الدين وإنتاج المعنى
فئة : مقالات
الدين وإنتاج المعنى
تختلف الحلقات المنتجة للمعنى داخل الحياة الإنسانية، لكنها تتشابه في جعل هذا الكائن أكثر تشبثًا بمستقبله وبالأفضل والأجمل، والدين حلقة ضمن هذه الحلقات، إن لم نمنحه أهمية أكبر، لكن ما الذي يعنيه إنتاج الدين للمعنى على وجه التحديد؟
نبدأ بالتأكيد على أن المعنى المراد إنتاجه يتصف بمميزات تجعله معنى يستحق العناء أولاً، ويستحق أن يكون قيمة مضافة لحياة الكائن ثانيًا، فالمعنى المقصود هو ذلك الذي يجعلك تعي قيمة الإنسان فيك، وتعي ارتباطك بـ"أناك" وبالآخرين، واندماجك في العالم كما انفصالك عنه. لهذا، فالمعنى هنا رديف قيمتك الإنسانية بجميع أبعادها الرحبة، كما أن المعنى فاتحتك على الوعي بقيمة الحقيقة في ارتباطها بك، أي مسؤوليتك في تصويرها وإخراجها للعالم متجاورة وحقائق أخرى كثيرة، لذلك فالمعنى باعتقادنا دافع لاعتبار الحقيقة/المعرفة صلتنا الإيجابية بالعالم من حيث الإقبال عليه معنىً يستحق بذل الجهد في كشفه والبحث عن كنهه.
سيمنحنا المعنى إدراكًا للتاريخ في أبعاده المتداخلة، لهذا يستحيل المعنى استشعارًا معرفيًا حادًا لقيمة القراءة التاريخية في تعددها وانفتاحها على المعرفة. كما أنه يستحيل لصيقًا بالحياة، ودافعًا لفهمها وصوغها لونًا جديدًا باستمرار، لصقلها وعيشها في أشكال قد تكون وليدة خيال هذا الكائن، كما قد تكوّن انسجامًا مع روح الكون الألقة الحية المؤمنة بالاستمرار والنماء.
وربما لا تكتمل القيم التي يكتنفها المعنى رافدًا يجعلنا نكون نتاجًا للمعنى في حد ذاته، لكنه قد يتحدد القصد من هذا المفهوم، بالرجوع إلى مقتطف من حوار كان قد أجري مع الباحث التونسي عبد المجيد الشرفي، وهو بالمناسبة من أوحى لنا بعنوان المقالة، حين علّق ناقدًا على ما أسماه بــ "النسبوية العقيمة"، ودعا لضرورة التخلص منها دون مخالفة مبدأ التعديدية في الآن نفسه. وما يعنينا تحديدًا في الحوار قوله: "إن التراشق بالنصوص والحوار من منطلقات إيمانية شخصية لا يؤدي إلا إلى حوار الصم، ونحن في حاجة إلى أرضية معرفية مشتركة"[1]. وليس المقصود بالمنطلقات الإيمانية الشخصية عند الشرفي، تغييبًا للبعد الذاتي في المسألة الإيمانية، وإنما تقريب الأرضية المشتركة في إنتاج المعنى الديني، بمعنى أن المشتغلين بالمعرفة الدينية اليوم، لابد أن تكون لهم توافقات معرفية تلتقي ونتاجات العلوم الإنسانية، كما تتوافق مع الإيمان بأهمية تقاطع وتوظيف العلوم الإنسانية في دراسة المعرفة الدينية وإنتاج المعنى داخلها.
وقد يعتقد كثيرون أن المسألة تأخذ طرحًا معقدًا هنا، لكنها في تصورنا تحتمل العكس، ذلك أن العلوم الإنسانية إذا ما تم تدويلها داخل حقل المعرفة الدينية، فإنها ستحتمل تدويلاً مقابلاً للعديد من فتوحاتها المعرفية، والتطور في تصوراتنا للعديد من المسائل الوجودية المتعلقة بالعالم وتصورنا عنه، بل المرتبطة بتصورنا عن أنفسنا. ونستحضر هنا مثالاً بسيطًا يتعلق بتصورنا عن الإنسان، إذ إن عديدًا ممن يشتغلون في حقل المعرفة الدينية، ويتغافلون عن كشوف العلوم الإنسانية وقيمتها الإجرائية والمعرفية، لا يزالون يقدمون الإنسان مفهومًا ثابتًا، كما تصوّره من سبقهم من العلماء المسلمين، إن لم نقل منذ بدء الخليقة. ولا تتوارد المنقصة على هذا النوع من الفهم في عدائه للإنسان أو المعرفة أو التحامل أو الرغبة في نشر الجهل وما إلى ذلك، لكن نعتقد أن المنقصة ترد على أمثال هذا التصور انطلاقًا من الأبعاد المعرفية التي لم يجترحها تفكير من هذا النوع، وبعبارة أخرى، فهذا التصور يقف على أرضية لم تشترك بعدُ معنا في عالم اليوم، لم تشاركنا شيئًا اسمه السقف المعرفي للعلوم الإنسانية. هذه الأخيرة التي تتعامل والإنسان متغيرًا يرفد دومًا نموًا في المدارك والتصورات، كما يرفد تغايرًا في تصوره لذاته فيزيائيًا ومعنويًا. هي إذن عملية فهم متجدد لهذا الكائن تتسع وتتكامل مع حلقات الوجود المكتشفة يومًا بعد آخر، لهذا فالإنسان ليس ماهية ثابتة كما يُعتقد.
فالقول بضرورة الوقوف أو اعتبار أرضية مشتركة هي العلوم الإنسانية، ليس مجرد نقاش عابر أو اختلاف في وجهات النظر، وإنما يجسد انتماءً لهذا العصر والحديث بلغة يمكن فهمها والتواصل معها، وإلا فإن قبول الحديث بلغة أخرى، سيشكل عائقًا أمام تقدمنا. فهذه الأرضية المشتركة هي معيار إنتاج المعنى وقبولها، وهي ما يمكن أن نحتكم إليه في عملية الاختيار. وقد يكون هذا التحليل المقدم مساعدًا على فهم مقصودنا من إنتاج المعنى الديني، لكن لابد من التأكيد على توصيف هذا المعنى بصفة "المحرّك للتاريخ"، أو الباثّ للحياة والقيمة والإيجابية، أي معنى يرتبط بمستقبلنا نحو الأفضل. لهذا، لا يمكن لمعنى كهذا أن يكون عدوًّا للحضارة، والحرية، والتقدم، والمعرفة، والفن، والسلام، وعدوًّا للإنسانية يزيد في التفاصل والتفاضل بين أجزائها يومًا بعد آخر.
لذلك، قد نتصور وفق هذه الفرضية الداعية للأرضية المشتركة، أي العلوم الإنسانية، أن المعرفة الدينية ستستحيل دافعًا نحو الحرية أكثر، كما ستعي أهميتها وقيمتها المركزية داخل أي بناء حضاري ممكن. حينذاك، لن يكون للأطروحات المتخوفة من تبعات الإيمان بهذه القيمة، أي الحرية، أيَّ اعتبار أو أهمية، لأن البلوغ بهذه القيمة نهاياتها سيعد جزءًا من مسلمات الإيمان بها. فحين نتذكر مكانة الحرية عند بعض الرواد النهضويين كمحمد عبده، نستشعر أنها ذات أهمية ملاحظة، نظرًا لما بدأت تتخذه من قيمة عالمية استشعرها الرواد آنذاك، لكن هذه القيمة ستتقيد عند عبده فيما بعد بمرجعيات تراثية، لا تزال تجر معها إرث الخلط بين الفرد والجماعة، وتفضيل ما يسمى "المصلحة الجماعية" على مصلحة الأفراد، في تقابل مغالط بينهما. لهذا بدل أن يهتم عبده والرواد بالتبع بتثبيت قيمة الحرية في الوعي المجتمعي، التفتوا بدرجة أكبر للتحذير من المنزلقات التي يمكن أن تؤدي إليها إذا ما تعاطاها المجتمع بجرعات كبيرة.[2]
لابد أن نلاحظ أن ما ينتجه الدين، بل المعرفة الدينية، ليس إلا رفضًا لأشياء كثيرة في عالمنا إن لم نقل مُرَكّزًا لعقيدة الرفض، ليس رفض أشياء تكون استثناءً أمام الانفتاح على العالم والحياة، وإنما تكون رفضًا مهووسًا بذاته تتخلله عمليات تقبل قسري تفرضه العولمة ورهانات التخلف الحضاري.
نعي، عند العودة للحياة الفكرية التي ميزت تاريخ الفكر الإسلامي وتاريخ الأفكار في منطقتنا الإسلامية العربية، أن المعنى تميز في أبعاد كثيرة بالحياة والإيجابية، إذ خلّف اختلافات فكرية كثيرة، ومدارس فكرية عديدة، وعلومًا مختلفة، وإبداعات كبيرة، طالت الفنون والعمارة وغيرها من المعارف، وليس ذلك إلا دليلاً بيّنًا على أن المعنى توافق والأرضية الحضارية آنذاك، التي آمنت بالنماء والحضارة وانعتاق الإنسان، دون التغافل عن كثير من السلبيات التي اكتنفت هذا التاريخ، كما هو واقع جل حضارات العالم، سلبيات تدخل ضمن تكامليات هذا التاريخ وانسجامه مع ذاته، باعتباره فعلاً انسانيًا تاريخيًا لا بد وأن يتخذ أبعادًا عديدة، ويمثل تجاذبات كثيرة ومتباينة.
وقد نشك اليوم في إنتاجية المعنى الديني، إن لم نقل بتوقفها، باعتبار أن ما تنتجه ليس سوى تماهٍ مع الأرضية المعرفية الأولى التي لم تعد تستوعب حاجيات الكائن المسلم اليوم، كما لم تعد تتوافق ومسار الإنسانية الحضاري. فالمسؤولية في تعطيل النصوص التي نعتقد بصلاحيتها الزمانيّة والمكانية مسؤولية نتحملها، كما نتحمل مسؤولية ما ينتشر من سفف معرفي يدعي أنه يقدم حلولاً لنا، لا تزيد واقعنا إلا تأزمًا يومًا بعد آخر. لهذا، فما تقدمه المعرفة الدينية اليوم رهين اللامعنى بامتياز، من حيث مستويات الخراب التي ينشرها، وأشكال التوقف والتشويش التي يحدثها. ولن يحقق انعتاقًا يمكننا التوافق معه إلا حين انبنائه على التراث الإنساني المشترك، واستثمار علومه المشكلة لتصورنا عن العالم اليوم.
وإذا ما تخللت هذه الأرضية، أقصد العلوم الإنسانية، بنيات الدرس المعرفي الديني أكاديميًا، فإنها ستضعنا أمام واقع جديد للمعرفة الدينية، إذ ستدفع هذه الأخيرة للتفكير في عوامل انبنائها وتطوّرها، وفي علاقاتها بقارئيها ومتلقّيها وصانعيها، وفي علاقتها بالنص والواقع والتاريخ. هي بداية فقط للفعل الفكري الأكثر التصاقًا بالمعقولية والمعرفية، والأكثر احترامًا لعقولنا، والأكثر ثقة بارتباطنا بالإنسانية.
* باحث في الحوار الديني والحضاري. المغرب.
[1]- الشرفي، عبدالمجيد، (2010م)، رهانات الدين والحداثة، قضايا إسلامية معاصرة، العدد (41-42)، ص 53
[2]- الحداد، محمد، محمد عبده، قراءة جديدة، دار الطليعة، ط1، 2003، ص 156