الربح في العصر الرقمي: تسليع الألم والجسد


فئة :  مقالات

الربح في العصر الرقمي: تسليع الألم والجسد

الربح في العصر الرقمي: تسليع الألم والجسد

د. مصطفى الرويجل

لكل عصر تجارته وأساليبه في البيع والشراء، ولكل زمان سلعه الرائجة وطرائق إقناع المشتري في الإقبال عليها، وتجارة كل عصر تستتبع التنظير الفكري والتقدم العلمي؛ الاقتصادي والتقني. والمتتبع للتحولات المعاصرة في مجالين الاجتماعي والاقتصادي يتبيَّن بما لا مراء فيه أن التطور الرقمي قد دفع بهذه التحولات إلى أقصى مدى. فأصبح المجتمع تابعًا للاقتصاد ولو على حساب قيمه الأساسية التي هي ركيزة الوجود الإنساني على مرّ العصور.

لقد أضحى الألم والمأساة والمعاناة سلعة تدّر أموالًا طائلة، ولم يخطر ببال شخص من الأشخاص في الماضي أن تصبح المعاناة كما الألم والمأساة مثيرة لاهتمام مجموعة من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل جمع أقصى عدد من "الإعجابات" و"المشاهدات" التي تتبعها الأموال الطائلة، لا يعرف قيمتها إلا من تضخُّ في حسابه. ألم تكن في المأساة في الماضي سبيل لتطير النفس Catharsis كما أقر بذلك أرسطو في كتاب "الشعر"؟ لقد كانت المآسي والآلام التي تحدث للأفراد والجماعات باعث على مراجعة الإنسان لنفسه ولعلاقاته الاجتماعية، كانت بحق فرصة عودة الإنسان لذاته وتعرية كدرات الزمن التي تراكمت عندما انهمك الإنسان على تحصيل الكسب وينسى قيمته وقيمه.

إن تعزيز قيم التضامن والتكافل؛ قيم المجتمعات البدوية والقبلية قيم الحواضر القديمة؛ رهين بحدوث أزمات ومآسي في المجتمع، فكلّما حلت هذه الأزمات ازدهرت تلك القيم فيتخلى الفرد عن الحسابات الضيقة والصراعات الظرفية وينخرط في الجماعة مساعدًا في حل أزمة أو التخفيف من وقعها. لكن ومع دخول المجتمعات الحديثة العصر المادي، وتسليع كل شيء؛ لم يعد لهذه القيم أي وزن؛ وأصبحت كل الأفعال الإنسانية التي تتخللها قيم التضامن والتكافل عُرضة للتأويل وسوء الفهم، حتى أضحى المتضامن متّهمًا بالنصب، والمتكافل متهمًا بالاستغلال، لقد قُلِبت القيم رأسًا على عقب.

وإلى عهد قريب عندما كانت تقع حادثة أو أزمة أو مأساة، كان الإعلام يتعاطى مع هذه الوقائع بنوع من الأخلاقية، ويتم الإخبار بذلك في نشرات معلومة، وحتى يتأكد من الخبر ومن مصدره الموثوق. أما الآن، فيتم استغلال كل حادثة أشنع استغلال، فالكل أصبح صحفيًّا ناقلًا للأخبار على المباشر، الهمّ الوحيد هو السّبق لموقع الحادث وإشهار الهاتف النقال في وجه واقع مأزوم يحتاج فعلًا لا التقاط صور وتصوير مقاطع فيديو أو بث مباشر. هذا السباق نحو جمع العدد الأكبر "للإعجابات" و"المشاهدات" جعل هؤلاء لا يقدرون حجم الألم الذي يعانيه المتألم ولا يحسنون التعامل مع الوضع، فيطلب الشخص من أُمٍّ ثكلى أن تعطي تصريحًا، ومن أبٍ مكلوم أن يشرح ما وقع (كما حدث مع الواقعة المؤلمة للطفل ريان رحمه الله).

أما بالنسبة للمتلقي الواعي بمثل هذه "المواد الإعلامية" فإنه حتما سيشعر بالقرف والغثيان، عندما يقرأ عنوانا مثيرًا ويحاول أن يطّلع على الأمر، فلا يجد أيّ رابط بين العنوان و"المادة الإعلامية"، فالعنوان في واد والموضوع في واد آخر، وكلاهما غير ذي زرع. والهدف دائما تسويق المأساة أو الفضيحة.

إن سوق الفضائح سوق مزدهر التجارة في هذا العصر الرقمي، كان التاجر قديما يبحث عن السلع لكي يعرضها فيجني منها قوت يومه وما ينمي به تجارته فيستفيد البائع والمشتري. أما الآن، فأصحاب الصفحات يصولون ويجولون في وسائل التواصل الاجتماعي وفي المواقع الإلكترونية تنقيبًا عن "مادة إعلامية" نتنة تدرُّ ربحًا مهمًّا، يتقاسمونها على صفحاتهم وينقلها الفرد عن الفرد، حتى تصبح حديث الساعة وتنسي المرء ما هو فيه من أمر (فقر مدقع؛ تعليم مهترئ؛ منظومة صحية منهارة...). ويا للأسف كيف كانت الضّجة التي يُحدثها كتاب لا تهدأ حتى يعلم القاصي والداني موضوع الكتاب، ويتتبَّع النقاش الذي يلي نشره؟ وكيف أصبح مقطع فيديو فيه كلمة قيلت على غير نُطقها السليم أو ظهور جزء من جسد كان تحت قماش يتسيّد مواقع التواصل الاجتماعي وحديث كل لسان؟

وهنا نتساءل: ما الذي تغيّر إبان العصر الرقمي؟ كيف أصبح التّافه أهم من المُجدي؟

لم يقتصر السعي للرِّبح على الجري وراء الفضائح والتغذّي على آلام الناس ومآسيهم؛ بل أصبح الجسد أيضا مدرًّا للربح على اختلاف طرائق توظيفه؛ سواء تعلق الأمر بمقاطع الفيديو الجنسية (الجنس الرقمي) التي تجسد المُواقعة محقِّقة "للمتعة الرقمية"، أو بالجسد المعروض في مواقع التواصل الاجتماعي بواسطة صور رقمية في وضعيات مثيرة/ساخنة.

لنترك المواقع الإلكترونية العارضة لمقاطع الفيديو جانبا (لأنها لا توظف على صفحات التواصل الاجتماعي بشكل واسع)، ونهتم بمواقع التواصل الاجتماعي التي تتخذ من الصور ومقاطع الفيديو القصيرة المادة الأساسية المشكِّلة لمحتوياتها. في صفحات هذه المواقع اختلط الحابل بالنابل، عَرضٌ لأجساد دون علم أصحابها؛ مقاطع فيديو قصيرة لشابات أو نساء دون علمهن. فقد تلتقط شابة صورة لها على شاطئ البحر أو في مكان سياحي في الفصل الجاف وتتقاسمها على صفحتها، فإذا بها تجد تقاسم الصورة وصل عددًا لا محدودًا على صفحات متخصّصة في عرض الصور الفاضحة، والأمر نفسه بالنسبة لمقاطع الفيديو.

إذا كانت هذه الصفحات تقتنص الجسد وتعرضه من أجل العدد الأكبر من "المشاهدات" و"الإعجابات" وتسوِّق منتوجاتها طلبا للربح، فإنها تستغل في ذلك التمثُّلات المجتمعية حول الجسد، مستهدفة كل الممنوعات داخل المجتمع وعارضة لها خلف شاشة الهاتف أو الحاسوب، والكل يعلم لهث الرجل وراء جسد المرأة في المجتمعات المحافظة. كما يمكن الإشارة في هذا السياق إلى ظاهرة "روتني اليومي" التي تعرض الجسد تحت غطاء انشغال المرأة بأمور البيت، فليست الأشغال المنزلية هي ما يراد إظهاره وإنما الجسد وتفاصيله. كل هذا يدخل في إطار تسليع الجسد والهدف واحد رغم اختلاف الطرق، الربح المادي([1]) ولا شيء غيره.

إن أقدس ما يملك الإنسان الجسدَ، فهو أخص خصوصياته وأقرب الأشياء إليه، فكيف يمكن تسليعه؟

إن ما قيل يحتاج إلى اشتغال علمي أكاديمي تشرّح فيه الظواهر المعاصرة المرتبطة بالتحول الرقمي لعصرنا الحالي؛ اشتغال متعدد الجواب (سوسيولوجي؛ فلسفي وأنثروبولوجي، اقتصادي، اعلامي...)، فلم نزعم مما قيل الجواب الشافي أو القول الفصل، وإنما إثارة الموضوع في دائرة كبرى من المهتمين والمتخصصين.

[1] إن المجال الرقمي اليوم يحقق أرباحا طائلة ويحقق رقم معاملات مهمة، فبالإضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه فهناك ميادين أخرى للربح الرقمي، يتعلق الأمر بالتسويق عبر الإنترنيت، وألعاب الفيديو Gaming، وألعاب الحظ والمراهنات، وغيرها...