الرقص: من الخجل العقلي إلى الهلاك الجسدي
فئة : مقالات
يبدو طقس الرقص طقساً جسدياً كاملاً، بما في ذلك النشاط الذهني الذي يُغذّي الأطراف الجسدية، ويجعلها تتحرّك حركات مُتنامية وفقاً لإيقاع ما، وصولاً إلى ذروة ما تجعل من الجسد معقلاً وجودياً كبيراً. وكما لو أن الجسد يبدو (تابعاً) للعقل مرحلة ما قبل الرقص، وذلك بتوجيه الأوامر له لكي يتخذ قراراً جريئاً، ويتحرَّر من تبعات الخجل الذي يُحيط بهذا الجسد، ويجعله مُتردّداً في التعبير عن نفسه تعبيراً راقصاً، فإنه يصير (متبوعاً) في مرحلة الرقص، فخطوة تلو الأخرى، يتحرّر الجسد من تبعات القدرة الذهنية، ويصير استدعاء تتابع الخطوات وتناغمها واندماجها في حركة هارمونية بإزاء بعضها البعض، استدعاءً أوتوماتيكياً؛ جاهزاً وناجزاً في الجسد كاملاً، فهو ينطلق من ألف الحركة إلى يائها دفعة واحدة دونما تراتب زمني، يجعل منها وجوداً منطقياً تستدعي نتائجه أسبابه، أو تجلب أسبابه نتائجه. فلا وجود ساعتئذ لقرار عقلي يُملي على الأنامل أو الأرداف أو الخصور أو الصدور بتتبّع هذه الحركة أو تلك، وانتظار معالجة هذه الأوامر ذهنياً، وانتظار صدور الأوامر باتخاذ هذا المسار دون ذلك، بما يعني رهن الجسد الرجراج، المُتماوج، المُتحرّك لما يصدره العقل من قرارات ثابتة وقارّة؛ بل الحركات - مع أول تحريكه للأنامل أو القدمين - تدرج مثل نبع ماء يدفق من أعلى الجبل وينساب على الجسد الغضّ الطري، ليناً رقراقاً. وانطلاقاً من هذا، لا يعود ثمة فرق - طالما أن الجسد هو المعقل الكبير لحادثة الرقص - بين رقص دنيوي أو رقص ديني، ولا فرق بين رقص مُحتشم أو رقص مُتهتك، فالجسد لحظة الرقص بؤرة أنطولوجية لا تُقارَب إبيستمولوجياً عبر استدعاء ثلّة من الأسباب المنطقية القارّة في الذهن، والقادرة على تحريك الجسد لحظة الرقص، وتحويله إلى تابع، أو إلى نتيجة لمجموعة من الأسباب؛ بقدر ما هي - أعني تلك البورة الأنطولوجية - بؤرة جمالية تُحرّر الإنسان من ضغط القوانين الفيزيائية، وتجعله توّاقاً إلى عالَم جديد يكون فيه جسده نقطة الارتكاز القصوى لهذا العالَم. لكن - ويا للتعاسة - تنهدم معالِم هذا العالَم البديل، نظراً للتعب الذي يطال الجسد، فذلك التوق للانعتاق من القوانين الفيزيائية، يصطدم بقوانين الجسد الفيزيائية، فينهدم مرحلة ما بعد الرقص، وشيئاً فشيئاً يخبو ذلك الوهج الشهواني من الجسد الراقص، ويعود إلى سابق عهده دابَّاً على الأرض، وخاضعاً لنواميس العالَم الثابتة، لا لنواميسه الراقصة.
إذن، نحنُ بإزاء ثلاث مراحل فيما يتعلق بموضوعة الرقص:
1- مرحلة ما قبل الرقص، أو الخجل العقلي. وتمتاز هذه المرحلة بفائقية العقل على الجسد، وقدرته على بسط سيطرته على مجريات الأمور، لذا يكون العقل متبوعاً والجسد تابعاً، بما يجعل العلاقة بينهما علاقة منطقية، تخضع لقانون الأسباب والنتائج، فالجسد يخجل من الرقص نتيجةً لأسباب قارّة في العقل، منها ما هو ديني ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سيكولوجي...إلخ. لذا ساعة تجتاح الجسد فكرة الرقص، وذلك بنقله من طور روتينه اليومي إلى طور الرقص الاستثنائي، إذ ينتشي الجسد نشوة ذاتية يتعالى فيها على ناموس العالَم الذي يعيش فيه، فإنه يستدعي مجموعة الأسباب التي تجعله خجولاً من تحويل الجسد إلى بؤرة مغناطيسية تجذب العيون إليها، ويعمل على تحطيمها الواحدة تلو الأخرى، إلى أن يأخذ جسده بالتحرّر من ضغط هذه الحمولة المنطقية التي أثقلت ظهره، ويبدأ أُوْلَى حركاته، سواء أأبتدأت بطقطقة الأنامل أو بتحريك القدمين أو بهزّ الأرداف أو برجرجة الصدر؛ ثم ينهمر الجسد سيّالاً، ومعه تسيل عُقدة العالَم المنطقي، فلا يعود ثمة سبب ونتيجة، ولا يعود ثمة سطوة لآراء مُسبقة على الجسد الآني، فهو بإزاء عملية تحرير لنفسه ممّا يضغط عليه ويُكبّل من اندفاعاته اللذيذة. وهَهُنا - أعني في مرحلة ما قبل الرقص - أمكن رصد جملة من الأسباب التي تؤدّي إلى خجل الإنسان من جسده، لا سيما إذا ما أراد أن يمارس الرقص، ويُبرز الجسد إلى الواجهة بشكلٍ واضح وصريح. ولربما كان للمرجعيتين الدينية والاجتماعية نصيب الأسد في تعزيز هذا الخجل، لما يمارسانه من رقابة دائمة على الجسد، ويخضعانه من ثمَّ لتراتبات منطقية، يصير التخلّص منها أمراً محفوفاً بالمخاطر. وعادةً ما يتم التحايل على هاتين المنظومتين، بحيلٍ ذكية، مثل - في الحالة الدينية - الرقص الديني أو ما تعورف عليه تاريخياً بالرقص الصوفي[1]، فهو إذن للتقرّب من الله!. ومثل - في الحالة الاجتماعية - الرقص في الأعراس، سواء أتعلّق الأمر برقص لنساء أو بدبكات الرجال؛ فهو إذن لتعميق الروابط الاجتماعية، والدفع بها قُدما ناحية الأمام. لكن تبقى الأَثَرة في هذا المجال للجانب السيكولوجي عند الإنسان، فإذا ما كان ممتلئاً نفسياً، وأراد أن يرقص، فمن السهل عليه أن يُحطّم العوائق الخارجية التي تحول بينه وبين أن يكون جسده - لحظة الرقص - سيد العالَم. فهو يتجاوز مرحلة البرمجة المنطقية، ولا يعود يُفكّر بمنظومة الأسباب والنتائج، فهو يتجاوز المعيقات التي تحول بينه وبين التعبير عن جسده، ومباشرة ينساب الجسد عبر حركات رشيقة وبديعة.
2- مرحلة الرقص، وفي هذا المرحلة يكون العالَم المنطقي الذي يتمثّله العقل قد انهدم بالنسبة إلى الجسد، ولم يعد لأسباب المنع والتحريم والخجل من وجود في سياقات الإنسان الراقص. صحيح أن ثمة تناميا لحركات الجسد وكأنه بإزاء نسق مُعدٍّ سلفاً، لكن هذا النسق لا يخضع لأوامر عقلية يتلّقاها الجسد من العقل، ومن ثمّ يُفعّل منظومتها وهو يرقص، بل هي جاهزة وناجزة سلفاً في الجسد الراقص، ولا معن لانتقال الجسد من تحريك للقدمين إلى هزّ للخصر أنه يتلّقى أمراً عقلياً يأمر الجسد بالانتقال بالحركة من القديمن إلى الخصر، لغاية إكمال مشهدية ما، على اعتبار أن الأموامر بحاجةٍ إلى مُعالجة أولاً قبل إنجازها واقعاً، وهذا مُناقض تماماً لحال الإنسان وهو يرقص، فهو غير خاضع لناموس الزمن الخارجي وتداعياته التراتبية، بل هو سيد نفسه لحظتذاك، فتلك الحركات التتابعية لحركة الجسد وهو يرقص، مُعالجة مُسبقاً ولا حاجة للجسد بتدويرها ومعالجتها وهو يرقص؛ فالمشهدية كاملة مُعدّة سلفاً عنده، فهي أشبه ما تكون بتخطيط هندسي قَبْلي، لإعادة رسم العالَم، لكنه حالّ حلولاً عرفانياً في الجسد، فهو عارف بما هو عليه معرفة غير واعية، نتيجة لانخلاعه عن العقل آنذاك، واندماجه في جسده اندماجاً كلياً. فالحركة الأولى التي يتحرّكها الإنسان الراقص، تكون حركة أخيرة في عملية الرقص، لأن البداية نهاية بالنسبة إليه، فأزل الجسد وأبده هاتِهِ اللحظة المُباركة، سواءً بسواء، إذ لا أول ولا آخر في عملية الرقص، بل هي تجربة مكتملة زمانياً من الداخل، وإنْ أمكن مراقبتها زمنياً من الخارج. فالراقصة "إيزرا دونكان" إذ تكتب مذكراتها في كتاب بديع، تحت مُسمّى (حياتي) فإنها تُمارس نوعاً من الإغواء العقلي على ذهن القارئ بإزاء هذا السرد البديع لقصة حياتها، وتُرقصّه وتجعله في حالة استرخاء واستجمام أيضاً، كما رقصّت مُتابعيها بدايات القرن الماضي، إذ شغلت أوروبا وأمريكا وروسيا برقصها البديع، كما رقصّت عقول القرّاء لاحقاً ساعة أصدرت مذكراتها. لكن ثمة حدّ فاصل بين ما هو عقلي وما هو جسدي لحظة الرقص؛ صحيح أنها كانت تقرأ أعمالاً فلسفية في الكواليس قبل أن تُؤدّي وصلتها الراقصة على المسارح، لكن هذه الأعمال ستظهر في مذكراتها لاحقاً، أكثر من ظهورها على جسدها لحظة الرقص، فهو - أي جسدها - قطعة من نار تشتعلُ شرارتها مع أول حركة تلمع على جسدها، ولا تفتأ تسعرّ حتى اللحظة الأخيرة، حتى لحظة الانطفاء والعودة القهقرى لعالَم الزمن وناموسه الضاغط على الجسد مرةً أخرى. ولربما عكست حالة الراقصة "إيزرا دونكان" مثالاً أصيلاً على تشوّف الإنسان لجسده كلحظةٍ أنطولوجية صرف، بعيداً عن أية مقاربات معرفية من قبل الراقص لحظة الرقص [لكن دونكان ستعمل على تأريخ هذا اللحظة بكثيرٍ من الشغف في مذكراتها التي أشرتُ إليها آنفاً]، فالجسد حدث وجودي كبير، وأمكن الإنسان أن يتموضع به لحظة الرقص تموضعاً يعزله عن سياقات العالَم الزمني ويدمجه في زمن ذاتي خاص، يتعالى على الزمن الواقعي، وذلك بنفيه إلى خارج الجسد المُتماوج مع حركات تجعله خفيفاً، حتى تكاد الجاذبية الأرضية لا تمسكه إلا بعد أن ينطفئ ويعود زمن العالَم الثقيل. ولربما هذا ما لم يعيه "زوربا" - البطل الذي سمّى الروائي نيكوس كازانتزاكزي إحدى أشهر رواياته باسمه - لأنه كان يرقص كلّما طفح حزنه وضغط عليه ضغطاً كبيراً، فرقصه معادل موضوعي لحزنه، لكن رقص "إيزرا دونكان" معادل موضوعي للوجود كاملاً، فرقصها أُسّ أصلي، في حين أن رقصه حدث طارئ في حياته، وليس تكويناً أصيلاً، رغم الشهرة الواسعة التي حظيت بها رقصة زوربا في العالَم، لا سيما بعد أن حُوّل النص الأدبي إلى عمل سينمائي، فزاد شهرة على شهرته الأولى.
إذن، في مرحلة الرقص، يتبَّأر الجسد - إذا ما نظرنا إليه من الداخل - ويتحوّل إلى كتلة مُلتهبة، ويعيش حالةً من الوعي المُخاتل، لذا ينفصل الراقص - عبر مطية الجسد - عن إحداثية الوجود الزمكاني، ويتموضع في زمن الرقص المُبارك، لذا ينطفئ إحساسه بالزمن الواقعي، ويلتذّ بزمنٍ مُغاير تماماً، لا أول له ولا آخر، طالما لا إحساس إلا بالجسد المتماوج. أما إذا نظرنا إليه من الخارج، فإننا سنكون شهوداً على حدث جسدي لذيذ، فالأنامل الرقيقة[2] وتماوجاتها البهية بإزاء الأقدام الصغيرة ونقلاتها البديعة؛ والصدور الرجراجة بإزاء الأرداف المُتوهجة؛ وانسيابية الجسد من الرأس المُطوّح إلى أسفل القدمين بإزاء توهّجات العيون القادحة؛ بما يعني أننا أمام مشهد جمالي باذخ، ينتبه فيه المرء لما يمكن للجسد أن يُحدثه من بلبلة لذيذة في أبصارنا وبصائرنا، وهي تُدقّق في هذا المشهد البهي البديع.
3- مرحلة ما بعد الرقص، وفيها يعود الجسد إلى سابق عهده، خاضعاً لناموس العالَم الواقعي، وقوانينه الفاعلة، لكنه لا يتساوى معنىً مع مرحلة ما قبل الرقص، ففي هذه المرحلة يعود مُحمّلاً بذكرى كبيرة وجميلة، ليس لناحية أنه رقص، ولديه القدرة على استحضار مشهدية الرقص، نظراً لصعوبة ذلك، فهو من ضمن عجلة الدائرة التي تدور، وتطحنه في رحاها، بل لناحية الهلاك اللذيذ الذي أصاب الجسد في مرحلة الرقص، وعندما وصل إلى الذروة القصوى، عاد مُنهكَاً إلى الحياة الواقعية وقوانينها الضاغطة؛ أي أنه عاد إلى سابق عهده، لكنه عاد باكتشاف كبير، وهو قدرة جسده على الانفصال به عن هذا العالَم الزمكاني، وخلق عالَم بديل، يكون فيه الجسد سيد العالَم وفاعله المُطْلَق.
[1] لربما كان الرقص الصوفي من أذكى الحيل التي مارسها في الإطار الديني، إذ كيف استطاع أن يُعلي من ناسوت الجسد الفاني، ويدمجه في اللاهوت الديني الأبدي.
[2] وكأن الحديث هَهُنا يختصر كل أنواع الرقص في نوع محدّد؟ قطعاً، لا أسعى إلى الاختصار، فثمة أنواع مختلفة ومتنوعة من الرقصات، إلا أني سعيت إلى تقديم صورة تقريبية من شأنها الإفصاح عن حالة الجسد لحظة الرقص.