاعدة الفلـسفة ومقـياسيتها، وبأن يفرض على الأديان فهـمًا فلـسفيًّا ومعياريًّا مسبـقًا من خارجها، عن معنى الـدين، ولا يأخـذ بعين الاعتبار الـفهم الـذاتي لكل ديـن لماهـيته، ولا اللاهـوت الديـني الذي يعـتمده كل دين، لفهم دور فـلسفة الأديان والمعنى الفلـسفي للدين؛ لذلك ينطبق على أطروحة صعب نفس النـقد الجاد الذي تعرضت له أطروحة هيـك، ألا وهـو؛ أنَّ اكـتـشاف الديـني في الأديان، لا يتم بافــتراض مقـياسٍ عـامٍ من خارج تـلك الأديان؛ بل من خـلال فـهم مفهـوم كل دين عن الـديني في ذاتـه، أولًا، ومن خـلال فـهم الموقـف الـديني لهذا الـدين تجاه الأديان الأخرى، ثانـيًا.

إنَّ الـفرق بين اللاهـوت والفلـسفة، لا يقـتـصر على مـسألة الـعام والـخاص؛ فاللاهـوت ليس مجرد فلـسفة خاصة بدين معيـّن، خاصةً إذا كانت الفلـسفة لا تـعني إلا نظرة لحقائـق تـبدأ من عـالم الإنـسان، وتــنتهي عنده فـقط، وفي هذا الأمر يصيب جورج صبرا تمامًا، في قـوله: إنّ الـفرق المنهجـي بين اللاهـوت والفلـسفة، ينسـحب حتى على اللاهـوت، في شـقّه الطبـيعي أو الفلـسفي، ولا يقـتصر على اللاهـوت في شـقّه المتعلق بالـوحي والكـشف الإلهي[24].

إضافةً إلى ما سبق، هناك فهم غير دقـيق للاهـوت، يتجلّى في اختـزال أديب صعب للاهـوت، إلى مجرَّد "لاهـوت دفـاعي"، حين يقـول: "إنَّ هـدف اللاهـوت كـله دفـاعي، وكونه دفاعـيًّا عن ديـن معيـَّن؛ يعني أنه دفـاع عن نظرة ذلك الديـن إلى الإيمان، وما تستـتـبعه هذه النظرة من أفـكـار، ومواقــف، وعـقـائد، وطريـقة حيـاة"[25]. يخطئ صعب في فهـمه للاهوت، على الأقــل فيما يتعلق باللاهوت المسيحي؛ فالجانب الـدفاعي، يمثّــل فـرعًا واحدًا فـقط من فـروع عـلم اللاهـوت المسيحي المتعددة، وهناك فـروع لاهوتـية معرفـية، لا تـعنى بمـقـارنة العـقـائـد الإيمانـية، بعـقـائـد مضـادة خارجيـة، ولا تهتـم بإقــناع من لا يؤمنـون بتـلك العـقـائـد بها.

اللاهوت، أيضًا، رسـالة عن جماعة الإيمان، مثلما هو رسالة موجهة لهذه الجماعة، كي تـفهم نفسها وتعيد إصلاح ذاتها، على ضـوء إيمانها بكـشـف الله الـثالوث الـتاريخي لـذاته بالمسيح، وهناك فــروعٌ في علـم اللاهـوت تـدرُس الفـكر الإيماني المسيحي بحـد ذاتـه، وتـتعـمّق في تـفسيره، وتطوير لـغته، ونـقد خطـابه، لا بغرض الدفـاع عنه، ولا بـهدف تـقـيـيمه؛ بل بغرض تعميق بـُعدِهِ الشـهادي والإعلاني، المتـعلّق بمحتواه الإسراري، هناك، حـتمًا، لاهـوت دفـاعي (Apologetic Theology) في المسيحية، ولكن هـناك، أيضًا، لاهـوت نظـامي، مثـلًا، يدرس جدوى ووضوح وانـسجام العـقائـد اللاهوتـية المسيحية مع بعـضها البعض في علاقـتها الـداخلية العـضوية، وليس بالضـرورة في علاقــتها الخارجية بفلسفات، وأطروحـات دينـية وثــقافية عـامة، لا تـتعلق بتـلك العـقائد بعينها، مع أنه يأخذ تـلك العلاقـة مع الخارج على محمل الجـد، ويـقـيِّم ما إذا كان اللاهوت على عـلاقـة سـليمة وأمـينة لجوهـره مع الخـارج أم لا.

صحيح أنَّ أديب صعب يحاول أن يوسـِّع معـنى كلمة (دفـاع/دفـاعي)، بالـقول: إنَّ اللاهـوت لا يتحدّى ولا يجادل فقط؛ بل يبحث، ويـفسـّر، ويعرض مبادئـه، ومبادئ الآخرين، إلا أنَّ كلمة (دفـاع/دفـاعي)، لا تحتمل، بحدّ ذاتـها، مثـل هذا التوسيع الاصطلاحي؛ فهي ليست فضفاضة، لتـحتمل أكـثر من معناها المتعارف عليه، كما أنَّ مصطلح (لاهوت دفـاعي) مُـتخَـمٌ بالدلالات السلبية المسبـقة الـتراكم، مما يحتِّم على من يستخدمه للحديث عن اللاهوت بالمُجمَل، أن يسهب في شـرح مقـاصده، ويبـرّر استخدامه الاصطلاحي بشـكل مقــنع وكافٍ، يـبتعد عن الاختـزالية غـير المقـبولة علـميًّا.

يـبقى في النـهاية، أن ننـوّه إلى التـساؤل المـشروع عن مدى صحة افـتراض كل من صعب وهيـك، بوجود ديـنٍ ناظمٍ خـلفَ الأديـان يُـلخّصها؟ ألـيس هذا الافـتراض بحدّ ذاتـه، فرضًـا فلـسفيًّا ودوغـمائيًّا، أقــرب للتــنزيل، وحتى لو كان تــنزيلًا ذا أهـداف نبـيلة، لا استـقصائية ولا تـفضيلية؟ أليس في افـتراض إمكانية استخلاص ماهـية واحـدة جوهـرية من كل الماهيـات الدينـية المتــنوعة، اختـزالًا للتـنوّع أو تهمـيشًا للتـعدّدية، وإن كان هـناك اعـتراف بالتـعدّد والتــنوّع، وإدراك له من حيـث المـبدأ؟ هل من المصـيب أن نـرى تـلاقي الأديان في جوهر قَـــبْلي مُسبَـق الافـتراض؟ ألـسنا بذلك نـقرأ تـاريخ تطور الأديان، نـفـسه، بنـاءً على مفـهومنا الـمزعـوم للدين، على الرغم من ادعـائنا أنَّ هذا الـمفهوم؛ هـو خلاصـة قـراءة الـتاريخ، وليس منطلـقها؟[26].

ختـامًا، من حـقّ أديب صعب علـينا: (أن نعترف بجهده الـفلسفي الـممَّيز، واجتـهاده الـفكري الـرصين، ومن حـقه علينا، أن نعترف بأسبقـيته في طـرح مـسائل هـامة عن فلـسفة ولاهـوت الـدين في الـعالم الـعربي، ولربما لا يخطئ جورج صبرا في وصف ما قـدمه صعب للـعالم العربي بـفلـسفة سابـقة لأوانها)، إلا أنَّه من حقـــنا، ومن حـق الموضوعية والأمـانة العـلمية على صعب، أن يـبـين للـقارئ الـعربي؛ أنَّ أطروحتـه ليست نظرية جديدة في محيط الفلـسفة ولاهـوت الـدين العالميين؛ بل هي تـردَادٌ أمـين، وترجمة لإحـدى تــفاسير تـلك الأطـروحة التـعدّدية، المـذكورة بلـغة يفـهمها الـشرق العربي.

وإنْ كان صعب يعتــقد خلاف ذلك، فالأحرى به، أن يـبين لنا الفـرق الفعلي بين أطروحته، وأطروحة هـيك، وفي كِلا الحالتـين؛ أي سواء أقــرَّ صعب باعتـماده الوثـيـق على هيك، أو بتضاده معه في الطرح؛ فإنَّ في قيام صعب بأيّ من هــذين الأمـرين، فيه الكـثير من الـفائـدة للـقارئ والبـاحث العربي؛ إذ إنـه يُعـلِّم هـذا الأخـير، أن ينظر للـفكر العربي في علاقــته بالـفضاء الـفكري الـعالمي الواسـع، ويقـول للــباحث الـعربي، الذي يحب أن ينـمّي اهـتمامه بالـمدرسة الـتي تـبناها صعب: إنَّ عليه أن يعود إلى المنابع الأصلية، الأقــدم والأسـبق، لها، علّـه/علّها في المحصـلة، يكوِّن رأيه/ها الـنقـدي الـعلمي الخاص، ولا يكتــفي بمساهمة صعب، ولا يعـتبرها نهاية بحد ذاتـها. الأمر الذي أوقِــنُ أنَّ أديب صعب، نفـسه، سيوافـقـني على أهميتـه.


[1] أديب صعب، الأديان الحية: نشوؤها وتطورها، دار النهار للنشر، بيروت، 1993م، ص ص 9-10، ص 199-223.

[2] المصدر السابق نفسه، ص 199- 201.

[3] المصدر نفسه، ص 215.

[4] نفسه، ص 215 وما بعدها.

[5] نفسه، ص 217.

[6] أديب صعب، المقـدمـة في فلـسفة الديـن، دار النهار للنشر، بيروت، 1994م، ص 10.

[7] المصدر السابق نفسه، ص 11. للاطلاع على تفـنيد هذا الاعتقاد، انظر: جورج صبرا، فلسفة سابقة لأوانها، وحـدة في التـنوع: محـاور وحـوارات في الفـكر الدينـي، أديب صعب،دار النهار للنشر، بيروت، 2003م، ص 237-242، ص 238-240.

[8] أديب صعب، المقدمـة في فلـسفة الديـن، ص 88. "إذا استثنينا الإصرار على أنَّ الفلـسفة تعـبِّر عن حقائـق، فلا يجـوز أن نفـهم بالحقـائـق، هنا، كيانات موضوعية قائـمة في العالم الخارجي؛ بل يجب أن نفهم بها، الحقائـق المنطقـية المتعلـقة بكل عـلم أو نـشاط من علـومنا أو نشاطاتـنا".

[9] أديب صعب، وحـدة في التـنوّع، ص 10.

[10] المصدر السابق نفسه، ص 30.

[11] المصدر نفسه، ص 32.

[12] نفسه، ص 96- 98.

[13] نفسه، ص 98.

[14] نفسه، ص 99.

[15] نفسه، ص 101.

[16] لن أدخل في تضاعيف فلسفة جون هـيك الدينية، والجذور الكانطية الواقعية للاهوته التعددي عن الأديان؛ لضيق المساحة هنا. للاطلاع على هذه الجوانب، الأساسية والضرورية لفهم فكر هـيك العام، يـُنصَح بقراءة:

Hick, Faith and Knowledge, 2end ed. London: The Macmillan Press, LTD. 1988.

وللاطلاع على تحليل وتقديم جيد لفكر جون هيك الفلسفي واللاهوتي، انظر:

Gavin Hayman, The Predicament of Postmodern Theology: Radical Orthodoxy or Nihilist Textualism? (Louisville & London: The Westminster/ John Knox Press, 2001), pp. 38,43; Veli-Matti Kaerkkaeinen, An Introduction to the Theology of Religions: Biblical, Historical & Contemporary perspectives, (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 2003), p p 282-293.

[17] Hick, Disputed Questions in The1ology and the Philosophy of Religion, (London: Macmillan Press, 1993), p 6.

[18] Hick, Problems of Religious Pluralism, (London: Macmillan Press, 1985), p p 28-29.

يعزو هيـك رفض مثـل هذا الطرح المذكور، إلى الفكر اللاهوتي التعددي، الذي قـدمـه ولفريد كانتويل سميث، في لاهوته الريادي عن الأديان. للاطلاع على فكر ولفريد كانتويل سميث، انظر:

Cantwel Smith, W. Towards a World Theology, London: Macmillan Press, 1981; Cantwel Smith, Religious Diversity, New York: Cross Road, 1982; C. Smith, Faith and Belief, Princeton, N.J: Princeton University Press, 1979.

[19] Hick, Problems of Religious Pluralism, p 29.

[20] المصدر السابق نفسه، ص 37.

[21] Hick, God and the Universe of Faiths: Essays in the Philosophy of Religion, (London: Macmillan Press, 1988), p 133.

[22] المصدر السابق نفسه، ص 134 وما بعدها.

[23] المصدر نفسه، ص 146-147.

[24] صبرا، فلسفة سابقة لأوانها، ص ص 240-241.

[25] أديب صعب، وحـدة في التـنوع، ص 96.

[26] يقترب المطران جورج خضر في نقده لصعب من نفس التساؤلات، المطران خضر، المعرفة المنـقذة والمحـاولـة العربـية الأولى، في وحـدة في التـنوّع، ص ص 193-197، ص ص 232-236 على التوالي.