السلطة في فكر حنا أرندت.. نحو فهم أعمق للسياسة وأدوات الهيمنة


فئة :  مقالات

السلطة في فكر حنا أرندت.. نحو فهم أعمق للسياسة وأدوات الهيمنة

السلطة في فكر حنا أرندت.. نحو فهم أعمق للسياسة وأدوات الهيمنة

مقدمة

تُعد المفكرة الألمانية حنا أرندت (Hannah Arendt) (1906-1975) من أبرز الذين سعوا إلى إعادة تعريف المفاهيم السياسية الأساسية، وقد قدّمت قراءة نقدية للتصورات السياسية الفلسفية أو المنتمية للعلوم الاجتماعية، مركزة على ضرورة فهم هذه المفاهيم في سياق علاقتها بالأحداث الواقعية والتجارب الإنسانية وليس فقط كنظريات فلسفية. يأتي هذا المقال ليفكك مفهوما أساسيا هو مفهوم السلطة، ويبرز أهميته تخليصه من بقايا العنف والسيطرة.

أولا: مقاربة حنا أرندت

ركزت حنا أرندت على إقامة تفرقة بينة بين المفاهيم السائدة داخل علم السياسة؛ وذلك عندها ترف فكري أو ولع بأصول المصطلحات اللغوية، بل كان ذلك جزءا من مشروعها الفكري، وخاصة ما ارتبط بالفروقات بين مفهومي السلطة (Power) والنفوذ (Authority) من جهة، ومفهوم العنف من جهة أخرى. ويصعب فهم هذه الفروقات ما لم يُنظر إليها من خلال المقصد الأساسي لفكر أرندت: إعادة التفكير في الشأن السياسي والفكر السياسي؛ ذلك أن «الجهد المبذول للتمييز بين تعابير مثل السلطة والسلطان والعنف والإكراه والقوة... ليس بالدرجة الأولى جهداً يتعلق بالمصطلحات ولا بالبعد الدلالي. فقد شددت أرندت أن المسألة هي أبعد من أن تحصر بمسألة مصطلحات؛ إذ تحيلنا إلى العلاقة السياسية عينها. والسؤال وراء ذلك هو أعمق بالطبع: لماذا هذا الميل إلى الالتباس؟ لماذا هذه النزعة في اعتبار هذه المصطلحات متساوية أو مفردات مختلفة تروم المعنى نفسه؟ الجواب عن ذلك واضح: لأننا نربط عادة هذه المصطلحات بتصور معين للسلطان بوصفه حصرياً نوعاً من الهيمنة. ولأننا نسلّم في وجه العموم أن ممارسة الهيمنة يولّد -بالإكراه والتحايل- أنواعاً من الخضوع تتراوح من الطاعة المكرهة إلى التغني بالعبودية الطوعية، مرورا بالقبول بالسلطة، وأن تعتبر هذه المفردات من دون التمييز بينها كوسائل إكراه يستخدمها السلطان، وبمثابة نهج أداتي بغية السيطرة. كل هذه المصطلحات -بما فيها السلطة- تشير إلى الوسائل التي يستخدمها الإنسان ليسيطر على أخيه الإنسان، ولن يزول هذا الالتباس إلا حين ننفك عن إرجاع "إدارة الشؤون العامة" إلى مجرد مسألة بسيطة للسيطرة»[1].

يكمن الإشكال الأساس عند أرندت في مقاربة مسألة السلطة بطريقة خاصة، تقوم على رفض حصر السياسي في السلطة، وحصر السلطة في السيطرة. من هنا تنطلق في محاولة إيضاح المفاهيم وإقامة التمايز بينها، وذلك، من خلال إعادة تعريف السلطة. فالسلطة عند أرندت هي «التي تحافظ على وجود المجال العمومي، فضاء الظهور الممكن بين البشر بوصفهم يفعلون ويتكلّمون. فالكلمة نفسها ومرادفتها اليونانية (dynamis) مثل اللاتينية (potentia) واشتقاقاتها الحديثة أو الألمانية (Macht) (التي تشتق من Mögen وmöglich، لا من machen)، تبين طابعها الممكن. والسلطة، هي دائما سلطة ممكنة وليست ماهية ثابتة، وقابلة للقياس وماهية يمكن الاعتماد عليها مثل القوة أو القدرة (...) تنبثق السلطة بين البشر حين يفعلون معاً، وتذوي عندما يفترقون»[2]. وتزيد حنا أرندت شرحاً بقولها: «إن العامل الوحيد الضروري لتولد السلطة هو عيش الناس مع بعضهم البعض. فعندما يعيش البشر بشكل حميمي جدَّا فقط، حيث إن إمكانات الفعل تكون دائما حاضرة، فإن السلطة تصاحبهم. وأساس المدن وهي باعتبارها مدناً-دولاً، قد بقيت نموذجية لكلّ التنظيم السياسي الغربي، وهو بالتالي بالفعل شرط السلطة المادي الأكثر أهمية. وما يحافظ على الناس معاً ... وما يحافظون عليه، في الوقت نفسه، بواسطة بقائهم معاً هي السلطة. وأي شخص، ومن أجل أي مبررات، ينعزل ولا يشارك في ود مشترك كهذا، ويتخلى عن السلطة يصبح عاجزاً، مهما كانت قدرته كبيرة ومهما كانت مبرراته صالحة»[3].

السلطة، إذن، لا تتمثل في فرض إرادة على إرادة أخرى، بل من خلال استعداد الناس للعمل بشكل جماعي، والتصرف على نحو من التشاور. وأبعد من كونه ملكية فردية، تعود السلطة إلى مجموعة من الناس ولا ينفك مرتبطاً بها طالما ظلت هذه المجموعة غير منقسمة على ذاتها؛ لأن «ما يقوض أركان المجموعات السياسية أولاً ثم يقتلها بعد ذلك، هو فقدان السلطة والعجز النهائي؛ ولا يمكن أن نخزّن السلطة ونحافظ عليها للحالات الطارئة، مثل وسائل العنف، بل هي توجد فقط بالفعل»[4]، في إشارة من أرندت، بطبيعة الحال، لثنائية الوجود بالقوة والوجود بالفعل.

ما كان يهم أرندت أن تثبته في تصورها للسلطة أنها قبل كل شيء علاقة بين المواطنين، ولا تتشكل إلا من خلال وجودها بشكل جماعي. بعبارة أخرى، فالسلطة تكون دوماً (سلطة مع)، حيث تقام على أساس علاقات مشتركة، وآنذاك تكتسب السلطة قوتها الفعلية؛ «لأن السلطة، مثل الفعل، هي من غير حدود، إنها لا تملك حداً ماديّا في الطبيعة البشرية، في الوجود الجسدي للإنسان مثل القدرة. إن تحديدها الوحيد هو وجود أناس آخرين، ولكن هذا التحديد ليس عرضياً، لأن السلطة البشرية توافق شرط الكثرة لتبدأ. ولنفس السبب، فإن السلطة يمكن أن تقسم دون أي نقص فيها، وتفاعل القوى مع موانعها وتوازناتها يمكن حتى أن يولد المزيد من السلطة على الأقل بقدر ما يتواصل التفاعل ولا يبلغ طريقاً مسدوداً»[5].

ثانيا: تقويض تعريفات السلطة

إن هذا التعريف الموجز الذي عُرض في كتابها الوضع البشري (The Human Condition)، قد استفاضت فيه في عملها في العنف (On Violence)، فهي تستغرب بدايةً من التوافق الذي يبديه المفكرون السياسيون من شتى اتجاهاتهم حول طبيعة السلطة السياسية وربطها بالعنف، بوصفه تجلّيا من تجلياتها -وإن كان ذلك في رأيها غير مستغرب إن صدر فقط عن المنتسبين للماركسية؛ لأن الدولة تشكل عندهم أداة قمع تمتلكها الطبقة المسيطرة، لكن الأمر أعم-. وهنا تحاول حنا أرندت أن تُخلِّص مدلول السلطة من أي ارتباط بالعنف، لما في ذلك من خطورة بالغة، حيث يبقى العنف متروكاً ليُعبر عن نفسه داخل المجال السياسي، باعتباره تجلياً من تجليات السلطة بكل بساطة. وتُنحي أرندت باللائمة على تعريف فيبر الشهير الذي عرّف الدولة بوصفها «سلطة للناس على الناس قائمة على أساس أدوات العنف المشروع (أي العنف منظوراً إليه على أنه مشروع)»[6]. لهذا ستسعى أرندت إلى الجواب عن سؤال معنى السلطة.

إعطاء تعريف جديد للسلطة جعل أرندت تستجمع تعريفات العديد من الفلاسفة والمفكرين السياسيين، من سارتر ودو جوفنيل إلى شتراوتس هوبي وكلاوزيفتش، وتستدمجها في تعريف شامل يلامس نواحي متعددة لها. فالسلطة ما هي إلا أداة للحكم، والحكم يدين بوجوده إلى "غريزة السيطرة" المتأصلة في الإنسان، والتي تمنحه لذة لا تُضاهى، حين يجد الآخرين يتصرفون طوعَ رغباته، وتبعَ اختياراته. في الأمر والطاعة يكمن الشرط الأساسي لوجود السلطة، الذي من دونه لا تقوم لها قائمة[7]. وتستعير من ألكسندر باسيران دانتراف (Alexander Passerin d'Entreves)، والذي تعتبره الوحيد -كما تزعم هي- الذي ميز بين السلطة والعنف وكان واعياً بأهمية التفرقة بينهما، قوله الآتي: «إن علينا أن نقرر ما إذا كان في وسع السلطة (Power)، وفي أي اتجاه، أن تتمايز عن القوة (Force)، وعلينا أن نتيقن مما إذا كان فعل استخدام القوة بالتوافق مع القانون، يبدل من طبيعة القوة نفسها ويعطينا صورة مختلفة كل الاختلاف للعلاقات البشرية ...(نظراً لأن) القوة منذ اللحظة التي يتم فيها توصيفها، لا تعود قوة»[8]. ورغم إيرادها لإحالات متكررة له، إلا أن أرندت تعود لتعتبر أن التعريف الذي قدمه دانتراف للسلطة، لا يعدو أن يكون سوى قَبول بعنف مخفف، وإن لم يكن على غرار التعريفات السالفة التي اعتبرته التجلي الأكثر بروزاً للسلطة، وطالما يكتفي بتعريف السلطة باعتبارها قوة "مؤهلة" أو "مؤسسة" (أي تحمل الصفة المؤسساتية)، وتبقى بالتالي النتيجة نفسها في نهاية المطاف.

لا تقتصر هذه التعريفات التي تنتقدها أرندت على كونها متحدرة من التصور العتيق للسلطة المطلقة، بل وجدت هذه التعريفات قيمتها أيضاً -حسب أرندت- من التقاليد اليهودية-المسيحية وتصوراتها الحصرية للقانون، والتي كانت نتيجة "لوصايا الرب" والتي اعتبرت العلاقة بين الأمر والطاعة كافية لتوصيف جوهر القانون. لم تكن الأصول الدينية وحدها فقط سبباً، بل أدت إلى ذلك أيضاً، القناعات العلمية والفلسفية الحديثة، حيث زكت الاكتشافات العديدة المتعلقة بوجود غريزة حيوانية في الإنسان تنزع إلى السيطرة، وكذلك، وبنفس القدر أو أكثر، توجد غريزة الخضوع، والرغبة الحادة في الطاعة.

كل هذا عزز التقاليد القانونية والسياسية، من المدينة- الدولة في أثينا، والتي كان يطلق أهلها على قانونهم اسم (Isonomy)، إلى الرومان الذين كانوا يتحدثون عن (Civitas) بوصفه شكل الحكم لديهم «كان يخامر أذهانهم تصور للسلطة وللقانون لا يرتبط جوهره بعلاقة الأمر- الطاعة، ولا كانوا يقيمون أية علاقة بين السلطة والحكم أو القانون والقيادة»[9]، من هنا أتى مفكرو القرن التاسع عشر بنوع الحكم الجمهوري، حيث يحكم القانون، ويقوم على أساس سلطة الشعب، ووضعوا حدا لحكم الإنسان للإنسان -لأنه لا يلائم إلا العبيد-، ولكن المؤسف في نظر أرندت، هو أنهم استبدلوا طاعة البشر بطاعة القوانين، وعنوا بذلك «دعم القوانين التي كانت جماعة المواطنين قد توافقت عليها»، ومرد الأسف هنا، هو أن الدعم بقي غير مشروط، ومعنى هذا أن «الدعم لا يكون أبداً غير مشروط، وإذا كان قد ظل مضموناً بقوة، فإنه لن يتماهى أبداً مع الطاعة غير المشروطة التي يمكن فرضها عن طريق فعل العنف: الطاعة التي يمكن أن يعتمد عليها النشال حين يسرق لي محفظتي بعد أن يهددني بسكينه، أو السارق حين ينهب مصرفاً وهو يحمل مسدساً في يده. إن مساندة الشعب هي التي تؤمن السلطة لمؤسسات بلد من البلدان، وما هذه المساندة سوى استمرارية التوافق الذي أوجد القوانين القائمة (...) في وضعية تقوم فيها بالحكم حكومة تمثيلية، من المفروض أن يكون الشعب هو الذي يحكم أولئك الذين يديرون شؤونه. إن كافة المؤسسات السياسية إن هي إلا تجليات السلطة وتجسيدها المادي؛ وهي تجمد وتتدهور منذ اللحظة التي تكف فيها سلطة الشعب الحيوية عن مساندتها»[10].

تعود أرندت بعد هذا، إلى انتقاد العلوم السياسية بشدة، لعدم قدرتها على التمييز بين كلمات مثل "سلطة" و"قدرة" و"قوة" و"سيطرة" وأخيرا عنف، وهي ظواهر تتمايز وتختلف بعضها عن البعض، ومن الصعب عليها أن توجد ما لم يكن هذا التمايز قائماً، وملاحظة دانتراف التي توردها أكثر انتقادا لاعتباره أن أكبر المفكرين لا يستنكفون عن استخدام هذه المفاهيم أحياناً كيفما جرى الحال، ومن هنا يتوجب دراسة وتفحص معانيها بعناية فائقة؛ وذلك لأن الاستخدام الصحيح لهذه الكلمات ليس مجرد قضية قواعد منطقية، بل قضية تطور تاريخي؛ لأن استخدام هذه الكلمات بكونها مترادفات لا يعني فقط -حسب أرندت- فقدان الحساسية إزاء الدلالة اللغوية، بل يبدي جهلا مؤسفا وخطيرا باللغة وحقائقها، والخطير أن في خلفية هذا الخلط الظاهر، هناك قناعة صارمة بأن التمايزات ستكون في أحسن الأحوال ذات أهمية ضئيلة، لسبب بسيط، وهو أن السؤال الشاغل والموضوع المحوري هو من يحكم من؟ وكيف يحكم؟ والسلطة والقدرة والتسلط والعنف: كلها مجرد وسائل لتحقيق أو بلوغ الهدف ليحكم الإنسان الإنسان، ومن ثم تعتبر مترادفات لها نفس الوظيفة.

ثالثا: إعادة تعريف السلطة

وهنا تصل أرندت لإعطاء التعريفات الدقيقة لهذه المفاهيم المتداخلة، فالسلطة (Power) عندها تحديداً تعني «قدرة الإنسان ليس فقط على الفعل، بل على الفعل المتناسق (concert). السلطة لا تكون أبداً خاصة فردية، بل إنها تعود إلى مجموعة، وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة بعضها مع بعض. وحين نقول عن شخص ما أنه "في السلطة"، فإننا في الحقيقة نشير إلى أنه قد سُلِّط من قبل عدد من الناس لكي يفعل باسمهم. وفي اللحظة التي تختفي فيها الجماعة التي نبعت السلطة عنها (يقول اللاتين: Potestas in Populo أي من دون شعب أو جماعة لا تكون سلطة) ستختفي "سلطته" بدورها. وفي الاستخدام الرائج، حيث نتحدث عن "رجل ذي سلطة" أو "شخصية نافذة"، فإننا نكون قد استخدمنا كلمة "سلطة" بشكل مجازي؛ لأن ما نعنيه، خارج إطار المجاز، إنما هو القدرة»[11].

تتوافق السلطة إذن، مع استعداد الناس للعمل معاً، فهي ليس ملكية فردية لأحد على الإطلاق، بل تعود لجموع الناس ما لم ينقسموا، وحين يتسلم السلطة أحد ما، فذلك يعني أنه تولى السلطة من قبل بعض الناس ليعمل باسمهم؛ أي إنه إذا انحلت المجموعة التي انبثقت عنها السلطة في البداية فإن سلطته تنحل بدوره. فالسلطة في الشعب كما كان يقول اللاتينيون، فالسلطة لا تنحصر وحسب بالسيطرة (السيطرة على)، بل هي لا تنفصل عن التعددية؛ أي عن الحالة الإنسانية التعددية «فالإنسان بالمفرد ليس هو من يقيم على الأرض ويسكن العالم، بل الناس. إن التعددية هي "شريعة الأرض". والقانون لا يقوم إلا على المشاركة في الأقوال و/أو في الأفعال. لا وجود للسلطان إلا حيث ينتظم الفعل المشترك برابط مؤسساتي معترف به. السلطان (Power) "سلطان مع" وليس "سلطان على". فالسلطان لا ينطوي في شيء على فعل الخضوع لإرادة آخر، والسؤال الكلاسيكي عن "السيادة" غير مفترض -على الأقل مباشرة-من خلال هذا المنظور الذي يشدد على العمل الجماعي. وقد توصلت أرندت إلى تعارض السلطان مع السيطرة، ومن خلال قلبها للمنظور التقليدي، إلى اعتبار الرابط السياسي كحالة تنفلت تحديداً من علاقة أمر/طاعة، سيطرة/عبودية»[12].

أما النفوذ (Authority) فـ «هذه الكلمة تعني أكثر هذه الظواهر التباساً، مما يجعلها، بشكل مستديم، عرضة لسوء الاستخدام اللغوي. بالإمكان تطبيقها على الأشخاص، ... كما يمكن استخدامها في الحديث عن المؤسسات ... أو في التراتبية الهرمية للكنسية. إن هذا النفوذ يتميز بكون الذين يُطلب إليهم الخضوع له، يعترفون به من دون أن يضعوا دون ذلك أي شروط؛ ومن دون أن يحتاج المر إلى أي إكراه أو إقناع»[13]، فيما يتميز العنف «بطابعه الأدواتي. إن من الناحية الظاهرية قريب من القدرة، بالنظر إلى أن أدوات العنف، كما هو حال بقية الأدوات، إنما صممت واستخدمت بهدف مضاعفة طبيعة القدرة حتى تستطيع أن تحل محلها، في آخر مراحل تطورها»[14]. هذه التمييزات مهمة جدّاً لأرندت في فهم العنف في حقيقته، وتفحص جذوره وطبيعته، لتنقية السياسة منه، لذلك نرى مثابرة أرندت وعزمها على الفصل بين السلطة والعنف من جهة، وبين السلطة والنفوذ من جهة أخرى، وذلك في سعيها لتحديد جوهر السياسة بدقة.

إذا كانت السلطة غير السيطرة، فلا يمكن خلطها مع العنف أيضاً، فعلى الرغم من كونهما ظاهرتين متمايزتين، إلا أنهما عادة ما يظهران معاً، حتى صار ذلك هو الشكل المألوف، ويتم حينذاك إبراز السلطة باعتبارها العامل الأساسي والمسيطر، بل الأكثر من ذلك فإن أرندت تقر أن يتعين عليها الاعتراف أنه «من المغري، بشكل خاص، التفكير بالسلطة انطلاقاً من مصطلحات الأمر والطاعة، وبالتالي الخلط بين السلطة والعنف، في تحليل تلك التي لا تكون، في الواقع، سوى واحدة من التجليات المميزة للسلطة، أي سلطة الحكم»[15].

تذكر أرندت على الأقل فرقين جوهريين بين العنف والسلطة، أولهما أن العنف لا يحتاج للعدد، عكس السلطة التي تحتاجها، فسلطة الحكم، إنما تعتمد على العدد، وهي تكون على تناسب مع العدد الذي تتشارك معه، وحكم الطغيان هو في رأيها، كما يرى مونتسكيو، الحكم الأكثر عنفا والأقل قوةً، بين كافة أشكال الحكم، حيث تقول أرندت: «حقيقة أن واحداً من أكثر التمييزات وضوحاً بين السلطة والعنف يكمن في أن السلطة قد ارتكزت على الدوام إلى العدد. أما العنف، فإنه إلى حد ما يكون قادراً على تدبير أمره مستغنيا عن العدد؛ لأنه يستند إلى الأدوات (أدوات القمع)»[16]. أما الفرق الثاني، فيكمن في حاجة العنف دوما إلى تبرير عكس السلطة، «إن السلطة تكمن حقا، في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر. العنف، بطبيعته، أدواتي، وهو ككل وسيلة، يظل على الدوام بحاجة إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتتبعه. ويحتاج إلى تبرير يأتيه من طرف آخر، لا يمكنه أبداً أن يكون في جوهر أي شيء»[17].

السلطة عند أرندت، كمثل الدولة عند هيجل «غاية في حد ذاتها»، وهذا لا يعني عند أرندت أن الحكومات لا تتبع سياسات بعينها، وتستخدم لذلك ما لديها من سلطة من أجل إنجاز أهداف محددة مسبقاً، إلا أن بنية السلطة نفسها تسبق وتفيض عن كل غاية، فالسلطة بعيداً عن أن تكون وسيلة للوصول إلى غاية، تمثل الشرط الضروري -حسب أرندت- الذي يمكن الناس من التفكير والفعل انطلاقاً من صيغ ترتبط بمقولة الوسيلة والغاية. إن السلطة لا تحتاج إلى تبرير، انطلاقا من كونها لا تقبل أي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه. ما تحتاج إليه السلطة إنما هو المشروعية، «تنبثق السلطة في كل مكان يجتمع فيه الناس ويتصرفون بالتناسق في ما بينهم، لكنها تستنبط مشروعيتها انطلاقاً من اللقاء الأول، أكثر مما تستنبطها من أي عمل قد يلي ذلك. إن المشروعية، حين تجابه تحدياً، تسند نفسها في التوجه إلى الماضي، أما التبرير فإنه يرتبط بغائية تصله مباشرة بالمستقبل. العنف قد يبرر، لكنه أبداً لن يحوز على مشروعيته»[18].

تختلف السلطة عن النفوذ أيضا، فالنفوذ امتثال لا يُرد إلى إقناع بالحجج أو إلى إكراه بالقوة، وبالتالي يقر بعداً في العلاقة بين طرفيه، تنطوي على تفاوت مميز، إذ إنها لا تقوم على المساواة ولا على التراتبية بالمعنى الدقيق للعلاقة أمر/طاعة. فهو تفاوت تراتبي، إذا صح القول. في علاقة السلطة تنطوي المساواة والتراتبية على أمر مشترك: فهما يعترفان على نحو متبادل بصحة التفاوت وشرعيته وحيث لكل منهما "مكانه" المحدد سلفاً. وينجم عن هذا «أن السلطة (النفوذ) فيما لو انتزعت من المنظور الأداتي الذي يميزها عادة فلن تعود أداة للسيطرة، وكما أن السلطان لا يمكن خلطه مع العنف، كذلك لا يمكن أن تكون السلطة مجرد "صفة" أو "خاصية" للسلطان. فلا يقوم جوهر السلطة (النفوذ) على حمل الناس على الطاعة ولا على معرفة دفعهم للطاعة. بتعبير آخر، إذا لم يكن السلطان مجرد حالة قهر ناتجة عن نظام تراتبي؛ فالسلطة بدورها لا تستطيع أن تكون مجرد أداة "شرعنة": فالتصوران ينهاران معاً»[19].

خاتمة

في ختام هذا المقال، يتضح أن حنا أرندت قد قدمت تحليلاً دقيقاً ومتميزًا لمفاهيم السلطة، النفوذ، والعنف من خلال توضيح التمايزات الجوهرية بينها. فهي تدافع على أن السلطة تعتمد على الفعل المتناسق والعمل الجماعي، والنفوذ يرتبط بالامتثال غير المشروط، والعنف يظل أداة قمعية تحتاج دوما إلى تبرير. أرست أرندت أساسًا لفهم جديد للسياسة يتجاوز التصورات التقليدية التي تربط السلطة بالقهر والسيطرة، وهذا التفكيك للمفاهيم يساعد في تحديد جوهر السياسة بوصفها فضاءً للتفاعل الجماعي الحر، بعيداً عن العنف والإكراه. إن إعادة التفكير مع حنا أرندت في هذه المفاهيم هو مفتاح لفهم أعمق لديناميكيات السلطة والعلاقات السياسية في المجتمعات الحديثة.

[1]- ميريام ريفولت دالون، سلطان البدايات: بحث في السلطة، ترجمة سايد مطر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2012، ص: 48-49. تجدر الإشارة إلى أن المترجم اختار تعريب (Power) بالسلطان، ووضع السلطة في مقابل (Authority)، وقد احتفظنا في الإحالات على ترجمته على المصطلحين دون تغيير.

[2]- حنا أرندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، دار جداول، بيروت، 2015، ص: 222، بتصرف، لأن المترجمة اختارت تعريب كلمة (Power) بالاقتدار! فيما وضعت القوة عن كلمة (Force)، وتركت سلطة لـ(Authority). انظر أيضا:

Hannah Arendt, The Human Condition, University of Chicago Press, 1958, p: 200

[3]- حنا أرندت، الوضع البشري، ص:223

[4]- نفسه، ص:222

[5]- نفسه، ص:223

[6]- أوردته حنا أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 1992، ص:31

[7]- حنا أرندت، في العنف، ص:32

[8]- أوردته بنفس المرجع، ص: 33

[9]- نفسه، ص: 35

[10]- نفسه، ص:36

[11]- نفسه، ص: 39

[12]- ميريام دالون، سلطان البدايات: بحث في السلطة، ص:48

[13]- حنا أرندت، في العنف، ص: 40، وقد اختار إبراهيم العريس تعريب (Power) بالسلطة، ووضع القوة مقابل (Force)، أما (Authority) فترجمها بالتسلط! أما نحن فقد اخترنا ترجمة الأخيرة بالنفوذ. انظر أيضا:

Hannah Arendt, On Violence, Harcourt Brace Jovanovich, Publishers, 1970, p: 45

[14]- حنا أرندت، في العنف، ص ص: 40- 41

[15]- نفسه، ص ص: 41- 42

[16]- نفسه، ص: 36

[17]- نفسه، ص: 45

[18]- نفسه، ص: 46

[19]- ميريام دالون، سلطان البدايات: بحث في السلطة، ص:50