الذئب المنفرد... بعيداً عن عيون الراعي وعصاه الغليظة
فئة : مقالات
يقول الحديث النبوي: (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)([1])
وبغض النظر عن سياقات وحيثيات وأسباب هذا الحديث التي تتعلق بضرورة ملازمة جماعة المسلمين وعدم الخروج عليها... إلا أن استحضاره هنا لغايات أخرى، وهي طرح السؤال الخطير:
هل (الراعي) وأقصد به هنا الدولة المعاصرة كصاحبة سيادة وسلطة قهرية، والأنظمة الغربية في أوروبا وأمريكا والعالمين العربي والإسلامي كراعية لمصالح الأفراد والمجتمعات نائمة عن حماية أمن مجتمعاتها؛ وتركتها نهباً لهجمات وتوحش الذئاب المنفردة؟
أو أن جماعات الإسلام السياسي المعاصر، وعلى رأسها الجماعات الإرهابية، وبالذات تنظيم داعش، تقوم بالتطبيق التنظيمي -الحركي لهذا الحديث، فتقوم باستهداف الأهداف القاصية أو "الأهداف الرخوة" حسب أدبيات ظاهرة الإرهاب من خلال استخدام أسلوب الذئب المنفرد لمعاقبتها والانتقام منها، لتوحدها في وجه الإرهاب والإثبات بأنها مجتمعات هشة وضعيفة. ولعله من هنا، نلاحظ الاهتمام الشديد في الغرب بمسألة رص الصفوف والدعوة للتماسك والوقوف معا أفرادا وحكومات وأنظمة في مواجهة تهديد وخطر الإرهاب وعدم الخوف منه؛ ومثال ذلك المسيرات الحاشدة التي شهدتها برشلونة بحضور الملك شخصيا ردا على هجمات داعش في برشلونة في الخميس 17-آب-2017م.
لا شك أنّ هناك تطورا كبيرا وانتشارا للإرهاب العالمي وتعقيد في ديناميكيات الإرهاب، حيث يشهد اتجاها ً تصاعديا (مع بعض الاستثناءات في بعض السنوات) في الخسائر والممتلكات والآثار النفسية والفسيولوجية.
وتدل المؤشرات الكمّية على أن العام 2014 م سجّل الاتجاه الأسوأ في تاريخ مؤشرات الإرهاب، حيث تعرضت (93) دولة في العالم (أي ما نسبته (57%) من دول العالم) للإرهاب.
و يعدّ هذا أعلى معدل للعمليات الإرهابية خلال الـ(16) عاما الماضية، وراح ضحيتها ما مجموعه (32765) شخصاً، ما يعني أن أكثر من نصف دول العالم تعرض للإرهاب، ويعني كذلك المدى والنطاق الذي وصل إليه الإرهاب كظاهرة عولمية متخطية للحدود الوطنية.
أما العدد الإجمالي لقتلى العمليات الإرهابية عام 2015، فقد بلغ ما مجموعه (29376) شخصاً. ومع ذلك، فهو يشكل انخفاضا بنسبة 10% عن 2014م، وهو أول انخفاض منذ 2010م، وكان سبب الانخفاض نتيجة عمليات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب ضد داعش في العراق، وبوكوحرام في نيجيريا.
لكن هذا لم يمنع - للأسف الشديد - من انتشار خطر بوكو حرام وداعش في العالم؛ ذلك أن إرهاب بوكوحرام انتقل إلى دول الكاميرون، والنيجر، وتشاد، ورفع نسبة قتلى الإرهاب في تلك الدول إلى 157%.
في نفس الوقت، انتشر وتوسع نطاق إرهاب تنظيم داعش ليضرب بعنف وتوحش غير مسبوق في (28) دولة في العالم عام 2015م، بعد أن كان ينشط في (13) دولة فقط في العالم عام 2014م. وفي نفس العام، نفذ تنظيم داعش ومؤيدوه 18 حالة قتل في دول "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (التي تتكون من (34) في العالم بين الغنية والفقيرة)، لكن عدد العمليات والقتلى ارتفع بشكل صارخ، ليبلغ (313) قتيل من خلال (67) عملية إرهابية خلال عام 2015م.
ويعدّ تنظيم داعش في حقبة العولمة المعاصرة الجماعة الأكثر إرهاباً وتوحشاً في العالم، حيث نفذ عمليات إرهابية في (252) مدينة في العالم، وكان مسؤولا ً عن مقتل ما مجموعه (6141) شخص خلال عام 2015م.
المهم والمثير في الأمر - من وجهة نظري الشخصية - أن نصف العمليات التي تنسب إلى تنظيم داعش نفذت عن طريق أشخاص لم تكن لهم علاقة تنظيمية مباشرة بالتنظيم، وهو ما يعني إمكانية أن يكونوا ذئابا منفردة؟
وهذا ما ينقلنا للحديث عن موضوعنا: الذئب المنفرد
هل الذئب المنفرد حقيقة أم خرافة؟
لقد قمنا بالاستشهاد بالأرقام والإحصائيات أعلاه، لنعطي صورة مصغرة ومجردة عن سيرورة الإرهاب المعاصر ودور تنظيم داعش فيه؛ ثم ارتباط الحديث والتنظير حول الذئب المنفرد بتنظيم داعش في الحقبة الحالية من سيرورة العولمة، حتى وان كانت هناك بعض العمليات المرتبطة بالجماعات القومية والدينية المتطرفة في أوروبا وأمريكا وبعض أجزاء من آسيا. فعلى سبيل المثال، تشير الإحصائيات إلى أنه خلال الفترة ما بين 2006م إلى 2016م، أن (%98) من قتلى العمليات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية نتجت عن عمليات نفذتها الذئاب المنفردة، وأدت إلى مقتل (156) شخصاً([2]).
برز مفهوم أو مصطلح "الذئب المنفرد" بشكلٍ كبير على سطح الأحداث، وكثر الحديث عنه في وسائل الإعلام العالمية، ولدى الخبراء والمحللين الأمنيين والاستخباراتيين بعد الموجة الحديثة من العمليات الإرهابية منذ أواخر عام 2011م التي ضربت في بيروت، وتفجير الطائرة الروسية في سيناء، وعملية قتل المتعاقدين الأمنيين في مركز تدريب الشرطة في الموقر بالأردن، ثم العمليات الإرهابية المتزامنة في باريس، والنرويج، وأمريكا، وكندا، وألمانيا، وبريطانيا، وبلجيكا وإسبانيا، وفنلندا. ولا بد من الإشارة إلى أنني أعتقد بأن ليس كل هذه العمليات الإرهابية ينطبق على منفذيها التعريف الدقيق لمفهوم "الذئب المنفرد". وهذا يطرح سؤالا مفاده: ما المقصود بمفهوم "الذئب المنفرد"؟ وهل هو ظاهرة جديدة، أم "اتجاه Trend" حديث في ظاهرة الإرهاب العالمي؟ أنا أعتقد أن هذا النوع من الإرهاب العالمي قد تجاوز مرحلة أن يبقى "اتجاهاً فرعياً sup-trend" في ظاهرة الإرهاب العامة؛ بل أصبح "ظاهرة phenomena" قائمة بحد ذاتها.
وقد جاء هذا المفهوم من سلوكيات جماعات الذئاب في مملكة الحيوان؛ إذ إن الذئب المنفرد يترك جماعة الذئاب، وينأى بنفسه عنها، فيختار أن يعيش منفردا؛ يُغيرُ ويفترس وحيدا.
وتجدر الإشارة إلى أن خبير الإرهاب الأمريكي براين مايكل جنكينز يستخدم مفهوم "الكلب الشارد stray dog" بدلا من الذئب المنفرد([3]).
ويتميز هذا الذئب بالقوة والعنف والوحشية، أكثر من بقية الذئاب. ومن ثم، فقد دخل هذا المفهوم أدبيات التطرف والإرهاب، كما تشير الدراسات الغربية، من باب محاكاة الأفراد المتطرفين والإرهابيين، لتصرف وسلوك هذا الذئب في مجالات تخطيط وتنفيذ الأعمال الإرهابية.
ولقد كنت أشرت مبكرا لخطورة هذا الاتجاه الحديث من الإرهاب، في كتابي الصادر العام 2011 بعنوان "العولمة والإرهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟"([4]). والتعريف الذي أستخدمه، وأعتقد أنه يعبر عن مفهوم الذئب المنفرد، ويتفق عليه معظم خبراء الإرهاب المعاصر، هو: أي شخص يرتكب عملا إرهابيا بشكل منفرد تماما، بعيدا عن أية هيكلية أو أوامر قيادّية أو دعم مادي من أية جهة، وإن كان قد يتأثر ويحظى بدعم جماعة أو تنظيم أو حركة أو أيديولوجية ما. لكن المهم أنه مع كل ذلك، يتصرف ويخطط وينفذ منفردا.
ويعود أول استخدام لهذا المفهوم إلى العام 1990، إذ كان أول من استخدمه، الأمريكي توماس لينتون ميتزيغر، زعيم الجماعة العنصرية المتطرفة المعروفة في أمريكا باسم "تفوّق الأمة الآرية البيضاء"، وزميله ألكساندر جيمس كورتيس، وهي من جماعات النازية الجديدة، ولها ارتباطات مع جماعة "كو كلاكس كلان" المتطرفة، والتي تنادي أيضا بتفوق الجنس الآري، وتعادي السود واليهود والأقليات، كما تعارض الهجرة وترفض دفع الضرائب للحكومة المركزية.
وكان ميتزيغر هذا يدعو مريديه إلى العمل كمحاربين بشكل فردي، وبسرية تامة، تجنبا لمراقبة الأجهزة الأمنية، ضد الأهداف الحكومية وغيرها (بعيدا عن عيون الراعي وعصاه الغليظة). ولذلك، فقد وصف مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي الأعمال التي نفذها أفراد من تلك الجماعة منذ بداية العام 1990 باسم "عمليات الذئب المنفرد"، خاصة تلك العمليات التي ارتبطت باسم ألكساندر كورتيس الذي تمت ملاحقته بشكل حثيث ومن دون هوادة من الحكومة الأميركية([5]).
ويقول عدد من الباحثين والخبراء الغربيين المعاصرين، إن هذه الظاهرة من الإرهاب أخذت زخمها في الحقبة الحالية من العولمة، بعد موجة التطرف والإرهاب ذي الصبغة الإسلامية خاصة في الغرب، وأنه تم التوسع في استخدام المفهوم بشكل غير دقيق وقريب من الرومانسية([6]).
وأن معظم هؤلاء الذئاب يعانون من العزلة الاجتماعية والإحباطات، ومن مشاكل نفسية مختلفة وصعوبات في الحياة، وقد تعرضوا لهشاشة نفسية جعلت منهم أهدافا سهلة للتجنيد والتطرف الديني الذي منحهم الخلاص والمخرج، لإطلاق موجات العنف والتطرف والإرهاب لديهم. لكن لا بد من التأكيد أن هذه الظاهرة الجديدة لا ترتبط فقط بالدين الإسلامي وبالمتطرفين الإسلاميين؛ بل هي موجودة في مختلف الديانات والأيديولوجيات. والأمثلة عليها كثيرة.
وتكفي الإشارة إلى أن أعنف عملية لذئب منفرد كانت للمتطرف القومّي الأمريكي تيموثي مكيفي في 19 آذار 1995م في عملية مدينة أوكلاهوما التي قتل خلالها (168) وجرح (680) شخصا ً، والتي تعد مثالا كلاسيكيا على عمليات الذئب المنفرد في أدبيات الإرهاب، وعملية النرويجي التطرف قوميا ًأندراس بريفيلك، والذي قتل 77 شخصا في أوسلو عام 2011.
وهناك ترابط كبير بين هذه الظاهرة وما يسمى في أدبيات الإرهاب الحديثة بـ"الإرهاب الناشئ محليا"، وهو الإرهاب الذي ينفذه أفراد يعيشون في أوروبا وأمريكا، وقد ولدوا وتربوا وتعلموا هناك، وبما يعتبر أهم وأخطر اتجاهات الإرهاب العالمي الحديث.
وفي هذا المجال؛ يقول كلنت واتس؛ الخبير في مكافحة الإرهاب، والزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية الأمريكي، إن هذا الاتجاه من الإرهاب أخذ شكله الحالي بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ضد أمريكا. وبأن أنور العولقي المولود في أمريكا من أصل يمني، والمنتمي لتنظيم "القاعدة"، وتم اغتياله بهجمة طائرة بدون طيار في اليمن عام 2011، كان بما يتمتع به من قدرة على الخطابة والحديث باللغة الإنجليزية واستخدام الإنترنت، مثالا على حث ودفع الذئاب المنفردة على العمل في الغرب وأمريكا. وقد ارتبط اسم العولقي لدى خبراء الإرهاب والأجهزة الاستخبارية بالعملية الإرهابية التي قام بها نضال مالك حسن، الرائد في الجيش الأمريكي في قاعدة فورد هود تكساس العام 2009، وقتل فيها 13 شخصا، وجرح 32 آخرين، والتي تصنف كأهم عمليات الذئب المنفرد في التاريخ الأمريكي([7]).
وتعتبر دراسة البرفسور الأمريكي مارك هام وزميله عالم الاجتماع الأسترالي رامون سباج التي تناولت 200 من عمليات الذئب المنفرد في أمريكا منذ عام 1940 حتى 2016م أفضل ما كتب حول ظاهرة الذئب المنفرد - حسب اعتقادي - وتشكل إضافة نوعية لدراسة الظاهرة، سواء في أمريكا أو غيرها([8]).
إن الخطورة التي تمثلها هذه الظاهرة تأتي من صعوبة التنبؤ بنوايا وتحركات وفعل "الذئب المنفرد"، الذي أصبح يهاجم - القاصية والدانية - بتوحش وعنف اليوم؛ ويقض مضاجع الدول والمجتمعات والأفراد بما أرهق الدول - الراعي - واستنفذ تحفزه واستعداده نظرا لصعوبة التنبؤ بالهجوم المتوحش لهذا الذئب، وتعذر المراقبة الدائمة وجمع الأدلة الجرمّية التي تمكن من تقديمه للمحاكمة المدنية العادلة، خاصة في الدول الديمقراطية في أمريكا والغرب.
وعلى طول وعرض هذا العالم اليوم الذي ضرب فيه الإرهاب (93) دولة أي ما نسبته (57%) من دول العالم، حوّل الإرهاب بشكلِ عام؛ والذئب المنفرد بشكلٍ خاص الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة الإرهاب في العالم (الراعي اليقظ صاحب العصا الغليظة) إلى مجرد رجال خدمة المطافئ والإسعاف لا يحضرون إلا بعد انتهاء العمليات الإرهابية للإنقاذ وإسعاف ونقل القتلى وإحصائهم؛ وترك للقادة السياسيين فرصة القاء البيانات والمؤتمرات الصحفية والخطب.
المراجع:
1- البعداني، خالد محمد حسن، التمسك بالجماعة، جامعة الإيمان، أخرجه أبو داود: 1/ 205، برقم: 547، والحاكم في المستدرك: 1/ 330، برقم: 765، وقال الألباني: حسن - صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 102، برقم: 427. (2012) http://www.jameataleman.org/main/articles.aspx?article_no=1098
2- الشرفات، سعود، العولمة والارهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع عمان الطبعة الأولى، 2011، ص40
3- الشرفات، سعود، الإرهاب العالمي بحلة جديدة: الذئب المنفرد، صحيفة الغد الأردنية (2015) على الرابط:
http://www.alghad.com/articles/905567-الإرهاب-العالمي-بحلة-جديدة-الذئب-المنفرد
-4 Jacob Siegel, Lone Wolves, Terrorist Runts, and the Stray Dogs of ISIS
Why ISIS and al Qaeda rely on loners and losers to carry out their terrorist agenda in the West.2014
http://www.thedailybeast.com/lone-wolves-terrorist-runts-and-the-stray-dogs-of-isis
5- Matthew Feldman, The Age of Lone Wolf Terrorism, by Mark S. Hamm and Ramón Spaaij, June 15, 2017
https://www.timeshighereducation.com/books/review-the-age-of-lone-wolf-terrorism-mark-s-hamm-and-ramon-spaaij-columbia-university-press
6- http://economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2016/11/Global-Terrorism-Index-2016.2.pdf
[1]- البعداني، خالد محمد حسن، التمسك بالجماعة (2012)، جامعة الإيمان، أخرجه أبو داود: 1/ 205، برقم: 547، والحاكم في المستدرك: 1/ 330، برقم: 765، وقال الألباني: حسن - صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 102، برقم: 427. http://www.jameataleman.org/main/articles.aspx?article_no=1098
[2]- http://economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2016/11/Global-Terrorism-Index-2016.2.pdf
[3]- Jacob Siegel , Lone Wolves, Terrorist Runts, and the Stray Dogs of ISIS
Why ISIS and al Qaeda rely on loners and losers to carry out their terrorist agenda in the West.2014 http://www.thedailybeast.com/lone-wolves-terrorist-runts-and-the-stray-dogs-of-isis
[4]- الشرفات، سعود، العولمة والارهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع عمان الطبعة الأولى، 2011، ص40
[5]- الشرفات، سعود، الإرهاب العالمي بحلة جديدة: الذئب المنفرد، صحيفة الغد الأردنية (2015) على الرابط:
alghad.com/articles/905567-الإرهاب-العالمي-بحلة-جديدة-الذئب-المنفرد
[6]- Matthew Feldman, The Age of Lone Wolf Terrorism, by Mark S. Hamm and Ramón Spaaij, June 15, 2017https://www.timeshighereducation.com/books/review-the-age-of-lone-wolf-terrorism-mark-s-hamm-and-ramon-spaaij-columbia-university-press
[7]- مرجع سابق، الشرفات، سعود، 2015م.
[8]- مرجع سابق، Matthew Feldman.