الدين والفضاء العام في السياق التركي
فئة : مقالات
منذ أن ألغى أتاتورك الخلافة العثمانية، وأقام الجمهورية التركية عام 1923م، وتولى رئاستها نحو خمسة عشر عاماً (1923ـ 1938م)، وكما جاء في المبدأ الثالث من المبادئ الستة التي وضعها لمبادئ الجمهورية؛ فقد فرض على الشعب التركي:" علمانية الدولة، ودون السماح لرجالات الدين التدخل في الحكم"،([1]) أي أن أتاتورك أدخل تركيا في صراع الدولة مع رجال الدين، وأدخلها في إشكالية محاربة الدين والمتدينين، وليس التفاهم معهم أو احترام معتقداتهم، وهو ما ترجمه عملياً وسريعاً وبشكل مكثف وشامل في ترك الدين ومظاهره السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية وغيرها.
وكان من هذه الإجراءات، بعد إلغاء السلطنة والخلافة، إلغاء " الأوقاف والزوايا والطرائق الصوفية، وأسس إدارة الشؤون الدينية بدلاً من وزارة الشريعة وجعلها تابعة لمجلس الوزراء، ومنع اعتمار الطربوش والعمامة وروّج للباس الغربي، وأغلق المدارس الدينية، واستبدل المحاكم الشرعية بمحاكم علمانية واضعاً قوانين مأخوذة من الدساتير الغربية، ومنع حجاب المرأة، وألغى استخدام الحرف العربي بالكتابة مستبدلاً إياه بالحرف اللاتيني، وتبنى التقويم الميلادي وقام بإصدار قوانين تساوي بين الرجل والمرأة فيما يخص إجراءات الطلاق وحقوق الميراث، وألغى الألقاب القديمة".([2])
إن أتاتورك لم يعلمن الدولة مؤسسةً سياسية ودستورية فقط، وإنما فرض العلمانية على المجتمع كله، وعلى كافة مكوناته الاجتماعية والوقفية، بل فرض العلمنة على سلوك الأفراد، وحجر على حريتهم الشخصية بمنعه نوعاً من اللباس الشعبي أو التقليدي أو الشرعي، وفرض نوعاً غريباً وغربياً من اللباس.
لقد "مضى أتاتورك أبعد من ذلك عندما فرض مبدأ العلمانية في الدستور، وأنشأ مؤسسات تابعة للدولة تشرف على الشؤون الدينية و"تضبط" حركة الأئمة والوعاظ الذين تحولوا موظفين عند الدولة، كما ألغى الدروس الدينية من المدارس بموجب قانون "توحيد المدارس".([3])
لقد قام أتاتورك وخلال خمسة عشر عاماً بعمل قطيعة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية مع الماضي الإسلامي العثماني، ويمكن القول إن القطيعة هي مع الحاضر الإسلامي، لأن الشعب التركي حتى لو وافق على عمل انقلاب ضد آل عثمان، فإنه لن يرتد عن الإسلام، وبذلك أقحم أتاتورك الشعب في حياة جديدة غربية دون أن يكون الشعب هو صاحب القرار الفكري والثقافي والاجتماعي، فضلاً عن أن يكون صاحب القرار السياسي؛ لذا "لم يستطعأتاتورك أن يرسخ نظام القيم الغربي وتعميمه لدى كل الفئات الاجتماعية في تركيا، فاقتصر ذلك على نخبة "كمالية" تتشكل أساساً من كبار الضباط والموظفين وأرباب المهن الحرة، فيما بقيت الأكثرية الساحقة مرتبطة بالإسلام، ممارسات وسلوكاً يومياً".([4])
لقد كانت هذه الإجراءات موجهة لكل مظاهر الحياة الدينية، سواء كانت في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو القضائية أو التربوية أو غيرها، مما جعل علماء الدين يقفون في وجه هذه الإجراءات التعسفية في الحرية الشخصية أو السياسية أو غيرها؛ وبذلك دخلت تركيا في صراع الهوية وصراع الدين مع العلمانية الغربية، وهذا الصراع "تجسد في ظاهرتين: الأولى، الانتفاضات، ([5])التي اتخذت طابعاً إسلامياً في العشرينيات والثلاثينيات رافضة إصلاحات أتاتورك العلمانية؛([6]) والثانية في إدراك السلطة العلمانية نفسها، بعد رحيلأتاتورك عام 1938، وبدءاً من خليفته في الرئاسة عصمت إينونو ،([7]) أن الاستمرار في معاداة الدين يتناقض مع المشاعر العامة".([8])
ونحن هنا نبين أن هذا المفهوم للعلمانية الذي فرضه أتاتورك على الشعب التركي هو الذي صنع الصراع بين الدين والعلمانية، وليس بين الدين والدولة فقط؛ ولذلك، فإننا نصف هذه العلمانية بالعلمانية الأجنبية والغربية، لأنها كانت مأخوذة من المجتمعات الغربية ومن المجتمع الفرنسي تحديداً الذي غالى في مكافحة مظاهر التدين في الحياة العامة، ولم تتوقف عند منع رجال الدين من التدخل في مسار الحياة العامة، أو فيما أطلق عليه فصل الدين عن الدولة، بل في وضع القيود على الحريات العامة؛ أي أن العلمانية الأتاتوريكية لم تنبت من بيئة المجتمع التركي، ولم تستنبط من الدين الإسلامي، وهذا ما جعلها نبتاً هجيناً، متجاهلة اختلاف الهويات والحضارات والبيئات الثقافية والاجتماعية التي تؤمن بها كل أمة لوحدها، وغافلة عن اختلاف الأديان في مستوى تشريعها الدنيوي، وكيفية ارتباطه بالأخروي، فيما يتم التعارف عليه بعلاقة الدين بالدنيا، أو علاقة السلطة الروحية بالسلطة الزمنية.
إن التلاقح الحضاري كان أحد أبواب النجاة للدولة العلية العثمانية في مراحلها الأخيرة، لو أخذت بالتنظيمات السياسية الحديثة، ولكن تأخر التجديد والتغيير والإصلاح كان بفعل القوى المحافظة والقيادات الرتيبة أولاً، وهي التي جعلت قادة التغيير أو من أطلق عليهم الأحرار في مرحلة الإعداد للمرحلة الجمهورية التالية، يقومون بالإصلاح ضد القوى المحافظة انتقاماً وقهراً وجبراً أكثر منه قناعة وتشاوراً وتعاونًا، فكان التقليد النهضوي على الشعب التركي كبتاً وظلماً، وكان الانتقام الداخلي ضد المحافظين استبداداً وعدواناً، وهذا ما جعل الشعب التركي يواصل بحثه عن النهضة التي تصنع التوائم والتوأمة بين الشعب والحكومة، وهو ما لم يتحقق بأفضل صوره في المجتمع التركي إلا مع حزب العدالة والتنمية، في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي، فقد جعل حزب العدالة والتنمية من الشورى ديمقراطية، ومن العلمانية حرية ومساواة، ومن المواطنة انتماءً وعطاءً، ومن الإجماع دستوراً، ونجح في جعل التاريخ فخراً لا عاراً، ومن التدين عزة لا ذلة، ومن الاقتصاد قوة لا تسولاً، ومن السياسة عظمة لا تبعية.
على أن ما جاء به حزب العدالة والتنمية، لم يكن انقلاباً فكرياً مفاجئاً في الفكر السياسي الإسلامي، وإنما نتيجة تطور متواصل في التجديد الفكري والفقهي والسياسي للفكر الإسلامي على مدى قرن كامل أو أكثر، فحزب العدالة والتنمية درس وتعلم من تطور الحياة السياسية وتطور الاجتهاد الفكري الإسلامي منذ قيام الجمهورية، وبالأخص في تطوره الأخير قبل وصول الحزب إلى السلطة السياسية عام 2002م، في تجربة حزب الرفاه والسلامة وغيرها، فكلها كانت تجارب ارتقائية على صعيد السياسة والفكر الإسلامي لكل المجتمع التركي الذي واكب هذا التطور ودعمه.
لقد اهتم أردوغان في رفع ما تواجهه الديمقراطية من معوقات، فقال: "إننا نرى في السنوات الأخيرة من يقوم بتضييق الخناق على الديمقراطية بحجة مفهوم الجمهورية، ومن يقوم بتجزئة الديمقراطية أيضاً بحجة حماية الجمهورية، ويجب علينا ألا نتجاهل ذلك؛ فلو غضضنا النظر عن تلك الأمور نكون قد استبحنا حرمة (دولة القضاء) تحت مسمى (القانون). فلا توجد أية مصلحة عامة يمكن أن تعلو على الحقوق والحريات الرئيسة. كما لا يمكن أن تحقق المعنى الحقيقي للجمهورية إلا من خلال الديمقراطية. لا يمكن أن يتحقق المعنى الحقيقي للجمهورية إلا من خلال الديمقراطية. وكذلك، فإن القوانين لا يمكن أن تحقق العدالة وتخدم الشعب إلا إذا كانت مشمولة بمظلة دولة القضاء. وفي الحقيقة، إنه لا يمكن أن يكون هناك جمهورية إذا لم تتحقق فيها الديمقراطية".([9])
وفي سبيل تحقيق دولة القضاء، باشر حزب العدالة والتنمية دعم كل مقومات القضاء العادل والمستقل وقام بما يلي:
1 ـ إلغاء صلاحية وزير العدل بإصدار تعليمات إلى المدعين العامين.
2 ـ تحديد معايير إيجابية في تعيين القضاة والمدعين العامين.
3 ـ تخفيض فترات الترفيع لرجال القانون.
4 ـ إزالة الشطر الأكبر من المشكلات والشكاوى والأحداث في السجون والمعتقلات.
كانت حصة الجهاز العدلي في الميزانية المالية العامة سنة 2002 زهاء مليار و 113 مليون ليرة تركية تم رفعها في عهد حزب العدالة والتنمية إلى عام 2011 إلى 3 مليار و 783 ألف ليرة. وبذلك حققت حكومة العدالة والتنمية للعدالة المكانة اللائقة بها. لقد نفّذت حكومة العدالة والتنمية منذ 2002 وحتى اليوم بناء 130 مبنى حديثاً يُطلق عليها في تركيا اسم قصر العدل، من ضمنها الأضخم في أوروبا كلها, انتقل إليها شطر كبير من الجهاز القضائي مخلفاً وراءه الأبنية القديمة والأرشيفات الموجودة في سراديبها.
وبدأت نشاطات أكاديمية العدل التي أقيمت لرفع كفاءة ونوعية الخدمات العدلية القضائية ورفع مستوى مقاييسها في تركيا، وتتولى الأكاديمية مهمة تقديم دورات تعليم داخلية إلى القضاة والمدعين العامين إلى جانب تقديم تعليم عالي النوعية للمرشحين، وقامت حكومة العدالة والتنمية بمضاعفة العاملين في الجهاز القضائي من أجل ترسيخ نظام عدلي قوي ومنيع، وفيما كان عدد القضاة والمدعين العامين 9 آلاف و 232 في عام 2002، ارتفع هذا العدد حتى عام 2011 بنسبة 20% وأصبح 11 ألف و 187 قاض ومدع عام. أما موظفو جهاز العدل، فارتفع حتى عام 2011 بنسبة 50% عن عام 2002؛ حيث زاد من 20 ألف 255 إلى 30 ألف و 437 شخص. قامت حكومة العدالة والتنمية في عام 2004 بإلغاء محاكم أمن الدولة، في خطوة تعد ضرورة قصوى في النظم الديمقراطية ودولة القانون الحديثة، ورفعت حكومة العدالة والتنمية ممارسات حقوق الإنسان إلى أرفع مستوى تعززت معها حقوق الإنسان في البلاد. وقامت حكومة العدالة والتنمية بتعديلات دستورية، أزالت فيها سهولة حظر الأحزاب السياسية أحد عيوب الديمقراطية التركية وصعبته إلى درجة كبيرة.
خاتمة
إن جهود الحكومة التركية اليوم تنصب على تقديم دستور أكثر مدنية وحرية، وسيجد كل تركي فيه كل حقوقه، وهذا يعني أن معركة حزب العدالة والتنمية من أجل الديمقراطية لم تنته بعد، بالرغم من توليه السلطة لأكثر من عشرة أعوام، وثلاث حكومات متوالية، وأغلبية عالية في البرلمانات، ومع ذلك لم يستطع حسم معركة الدستور الذي يرى أنه أكثر ضماناً للديمقراطية، ومرد ذلك الاهتمام بالدستور هو حاجة الشعب إلى من يضبط عمل الدولة بنظام متفق عليه، ومنصوص عليه في الدستور، حتى يطمئن كل مواطن إلى أن هذه الدولة دولته، وأن هذا النظام نظامه، وأن هذا الدستور هو دستوره الذي يكفل له حقوقه بقدر ما يطالبه بالواجبات، ولكافة مواطني الدولة دون استثناء.
إن الديمقراطية لا تأتي بعفوية ولا بهبة ولا منحة من أحد، وإنما هي ثقافة معرفية وعقلية أولاً، وأسلوب في التعامل الاجتماعي ثانياً، وقوانين دستورية ثالثاً، والتزام متبادل بين مكونات الدولة رابعاً، وبين الأحزاب السياسية التي تشارك في تداول السلطة السياسية التشريعية والتنفيذية بديمقراطية وتسامح خامساً.
وبعدما تم الاتفاق على المرجعية الدينية والفلسفية للديمقراطية من قبل الشعب، فإن المهمة الثانية تتمثل في اختيار الشعب من خلال خبرائه القانونيين لمواد قانونية تضبط علاقة الشعب بالنظام الحاكم وبمن يستلم تنفيذ إرادة الشعب ممن يوصفون بالدولة أو بجهاز الدولة، من رؤساء أو وزراء أو حكام أو مديرين، والنظام يحدد لهم صلاحياتهم مع السلطات الأخرى البرلمانية والقضائية؛ فالدولة هي جهاز تنفيذي خاضع للنظام وخادم للشعب أمام المجلس البرلماني والقضائي إن لزم الأمر، والديمقراطية هي أن تحكم الدولة بموجب النظام الذي أقره الدستور برقابة البرلمان والقضاء.
* محمد زاهد جول
([1]) انظر: الجميل، الدكتور سيار، العرب والأتراك الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، تشرين أول/ أكتوبر 1997م ، ص 326.
([2]) انظر: الصالح، منال، نجم الدين أربكان ودوره في السياسة التركية (1969ـ1997)، بيروت، الطبعة الأولى، 1433هــ 2012م، ص 24.
([3]) نور الدين، محمد، قبعة وعمامة، بيروت، دار النهار، الطبعة الأولى، 1997م ص 20.
([4]) نور الدين، محمد، قبعة وعمامة، مصدر سابق، ص 20.
([5]) من هذه الانتفاضات المسلحة انتفاضة الشيخ سعيد بيران نور سنة 1925م، انظر كتاب: منال الصالح، نجم الدين أربكان ودوره في السياسة التركية، مصدر سابق، ص 25.
([6]) أنظر: صابان، سهيل، تطور الأوضاع الثقافية في تركيا، تحرير عثمان علي، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، فرجينيا، الطبعة الأولى، 1431هـ ـ 2010م، ص 135.
([7]) عصمت اينونو (1884ـ1973م)، ولد في مدينة أزمير والتحق بالخدمة العسكرية وانضم إلى حركة مصطفى كمال عام 1918م، انتخب نائبا له، وقاد سياسة تركيا نحو الحياد.
([8]) نور الدين، محمد، قبعة وعمامة، مصدر سابق، ص 20.
([9]) بسلي، حسين، رجب طيب أردوغان "قصة زعيم"، بيروت، الدار العربية للعلوم، ترجمة الدكتور طارق عبدالجليل، مراجعة الدكتور رمضان يلدرم، الطبعة الأولى، 1432هـ ـ 2011م، ص 234.