السلفية العلمية والعقلانية تطابق بينهما الأمة، رغم تناقضهما
فئة : مقالات
لا يمكن للسلفية العلمية بما هي البحث عن الصواب أو فهمه من خلال "النص المؤسس" وكما فهمته الأجيال التي عاصرت وجود هذا النص، أن تحافظ على وجودها وتأثيرها إلا في بيئة علمانية عقلانية. ومن ثم، فإنها يجب أن تكون معنية مثل غيرها من التيارات الفكرية العلمانية بالدعوة إلى عقد اجتماعي مستمد من الأمة، ويضمن للناس حرية التفكير والتأثير والجدل السلمي.
تنضوي السلفية عمليا بما هي منهج علمي في بحث المسائل وإجابة الأسئلة في منظومة السببية، بمعنى حتمية وجود الصواب، وما ينقصنا لإدراك الصواب هو المعرفة؛ أي أن ما نحتاج إليه هو المعرفة الصحيحة والأداة الصحيحة للمعرفة، وفي عالم السلفية فإن الصواب هو الحق الذي نزل من السماء واستودع في النص، وأداة المعرفة بالضرورة هي النص نفسه، وإن كنا لا ندرك الصواب، فذلك بسبب نقص المعرفة أو خلل في الأداة المنهجية والمعرفية، .. لقد ساد هذا اليقين الحتمي بوجود الصواب ووحدانيته وعدم تعدده في العلم والمعرفة قرونا طويلة، وكما في الدين فقد ساد اليقين في الطبيعيات وسائر المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية وفي الإدارة والسلوك والبحث العلمي، .. والحال أن السلفية منهج لا يخص المعرفة الدينية وحدها.. ولكنا في هذا المقال مشغولون بطبيعة الحال بالسلفية الدينية، والتي لقيت هوى وقبولا لدى المؤسسة الدينية السياسية، فمكنت لها في عالم الدين والتدين وفي السلطة وتنظيم العلاقة بين السلطة والأفراد والمجتمعات، وغني عن القول إنها آلت إلى أزمة سياسية واجتماعية كبرى وصراعات دينية .. وحرب على العالم، ولم يعد ثمة مجال لتفكيك الأزمة ومواجهتها سوى إعادة النظر في منهج وتنظيم المؤسسة الدينية والسياسية بالنظر إليها منشأ السلفية وتمكينها،.. ولم يعد مقبولا تأجيل هذه المواجهة وممارسة التضليل الذي تؤديه السلطات السياسية العربية، وهي تلاحق المتطرفين ولكنها في الوقت نفسه ترعى التطرف!
تأتي كلمة "سلف" في لسان العرب[1] بمعنى الجماعة المتقدمون، قال تعالى: "فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين" (سورة الزخرف 56) قال الفراء: يقول جعلناهم سلَفاً متقدّمين ليتعظ بهم الآخِرون، والأُمم السَّالِفةُ الماضية أو الغابرة وتُجْمع سَوالِفَ؛ وسَلَفُ الرجل: آباؤُه المتقدّمون. والسَّلُوفُ: الناقةُ تكون في أَوائل الإبل إذا وردت الماء. ويقال: سَلَفَت الناقةُ سُلُوفاً تقدّمت في أَول الوِرْد. والسَّلُوفُ: السريع من الخيل. وسُلاَّفُ العَسْكر: مُتَقَدِّمتُهم.
وسَلَفْتُ القوم وأَنا أَسْلُفُهم سَلَفاً إذا تقدَّمْتهم. وسُلافُ الخمر وسُلافَتُها: أَوَّل ما يُعْصَر منها، وقيل: السُلافةُ أَوَّلُ كل شيء عُصِر، والسُّلافةُ من الخمر أَخْلَصُها وأَفْضَلُها، وكذلك من التمر والزبيب ما لم يُعَدْ عليه الماء بعد تَحَلُّب أَوَّله.
وقال الشاعر:
ولاقَتْ مَناياها القُرُونُ السَّوالِفُ كذلك تَلْقاها القُرونُ الخَوالِفُ
وقال قيس بن الخطيم:
لو عَرّجُوا ساعةً نُسائِلُهُمْ رَيْثَ يُضَحّي جِمالَه السَّلَفُ
وقال طُفيل الغَنَوي يَرْثي قومه:
مَضَوْا سَلَفاً قَصْدُ السبيلِ عليهمُ وصَرْفُ المَنايا بالرِّجال تَقَلَّبُ
أَراد أَنهم تقدّمونا وقصدُ سَبيلِنا عليهم؛ أَي نموت كما ماتوا فنكون سَلَفاً لمن بعدنا كما كانوا سلفاً لنا.
وتستمد السلفية تعريف نفسها من اتباع نموذج السلف وفق المعنى الذي يدل عليه الحديث النبوي "خيرُ الناسِ قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، .."[2]. ويتفق ذلك مع كون الأمة الإسلامية بعد ثلاثة قرون من النبوة، فقدت إجماعها كوحدة سياسية ولم يعد لها قائد سياسي (إمام أو خليفة) واحد، وصارت دولا عدة كثيرة مستقلة بنفسها.
وتستخدم أحيانا التسمية "أصولية" كترجمة لمصطلح Fundamentalism بمعنى العودة إلى الأصول، وهي تسمية أطلقت في اللغة الإنجليزية على الجماعات البروتستانتية في دعوتها إلى العودة إلى الأصول الدينية[3].
وفي المقابل، فإن العقلانية التي تنضوي فيها العلمانية تقوم على النسبية وعدم اليقين بمعنى أنه ربما لا يكون هناك صواب أبدا، وإن كان موجودا فإننا لا نجزم بمعرفته وما لدينا من معرفة وفهم وأنظمة تقوم على إدراكنا أو تقديرنا للصواب القابل لأن يكون خطأ.. ما يعني بالضرورة أن كل فكرة أو مقولة قابلة أن تكون صوابا أو خطأ... أو أننا ننشئ الصواب إنشاء ولا نكتشفه اكتشافا. ولا نحتاج لأجل الصواب سوى أن نسأل بنزاهة ودأب.
ويفترض أن ذلك يغير وجهاتنا السياسية والفكرية والإصلاحية.. وكل شيء. إنه يعني ببساطة أن نقص المعرفة ليس بالضرورة هو سبب عدم ادراك الصواب، فالمعرفة لتقدير أو تخمين الصواب لا تكفي. ولكننا نقترب من الصواب بالحكمة والإبداع. ويظل هذا الصواب الذي أنتجناه صوابا ليس لأنه صواب في واقع الحال، ولكن لأننا لم نقدر بعد على تطويره إلى منتج أفضل؛ هو صواب ما دام قادرا على الصمود في وجه الأسئلة والاختبارات، لكنه يظل دائما خاضعا المراجعة والسؤال، ليتشكل ويعيد تشكيل نفسه على نحو دائم ومتواصل... ونظل نرتقي في العمل والمعرفة بمقدار ما نظل نسأل!
ويكون الصواب عمليا هو حالة البحث والسؤال والجدل وتفاعل الأفكار وتقبلها بلا حدود ولا قيود، وأما الشعور بالصواب المطلق أو بمظنة وجوده، فلا يخدم المراجعة والتفكير.
ولكننا في ذلك معرضون لزلل أكبر بكثير من التمسك بفكرة أو حالة على أنها الصواب؛ فالحجة القوية لا تكفي لإنتاج الصواب. وكلما تقدمت لدى المرء القدرات المنهجية والعلمية، تزيد الحاجة بالقدر نفسه إلى السمو الروحي والنزاهة والأخلاق الفاضلة.. لأن التقدم العلمي والعقلي بلا تقدم روحي وأخلاقي، يهدد بتحويل العلم إلى أداة للشر والتضليل. فكلما تقدمت المعرفة، تزيد الحاجة إلى الصمت والاستماع، ليتمكن المرء من استيعاب وإعادة إنتاج المعرفة، ولئلا يحلّق وحيدا ويتيه في الكون والحياة.
المعرفة تقاس جدواها ومحتواها بالحكمة والإبداع؛ فإذا لم تمنح المعرفة صاحبها حكمة وإبداعا، يتحول إلى مستودع أو "سي. دي" للمعرفة. وتبدأ خطوات تحويل المعرفة إلى حكمة، بالارتقاء الروحي، ثم بتنظيم المعرفة وتحليلها وإعادة إنتاجها ومزجها بالمعارف الأخرى؛ ففي تخوم التخصصات ومجالات المعرفة تتشكل الاختراعات والاكتشافات والإضافات، .. ولكنها حالة لا يمكن ضمانها إلا بعقد اجتماعي تحميه الأمة بأطرافها المختلفة فكريا وسياسيا واجتماعيا ومصلحيا،... أن نكون مختلفين ولكنا مجمعين على العقد الاجتماعي، .. ولا نحتاج سوى ذلك كنا سلفيين أو عقلانيين!
العلمانية من العالم وليس من العلم، فهي "عالمانية" أي فهم العالم المشهود بما هو كذلك وبأدواتنا الإنسانية بما هي إنسانية... وبالطبع، فإنهما (السلفية والعقلانية) يبدوان على طرفي نقيض، ولكنهما في واقع الحال وجهان لعملة واحدة، أو هما مكونان لمنظومة واحدة هي منظومة المعرفة بما هي البحث عن الصواب.
توقن السلفية سواء اعترفت أو لم تعترف أنه برغم وجود الصواب، فإن معرفته مشوبة دائما بالخطأ والجهل.. ولذلك يمتلئ التراث دائما بعبارة "والله أعلم" تعبيرا عن التقليد العلمي بأن الصواب المطلق لا يعلمه إلا الله.. ولكن تظل السلفية مصرة على أن ثمة صوابا هو الحق الذي نزل من السماء، وأنه قابل للمعرفة والإدراك .. وفي ذلك فإنها تحول المجهود الإنساني لمعرفة الصواب إلى إلهي، أو حق نزل من السماء ويصعب غالبا على السلفيين التمييز بين الإنساني والديني، .. وتنزع السلفية بما هي كذلك إلى تجسيد الأفكار أو تحديدها على نحو قابل للفهم والإدراك دون إقرار بنسبية المعرفة أو استحالة تحديد الفكرة أو وصفها... وهي في ذلك ترى لغة النص المعتقد أنه حق نزل من السماء محددة لا تقبل المجاز أو التأويل، وأنها تحمل معنى واحدا غير قابل للخلاف أو التعدد أو عدم المعرفة.
وأما "العالمانية"، فهي المعرفة الناشئة عن عدم المعرفة بما يعني ذلك من ريبة أو عدم يقين وإيمان بالتغير.. تغير الفكرة نفسها وتغير المفكر نفسه .. هي في الواقع منظومة لإدارة شكّنا وجهلنا لنصل به إلى حالة نتوافق عليها.. وهذا ما يسمى العقد الاجتماعي الذي يتسع لكل الأفكار والمقولات طالما أنها تتجادل سلميا وتؤثر في العقد بما تملكه من حجة ومصلحة...
نظريا يمكن أن تتفق السلفية والعلمانية بدرجة كبيرة، لأن السلفية جوهريا علمانية أو أحد تطبيقاتها .. فهي المجهود الإنساني لمعرفة الحق الإلهي أو الحق بما هو كذلك، سواء كان من عند الله أو هو حق بذاته.. والعلمانية لا تنفي وجود هذا الحق ولكنها لا تمنح حق معرفته أو تحديده أو احتكاره لأحد من الناس، فالحق والله هو الحق يتسع لكل الناس والأفكار ولا يملك أحد وصاية عليه .. يمكن للناس أن يضعوا قوانين تعبر عن مصالح ولكن أحدا لا يقول أو لا يجوز أن يقول إن هذه القوانين والتطبيقات هي الحق، .. هي ليست سوى مجهود بشري خاضع بما هو كذلك للتغيير والمراجعة واحتمال الصواب والخطأ ومشوب دائما بالقدرات المعرفية والمصالح والأهواء والدوافع السامية والواقعية والفاسدة...
وهكذا، ففي الجدل بين منهج أو مؤسسة الحق والصواب بما هو قابل للتحديد بوضوح وحسم لا يقبل الخلاف ومنهج الحق بما هو غير قابل للإدراك البشري واستحالة أن يدعيه أحد يلجأ الطرفان إلى الأمة، فلا سبيل للإجماع على الحق المزعوم أو تحديده أو سلوكه سوى الأمة، ولا مجال للهروب من عدم اليقين سوى الأمة أيضا، فمن وجهة نظر السلفية الأمة هي المعيار أو المقياس سواء في الأمة "المثال" في نموذجها السالف أو في الأمة "العمل أو التطبيق" الذي يقتبس المثال أو يحذو حذوه، ومن وجهة نظر العلمانية أيضا، فإن الأمة هي مصدر الصواب ليس لأنه صواب بالفعل، ولكن لأن الأمة هي المقياس الذي نحتكم إليه في خلافنا وجهلنا، ويقبل العلمانيون بالعودة إلى الأمة حكما أو دليل مرشدا ندير به خلافنا ونقص معرفتنا.
[1] لسان العرب مادة "سلف" http://www.baheth.net/all.jsp?term=%D8%B3%D9%84%D9%81
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] http://dictionary.reference.com/browse/fundamentalism