الرسالة المسيحية ونظرة العالم الحديث مقاربة تأويلية في كتابات رودولف بولتمان
فئة : مقالات
الرسالة المسيحية ونظرة العالم الحديث
مقاربة تأويلية في كتابات رودولف بولتمان
الملخص
إنّ غاية بولتمان من نزع الأسطرة من النصّ الإنجيلي هو أن يقدّم قراءة جديدة تجانب من سبقه، قراءة تنهض على التأويل الذي به يتجاوز القراءة النحوية والمعجمية والتاريخية. وبعبارة أخرى، فإنّ الموضوع يضبط الإيمان في حين يتحكّم المنهج في الفهم وفق رأيه.
تقديم
يعدّ رودولف بولتمان (1884-1976 م) Rudolf Bultmann واحدا من أئمة الفكر الديني ورجلا من رجال الإصلاح المسيحي المعاصر خلال القرن العشرين جمع بين اللاهوت والتاريخ والفلسفة، مما يفسّر تعامله مع النصّ الإنجيلي الذي ينهض على ثلاثة أبعاد؛ أوّلها البُعد التاريخي، فقد توسّل بهذا المنهج في قراءة نصوص العهد الجديد ونقدها ومقارنتها والبحث في أصولها ومصادرها. أمّا البُعد الثاني، فهو فلسفي بدا فيه الرجل متأثّرا بالفلسفة الوجودية وبتأويل النصوص تأويلا وجوديا، ويتمثّل البُعد الثالث في الجانب اللاهوتي بصفته عالم لاهوت بروتستانتيا، من أبرز مؤلفاته "العهد الجديد والميثولوجيا" Nouveau Testament et mythologie و"الإيمان والفهم" Foi et compréhension و"يسوع: الأسطورة، ونزع الأسطرة" Jésus; mythologie et démythologisation، تأثّر بأفكار مارتن هايدغر (1889- 1976 م)Martin Heidegger وهانز جورج غادامير (1900-2002 م) Hans-Georg Gadamer. اشتهر بتفسير نصوص العهد الجديد خاصّة بتأويل الأسطورة وبنزعها Démythologisation من خلال النظر في سيرة يسوع ودراسة التصوّر الأسطوري في العهد الجديد لجملة من المضامين الغيبية والعجائبية. ولعلّ هذا ما يفسّر وعي بولتمان بالمسافة الزمنية بين الحدث والرواية والإخبار، وبين المشافهة والتدوين، فالعهد الجديد في صيغته المكتوبة قد صار يُعبّر عن مسافة تفصله عن الحدث الذي أعلنته البشارة، وما انفكت هذه المسافة تتسع وتكبر منذ الشهادة الأولى مرورا بمن سمعها ووصولا إلى من دوّنها. ولم يكن الإنسان الحديث قادرا على اكتشاف هذه المسافة العقدية واللغوية والسياقية التي صارت تفصله عن نواة البشارة وجوهرها، وهي مسافة بعيدة جدّا لا في المكان فحسب بل في الزمان أيضا[1].
إنّ غاية بولتمان من نزع الأسطرة من النصّ الإنجيلي هو أن يقدّم قراءة جديدة تجانب من سبقه، قراءة تنهض على التأويل الذي به يتجاوز القراءة النحوية والمعجمية والتاريخية. وبعبارة أخرى، فإنّ الموضوع يضبط الإيمان في حين يتحكّم المنهج في الفهم وفق رأيه. وبناءً على هذا التصوّر، يرى رودولف بولتمان أنّ نزع الأسطرة من النصّ الإنجيلي يرتبط ارتباطا عضويا بالفهم والفهم القبلي والفهم الذاتي داخل دائرة التأويل، فكلّ فهم يحكمه فهمٌ قبلي سابق Pré- compréhension لموضوع ما هو فهم قبلي يحكمه اهتمامنا بهذا الموضوع المتعلّق بالفكر المفكّر Pensée pensante، وهذا الفهم الذاتي يسبق الفهم، ويذهب بولتمان إلى أنّ هذا الفهم القبلي يتأسس على إشكالية البحث عن الإله، وهو البحث الذي يشغل بال الإنسان[2].
لقد أكد بولتمان من خلال الفصل الثالث من الباب الثاني "الرسالة المسيحية ونظرة العالم الحديث" Le message Chrétien et la vision moderne du Monde من كتابه "يسوع: الأسطورة ونزع الأسطرة" على الحضور المكثّف للأسطورة في نصوص العهد الجديد، وقد تمثّل ذلك بصفة مخصوصة في شخصية يسوع من حيث ميلاده والخلاص والصلب ونحوها من القضايا التي يعتبرها موصولة بالعقل الأسطوري، وهي مضامين أصبح العقل العلمي الحديث لا يؤمن بها، بل قد يسخر منها ويتجاوزها. وبناءً على ذلك يجب نزع الأسطرة من النصّ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بتأويل ما كان أسطوريا في النصّ الإنجيلي بهدف الوصول إلى البنية الفكرية العميقة الثاوية في العهد الجديد والتي قد تتساوق مع الرسالة المسيحية الحقّ، ومع نظرة العالم الحديث إلى هذه الديانة.
1- منزلة الإنسان في العهد الجديد
إنّ ما يؤاخذ عادة على محاولة نزع الأسطرة هو اعتمادها على النظرة الحديثة للعالم معيارا لتأويل الكتاب المقدّس والرسالة المسيحية وحذفها من هنا وهناك كلّ عنصر يتضارب والنظرة الحديثة للعالم. صحيح أنّ نزع الأسطرة يَعتبر النظرة الحديثة للعالم معيارا، ولكن نزع الأسطرة لا يعني بالضرورة نبذ الكتاب والرسالة المسيحية برمّتها، بل تخليصَهُما من نظرة الكتاب المقدس للعالم الحديث، وهي نظرة عفا عليها الزمنُ وكثيرا ما تمّت المحافظة عليها في العقائد المسيحية وفي تبشير الكنيسة.
يتمثّل نزع الأسطرة إذن في رفض الفكرة القائلة إنّ الرسالة المكتوبة والكنيسة مرتبطة بنظرة قديمة وبالية للعالم. إنّ محاولة نزع الأسطرة تستمدّ نقطة منطلقها من هذه الفكرة الأساسية للتبشير المسيحي طالما أنّ الخطاب الإلهي مبشِّرٌ بأمره وباسمه ولا يُقدّم أطروحة من الواجب تقبلها، سواء من منطلق فعل عقلي أو مقابل فهم للتضحية، معنى ذلك أنّ التبشير المسيحي هو "كيرجما"؛ أي إنّه بلاغ لا يتوجّه إلى العقلانية النظرية، ولكن إلى المتلقي في صُلب هُويته الذاتية، مما جعل بول يوصي بنفسه إلى كلّ الوعي الإنساني أمام الله. يتخذ نزع الأسطرة بداهة من وظيفة التبشير هذه رسالة شخصية. وبهذا، فإنّه يمحو فضيحة كاذبة ويسلّط الضوء على الفضيحة الحقيقية، وهي مقولة الصليب.
إنّ الرؤية الكتابية للعالم رؤية أسطورية، وهي بهذا الشكل غير مقبولة عند الإنسان الحديث الذي لم يعد تفكيره يعتمد على الأسطورة قطّ؛ لأنّ العلم قد أحدث فيه كثيرا من التغييرات. فالإنسان الحديث يستعمل دون هوادة وسائل تقنية تُعدّ عُدّة العلم، فعندما يكون مريضا يلجأ إلى الطبيب أو إلى العلوم الطبية، وإذا تعلّق الأمر بشؤون اقتصادية أو سياسية، فإنّه يُوظّف نتائج العلوم النفسية أو الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهكذا دواليك، فلا أحدَ يُعوّل على تدخّل مباشر لقُوى عُلوية، ومما لاشكّ فيه فمازالت اليوم رواسب الفكر البدئي والخرافي التي ما نفتأ نحاول بثّ الروح فيها من جديد، لكن تبشير الكنيسة دون جدوى، قد يرتكب خطأ فادحا إذا ما أخذ بعين الاعتبار هذه المعتقدات التي عادت إلى الحياة، والتزم بها.
ولفهم الطبيعة الإنسانية، يكفي أن نقرأ الأدب الحديث مثل روايات توماس مان Thomas Mann وإرنست ينقر Ernest Jünger وتورنتن وِلدَر Thornton Wilder وإرنست هيمنغواي Ernest Hemingway ووليام فولكنر William Faulknerوغراهام غرين Graham Greene وألبار كامو Albert Camus، أو نقرأ مسرح جان بول سارتر Jean Paul Sartre وجان أنوي Jean Anouilh وجان جيرودو Jean Giraudoux وغيرهم، أو نقرأ بكلّ بساطة الصحف. فهل قرأتم فيها أنّ الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد تسببت فيها قُوى عُلوية مثل الله أو الملائكة أو الشياطين؟
والحقّ، أنّنا ننسبُ مثل هذه الحوادث سواءً إلى قُوى طبيعية أو إلى حُسن إرادة هؤلاء الناس أو سوئها، أو إلى حكمتهم وغبائهم، لم يعُد علمُ اليوم، علمَ القرن التاسع عشر، فكلّ نتائجه نسبية، وليس هناك نظرة للعالم سواء تعلّقت بالأمس أو اليوم أو الغد يمكن لها أن تكون نهائية، غير أنّ المهمّ ليس النتائج الملموسة للبحث العلمي ومحتوى النظرة إلى العالم، بل مناهج التفكير التي أنتجت هذه الرؤى للعالم، فعلى سبيل المثال، ليس من الأهميّة بمكان أن تكون الأرض تدور حول الشمس أو أن تكون الشمس تدور حول الأرض، لكن ما يهمّ قطعا، أن يفهم الإنسان الحديث أنّ حركة الكون هي حركة تخضع لقانون كوني ولقانون طبيعي يمكن للعقل البشري أن يكتشفَهُ.
وهكذا، فإنّ الإنسان لا يعتبر من الحقائق إلاّ الظواهر أو الأحداث الملموسة داخل نظام منطقي ومنظّم للكون، فلا يقبل وجود معجزات؛ لأنّها لا تندرج ضمن نظام القوانين، حتى وإن طرأ حادث غريب أو عجائبي، فإنّه لا ينفكّ عن بحث تفسير منطقي له.
إنّ التناقض الذي يفصل الرؤية الكتابية القديمة للعالم، عن الرؤية الحديثة، يعكس طريقتين في التفكير متضادتين؛ إحداهما أسطورية والأخرى علمية، غير أنّ المنهج العلمي في التفكير والتساؤل لم يتغيّر أساسا منذ نشأة العلم المنهجي عند اليونان، فهو ينطلق من سؤال البدايات الذي يعتبر الكون وحدَة و"كسوكس" Xoquos ونظاما مرتّبا ومنسجما، وهو يحاول أيضا نتيجة لذلك تأسيس، ومنذ البداية، ثوابت لأدلّة عقلية.
إنّ هذه الأسس هي التي شيّدت صَرح العلم الحديث، وهي لن تعرف التغيّرات التي تتحملها نتائج البحث العلمي مادام هذا التغيّر منحدرا في الأصل من هذه الأسس الدائمة. فلتقدر الرؤية العلمية للعالم من إدراك حقيقة العالم وإدراك الحياة الإنسانية في كلياتها، فقطعًا ههنا يكمن الإشكال الفلسفي، صحيح أنّ هناك أسبابا تمكّن من الشكّ في وجود هذا الإشكال، وسنتحدّث في الأبواب اللاحقة عن هذا الإشكال بشكل إيجابي، لكنّنا الآن نكتفي بالقول إنّ تفكير الإنسان الحديث متأثّر فعلا بالرؤية العلمية للعالم التي تستجيب لحاجيات حياته اليومية.
تصوّر إمكانية إعادة بناء النظرة القديمة للعالم التي يحتوي عليها الكتاب المقدّس، فهي إذن لا تعدو أن تكون سوى وجهة نظر روحية، وعلى العكس من ذلك تماما فإنّ الترك الجذري والنقد الواعي لهذه النظرة الأسطورية هو الذي يمكننا من تسليط الضوء على الفضيحة الحقيقية التي تتمثّل في كون الخطاب الإلهي يدعو الإنسان إلى التخلي عن كلّ حماية كان قد أمّنها لنفسه.
وفي الواقع، إنّ النظرة العلمية للعالم، تُحييّ في الإنسان رغبة جامحة للسيطرة على الكون وعلى حياته الخاصّة، فبتعرّفه على الطبيعة يمكن له أن يُخضع القُوى الطبيعية لأهدافه ورغباته، وباكتشافه الدقيق نواميس الحياة الاجتماعية والاقتصادية يمكن له أن يُنظّم بنجاعة متنامية حياة المجتمع، وعلى حدّ قول سوفوكل (ت405 ق م) Sophocle في مجموعته الشهيرة "أنتيجونة" Antigone توجد روائع كثيرة، لكن لا شيء أروع من الإنسان.
وهكذا فالإنسان الحديث مهدّد بنسيان أمرين اثنين هما: أوّلا، ألا تكون أعماله ومشاريعه خاضعة لرغباته الخاصّة من سعادة وأمن ونجاعة ونجاح، لكنّها يجب أن تستجيب في كنف الطاعة لقيم الخير والوفاء والحبّ بمعنى إلى أوامر الله التي يتجاهلها الإنسان بفعل أنانيته وغروره. ثانيا، إنّه من الخيالي الزعم بأنّ الإنسان قادرٌ على الوصول إلى أمن حقيقي بتنظيم ناجع لحياته الخاصّة والاجتماعية؛ إذْ تحدُثُ صُدَفٌ ومفاجآت ليس للإنسان سلطان عليها، إذن فهو غير قادر على تخليد أعماله، فحياته تمرّ بسرعة وهو محاصر بالموت، ويستمرّ التاريخ دون هَوادة وتهوِي كلّ أبراج بابل، فليس هناك إذن من أمن حقيقي في النهاية، وبذلك فالإنسان يقع ضحية وَهْم عندما يبحث بأيّ ثمن عن ضمان أمنه. فما الذي يحفّز ضمنيا هذا التوق؟ هل هو القلق ذاك الجزع الخفي الذي يعتمل في أعماق النفس عندما يظنّ الإنسان أنّ عليه أن يضمن أمنه بنفسه؟
إنّ الخطاب الإلهي يدعو الإنسان إلى التخلّي عن أنانيته وعن الأمن الوهمي الذي أعدّه لنفسه، ويدعوه إلى العودة إلى الله الذي هو فوق العالم وفوق التفكير العلمي، ويدعوه في الآن ذاته إلى إيجاد ذاته الحقيقية، إنّ الإنسان وحياته الباطنية ووجوده الشخصي كلّها في حقيقة الأمر بمنأى عن العالم المرئي وعن التفكير المنطقي.
إنّ الخطاب الإلهي يخاطب الإنسان في وجوده الشخصي، وبهذا فهو يحرّره تجاه العالم من هذا القلق وهذا الجزع اللذيْن يثقلان كاهله عندما ينسى العالم الماورائي. يسعى الإنسان وبمساعدة العلم إلى السيطرة على العالم، ولكن في الواقع إنّ العالم هو الذي يسيطر عليه، ويمكّننا عصرنا من قياس مدى ارتهانه للتكنولوجيا ونتائجها الرهيبة.
والمستفاد أنّ الاعتقاد في الخطاب الإلهي يعني التخلّي عن كلّ حماية إنسانية خالصة والتغلّب بذلك على اليأس الذي يُولّده البحث غير المجدي عن الحماية المطلقة. وبهذا المعنى، فإنّ الاعتقاد يعني في الآن ذاته الأوامر والعطاء الممنوحين من التبشير، إنّه الاستجابة للرسالة والعدول عن الحماية الإنسانية الخالصة والاستعداد لحماية لا وجود لها إلاّ عند المتعالي المجرّد، عند الله، ويعني هذا أنّ الاعتقاد حماية تتبدى حيثما لا نراها، وعلى حدّ عبارة مارتن لوثر (ت 1546 م) Martin Luther إنّها على استعداد لتنفذ وبكلّ ثقة في ظلمات المستقبل.
إنّ الاعتقاد في الله الذي يتحكّم هُو بدوره في الزمن والأزل والذي يُناديني، والذي فعل والآن هُو يفعل تجاهي، هذا الاعتقاد لا يمكن أن يُصبح حقيقيا إلاّ في "لكنّه" الذي به يتحدى العالم. لا يمكن مطلقا في العالم لله وفعله أن يظهرا لعيون البشر الذين يبحثون عن حماية أرضية، ويمكن القول إنّ الخطاب الإلهي يخاطب الإنسان في انعدام أمنه ويدعوه إلى الحرّية لأنّ في توقه إلى الأمن يفقد الإنسان حرّيته، هذه المعادلة قد تبدو مفارقة ولكنّنا سنفهمها أكثر بالتفكير في معنى الحرّية.
إنّ الحرّية الحقّ لا تتأتى من اعتباط ذاتي، وإنّما هي حرية في إطار الطاعة، وأمّا حرية الاعتباط الذاتي فهي مجرّد وهْم لأنّها تجعل الإنسان ينساق إلى رغباته حيث إنّه يطيع في كلّ حين نزواته وأهواءه. هذه الحرية الجوفاء هي في الواقع رهينة أهواء ورغبات حينية، لكن الحرية الحقّ هي حرية في مواجهة اللحظة وهي التي تقاوم نداء الحاجيات الحينية وضغوطها. ولا يتسنى ذلك ما لم تكُن سلوكيات الإنسان مُحاطة بدافع يتجاوز حدود اللحظة الراهنة، أي محاطة بقانون، فالحرية هي الخضوع لقانون تكون صلاحياتُه معلومة ومقبولة من لدُن الإنسان، ويتبنّاه كأنّه قانون وجوده الخاص، هذا القانون لا يكون إلاّ قانونا مصدره وأساسه العالم العلوي، ويمكن أن نطلق عليه اسم قانون الروح أو باللفظ المسيحي قانون الله.
إنّ فكرة حرية منبثقة من القانون وطاعة حرّة أو حرية مطواعة كان متعارف عليها منذ الفلسفة الإغريقية القديمة والمسيحية، هذا التصوّر قد اختفى الآن وعوّضته في العصور الحديثة الفكرة الكافية للحرية محصورة في معنى اعتباط ذاتي لا يعترف بأيّ حدّ وأيّ قانون متعلّق بالمتعالي، بل هو يخضع للنسبية التي لا تقبل بوجود ضوابط أخلاقية مطلقة ولا بحقائق مطلقة. وقد مثّلت العدمية / التيار العدمي نهاية هذا التطوّر.
ويمكن أن نفسّرهذا التطوّر بطرائق عدّة، أوّلا قد نستند إلى التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي أعطى للإنسان وهْم أنّه ربّ الكون وربّ نفسه، ثمّ يمكن أن نفكر في النسبية التاريخية سليلة الحركة الرومنطيقية التي تدعم مقولة أنّ عقلنا غير قادر على إدراك الحقائق الأزلية والمطلقة لأنّه خاضع للتطوّر التاريخي لذي يزعم أنّ كلّ حقيقة ليست إلاّ قيمة نسبية تقترن بعصرها أو بالجنس أو بالحضارة التي صنعتها، حيث يُصبح البحث عن الحقيقة لا معنى له.
وثمّ أسباب أخرى تفسّر هذا الانتقال من حرية موضوعية إلى حرية ذاتية، فجزع الإنسان أمام الحرية الحقيقية والبحث عن الحماية تمثّل الدوافع الأكثر عمقا. ومهما كانت الحرية الحقّ كامنة داخل القوانين، فإنّها ليست حرية داخل الحماية ولكنّها تكتسب دوْما من المسؤولية ومن القرار، ولذلك فهي حرية داخل انعدام الأمن.
تظنّ حرية الاعتباط الذاتي نفسها في أمان، لا لشيء إلاّ لأنّها ليست مسؤولة أمام قوّة عُلوية، ولأنّها تعتقد أنّها تتحكّم في العالم بقوّة العلم والتكنولوجيا. إنّ الحرية الذاتية تنشأ من الرغبة في الأمان، فهي في حقيقة الأمر تُقارن بالحرية الحقيقية التي هي تعبير عن الجزع. الخطاب الإلهي إذن هو الذي يدعو إلى الحرية الحقيقية إلى طاعة حرّة، وليس لنزع الأسطرة، من هدف آخر سوى توضيح دعوة الخطاب الإلهي، إنّه يريد تأويل الكتاب بالتساؤل عن معنى أعمق للمفاهيم الأسطورية وبتحرير الخطاب الإلهي من نظرته للعالم، وهي نظرة قديمة قد تمّ تجاوزها.
نكون مخطئين إذن عندما نعترض على كون نزع الأسطرة يعقلن الرسالة المسيحية ويحوّلها إلى نتاج عقلاني للتفكير البشري ويُدمّر الوحي الإلهي، فلا جدوى من ذلك، بل على العكس تماما، فنزع الأسطرة يُحيي المعنى الحقيقي للوحي الإلهي. إنّ عدم القدرة على فهم الله، لا يتصل بمستوى التفكير النظري فحسب، بل بمستوى الوجود الشخصي، والغموض الذي ترتبط به العقيدة لا يتعلّق بطبيعة الله في حدّ ذاته بل بالطريقة التي يخاطب بها البشر فهو غموض لا بالنسبة إلى التفكير النظري ولكن بالنسبة إلى الرغبات والأهداف الإنسانية.
ليس الخطاب الإلهي غموضا بالنسبة إلى قدرتي على الفهم، بل بالعكس لا أستطيع أن أعتقد في الخطاب دون أن أفهمه، ولكن أن أفهمه لا يعني أن أفسّره منطقيا، يمكنني مثلا أن أعي ما الصداقة وما الحبّ وما الوفاء بدقّة، لأنّني أفهمها في معناها الحقيقي، فأنا أعرف أنّ الصداقة والحبّ والوفاء التي جرّبتها شخصيا تمثّل غموضا لا يمكنني تقبّله إلاّ بالاعتراف، وأنا لا أعيها بتفكيري المنطقي ولا بتحليل نفسي أو أنتروبولوجي ولكن فقط لكوني مستعدّا وجاهزا للقاءات شخصية، في إطار هذا الاستعداد يمكنني فهمها بطرق معيّنة قبل الحصول عليها لأنّها كلّها ضرورية لوجودي الشخصي، أنا أفهمها بقدر بحثي عنها ومطالبتي بها، ولكن أن تتحقق رغبتي ويأتي صديق إليّ فهذا ما يبقى غامضا.
بهذه الطريقة يمكنني فهم ما تعنيه نعمة الله، أبحث عنها ما لم تصبني وأتقبلها باعتراف عندما تحدث فجأة، ولكن أن تأتي إليّ وأن يكون الربّ الرحيم ربّي فذلك يبقى إلى الأبد غامضا، لا لأنّ الربّ يفعل بطريقة غير منطقية تقطع التمشي الطبيعي للأشياء، بل لأنّه يبقى غير مفهوم ألا أجده في خطابه ربّا للنعمة[3].
2- من النصّ إلى التأويل
نستشفّ مما سبق، توافر جملة من المفاهيم والمصطلحات يتجاذبها قطبان: القطب الأوّل يعبّر عن القديم وعن النظرة التقليدية للكنيسة من قبيل التبشير المسيحي بمقولة الصلب وبالرؤية الكتابية للإنسان والوجود والحياة ومركزية الكتاب المقدّس وإشكالية الأسطرة في النصوص الدينية، وأمّا القطب الثاني فيتّصل بالعالم الحديث وبالحداثة بصفة عامة مثل نزع الأسطرة، ومنزلة الإنسان الحديث وما يحتاجه من حرّيات وحقوق وما يجب أن يعرفه من موضوعية علمية ونسبية تاريخية، وسنتوقّف عند بعض المفاهيم التي تشي بالبعد التأويلي في مقاربة بولتمان الدينية والفلسفية وكشف رؤيته للكتاب المقدّس والطريقة التي بها درس العهد الجديد.
إنّ الاهتمام بالأسطورة يعدّ حجر الزاوية في مشروع بولتمان، ليس لأنّه حاجة ملحّة للإيمان وللمؤمن المعاصر الذي وجد نفسه في دائرة تأويلية شعارها "يجب أن يفهم لكي نؤمن، ونؤمن لكي نفهم"[4]، لقد اتنبه بولتمان إلى الحضور المكثف للأساطير في نصوص العهد الجديد عامة، وفي شخصية يسوع نفسه على وجه الخصوص، هذه الشخصية التي أحيطت بهالة من الأسطرة منذ نشأة المسيحية وخضعت قولا وفعلا ووجودا لتطوّرات أسطورية نتج عنها نصوص ذات بنية أسطورية، وهو ما يدلّ دلالة واضحة على أنّ أغلب معتقدات الديانة المسيحية من بنوّة وروح قدس وفداء وخلاص ومقولة الصلب ونحوها من المسائل ليس لها مرجعية تاريخية بقدر ما تنهض على بُنى تأويلية.
ومن جهة أخرى، فإنّ هذه النصوص ذات النسيج الأسطوري لم تقدّم معتقدات دينية جديدة، وإنّما عكست المعتقدات الدينية ذات الصلة بالبيئة الثقافية التي تشأت فيها، ومن هذا المنطلق فإنّ الرؤية الكتابية للعالم، والتي هي رؤية أسطورية عفا عليها الزمن، لا يمكن أن تكون مقبولة عند الإنسان الحديث الذي لم يعد تفكيره أسطوريا، لأنّ العلم هُو الذي شكّله.
وهكذا يجد الإنسان المعاصر نفسه بين عالمين متناقضين أو فكرين مختلفين، عالم قديم يقوم على المسلمات وعلى فكر أسطوري سطحي، وآخر حديث ينهض على فكر علمي موضوعي، وعلى أطروحات مستجدّة مواكبة لواقع الإنسان في ضوء مقاربات تأويلية حققت للإنسان إنجازات مهمّة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والثقافي والطبي والنفسي والاجتماعي.
إنّ قيمة هذا الفكر العلمي أنّه حرّر الإنسان من القُوى الغيبية وغير المرئية وجعله يقطع قطعا باتّا مع رواسب الفكر الأسطوري، يقول بولتمان إنّ "الإنسان الحديث يستعمل دون هوادة وسائل تقنية تُعدّ عُدّة العلم، فعندما يكون مريضا يلجأ إلى الطبيب أو إلى العلوم الطبية، وإذا تعلّق الأمر بشؤون اقتصادية أو سياسية فإنّه يوظّف نتائج العلوم النفسية أو الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهكذا دواليك فلا أحد يُعوّل على تدخّل مباشر لقُوى علوية"[5].
لقد أحدث بولتمان قطيعة مع العالم العلوي ودعا إلى ضرورة تفسير الأحداث وردّ الأشياء إلى أسباب مادية موضوعية، فإذا أردنا أن نفهم الطبيعة البشرية فما علينا إلاّ أن نطّلع على الأدب الحديث ونتسلّح بالمقاربات العلمية التأويلية خاصة، ونقرأ روايات طوماس مان وأرنست بنقر ووليام فولكنز وألبار كامو وإرنست هيمنغواي، أو أن نقرأ مسرح جان بول سارتر وغيرهم من الأعلام والمدارس والأطروحات الفكرية والعلمية والأدبية والتأويلية، ومن خلال هذه السلسلة من المؤلفين والمبدعين والأعلام يصل بولتمان إلى التساؤل التالي "هل قرأتم فيها أنّ الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد تسببت فيها قُوى علوية مثل الله أو الملائكة أو الشياطين"[6].
وهكذا وجد الإنسان الحديث نفسه في تصادم بين تصوّرات أسطورية يعجّ بها العهد الجديد، وبين ما يؤمن به من عقلانية وعلوم حديثة، وهذا الأمر يضعه في مأزق ابستمولوجي يحتّم عليه إمّا التضحية الفكرية بالفهم والمنطق والملفوظ حتى يقبل بما لا يمكن قبوله لأنّه خارج دائرة الحقيقة، وإمّا التغاضي عن بعض ما ورد في العهد الجديد من مضامين وتخيّر ما يتساوق والنظرة الحداثية، وهذا لا يتجسّد إلاّ من خلال مقاربات تأويلية وأسئلة علمية.
لئن طرح بولتمان مثل هذه التساؤلات، وحفر في عدّة مفاهيم ومصطلحات ومضامين، فإنّه لم يدع إلى إسقاط الأساطير بل كان مسكونا بهاجس إدراك صياغة هرمينوطيقية تجد لها مشروعية علمية، وتتجاوز القراءة النحوية والمعجمية والتاريخية عبّر عنها بنزع الأسطرة La démythologisation، وعرّفها بقوله: "إنني أسمّي هذا المنهج في تأويل العهد الجديد الذي يسعى إلى إعادة الكشف عن الدلالة الأعمق المحجوبة خلف التصوّرات الأسطورية، نزع الأسطورة، وهذا المنهج لا يهدف إلى إقصاء الملفوظات الأسطورية، بل يرمي إلى تأويلها. إنّه منهج تأويلي ذو دلالة لا يمكن أن تُدرك بحقّ ما، لم نوضّح دلالة علم الأساطير عامّة"[7].
ويضيف بولتمان أنّ "نزع الأسطرة لا يعني بالضرورة نبذ الكتاب والرسالة المسيحية برمتها، بل تخليصهما من نظرة الكتاب المقدّس للعالم الحديث، وهي نظرة فاعليها الزمن"[8].
إنّ غاية هذا المشروع التأويلي هُو تقبّل الأساسي في الفكر المسيحي، بمعنى إدراك ماهيته غير الأسطورية، وهي نواة البشارة Kérygmes، وهذا البحث يضعنا حتما بين يسوع التاريخي ويسوع الرسالة أو الإيمان. لكنّ الإشكال الذي طُرح على بولتمان هُو مدى تأثير الخلفيات المعرفية في توجيه رؤية المؤوّل للنصّ الديني، أو اعتبار النصّ بنية مغلقة ينطلق منها فعل التأويل؟
لقد نبّه بولتمان إلى وجود آليات أخرى تكون فاعلة في التأويل، فالمؤوّل يستمدّ فرضياته التأويلية من حياته الشخصية والنفسية. وبذلك يقع الربط بين النصّ والواقع أو السياق، وينأى التأويل عن كونه فعلا نظريا لا يمتّ إلى الواقع بصلة، يقول بولتمان في هذا السياق "لا أستطيع أن أعتقد في الخطاب دون أن أفهمه، ولكن أن أفهمه لا يعني أن أفسّره منطقيا، يمكنني مثلا أن أعي ما الصداقة، وما الحبّ، وما الوفاء بدقّة لأنّني أفهمها في معناها الحقيقي"[9]. إنّ هذا القول يجعلنا نقف على علاقة الذات المؤوّلة بالنصّ المؤوّل من جهة، ويؤكد على أهميّة معرفة المفسّر بالحقل المعرفي الذي يتحرّك في فلكه من جهة ثانية.
والحاصل أنّ بولتمان توسّل بمناهج علوم الإنسان لبناء مشروعه الجديد المتعلّق بنزع الأسطرة لتحيين النصّ الديني وبحثا عن تجديد للإيمان يقوم على رؤية وجودية للتاريخ.
إنّ مفهوم اللوجود كما تجلّى في أعمال بولتمان، خاصّة الفصل الذي قمنا بتعريبه، ينهض على تحرير الإنسان من ذاته؛ ذلك أنّ وجود الإنسان وكينونته يكون باتّخاذ القرار الحرّ والتخلّص من كلّ القيود مهما كان نوعها. ويشير بولتمان إلى أنّ محاولة الإنسان البحث عن حماية لنفسه متوسّلا بقوّة العلم والتقنية والتكنولوجيا يفقده حرّيته، لكن الخطاب الإلهي يؤسس للحرّية الحقّ هي تلك التي تجعل الإنسان أمام الله، وها هُنا يتنزّل مشروع نزع الأسطرة الذي ليس له "من هدف آخر سوى توضيح دعوة الخطاب الإلهي، وإنّه يريد تأويل الكتاب بالتساؤل عن معنى أعمق للمفاهيم الأسطورية"[10].
إنّ التوسّل بفلسفة الوجود يُسهم في الانفتاح على الخطاب الإلهي، وفهم الكلام الكتابي، ولا يتسنى هذا الفهم أو التأويل ما لم يكن الإنسان مسؤولا وحرّا.
الخاتمة
لئن أقرّ بولتمان بكثافة حضور الأساطير في الكتاب المقدّس، فإنّه دعا إلى تأويلها والوقوف على البُنى الفكرية الثاوية طيّ النصوص الأسطورية وَفق منهج نزع الأسطرة.
وقد تدخلت في مشروع بولتمان لتأويل نصوص العهد الجديد جملة من التيارات الفلسفية والفكرية تتمثّل في المنهج التاريخي وشبكة مفاهيمية ومناهج علوم الإنسان والفلسفة الوجودية وعلم اللاهوت.
ولا شكّ في أنّ هذه الخلفيات المعرفية كانت السبب الرئيس في إرساء رؤية رودولف بولتمان، هذه الرؤية التي مثّلت حلقة فاصلة وواصلة في الفكر المسيحي البروتستانتي المعاصر، وجعلت منه مصدرا من مصادر الإصلاح الديني، إنّ قيمة هذا المشروع بالنسبة إلى المسلم العربي هُو إعادة النظر في التعامل مع الأسطورة في النصّ القرآني وفي النصوص الدينية الحافّة، والوقوف على شبكة المفاهيم الموصولة بالنصّ المؤسس، وهو سعي يمكّن القارئ العربي من تجديد الرؤية القرآنية والانفتاح على مجالات أخرى.
المصادر والمراجع
Bultmann (Rudolf),
Jésus, mythologie et démythologisation, traduit par Florence Freyss, Samuel Durand-Gosselin et Christian Payot, éd. Seuil, Paris, 1968
Foi et Compréhension, l’historicité de Lhomme et de la révélation, éd. Seuil, Paris, 1970
Ricœur (Paul),
Le conflit des interprétations, essais d’herméneutique, éd. Seuil, Paris, 1969
[1]- Ricœur (Paul) Le conflit des interprétations, essais d’herméneutique, éd. Seuil, Paris, 1969, PP.373-375
[2]- Bultmann (Rudolf) Jésus, mythologie et démythologisation, traduit par Florence Freyss, Samuel Durand-Gasselin et Christian Payot, éd. Seuil, Paris, 1968
Foi et Compréhension, l’historicité de L’homme et de la révélation, éd. Seuil, Paris, 1970
[3]- قمنا بتعريب الفصل الثالث من الباب الثاني من كتاب بولتمان، وهو الوارد في هذه المداخلة من ص 3 إلى ص 7
Jésus, mythologie et démythologisation, PP, 205-211
[4]- Le conflit des interprétations, essais d’herméneutique, P 373
[5]- Jésus, mythologie et démythologisation, P, 207
[6]- Ibid., P, 192
[7]- Jésus, mythologie et démythologisation, P, 192
[8]- Ibid., P, 192
[9]- Ibid., P, 192
[10]- Ibid, P, 192