الذاكرة الجماعية على ضوء الصحافة والتّاريخ
فئة : مقالات
مقدمة:
تتأسس الكثير من المفاهيم على حدود وتخوم علاقة الصحافة كصناعة للخبر وتداوله، وكبحث عن حقيقة الأشياء، والتاريخ كبحث وحرفة تبتغيان ربط البحث عن حقيقة الأحداث في امتدادها الزمني إلى الماضي، عبر دراسة سجل الأحداث والوقائع في زمنية حدوثهما، والتي أثرت على أمة أو شعب أو مجتمع، على أساس الفحص النقدي لمختلف المصادر والشواهد والوثائق، في أفق فهم الأسباب والعوامل التي تحكمت في هذه الأحداث، وبين الماضي والراهن، تنبثق مفاهيم: التاريخ الفوري، الصحافي المؤرخ، المؤرخ الصحفي، التاريخ التداولي...إلخ، من المفاهيم التي تؤسس لمنطق التعالق والتوسط بين علم التاريخ وصناعة الصحافة والإعلام، وهي منطقة لا تنفصل عن الأخلاق، باعتبارها سند الترافع باسم خطاب الحقيقة.
لقد شكلت العلاقة المركبة بين الصحافة والإعلام عموما، والتاريخ موضوعاً خصباً لعدد كبير من المهتمين والباحثين من الحقلين معاً، خاصة وأن عددا مهما من الكتابات الصحفية والبرامج الإعلامية، باتت تعتبر أحد مصادر المعلومة التاريخية، التي حظيت بأهمية كبرى في استنطاق مناطق التوتر والعتمة، لارتباط التاريخ بالسلطة من جهة، وتوتر العلاقة دوما للصحافة والإعلام بالسياسة، لكن الأمر لا يمنع من التمرد أحياناً على هذه السلطة واشتراطاتها، تلبية لنداء أخلاقي في العمق، لا ينفصل عن الموضوعية في التاريخ، وعن أخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام.
إن الحديث عن التاريخ، كبحث في الأحداث وماضيها غير منفصل في أدبيات مدرسة الحوليات، عن الحاضر والراهن، والصحافة باعتبارها تأريخا للأحداث والوقائع في زمنيتها الراهنة، هو حديث في العمق عن الذاكرة الجماعية، بكل الأطر الإيديولوجية لإنتاج المعرفة التاريخية، حيث يصبح المؤرخون كما الصحافيون أطرا اجتماعية لإنتاج هذه المعرفة، بما هي تحويل للذاكرة الجماعية من بعدها الشعبي العفوي إلى بعدها العَالِم.
من هنا سنحاول مقاربة هذه العلاقة من خلال دور كل من الصحفي والمؤرخ في تدوين معرفة عالمة بالوقائع والأحداث، التي تنتفي معهما كل الأوهام والزيف والكذب والتضليل، الذي يخفي صراعا حول السلطة، بما هي اقتصاد للمعرفة السياسية التي تضمر بدورها صراعا حول المصالح، ويبدو بذلك التاريخ مثله في ذلك مثال الصحافة، خطابا للمهيمن والقوي، وهنا وجب استحضار كتاب المؤرخ المغربي الطيب بياض، "الصحافة والتاريخ، إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن"، بما يشكل من تدشين بحثي وحقلي جديد، يراهن على التأريخ للراهن من خلال تواشج العلاقة بين الصحافة من جهة، والتاريخ من جهة أخرى، وهو ما يجعل الخطابين معا خطابا مؤسسا للذاكرة الجماعية العَالِمَة مرافعة معرفية من أجل الحقيقة التاريخية.
1- الذاكرة الجماعية بين معرفة الحس المشترك والمعرفة التاريخية
تعد الذاكرة الجماعية خزانا لثقافة الشعوب وتاريخها، بما تحمل الثقافة من عمق أنثروبولوجي، ويحيل التاريخ على سيرورة الإنسان في الزمن والمكان، حيث تمد هذه الذاكرة الجماعية الشعوب والمجتمعات بالسلوكيات والمواقف والقيم، كما تمد الأفراد مهما اختلفت ثقافتهم وتوجهاتهم بالطاقة الضرورية للاستمرار والديمومة، ومن ثم تتخذ هذه الذاكرة أبعاداً متعددة حسب سياقات توظيفها واستغلالها، حيث يصبح البناء الثقافي أحد تجليات هذه الذاكرة ومؤشراتها القوية التي تتخذ أشكالاً وصيغاً متعددة ومختلفة حسب طبيعة الرابط الاجتماعي الذين يصل بين مكونات المجتمع الثقافية، الاجتماعية والسياسية، وهو ما تناولته الكثير من الدراسات والأبحاث في المجتمعات المتقدمة تحديدا، لما لهذا الموضوع من أهمية استراتيجية، وعلى رأسها كتابات موريس هالبواش، ودانيال هيرفيو ليجي وجون بول وليام...إلخ.
تعد الذاكرة الجماعية خزانا لثقافة الشعوب وتاريخها، بما تحمل الثقافة من عمق أنثروبولوجي، ويحيل التاريخ على سيرورة الإنسان في الزمن والمكان
فإذا كانت الصحافة في العمق، بما هي تجاوز للإخبار والإعلام، هي إضاءة لسياق تشكل الحدث/ الأحداث بشكل يجعلها بالأساس، تحقيب وبحث عن مرجعيات الحدث وأولوياته، فإنها - كما الإعلام - تتأسس على فك شفرة زمنية الحدث وتاريخانيته، خاصة وأن الحدث هو نتاج لتفاعل ثلاثية: الإنسان، الزمن، المكان. ولهذا فنقل الحدث، هو نقل لظروف نشأته وبروزه الذي يضمر في العمق الزمن، بما هو هو سيرورة انبناء منفتحة على منطق الاحتمال الأرسطي، فهو ممتد في الماضي، كيفما كانت طبيعته بسيطة أو مركبة، وعاكس للحاضر، بما هو العالم كمعطى، ومنفتح على المستقبل، من خلال زمنية التأثير الممتد في الآتي، طالما أن الحدث، وهو يتجاوز مفهوم الإخبار الصحفي، يدخل في منطق السبب والعلة لربط السابق باللاحق. وهنا نكون أمام اشتباك وتعالق التاريخي بالصحفي، والتاريخ بالصحافة، حيث تدخل هذه العلاقة المركبة، في صلب بناء المعرفة التاريخية - الصحفية في المجتمعات المعاصرة، طالما يكمن أساس كل من الصحافة والتاريخ في المعرفة، باعتبارها خطابا ميتا حدثياً، وخطابا يرتكز في العمق على العلم، بما هو حكم الوجود بالتعبير الفلسفي للكلمة.
يقودنا هذا البعد التأسيسي للذاكرة الجماعية العالمة إلى استحضار كتاب هالبواش "الأطر الاجتماعية للذاكرة"، حيث تم التشديد على العمل الخاص بالاندماج والتوحيد الذي تحققه كل ثقافة من خلال قدرتها على إعادة إنتاج تاريخها الذي يتوزع بين التاريخ المحلي، تاريخ الأسر والعائلات، تاريخ الحروب والمجاعات والأوبئة، تاريخ المؤسسات، والاختراعات وعموم الأحداث الكبرى المؤسسة للذاكرة الجماعية، والتي تطغى عليها معرفة الحس المشترك، التي تعد أحد مصادر السلطة السياسية لإضفاء الشرعية على ثقافتها، كلما تم تهميش المعرفة التاريخية، وهو ما يجعل هذه الثقافة تتحول إلى معتقدات سواء كانت دينية، أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية...إلخ، حيث تظل هذه الأخيرة ثاوية في اللاشعور الجمعي ما بين حدّي الحقيقة والزيف، التضليل والصدق، طالما أن هذه الذاكرة تبقى مرهونة في أساسها إلى بنيات المتخيل بتعبير جيلبير دوران. إنها بنيات لا تنفصل في العمق عن الخرافة والأسطورة والحس المشترك، بشكل يجعل توظيفها على مستوى كتابة التاريخ الرسمي يخضع لرهانات السلطة السياسية، ضمن ما يمكن أن نسميه مصادر الشرعية الإيديولوجية للسلطة الحاكمة.
فإذا كانت ديناميكية العلاقات الاجتماعية تخضع لطبيعة الرابط الاجتماعي، فإن هذا الأخير يشكل فيصلاً حاسماً لتحديد مستويات تلقي المعلومة سواء كانت اخبارية- صحفية أو تاريخية، خاصة في المجتمعات المعاصرة، لما للمعرفة العلمية من تأثير على تشذيب وغربلة المعلومة، وتفكيكها للوصول إلى أساسها الثاوي في المضمر واللامقول، وهو ما بات الإعلام السمعي البصري - في تعالقه مع الصحافة - يقوم به، بحرفية تجعل إعادة كتابة الذاكرة الجماعية يخضع لشروط وإرغامات السلطة السياسية، التي ليست بالنهاية سوى ذاكرة ثقافية، بالتعبير الأنثروبولوجي للكلمة، كما يخضع لجرأة الصحفي والمؤرخ، على حد سواء.
2- دور المؤرخ والصحفي/ الإعلامي في كتابة تاريخ الذاكرة الجماعية
إذا كانت الذاكرة الثقافية، ذاكرة جماعية. فإن التاريخ الحقيقي للبشرية، هو تاريخ لذاكرة الإدراك، بما هو ثمار اشتغال العقل، كفكر وككتابة، من هنا يتأسس مفهوم اللوغوس التاريخي والصحفي على مدار توسط الفكر واللغة، التي تتحول عبر مشرط العقل إلى لغة اللوغوس، حيث تنتفي أو على الأقل تتوارى الأحاسيس والعواطف إلى الخلف، مفسحة المجال أمام تاريخ للاتجاهات المدركة من قبل العقل بتعبير هنري توماس بوكل، مما يجعل الذاكرة الجماعية المرتبطة بالأحاسيس والمشاعر، بكل ما يختلط في تكوينها من خرافات وأساطير، تتحول إلى ذاكرة عالمة، أساسها المعرفة بكل اشتراطاتها المنهجية والعلمية.
ولأجل ذلك يقوم المؤرخ/ الصحفي في اشتغالهما على المادة التاريخية بتصحيح مسار الحقيقة، وتنقية الشوائب، وكسر جرة النمطي، وإعادة توجيه البوصلة، بما ينسجم وجدوى التاريخ وشرعيته وقواعد حرفته، عبر إعمال الشك المنهجي الذي تصبح معه الوثائق والشهادات واللقى الأثرية مجرد أسانيد من أجل الفهم، بكل ما يجعل من أولوية الفهم أمام المنهج، طريقا لتفكيك منطق المسلمات، كيفما كانت دينية أم سياسية أم اجتماعية. وإذا كان التاريخ يتجاوز مفهوم زمنية الماضي كأحداث ووقائع جامدة، حيث تنتفي المصالح والصراعات، أو تخفت حدتها، مما يجعل قيمة الموضوعية ثاوية في عمق جمود سلطة الماضي، أو فورانه مثلما هو حال المجتمعات العربية الإسلامية، إذ للتاريخ الديني، بما هو ذاكرة جماعية، سلطة قهرية ومحددة للراهن، باعتباره الان والهنا، فإن تجاوز التاريخ لمفهوم التحقيب، بما يحيل ذلك على فلسفة التاريخ، يجعل المؤرخ وهو يتناول الراهن والحاضر على فوهة بركان الشرعية السياسية التي تحتد كلما ولجنا أعماق العجز الديموقراطي وبراثن السلطوية، خاصة حينما يتطابق منطق السلطة الدينية والدنيوية، كما هو حال في مجتمعاتنا. ولذلك، فتحليل الراهن العربي تحليلا عارفا وعالما، يقتضي إعادة فهم الماضي وإنارة تخومه وعتماته التي يصعب فصل الديني فيها عن السياسي والاقتصادي والثقافي، والداخلي عن الخارجي.
يعيد المؤرخ ترتيب الأشياء، وتصحيحها وفق رؤية تقويمية وتقييمية في الآن نفسه
تأسيساً على ما سبق، نستحضر مع المؤرخ الطيب بياض، تجارب عربية، سواء عبر السند الصحفي والإعلامي المكتوب أو السمعي البصري، مستحضرين، تجربة الصحفي المغربي محمد باهي من خلال مقاله الأسبوعي من باريس، أو الصحفي/ الإعلامي، المخضرم حمد حسنين هيكل، عبر قناة الجزيرة، في برنامج "مع هيكل"، كما نستحضر تجربة المؤرخين: الطيب بياض نفسه، حسن أوريد، سمية المغراوي، المصطفى بوعزيز، جامع بيضا، محمد ياسر الهلالي، والصحفي العربي المساري، وغيرهم كثير، ممن بصموا بمقالاتهم، تواشج العلاقة بين المؤرخ والصحفي، وبين الصحافة والتاريخ، وهي تجارب عربية، لا تنفصل عن تجارب غربية عديدة، من قبيل تجربة المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ، ولوسيان فيفر، والصحفي فرنسوا فيري وآخرين.
ضمن هذا الأفق، يعيد المؤرخ ترتيب الأشياء، وتصحيحها وفق رؤية تقويمية وتقييمية في الآن نفسه، ولذلك، فهو يعيد قراءة الماضي لفهم الراهن، ويقرأ الراهن من خلال فهم الماضي، يحول الذاكرة الجماعية من بعدها الزمني المحض إلى بعدها الثقافي- التفاعلي، بما يجعل زمنية الثقافي زمنية مستمرة في الحاضر وممتدة في التغيير، وهو بذلك منشغل بسؤال البنيات وإوالياتها المتحكمة في سؤال الراهن. إنه مخبر بالحال والمآل، حيث يلتقي في بعده الإخباري بالصحفي كناقل للخبر ومتفاعل معه، ومساهماً ضمن منظور تفاعلي وتواصلي في إضاءة حيثيات ومرجعيات الأحداث المخترقة لسيرورة الزمن من جهة، وخلفياتها الثقافية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، وهنا يتماهى الصحفي والمؤرخ في منطقة تمفصل سلطة الحكم والتقييم، إنهما قاضيان يصدران حكما على راهن مشمول القضايا المؤسسة للاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، لكن هذا الحكم، ليس قطعيا ونهائيا، مثلما هو الحال في القضاء، بقدر ما هو حكم يخضع بدوره للنسبية والاستئناف الدائمين بحثا عن الحقيقة، وهو ما يشير إليه المؤرخ طيب بياض في كتابه السالف الذكر، بكثير من التمحيص والحصافة المنهجية والمعرفية.
خاتمة:
تخضع الكتابة الصحفية التاريخية، والإعداد الاعلامي التاريخي للبحث عن الحجج والبراهين، لإصدار أحكام الوجود، بما تتطلبه من تجريبية وعلمية وموضوعية، تقتضي ضمن ما يقتضيه الشك المنهجي لتميز الكذب عن الحقيقية، وتمييز معرفة الحس المشترك عن المعرفة العالمة، حيث تظل أحكام تحقيق، وليس أحكاما قطعية، لطالما أن الكتابة التاريخية حسب بول ريكور هي كتابة مستديمة، بما تتطلبه من إعادة الكتابة، وهنا مكمن الاختلاف بين الحكم التاريخي المؤقت والحكم القضائي النهائي، لكنهما وهما يصدران هذا الحكم على قضايا لا تنفصل البتة عن المشاعر والأحاسيس، طالما أن الحدث هو حدث إنساني بالدرجة الأولى، فإنهما ملزمان وهما يصدران أحكام الوجوب، بتوظيف لغة التحليل والتركيب من أجل إدماج القارئ والمتلقي في الشبكة الدلالية للتاريخ، كما الصحافة، في انشغالهما بسؤال النقد كسلطة معرفية اقتضى التقدم البشري، على أن تكون سلطة فاحصة لمستويات تشكل السلطة السياسية التي تتشكل على قاعدتي الحجب والاخفاء، في حين تتأسس سلطة المؤرخ والصحفي على التجلي والظهور.