الدين والوطنية: الوطنية الربانية في الفكر السياسي للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني
فئة : مقالات
تتضاءل حتما، الخطوط الفاصلة بين الإيمان الديني ومحبة الوطن، لدى الرواد الأوائل للحركة الوطنية، حيث يصبح التعبيران، الإيماني والوطني، مكونان مركزيان للهوية والانتماء، ووجها أساسيا للممانعة في العلاقة مع الآخر، خاصة عندما يتمظهر في شكل قوة طاغية أو سلطة فوقية مهيكلة، كالإمبريالية الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر. كما تصبح ضرورة إصلاح السياسة، وتدبير شؤون الحكم والدولة، من أساسيات إصلاح الممارسة الدينية، وتقويم المنزلقات الفكرية والعقدية للخاصة والعامة.
لذلك، فقد كان لمفهوم الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر، وقع السحر في أذهان النخب المفكرة والعالمة في العالم الإسلامي، وأنتج حراكا فكريا ودينامية جديدة في جسد الأمة العربية والإسلامية، تمت بلورته على المستوى السياسي والثقافي، من خلال كتابات الرواد الأوائل لحركة النهضة، كجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، ورشيد رضا، وخير الدين التونسي. وقبل هذا، على المستوى الديني، من خلال حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية التي كان هدفها العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح في الممارسة الدينية، انطلاقا من القراءة المرجعية لابن تيمية، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل، بغية تطهير العقيدة والممارسة الدينية من مظاهر الشرك والخرافات التي علقت بها. وسميت هذه الحركة فيما بعد بالوهابية، لكنها عموما فتحت الأبواب على مصراعيها، أمام الفكر السلفي وأدبياته العقدية والأصولية، وممارساته الدينية وقراءته المرجعية، لتنتشر في العالم الإسلامي كحركة جديدة، أفرزت لنا تيارات جلى كلها، تسعى إلى إعادة إحياء السنن النبوية، والعودة إلى القرآن الكريم، والمنابع الصافية للتجربة الحضارية الإسلامية خلال قرونها الأولى.
لقد كان لتلك الحركة الأثر البالغ في نفوس النخبة العالمة بمعظم الأقطار الإسلامية، خاصة بالمشرق، حيث سعت النخبة الطليعية من العلماء، بما فيها علماء الصوفية، الطامحين للتخلص من القيود السلطوية والإيديولوجية للحكم العثماني، وسلطة المخزن في المغرب، إلى إيجاد بدائل حقيقة وهوياتية لمطلب الإصلاح الاجتماعي والسياسي، فسميت حركة الإصلاح ككل بالحركة السلفية، انطلاقا من الثوابت العامة للدين الإسلامي، ألا وهي الاعتماد الفقهي على الأصول والنصوص في فهم الواقع، والتعاطي مع مستجداته السياسية والاجتماعية، والتخلص من المظاهر المحدثة من أجل حفظ الدين والوطن (دار الإسلام)، خاصة وأن التحديات التي كانت مطروحة على النخب آنذاك، تجلت في هاجسين أساسيين :
أولاـ تحصين الدين من البدع، بعد انحراف العديد من الطوائف والطرائق عن الشرع، وبروز ظاهرة تقديس المزارات (السادات)
ثانياـ تحصين الأوطان من الأجانب، ومقاومة التدخل الإمبريالي الأوروبي اقتصاديا وعسكريا.
لقد كانت هذه الهواجس صفة عامة، وشاغلا أساسيا لنخب العالم الإسلامي بالمشرق والمغرب على حد سواء، وأولوية قصوى بالنسبة للنخبة العالمة المغربية، بعد صدمة احتلال الجزائر، وهزيمة إيسلي سنة 1844 أمام فرنسا التي أثرت بشكل كبير على النفسية العامة للأمة المغربية، وخاصة لأن وقع الهزيمة كان شديدا ومزلزلا على المستوى الروحي بالأساس، باعتبارها هزيمة للمسلمين أمام النصارى بالدرجة الأولى، وكذلك باعتبارها هزيمة عسكرية مؤلمة لكبرياء المغاربة، وللإمبراطورية المغربية الشريفة التي حصنت استقلالها، وفرضت هيبتها على المستوى الدولي لقرون خلت، ثم أصبحت فجأة عرضة لهجومات العدو، ومهددة بالغزو.
لقد أفرزت تلك الهزيمة أزمة نفسية، جمعية عميقة في المجتمع المغربي بكل فئاته، بلورتها الدولة المغربية طيلة النصف الثاني للقرن التاسع عشر(منذ عهد المولى عبد الرحمن بن هشام)، بسياساتها المتذبذبة والمترددة في التفاعل مع الوضع الطارئ على الجغرافيا السياسية لمنطقة شمال إفريقيا، وبضعف القدرة على إنتاج إستراتيجية عسكرية فاعلة للردع.
فكانت الإجابات الدبلوماسية والحلول السياسية التي قدمها المخزن المغربي غير قادرة على فك المعضلة الأساسية داخليا وخارجيا، ألا وهي الضعف البنيوي الكبير الذي عشش في مختلف مجالات الفعل السياسي والثقافي، وإغراق الممارسة الدينية للمجتمع المغربي في الطقوسية والبدع، نتيجة لسيادة النماذج القبلية والأنماط التقليدية في التعليم، والانغلاق الثقافي الذي ساد فكر النخب الرسمية والارستقراطية الحضرية، وضعف التواصل مع المجال القروي، وانحراف الطرائقية عن قيمها الصوفية الأصيلة.
فكان البحث المضني عن أسباب التقهقر والضعف، وتجاوز أخطاء التدبير السياسي للحكام، ملازما لفكر النخب العالمة، حيث ربط معظم رواد النهضة الأزمة الحضارية التي كان يعيشها العالم الإسلامي، بفعل مرجعيتهم وتكوينهم الديني الصميم، بالتدهور الذي أصاب القيم والممارسة الروحية والدينية؛ أي نتيجة للابتعاد عن روح الدين، واستحضار النموذج النبوي في عملية التدبير السياسي لشؤون الأمة؛ وبالتالي جعلوا من العودة إلى الينابيع الصافية للدين الخطوة الأساس لتحصين الاستقلال السياسي، ومواجهة التبعية الحضارية للغرب الاستعماري الذي كان يضغط بكل قوته من أجل الهيمنة على العالم الإسلامي والعربي، مستغلا تفوقه العسكري والتقني، دون إهمال جانب الاستفادة من الغرب.
ويكفينا الرجوع إلى كلاسيكيات التأريخية للحركة الإصلاحية المغربية، والدراسات التي تناولتها لنكتشف مدى الغياب النظري لجانب المقاربة الروحية والنفسية، كمنطلق لفهم دينامية عملية الإصلاح التي قادها العلماء نهاية القرن التاسع عشر، في المجال الاجتماعي العام، كما هو الحال بالنسبة للدراسات ذات النفس الحزبي، ككتابات علال الفاسي وعبد الكريم غلاب ( حفريات في الذاكرة الدستورية )، أو تلك التي حاولت الرصد السوسيوتاريخي للحركة، كأعمال كل من العروي، وجرمان عياش، إبراهيم أعراب، محمد الجابري...وغيرهم التي بالرغم من المجهود العظيم الذي أنتجوه في الحقل الأكاديمي، وهم بصدد التنقيب عن الأصول الاجتماعية والفكرية المؤسسة لفكر الإصلاح، أهملوا المؤثر الروحي، حيث ركزوا بشكل أساسي على المقاربات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، وأغفلوا دور البعد الروحي كمحرك أساسي لعملية الإصلاح، خاصة حين تكون منابعه صوفية أخلاقية عميقة، كما هو الشأن بالنسبة للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، حيث لم ينظر إليه في أغلب الدراسات التي تناولت سيرته، إلا بوصفه ساعيا إلى الحكم، ومنافسا لشرعية الدولة العلوية، بحكم أصوله الإدريسية الشريفة، وليس على أساس صدق دعوته في التغيير، ورغبته في نهضة المجتمع المغربي، وتحرره وانعتاقه من ربقة الاستبداد، ومن مأزق الخضوع للأجانب، ودون إدراك أن دعوة الإصلاح التي تبناها الشيخ الكتاني شكلت مطلبا روحيا ونفسيا متجذرًا، كان بحاجة إلى التفعيل التربوي والعملي، لأنها الأساس والمنطلق لتغيير الظروف المادية، والوضعية السوسيو اقتصادية السيئة التي كانت ترزح تحت وطأتها أغلب الأقطار الإسلامية، والتي كان بعضها محتلا فعلا من قبل القوى الأجنبية من خلال الارتباط بمشروع الجامعة الإسلامية.
لذلك، فإن قراءة الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، ذو المرجعية الصوفية لمعطى دفاع الانتماء الوطني، لم يكن يحكمها في الحقيقة سوى قناعاته الدينية الإسلامية الأصيلة، وليس بناءً على تصورات قبلية أو عنصرية، كما يسوق كثير من المؤرخين الذين تناولوا بالدراسة الحركة الكتانية، حيث لم يروا في حركة الممانعة السياسية الكتانية سوى مظهرًا للفوبيا، الموجهة ضد الأجنبي النصراني واليهودي، كما يذهب إلى ذلك عبد الله العروي في كتابه الأصول، وميشيل أبي طبول في كتابه تاريخ المغرب، أو على أنه رفضٌ للآخر الكافر، كنتيجة حتمية لهاجس الغربوفوبيا، التي أصابت النخب العربية والإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر، نتيجة للهجمة الإمبريالية الشرسة التي تعرض لها العالم الإسلامي، وكذلك للتساقط المتتالي للأقطار الإسلامية في قبضة تلك القوى التي فرضت، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري، احتلالا قيميا إيديولوجيا نقيضا لمقومات الحضارة الإسلامية.
كما أنها لم تكن كذلك، نتاجا لتصورات سياسية مستقاة من المنظومات الإيديولوجية الخارجية، في سياق نماذجها التاريخية والمؤسساتية، رغم التعاطي الإيجابي للنخبة المغربية العالمة، مع نهضة الشعبين التركي والياباني، وتوجهاتهما نحو إصلاح نظاميهما السياسي والتعليمي، وتبني مفهوم الدستورانية في تدبير الشأن السياسي، ولمفاهيم الحرية والعدل والمساواة كقيم إنسانية مشتركة.
تلك القراءة التي كان من أهم ركائزها إعادة إنتاج المفاهيم السياسية، وفقا للمطلب الروحي، كما يوضح الشيخ الكتاني في رسالة المؤاخاة، حيث يقول: (وقد علمتم ما وصل إليه الأجانب اليوم من النفوذ في العالم، فإنما وصلوا لذلك بأمور، ومنها الحرية التي عبر عنها الشرع الكريم بالقسط والعدل، والنصح وعدم المحاباة، والقيام في كل موطن وما يقتضيه، ومعرفة كل منصب وما يطلبه، وعدم إهمال بعضهم بعضا، ومعرفتهم بحق من ظهر فيه أدنى نبوغ وتيقظ، وعدم إهمال حقه، وعدم رفضه بخلاف غيرهم...)
لقد ارتبط الخطاب السياسي للكتاني، عموما، بالحركة السلفية الحديثة، من خلال مناداته في خطبه وكتاباته إلى العودة للنموذج السياسي النبوي ـ الراشدي الذي أنتج لنا مؤسسة الخلافة بما تحمله من مضامين خلاقة، وبما يحيطها من هالة الإجلال والمسؤولية الربانية العامة عن دولة المؤمنين، والتي لا بد من أن تسند بأسباب القوة والمنعة لتتحول إلى دولة ـ إمارة ذات هيكلة ومؤسسات عامة، يتقاسم السلطة بها، نيابة عن الأمة، أمير المؤمنين الذي يبايع بيعة شرعية، يتحمل بموجبها أعباء إدارة الدولة، وقيادة الجيش الدفاع عن منظومة القيم الإسلامية التي تسود دار الإسلام، وبجانبه العلماء أهل الحل والعقد الذين يضطلعون بمهام الفتوى والشورى، حيث يقول محمد الباقر الكتاني في الترجمة: (...دعوته الإسلامية الجامعة، وانتقاداته الدينية والاجتماعية التي شملت جميع طبقات الشعب من أمراء ووزراء وقضاة وباشاوات ورؤساء طرائق، واتباع مختلف هاته الطبقات وعلماء المعاهد الدينية وكتب التدريس بها، وأساليبه العقيمة وكذلك صيحاته المتوالية على العلماء الذين كانوا لا يفهمون روح الإسلام، ولا يعتنون بدراسته من جميع نواحيه، ويفنون أعمارهم في تعليم الطلبة المختصر، والتحفة، وعلمي المنطق والحساب، ويتركون دراسة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كي يكتسبوا منها روحا جديدة تحملهم على إزالة عوامل الانحطاط التي أصابت أمتهم وأخرتها عن قافلة الأمم الراقية، وتحطيم أغلال الذل والهوان المسلسلة بها، وأبعاد شبح الاستعمار المهددة به إذ ذاك، وجلب وسائل السعادة والرفاهية لها، وإقامة نظام الشورى بالمغرب، والسير به إلى موطن العزة والخلود...) ص 174، ترجمة محمد الكتاني الشهيد.
ورؤيته هاته، نجدها كذلك عند كل من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وغيرهم... وفيما بعد لدى أبي الأعلى المودودي، ولكن ليس بنفس الحمولة والأهداف والفهم، خاصة عند الحديث عن القيم الإنسانية المشتركة، كالعدالة والحرية، حيث إن الفهم المقدم لهما من قبل رواد السلفية المشرقية الحديثة يتماشى مع النظريات السياسة الغربية، ولا يبتعد عنها كثيراً نتيجة لانفتاحهم على الثقافة الغربية، ودراساتهم بالجامعات الأوروبية، كما هو الحال عند رفاعة الطهطاوي، في كتابه المرشد المعين، حين يقول: ( من أصول الفقه وفقه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد، جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساسا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قبل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات؛ فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه، يسمى ما يشبه عندهم بالحقوق الطبيعية، أو النواميس الفطرية؛ وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينا وتقبيحا، يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما نسميه بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق والأحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية).
لقد اعتبر الكتاني، أن تأصيل النزعة الوطنية لا بد وأن يرتبط بالدين، لذلك يقول محمد البقر الكتاني في كتابه ترجمة محمد الكتاني الشهيد: (فالوطنية، في رأي المترجم، جزء من الدين يجب على كل مؤمن أن يتصف بها، وأعني بالوطنية هنا، الوطنية الربانية، لا الوطنيات الضيقة الموروثة عن الأجانب...) ص 335.
لقد شكل العمق الصوفي لدى الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، إطارا ناظما لفكره الوطني، ولدعوته السياسية التي اتخذت من مقاومة التغلغل الأجنبي محورها، وعنوان مطالباتها بإصلاح نظام الحكم وتقنينه، كما ظهر ذلك واضحا في بيعة مولاي عبد الحفيظ المشروطة، وفي دستور لسان المغرب، وترجم ذلك في رسائله التي شن فيها هجوما لاذعا على تقليد المغاربة للأجانب في بعض العادات المخالفة للشرع، ودفاعه عن الاقتصاد الوطني والحرف المغربية، كما هو الشأن في كتابه: (الآفات في حكم اللعبات المسماة بالضامة والكرطة)، حيث يقول: (فانا لله على ضعف إيماننا، حتى تركنا الشعائر الإسلامية، وأقمنا الوظائف الرومية؛ فكيف لا يغلبوا علينا وقد هجرنا سنن نبينا، وعمرنا أوقاتنا بسننهم، وآلاتهم، وبضائعهم، وزخارفهم، ومحدثاتهم التي تشغل القلوب والأبصار، حتى إذا سمعك شخص تقول إن النصراني الفلاني قدم ومعه الزخارف الدنيوية، والأشغال التي تنسينا الآخرة وأهلها، وتقسي قلوبنا وتزهدنا في الحرف الإسلامية، التي يتعيش بها المساكين والدراويش الذين غلب عليهم طيب الأكلة، فأظمئوا نهارهم وأسهروا ليلهم فيها، ولما ينكب المسلمون على تلك الوساوس تضيع حرفة ذلك المسكين..وإلى أين يذهب؟)
لذلك، فقد رأى أن من واجبه ألا يسكت عن الجهر بالحق، والقيام بواجبه تجاه الأمة بعد أن تقاعس أغلب الناس عن القيام بذلك، حيث يقول: (فالعصاة جهروا بمعاصيهم، وما استحيوا، وأهل الفضل كتموا طاعتهم؛ فمن يظهر الشعائر الإسلامية، ومن يعلن بالوظائف المحمدية، فرحم الله عبدًا أظهر من نفسه... قوة كما في الحديث).