الدين في سياق الإصلاح والتقدم: هل يؤدي الدين تلقائيا دورا إصلاحيا؟
فئة : مقالات
الدين في سياق الإصلاح والتقدم: هل يؤدي الدين تلقائيا دورا إصلاحيا؟
يُطرح سؤال واقتراح دائم عن إمكانية قيام الدين بدور في الإصلاح ومكافحة الجريمة وحماية المجتمع. والواقع أن ثمة تجارب كثيرة لنجاح التدين في حماية الأفراد والأسر والمجتمعات من المشكلات الاجتماعية، ومساعدتهم على التقدم والنجاح في الحياة. لكن هل يؤدي الدين دورًا تلقائيا في الإصلاح؟ بمعنى هل ثمة شروط ليكون التدين عاملا في التقدم والنجاح؟ والحال أن الدين عندما يُطبَّق، يصبح "تدينًا". والتدين ليس واحدًا، لكنه أنماط متعددة وكثيرة، وربما تكون أنماطه واتجاهاته ومذاهبه بعدد المتدينين؛ بعضها يخدم الإصلاح وبعضها يندرج في الفشل والجريمة.
ثمة إغراق في أنماط جديدة من التدين مليئةٍ بالفشل والغيبوبة، والنشوة الزائفة والكراهية، والموت والعذاب، والحرق والجلد، وتعطيل العمل والإنتاج والكسل... تتناقض تماما مع مقولة «الإسلام هو الحلّ»، أو صلاحيته لكل زمان ومكان، ومع الآيات والأحاديث التي تقدم الإسلام محرِّكًا للحياة، والحفاظ عليها وتقديسها والاستمتاع بها: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده»، «وكلوا واشربوا». وسأجازف بالقول، إنَّ التدين في مجتمعاتنا يشوبه كثير من الفشل والفساد، وهنا فإنه (التدين) يتحول إلى مشكلة في حد ذاته، لأنه يدمر أهم عامل في الحماية من الفشل والجريمة والخطأ، وفي التنمية والإصلاح أيضا، لأنه يعطل الضمير والمحاسبة الذاتية، ويحرف البوصلة باتجاه خاطئ ومدمِّر أيضا. ذلك أنه يمنح أصحابه غطاءً وشعورًا بالرّضا والقبول تجاه أفعال خاطئة، من القبول بالاعتداء على أموال الناس وحقوقهم والأموال العامة، والتقصير في العمل والواجبات، والشعور بعدم أحقية الأفراد والدول والمجتمعات، وتبرير الأخطاء الشنيعة بل والجرائم، وفقدان الانتماء والمشاركة، والعدائية تجاه المجتمعات والمؤسسات، والاستعلاء المرضي الشبيه بالنرجسية، وعدم الاعتراف بالخطأ بل وتبريره، وأحيانا شرعنته، والاستغراق بأوهام ونشوة زائفة ترى التدين والدين في استحضار عذاب القبر وأهوال القيامة، والتلذذ الوهمي المرضي بخيرات الجنة ونعيمها، واختصار المفاهيم والقضايا الكبرى من الكون، والحياة والموت والوجود وما بعد الموت، في خرافات صغيرة وأوهام مرضية وطفولية، تكاد تجعل الحياة والكون واليوم الآخر مشهدًا من تصورات بدائية مغرقة في البدائية، تنتمي إلى مرحلة بعيدة في التاريخ الإنساني، تعود إلى ما قبل الصيد والرعي، عندما كان الناس يدبّرون حياتهم بجمع الثمار، قبل أن يتعلموا شيئا من المهارات والعلوم والمعارف.
التدين الإصلاحي ببساطة هو الذي يساعد على النجاح في الحياة، وتحسين حياة الأفراد والمجتمعات، ويزيد مواردهم وتقدمهم العلمي والاقتصادي. ولا حاجة لله بتمتمات الناس وبكائهم وذكرهم وعباداتهم، إن لم يجعلوا حياتهم نفعا لهم وللناس، «ما يفعل الله بعذابكم»، « لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم»، «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».
وإذا كان المتدينون يعتقدون أن الإسلام يصلح للحياة وإدارة المجتمعات والدول وتنظيمها، فيجب أن يربطوه بالتقدم الذي يزيد موارد الناس، ويمنحهم مكاسب إضافية في الغذاء والتعليم والصحة والسكن والمشاركة والأمن والاستقرار، ويعلمهم كيف يزيدون مواردهم باستمرار، وينشئون موارد أخرى جديدة ومتجددة. وإذا كان الدين منهج حياة، فإنه يجب ملاحظة ذلك في أسلوب الحياة، وفي رفاه الناس واستقرارهم وتقدمهم، ولا حاجة للناس بعد ذلك بهذا النمط من الوعظ والتقريع، وقولبة الدين وحصره في حالة من التجهم والأشغال الشاقة، فلا حاجة لله ولا الناس بهذا الشقاء والعذاب، أو كما قال ابن تيمية: حسب هؤلاء من السلامة ألا يكسبوا إثما، وقد رأى الجنيد البغدادي رجلا في المسجد مستغرقا يتمتم، فقال له: ماذا تفعل يا هذا؟ قال: أذكر الله، قال له الجنيد: لقد شُغلت بالذكر عن المذكور.
يمكن عرض المسألة ببساطة كما يلي:ثمة مجموعة موارد وأولويات وقيم ومؤشرات؛ نتفق جميعا على ضرورة تحقيقها وحمايتها وإدامتها، متعلقة بالمدن والأمكنة التي نعيش فيها، والأعمال والمصالح التي تقوم عليها حياتنا ومواردنا، وهي متصلة بالخدمات الأساسية وأسلوب الحياة والتقدم المهني، وحقوق ومكتسبات العمل والضمان الاجتماعي والرعاية والسلامة، ... وتتشكل النخب والعلاقات ومنظومات العمل والقيادات والمؤسسات المنظمة للموارد والمرافق والخدمات، عبر هذه المصالح (الأمكنة والأعمال)، وليس على أساس من الدين أو القرابة، بدون رفض أو تخلٍّ عن الدين أو القرابة؛ وعلى هذا الأساس يتجمع الناس في المدن والبلدات، على النحو الذي يطور الأمكنة، ويجعلها إقامة تبعث على الرّضا والاستقرار، ويطور الأعمال على النحو الذي يحسِّن الحياة.
ما نحتاج إليه، هو أن نشكل وعينا لما نحب أن تكون عليه حياتنا، وما نحب أن نكون عليه، ثم نراجع وعينا هذا باستمرار، بما يؤدي إلى التطور وتحسين الحياة. ولا نحتاج لأجل ذلك، سوى أن نستمع لأنفسنا بدأب وصبر، لننشئ صوتا مسموعا، نسمعه نحن (المجتمعات والأفراد والأسر) والحكومة والشركات، ويلحّ علينا جميعا حتى يتحول إلى واقعٍ معيشٍ: كيف نحبُّ أن تصمَّم مدننا وأحياؤنا وطرقنا وأرصفتنا؟ وكيف ننشأ ويكون لنا فضاؤنا الذي نجتمع فيه كبارًا وصغارًا، للحوار والتشاور في قضايانا وهمومنا، وليلعب أطفالنا معا ويتعارفون؟ وكيف تكون لدينا مدارس أساسية -على الأقل- في كل حيّ، ويستطيع الأطفال أن يذهبوا إليها مشيا على الأقدام بأمان؟ وكيف تكون لدينا أرصفة آمنة وواسعة وطرق وأنظمة للدّراجات الهوائية، تجعل وسيلة المواصلات هذه منتشرة وفاعلة، وليست عملية انتحارية، ولا سلوكا يدعو إلى الخجل والسخرية؟
وكيف نتمكن من تنظيم شراكات مع الحكومة والشركات للرعاية الاجتماعية، والعناية بكبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات والتكافل الاجتماعي، وإنشاء أسواق تعاونية يسهم فيها المواطنون لتأمين السلع اليومية؟ وكيف ينظم الناس أنفسهم لحماية الاستهلاك على النحو الذي يضمن جودة عالية، وسلامة صحية وبيئية، وأسعارا معقولة ومناسبة للبائع والمشتري؟
ما يزال ثمة لبس ودمج في التصورات والمطالب والأفكار بين دور الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص. ونحتاج إلى إجماع أو أغلبية شعبية واجتماعية كبيرة حول تصور لتوزيع المسؤوليات والولايات والتعاون والشراكة والتكامل بين الحكومة والمجتمعات والأسواق. ومايزال أيضا ثمة لبس واختلاف في الموقف من دور الدين والعشيرة في الحياة الاجتماعية. وأيضا ثمة لبس ودمج بين التقدمين الاجتماعي والسياسي.
ونحتاج أيضا إلى ملاحظة حدود العلاقة والمشاركة بين المنظومة الاجتماعية والسياسية، وألا نحمل السياسة المشكلات الاجتماعية. كذلك علينا ألا نحمل الحكومة مسؤوليات المجتمع، وألا نعلق على التشريعات والقوانين كل آمالنا؛ فلن يساعد قانون الانتخاب كثيرا ولا قليلا في نظافة المدن والشوارع والأرصفة والأسواق، ولن تساعدنا الحكومة البرلمانية في الخصوصية الاجتماعية، ومواجهة الضوضاء والتلوث البصري والصوتي.
وهنا يكون التدين والبرامج والأفكار المستمدة من الدين، ليست سوى منتج حضاري واجتماعي، يعكس وعينا ومستوانا الاقتصادي والاجتماعي، ولن يمنحنا شيئا جديدا... نحن من يمنح الجماعات والاتجاهات الدينية أفكارها وبرامجها!
إن المصالح دبلوماسية إلهية منحها الله للبشر لمساعدتهم في التجمع والارتقاء، ولا نحتاج كي نعمل معا، ونتجمع لأجل العدالة والحرية والتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية وتحسين الحياة بعامة، سوى إدراكنا لمصالحنا ومحاولتنا تحقيقها؛ فإن كان التدين يساعدنا في ذلك، فهو يساعد على الإصلاح والتقدم!
وفي هذا السياق؛ استحضار الدين وتطبيقه وتوظيفه، يمكن أن نلاحظ أن رجال الأعمال والمسوقين يفهمون احتياجات الناس أكثر من التنمويين. ولذلك، نرى سلعا ومنتجات تجارية رائجة أكثر مما نرى منتجات تنموية، لأن التنمويين لا يفكرون دائما باحتياجات الناس، وغالبا ما يكونون موظفين لا يشغلهم الإصلاح وحاجات الناس. ولذلك، فإننا نلاحظ اقتصادا عملاقا قائما على الدين، ولكنا لا نكاد نشاهد إصلاحًا وتنمية مستمدة من الدين.
هناك في التجارة القائمة على الدين، مدارس وعيادات ومستشفيات وبنوك وشركات تأمين وسياحة وخدمات الحج والعمرة ورسائل وأدعية دينية، تقدمها شركات الاتصالات... ولا أعني في هذا السياق أنها خطأ، ولكن المثال يوضح كيف يخدم الدين توقعاتنا واحتياجاتنا، وكيف أنه يفعل ذلك ضمن وعينا، وليس تلقائيا.