الذّاكرة والذَّات
فئة : مقالات
الذّاكرة والذَّات
في تجربة إدمون عمران المالح
عبد السلام شرماط*
«كلُّ أديب ملتزم بشكل أو بآخر؛ لأنَّ الأدب على كلّ حال ممارسة للحياة من خلال الفكر والوجدان. أمَّا الالتزامُ بالمفهوم الإيديولوجي، فالمسافةُ بيني وبينه أصبحت زمنيَّة أكثر منها روحيَّة؛ فالمرء لا ينسلخ من لون بشرته».
إدمون عمران المالح
على سبيل البدء
يُعَدُّ اليهود أوَّل مجموعة غير أمازيغيَّة تفد على بلاد المغرب، وهي مجموعة تنقسم إلى طائفتين: طائفة المحليين، ويُسمَّون «التوشفيم»، وطائفة المهجّرين ويُطلق عليهم: الميكوراشيم، وقد توزَّعت الطائفتان عبر ثلاث مجموعات في ربوع بلاد المغرب، حيث استقرَّت طائفة بمناطق الشمال وأغلبهم المهجّرون من إسبانيا والبرتغال عام 1492، وكانوا يتحدّثون اللغة الإسبانيَّة، وطائفة معرّبة كانت تتحدّث اللهجات المحليَّة والدارجة اليهوديَّة، وقد استقرَّت في جميع مناطق المغرب، وطائفة ثالثة كانت تستعمل الأمازيغية في تداولها، واستقرَّت ببلاد الشلوح وتمازيغت في الأطلس وسوس، بالإضافة إلى لهجتهم المستعملة وفولكلورهم الذي لا يقلُّ عن ذاك الذي كان لجيرانهم المسلمين.
وتُعّدُّ أشكال المعرفة اليهوديَّة، بما فيها الفكر التشريعي والشعر الديني والكتابات الباطنيَّة (القبالة) والأدب الشعبي المنقول شفاهياً باللهجات المحليَّة، أسساً رئيسة لدراسة اليهوديَّة المغربيَّة؛ انطلاقاً من أشكال معرفيَّة يمكن إدراجها وفق الترتيب الآتي:
أ. الأدب القانوني:
أَوْلَى الدارسون عنايتهم لدراسة القانون اليهودي، وعرَّفوا ببعض جوانبه من قانون الأحوال الشخصيَّة (الزواج، الطلاق، الإرث)، ومن علاقات مع المحيط الإسلامي على ضوء عدد كبير من التقنوت (فتاوى)، وما يحدث في سلوك الفرد، فبعيداً عن الفكر الرّبي، يتضمن الأدب القانوني جوانب اجتماعيَّة واقتصاديَّة تتجلى في العلاقة المباشرة بين الفرد والمجتمع، ما ساعد على معرفة مظاهر المجتمع اليهودي الخفيَّة من تاريخه، والتي مضت في صمت عبر علاقات السفر والعلاقات الدبلوماسيَّة الأجنبيَّة والعلاقات التجاريَّة.
ب. الشعر:
إذا كان الأدب القانوني مرآة تعكس الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، أو بصفة عامَّة الوجود الاجتماعي، فإنَّ الشعر يُعَدُّ وسيلة تعبيريَّة أخرى عن الفكر والمعرفة، ولا سيَّما في جانب الحياة العاطفيَّة الخاصَّة، حيث يعكس الشعر الأفراح والآلام، باعتبارها إحساسات تولدها مشاعر نفسيَّة وجدانيَّة.
ج. الأدب القبالي:
يُعَدُّ الأدب القبالي نوعاً آخر من أشكال المعرفة اليهوديَّة، فإذا كانت معاناة الشطحات الصوفيَّة منحصرة في نخبة ضئيلة جداً، فإنَّ القبالة على العكس من ذلك؛ إذ كانت تعرف في بعض جوانبها وفي بعض مظاهرها وطلسماتها التي تقارب السحر، اهتماماً واسعاً ونفوذاً شعبياً عظيماً، خصوصاً في الجنوب المغربي (سوس، تارودانت، تافيلالت، تخوم الصحراء...).
د. الأدب المكتوب والشفوي:
يتضمَّن الأدب المكتوب والشفوي موضوعات مختلفة، منها القصص الموزونة المستوحاة من التوراة والأشعار الدينيَّة وأناشيد الفولكلور. ففي هذا اللون من الأدب، تذوب حدود الدّين والفواصل الاجتماعيَّة والثقافيَّة، وبوساطته يتمُّ الاتصال السهل بين الطبقات الشعبيَّة، كما يتمُّ فيه أيضاً الإبداع الفولكلوري المتبادل. وإذا كان الأدب المكتوب يقتصر على نخبة من المثقفين، فإنَّ الأدب الشفوي حظي بمكانة مهمَّة في المجتمع اليهودي، إذ كان يعكس حقيقة هذا المجتمع من خلال أشعار طقوسيَّة ومنظومات وحكايات توراتيَّة وأغانٍ فولكلوريَّة وحكم شعبيَّة.
تقديم:
يمكن أن يعرّف اليهودي المشرقي والسفردي نفسه، بصفته يهودياً، بالتعريف نفسه الذي عرّف به كافكا ذاته، وهو يضع نفسه مقابل يهود الغرب، يقول في إحدى رسائله إلى (Milena): «ينبغي أن أكتسب كلَّ شيء ليس الحاضر والمستقبل وحسب، بل الماضي أيضاً؛ فهذا الشيء الذي يتلقى كلُّ الناس نصيبهم منه بالمجان، ينبغي عليَّ أنا أن أقتنيه، ولعلَّ هذه هي أصعب المهام، وإذا كانت الأرض تدور نحو اليمين، ولا أدري إذا كانت تفعل، فعليَّ أنا أن أدور نحو الشمال، لكي ألحق الماضي»[1].
نفهم من كلام كافكا أنَّ اليهودي بصورة عامَّة، والمغربي بصورة خاصَّة، يطمح إلى إعادة بناء الذات وإثبات الهويَّة والوعي بانتمائهما إلى طائفة عرقيَّة، انطلاقاً من بيئة تميزها عبر إبداع مكتوب أو شفهي، سواء باللغة العبريَّة أم باللهجات المحليَّة. لذا، ظلَّ صدى الذاكرة اليهوديَّة المغربيَّة يتردَّد في نفوس اليهود الذين غادروا بلاد المغرب، سواء في اتجاه إسرائيل أو في اتجاه دول غربيَّة مثل فرنسا أو كندا، وتجلت آثار ذاكرتهم في الموسيقا والغناء والأشعار والشعائر، يقول حاييم الزعفراني: «وتعبّر هذه الذاكرة عن نفسها ببراعة في الخلق الأدبي العبري الناشئ لدى بعض الأدباء من أصل مغربي؛ وبالأخص في رهافة الشعراء الشباب الذين عبَّروا في آثارهم الأدبيَّة الجيّدة عن الروح المكلومة والثقافة المهمَّشة أو المهانة وقساوة العيش التي يعانيها شتات «ثانٍ» هو الذي عرفنا منه من قبل على أرض المغرب المعطاء الوجه الوضَّاء وحرارة العاطفة والأفراح والأحزان»[2].
وحين نتحدَّث عن الأدب اليهودي المغربي، فإنَّنا نتحدَّث عن أدب متنوّع شمل أشكالاً تعبيريَّة متنوعة حرصت على استحضار الذاكرة بكلّ تجلياتها الذاتيَّة الدينيَّة والفولكلوريَّة، وتلك خصوصيَّة ساهمت في إثراء هذا الأدب وإغنائه بسبب تداخل أطيافه وتلاقحها في إطار شمولي، عبر نتاجات استحضرت التاريخ والذات في قالب هوياتي لا يخرج عن حدود الوطن، على اعتبار أنَّ الديانة ليست هي التي تحدّد الوطن، فتناولت قضايا إنسانيَّة تنبع من الذات لتصحيح مجريات الواقع ونواقصه، وآمن روَّادها بضرورة إعمال العقل في التعاطي مع الأشياء، انطلاقاً من أنَّ السؤال لا يصنع الحقيقة؛ بل ينجز الفكرة التي غالباً ما تكون مصدراً أوليَّاً في تحريك المفاهيم والقوالب الجاهزة، معززين مواقفهم بجرأة فلسفيَّة في الانشقاق عن المرفوض تارة، والاتصال بالتميز والتفرُّد تارة أخرى، فرسَّخوا خصوصيتهم من خلال كتاباتهم، ومن خلال مواقفهم وآرائهم التي عبَّرت بعمق عن أصالتهم. ويُعَدُّ إدمون عمران المالح واحداً من الكتَّاب اليهود المغاربة الذين انخرطوا في تجربة الكتابة انطلاقاً من الكتابة ذاتها، لا باعتبارها وسيلة أو أداة، وإنَّما باعتبارها الفكر نفسه في زئبقيته وتشذُّرِه وانسيابيته.
1. إدمون عمران المالح: بطاقة تعريف
إدموند عمران المالح كاتب يهودي مغربي، ولد عام 1917م بآسفي، في وسط أسروي جمع بين التجارة والتدين، وتعود أصوله إلى جذور أمازيغيَّة، وبالضبط قبيلة آيت باعمران جنوب الأطلس[3]، وعلى طريقة عدد من المفكرين اليهود، مثل حاييم الزعفراني، ونعوم شومسكي، ونورمان فنكلستين، الذين لم يؤمنوا بالمشروع الصهيوني، بل أعلنوا تضامنهم مع القضيَّة الفلسطينيَّة، سار إدمون عمران المالح، حيث اختار البقاء في بلده المغرب في وقت كانت الحركة الصهيونيَّة تشجّع فيه اليهود على الهجرة، وأبان عن روحه الوطنيَّة من خلال انخراطه في مسار الكفاح الوطني بقصد استقلال المغرب، وواجه كباقي المواطنين المغاربة آلة القمع الاستعماري، وبعد حصول المغرب على استقلاله، هاجر إدمون عمران المالح، لاعتبارات يتداخل فيها السياسي والإنساني، إلى فرنسا ليشتغل بالتعليم مدرّساً لمادة الفلسفة، كما عمل في مجال الصحافة، وظلَّ على هذه الحال حتى عودته إلى المغرب عام 1966م، حيث أقام في مدينة الرباط حتى وفاته عام 2010م، ليدفن في مدينة الصويرة، مخلفاً عدَّة أعمال أدبيَّة، يمكن عرضها على الشكل التالي:
1. المجرى الثابت، عام 1980.
2. أيلان أو ليل الحكي، عام 1983.
3. ألف عام بيوم واحد، عام 1986.
4. عودة أبو الحكي، عام 1990.
5. أبو النور، عام 1995.
6. حقيبة سيدي معاشو، عام 1998.
7. المقهى الأزرق: زريريق، عام 1998.
8. كتاب الأم، عام 2004.
2. لعبة الذَّات والذاكرة في الكتابة عند المالح
كوَّن اليهود المغاربة في بلاد المهجر، ولاسيما فرنسا، طوائف اتَّسمت بالحيوية والنشاط، واستطاعت أن تندمج اجتماعياً واقتصادياً أفضل ممَّن هاجروا إلى إسرائيل، وفي مقابل ذلك ظلَّ الوسط العائلي اليهودي مرتبطاً باليهوديَّة بوصفها حقيقة ثابتة لا محيد عنها، حيث الذاكرة اليهوديَّة حاضرة في السلوك اليومي في الحاضر كما في المستقبل، وتجلى ذلك بامتياز في كتابات بعضهم، حيث الوفاء للتراث العبراني والفكر اليهودي على شموله، «والأكثر من ذلك أنَّه يظلُّ موسوماً بأصوله المغاربيَّة ومفتخراً بمساهمة أجداده في الفكر الأندلسي والثقافة العربيَّة الأمازيغيَّة»[4]. ويُعَدُّ إدمون عمران واحداً من اليهود الذين حافظوا على ذاكرة أجدادهم التي تباهوا بها في كتاباتهم.
وإذا كانت الذاكرة تحضر في الرواية، باعتبارها زمناً ولَّى، أو عبارة عن علبة وجود سابق في الماضي، وإذا كانت الرواية تعيد فتح العلبة من أجل إعادة ترتيبها بقصد إعطائها نظاماً يمنحها الوضوح ومقاومة النسيان، فإنَّ إدمون المالح ظلَّ يتنقل بين كلّ أطياف التعبيرات الأدبيَّة مشخّصاً فضاءات وموضوعات ظلت في طي النسيان، كأماكن طفولته الصويرة وآسفي وأصيلة، ولكن أيضاً عادات وتقاليد، كلمات وروائح، أساطير وقصص اليهوديَّة المغربيَّة من خلال تصويره لطقوسها وعاداتها وماضيها بالمغرب، إلى جانب تقديمه مناخ النضالات التي خاضها المغرب من أجل استقلاله. لقد حاول إدمون المالح أن يكشف في كتاباته عن صور الاختلاف الثقافي، من قبيل محكيات الهويَّة والبدايات، واستلهام الماضي وتواريخ الكولونياليَّة (الحماية الفرنسيَّة والكفاح ضدّ الاستعمار) وما بعد الكولونياليَّة (سنوات الرصاص والجمر)، ولذك يحضر التخييل مشتبكاً بصور القوَّة، التي تطبعه بصور الازدواج والهجنة الثقافيَّة وجدليَّات القوَّة، وديناميات الرغبة والوعي المهجري وشتات المنفى، لتشكّل الكتابة عنده الأسس الرئيسة لكلّ مقاربة شاملة لا تغفل شيئاً عن الوجود اليهودي، عن اليهوديَّة المغربيَّة التي كانت تُعدّ إلى عهد قريب عاطلة عن أيّ ماضٍ، والتي شرعت في إعادة بناء ذاكرتها من خلال الإسهامات التي يجتهد أبناؤها في صياغتها عبر أشكال تعبيريَّة متعدّدة بما في ذلك الرواية التي كانت من اختيار المالح، غير أنَّ هذا الرجل لم يغيّب المشترك بين اليهود والمسلمين في أرض المغرب، ويظهر ذلك في تعليقه برفقة الطاهر بن جلون على كتاب حاييم الزعفراني الموسوم بـ:
Littératures dialectales et populaires juives en occident musulman.
في جريدة «Le monde» العدد 17 آذار/مارس 1980م، جاء فيه: «طيلة قرون، أنشد اليهود والمسلمون في المغرب القصائد نفسها، وغنّوا الأغنيات نفسها...، وجمع مؤلف الكتاب شهادات حول هذه الثقافة المشتركة...، حيث استبطن اليهود والعرب كلٌّ منهم الآخر، وأعطى كلٌّ ممَّا عنده لصاحبه، وساهموا جميعاً في صنع تاريخ مشترك، تاركين بذلك لأبنائهم ذاكرة وتراثاً فكرياً مشتركاً...»[5]. ومن هذا المنطلق كان المالح ممَّن أدرجوا في كتاباتهم صور ذاكرة تجذَّرت في الرمزيَّة المغربيَّة بما يميزها من تعدُّد واختلاف من جهة، وتواصل واشتراك من جهة أخرى، حيث تصوّر مغرباً تعدَّدت وجوهه، وحاول رسمها في قالب ترافقه أصوات وأصداء استمدَّها من كتابات كتّاب آخرين مثل فرانز كافكا. ومن ثمَّة يعدّ المالح نفسه ناقلا للحكايات ومستعملاً لتعابير من أصول عربيَّة يهوديَّة أو أمازيغيَّة أو إنجليزيَّة أو إسبانيَّة؛ بمعنى أنَّ التعبير المحلي أوَّلاً ظلَّ حاضراً في كتاباته، ثم عزَّزه بكلمات لغويَّة أجنبيَّة أخرى، علماً بأنَّ الرجل ظلَّ محافظاً بشكل كبير على لهجته المحليَّة/ المغربيَّة، وإن كانت كتابته باللغة الفرنسيَّة تدلُّ على انفتاحه على ذاكرات متعدّدة وثقافات تنبذ العنف وترفض التهميش والإقصاء، ليزاوج بين الارتماء في أحضان الذات والنبش في الأصول والبدايات، وبين الانشقاق والغوص في أعماق التعدُّد والاختلاف، حيث تتشظَّى الحكاية بين عنف الكتابة وعنف المتخيل في سيرورة ازدواج بين الداخل والخارج، بين الذات والآخر، بين الماضي والحاضر. وهذا ما يفرض على بلاغة النص حالة هجنة نصيَّة وثقافيَّة فاعلة في ديناميَّة السرد، تعبّر عن نفسها في خطاب سردي تعدُّدي منقوش بألسنة متنافسة ولغات متعدّدة: الفرنسيَّة، والعربيَّة، والأمازيغيَّة، والدارجة، والعبريَّة، ولهجات البحارة المختلطة برطانات مغربيَّة وبرتغاليَّة وإسبانيَّة، تهشم عبر هذا الاختلاط البارودي مركزيَّة الذات لفائدة مواقع سرديَّة متعدّدة[6].
وفي مجموع نصوص المالح الروائيَّة تؤدي الذات والذاكرة ثنائيَّة ديالكتيكيَّة، وتؤدي اللغة بينهما دور المرود للأحداث، حيث «تنفخ في لهب الكتابة؛ هناك الذاكرة ضدّ النسيان، والنسيان كسبيل للتذكُّر، وهناك اللغة وفسحاتها وتلاوينها وتضاريسها، وهناك الشذريَّة التي توهم بأنَّ كلّ كتابة زائلة وساعية لاكتمالها، وهناك الاستطراد لتكسير أيّ هندسة أو سرد خطي، وهناك تبطين الحكاية والمحكيات لتوليد الالتباس والترميز وتعدُّد المنظورات ...، والجمع بين هذه الخصائص يقوده إلى الحرص على نوع من «التفضية»؛ أي وضع جميع مكوّنات النص في فضاء مُتجاور، مثلما يفعل الرسام، محطماً التعاقبيَّة الزمنيَّة التي كانت تتحكَّم في النصوص التقليديَّة»[7]. فقارئ نصوص المالح يجد نفسه أمام فضاء واحد تلتقي فيه كلُّ عناصر التذكُّر وفق أساليب النسيان، إذ ينطلق من الذات التي تسترجع وجودها من فضائها الذي نمت فيه وترعرعت، والتقطت كلَّ جزيئات هذا الفضاء ليعيد المالح إنتاجه في فضاء جديد متحرّر من كلّ قيود، «ولعل ذلك ما يجعل نصوص المالح تنطلق غالباً من حاضر ما، هو حاضر الذات الكاتبة، لتستحضر وتحاور ماضياً ما، تلوّنه الذاكرة والوجدان، ثم يُلملم الخيوط ليقرأ مستقبل ذلك الماضي، وهو يفعل ذلك من دون موقف مسبق، أو تحيُّز إلى نموذج، أو إلى صورة. وما جدوى ذلك، وهو ينظر إلى عالمه وعالم الآخرين من منظور يستحضر اللَّامرئي وما هو مستمر داخل المنقطع، ويُحاور شعب «الموتى اللَّايُحصى»، بحسب تعبير جان جونييه، حيث لا ينفع زهو أو تبجُّح أو مباهاة بالكسب؟ لا أريد أن أسترسل في إعطاء أحكام واستخلاصات ربَّما تبدو تجريديَّة، طامسة لنصوصه المكتوبة بحرقة المواجع ورجع الذاكرة»[8].
3.عمران المالح في ميزان النقد:
لم ينل إدمون عمران المالح حظه من الشهرة في مجال الكتابة، على الرغم من كبر سنه الذي ناهز ثلاثة وتسعين عاماً، وظلت كتاباته حبيسة فئة محدَّدة من القرَّاء، ولا سيَّما المثقفين منهم ممَّن اشتغل بالكتابة وتحديداً الرواية؛ كما أنَّ الإعلام لم يفِه حقه داخل المغرب أو خارجه، ولعلَّ السبب يعود بالدرجة الأولى إلى مناهضته لدولة إسرائيل ودفاعه عن القضيَّة الفلسطينيَّة. وقد اتُّهم بمعاداته لليهوديَّة على الرغم من أنَّه يهودي.
عاش المالح فترة من عمره في فرنسا، ولكنَّه كتب عن المغرب وعن أجوائه وعاداته وطقوسه وشعائره، ولاسيَّما اليهوديَّة منها، بلغة فرنسيَّة، فالمعنى يهودي مغربي واللغة فرنسيَّة، وتلك ميزة امتاز بها المالح عن غيره من الكتَّاب الذين كانوا يتباهون بفرنكفونيتهم، حيث كان يكتب بعمق مغربي، فلغته لا تشبه لغة الفرنسيين، ويمكن اعتبار هذا الأمر من أسباب محدوديَّة قراءة إدمون عربياً؛ ذلك أنَّ الحضور الشعبي المغربي، وبالعاميَّة المبثوثة في النص الفرنسي أحياناً، كان وفيراً في أعماله[9].
ولأنَّ الرجل كان مختلفاً، وكانت له مواقف مختلفة، ظلت كتاباته غير معروفة، اللَّهم بعض النتف المعروضة هنا أوهناك أو استدعاؤه لحضور بعض الندوات أو الموائد المستديرة، وما عدا ذلك ظلت أعمال الرجل في طي النسيان، رغم أنَّه مارس لعبة النسيان لاستجلاء ما اختزنته ذاكرته وطفولته في فضائه المعشوق الذي أبى إلا أن يدفن فيه.
لقد كان الرجل حالة متفرّدة في الأدب اليهودي المغربي، وظلت الحاجة قائمةً للتعرّفِ إلى أدبه الذي يحضرُ فيه موضوعُ نزوح المغاربة اليهود إلى إسرائيل، ما عَدّه إدمون المالح «كارثةً في التاريخ اليهودي»، على ما قال أكثر من مرَّة، كانت إحداها في مقابلة صحفيَّة أجراها معه، في الرباط، في منزل صديقه الناقد محمد برادة، الكاتب الأردني معن البياري[10] عام 1994م.
يستحقّ هذا الكاتب الذي هو من طينة استثنائيَّة، بحسب أحد مؤبّنيه، أنْ نقرأه ونتعرّف إلى سردياته، فهو مغربيٌ يهوديٌّ مضيء. وفي وسع المؤسّسة التي تحمل اسمَه، وتمّ إطلاقُها في الرباط صيف 2004م أنْ تنهض بواجب تيسير كتبه للجمهور العربيِ العريض، وتوفير محاوراته وتأملاته في قضايا ومسائل عديدة، لحماية مُنجزِه من النسيان والتجاهل، وهاتان راسختان في الثقافة العربيَّة السيَّارة[11].
خلاصة
يُعَدُّ إدمون عمران المالح أحد كبار المهتمين بالحركة الفنيَّة في المغرب، وأحد كبار نقادها أيضاً، في وقت لم يكن النقد الفني في المغرب قد بدأ يخطو خطواته الأولى؛ فقد كتب المالح عن فنانين رواد، مثل أحمد الشرقاوي، واكتشف مواهب مثل خليل الغريب، ومن غير المثير أن تعقد لقاءات فنيَّة للاحتفاء بالمالح، ليس آخرها النسخة الثانية من المعرض الفني الدولي في مراكش. الذي يقول مؤسسه عبد الرزاق بن شعبان: إنَّ المالح خلَّف إرثاً روحياً كبيراً، وظلَّ وفياً للجذور وللهويَّة المغربيَّة المتعدّدة، وقيم التسامح واحترام الآخر. أمَّا مخلفات المالح الماديَّة من مجموعات فنيَّة وكتب، فقد وهبها للمكتبة الوطنيَّة في الرباط، التي تضمُّ أيضاً مؤسّسة إدمون عمران المالح التي أسّست عام 2004، وهي مؤسَّسة تُعنى بدعم الحوار بين الثقافات والأديان. ومنذ الثالث والعشرين من مارس والمكتبة الوطنيَّة تفتح أبوابها للجمهور من أجل التعرُّف على إرث فقيد الثقافة المغربيَّة: إدمون عمران المالح، أو «الحاج المالح»، كما درج الكثير من المغاربة على تسميته[12].
إنَّ المعادلة التي يمكن صياغتها في النهاية هي أنَّ المالح من خلال كتاباته استطاع أن يقدّم لنا فضاء مغربيَّاً يجسّد التركيب والغنى والانفتاح، يقبل المشترك ويرفض كلَّ أنواع الحيف والتهميش؛ ذلك هو إدمون عمران المالح ـ رحمه الله.
[1] ـ انظر: الزعفراني، حاييم، يهود الأندلس والمغرب، ترجمة أحمد شحلان، مرسم، الرباط، ج2، ص 572
[2] ـ المرجع نفسه، ص 578
[3]- Salim Jay, Dictionnaire des écrivains marocains, Eddif, 2005, p.176 - 179
[4] ـ الزعفراني، المرجع نفسه، ص 578
[5] ـ المرجع نفسه، ص 580
[6] ـ المالح، إدمون عمران، هجرة الحكاية والاختلاف الثقافي، مجلة نزوى:
goo.gl/nwq6kg
[7] ـ المصدر نفسه.
[8] ـ المصدر نفسه.
[9] ـ البياري، معن، إدمون عمران المالح، المغربي اليهودي غير المقروء عربيَّاً، قاب قوسين، صحيفة ثقافيَّة:
http://www.qabaqaosayn.com/node/275
[10] ـ المرجع نفسه.
[11] ـ المرجع نفسه.
[12] ـ ريغينا، كايل، الكاتب اليهودي المغربي إدموند عمران المالح، عمران المالح، ملح الثقافة المغربيَّة، ترجمة رشيد بوطيب، قنطرة 2011:
https://ar.qantara.de/content/lktb-lyhwdy-lmgrby-dmwnd-mrn-lmlyh-mrn-lmlyhmlh-lthqf-lmgrby.