"السلفيّة والسلفيّون، الهويّة والمغايرة: قراءة في التجربة اللبنانيّة" لعبد الغنيّ عماد
فئة : قراءات في كتب
1- التقديم المادّي للكتاب:
كتاب "السّلفيّة والسّلفيّون الهويّة والمغايرة، قراءة في التجربة اللبنانيّة"، الصادر ببيروت سنة 2016 عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ بالتعاون مع جامعة المصطفى العالميّة، والمتكوّن من 335 صفحة، هو للكاتب عبد الغني عماد، وهو لبنانيّ الجنسيّة ولد في طرابلس، وتحصّل على الدكتوراه في علم الاجتماع، اشتغل بالتدريس في الجامعة اللبنانيّة وغيرها، وتولّى عمادة معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة لسنوات، ثمّ شغل خطّة رئيس المركز الثقافي للحوار والدراسات. وله عدد من الدراسات والكتب المنشورة. من كتبه: "حاكميّة الله وسلطان الفقيه: قراءة في خطاب الحركات الإسلاميّة المعاصرة"، الذي صدر سنة 1997، وكتاب "ثقافة العنف في سوسيولوجيا السّياسة الصّهيونيّة"، الذي صدر سنة 2001، وكتاب "مجتمع طرابلس زمن التحوّلات العثمانيّة"، الذي صدر سنة 2002، وكتاب "صناعة الإرهاب: في البحث عن موطن العنف الحقيقيّ"، الذي صدر سنة 2003، وكتاب "عبء الآخر: صورة العدوّ في العقل السياسيّ الأمريكيّ"، الذي صدر سنة 2004، وكتاب "الحركات الإسلاميّة في لبنان: إشكاليّة الدّين والسّياسة في مجتمع متنوّع"، الصادر سنة 2006، وكتاب "الثقافة وتكنولوجيا الاتّصال: التغيّرات والتحوّلات في عصر العولمة والربيع العربي" الصادر سنة 2011، وكتابه "موسوعة الحركات الإسلاميّة في الوطن العربيّ" الذي أشرف عليه وقام بتنسيقه وأسهم في تأليف بعض فصوله وصدر سنة 2013، وكتاب "الإسلاميّون بين الثّورة والدّولة: إشكاليّة النموذج وبناء الخطاب" الصادر سنة 2013.
والنّاظر في سلسلة الكتب التي ألّفها عبد الغني عماد يلحظ أمرين: فالمؤشّر الزمني يدلّ على غزارة إنتاجه ومتابعته المنتظمة لقضايا الفكر الإسلاميّ المعاصر والحديث، خاصّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. أمّا مضامين المؤلّفات، فتؤكّد تأسيسه لمشروع متكامل تتّصل حلقاته وتتطوّر مقارباته[1]. فتراكم التأليف في مسألة الجماعات الإسلاميّة جعل من الكاتب مختصّا في المسألة، وهو ما أهّله للإشراف على إصدار موسوعة الحركات الإسلاميّة التي تمثّل وثيقة علميّة مهمّة تمكّن الباحثين من الاطلاع على أهمّ الحركات الإسلاميّة، وتبيّن أهمّ ما يميّز فكرها ومواقفها السياسيّة. أمّا اختيارنا لأحدث كتبه، فتبرّره ثلاثة أسباب. الأوّل: أهمّية هذا الكتاب في تحديد الهويّة السلفيّة وضبط الحدود الإبستيميّة بين حركات تتقاطع مفاهيمها وتتضارب مصالحها السياسيّة وروافدها التنظيميّة. ويتعلّق السبب الثاني بموقع الكتاب الذي يتوّج به سلسلة من الأبحاث الجادّة التي خصّصها الكاتب لمقاربة الحركات الإسلاميّة. أمّا السبب الثالث، فمنهجيّ وهو أنّ الكتاب لا ينزع إلى مجرّد بحث عام في المفاهيم، وإنّما يتّخذ من العيّنة اللبنانيّة سبيلا لإدراك المؤتلف والمختلف بين التيارات السلفيّة الموجودة في تلك المنطقة. وتكمن أهميّة الأنموذج اللبنانيّ في كونه يمنح القارئ فرصة للاطلاع المزدوج على أسس الشرعيّة الدينيّة التي يؤسسّ عليها قادة تلك التيّارات دعواتهم الدينيّة والسياسيّة، فيمكّن القارئ من إدراك ما يحرّك تلك التيارات من خيوط خارجيّة لعلّها امتداد للمصالح الإقليميّة والدوليّة الفاعلة في لبنان. وما العيّنة التي قدّمها المؤلّف سوى أنموذج لما يحصل في منطقة الشرق الأوسط من تصاعد المدّ السلفيّ وازدياد تأثيره في الجماهير، بل إنّ كثيرا من النزاعات والحروب الدوليّة والإقليميّة كثيرا ما ولّدت جدلا بينه وبين تلك التيارات. فتأثّرت مقولاتها بالواقع التاريخيّ وبأهمّ التحوّلات السياسيّة في المنطقة من ذلك مثلا: أثر النكسة سنة 1967 والثورة الإيرانيّة وحرب لبنان وحرب الخليج وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، واغتيال الرئيس سعد الحريري وخروج القوات السّورية من الأراضي اللبنانيّة. ولكنّ تلك الأحداث المفصليّة لا يمكن أن تبرّر وحدها ظهور تيّارات واختفاء أخرى، فقد كان للتدخلات الخارجيّة أثر كبير جعل لبنان ساحة للنزاعات المختلفة من ذلك مثلا أثر التمويل وسلطة الطائفيّة وتدخّل القوّة العسكريّة السوريّة والحروب في دول الجوار كغزو العراق وحرب سوريا.
2- قراءة تحليليّة للكتاب:
يقوم الكتاب في بنيته العامة على بابين؛ الباب الأول منه مخصّص للحديث عن السلفيّة والسلفيين وينبّه المؤلّف فيه على تشعّب الدّعوة وبروز التيارات السلفيّة، ويحاول تقديم رؤية عامّة لأهمّ التيّارات السلفيّة التي كان لها أثر في الدول العربيّة الإسلاميّة، وأثّرت بشكل مباشر في تيارات السّلفيّة اللبنانيّة، إذ يمثّل هذه الباب ضبطا معرفيّا للمصطلحات ورصدا لمنابع السلفيّة ومنابتها. وأمّا الباب الثّاني من الكتاب، فهو أقرب إلى العمل الموسوعيّ، لأنّه محاولة لبيان أهمّ التيارات السلفيّة الناشطة في لبنان.
من الناحية المنهجيّة يقوم الباب الأول على قراءة تحليليّة لنشأة وصعود الظاهرة السلفيّة، وبيان للبعد المعرفيّ على ضوء البعد التاريخيّ وما رافقه من تطوّرات ونتج عنه من تيّارات وتفرّعات. وفي القسم الثاني قراءة ميكروسوسيولوجيّة للظّاهرة السّلفيّة في مجتمع شديد التنوّع طائفيّا ومذهبيّا وسياسيّا. وقد مثّل لبنان على حدّ قول المؤلّف حالة حقليّة مناسبة للدراسة، تتيح المجال لتتبّع الظاهرة السلفيّة وتأثّرها بالمحيط الذي نشأت فيه من جهة، وحجم التكيّف الذي نسجته مع هذا المحيط وتأثير ذلك على خصوصيّتها ونظرتها تجاه الآخر بصفتها تعبيرا عن الهويّة وتأكيدا للذّات في مرحلة شديدة التجاذب والتحدّي الهويّاتي على مستوى الإقليم كلّه من جهة أخرى.[2]
ولدراسة الظّاهرة السّلفيّة وتشريح العيّنة اللبنانيّة اعتمدت الدراسة تقنية تحليل المحتوى (content analysis) سعيا إلى الكشف عن الخلفيّات الفكريّة والعقديّة لهذه التيّارات، واعتمدت أيضا تقنية "الملاحظة بالمشاركة" من خلال الاتّصال المباشر بالجماعات السلفيّة وقادتها. ولا يكتفي المؤلّف بمجرّد تحليل العيّنات المدروسة وإنما يعتمد منهج المقارنة، غير غافل عن الصّلة التي تربط بين التيّارات السّلفيّة اللبنانيّة والرّوافد الخارجيّة، سواء منها الفكريّة أو الماليّة.
إنّ من أهمّ مزايا الكتاب أنّه محاولة لإعادة النظر في كثير من المفاهيم السّائدة والمتعلّقة بالفكر السلفيّ، من ذلك مثلا شعار مكافحة الإرهاب الذي يعتبره المؤلّف اختزالا لتلك الرؤية المنبثقة من خلفيّة ثقافة الهيمنة الغربيّة. وهو مفهوم أنشأته المركزيّة الغربيّة، وهو من أدوات الصراع. وفي إطار رصده للمؤتلف والمختلف في فكر التيّارات السلفيّة يقرّ بقيام توافق داخل التيار السلفيّ حول مبادئ أساسيّة، ولكنّ ذلك لا يمنع من قيام اختلاف حول شرعيّة تكفير الحاكم والخروج عن طاعته ومنابذته بالسيف. "وعلى خلفيّة هذا الاختلاف قام السّجال السّلفيّ، باعتبار الجهاديين أهل فتنة وخوارج، واعتبار الإخوان المسلمين والتيار السّروريّ الذين قبلوا الاحتكام للقوانين الوضعيّة والدّخول إلى المجالس البرلمانيّة والتزموا بفكرة البيعة والتّنظيم، بأنهم مسيّسون، وأنّ إيمانهم مشوب بالهوى، وأنّهم غير مهتدين بالتوحيد باعتباره القضيّة الأولى في التصوّر الإسلاميّ."[3]
لعلّ أبرز مقاصد الكتاب التعريف بأهمّ التيارات السلفيّة مثل تيّار السلفيّة العلميّة أو الألبانيّة، الذي يطمح دعاتها إلى تصحيح عقائد الناس وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها، ويقيمون أسس تيارهم على التّوحيد والاتّباع والتّزكية، أو السلفيّة الحركيّة أو السّروريّة التي شكّلت عمليّا حلقة وصل بين تحوّلات التيّارات الدينيّة السّعوديّة من حالة السّكون والجمود العلميّ والفقهي للوهابيّة إلى اتّجاه حركيّ اتّخذ من الجهاد الأفغاني حقلا له مع بروز الحركات الجهاديّة حينها. أو السّلفيّة الجاميّة التي قدّم أصحابها آيات الولاء التام للسّلطة، وهي دعوة تطهيريّة داخل إطار السّلفيّة تسعى إلى تصفية من تعتبرهم أدعياء وتمارس الجرح والتعديل بحقّهم وفق المنهج السلفيّ الذي ترتضيه. أمّا السّلفيّة الجهاديّة، فقد اعتمد المؤلّف في تقديمها منهج المقارنة. فميّزها عن الإخوان وعن السلفيّة العلميّة، وبيّن ما وجّهه هذا التيار من نقد للجماعات الإسلاميّة المختلفة عنه. ورصد أهمّ أسسه التي تتمثّل في تكفير النظام وجاهليّة المجتمع والجهاد سبيلا للتغيير وتحقيق الكمال والإيمان بعقيدة الولاء والبراء، من خلال معاداة الكفرة. ولا يستثني دعاة هذا التيّار من قائمتهم الطّويلة الحكّام "الطواغيت"، بل إنّهم يعيدون رسم خارطة ديار الإسلام وديار الكفر من خلال تحويل ديار المسلمين (الدّول التي تقطنها أغلبية مسلمة) إلى ديار كفر متى غلبت فيها كلمة الكفر حسب زعمهم، وهو ما يمثّل المبرّر الإيديولوجيّ لمحاربة الحكومات الوطنيّة والمجتمعات المسلمة المعاصرة بحجةّ أنّها تحوّلت من دار إسلام إلى دار كفر.[4] وبذلك يواجه هذا المشروع عدوّين: الأول يسعى إلى إقامة دولة مدنيّة ديمقراطيّة، وهو في نظرهم مشروع علمانيّ كافر، والثاني يسعى إلى إقامة دولة محليّة وطنيّة تسمّى إسلاميّة، وهو في نظرهم مشروع خاضع للطّواغيت في الغرب. وجميع التيّارات الجهاديّة متّفقة على أنّ العلمانيّة والقوميّة والوطنيّة والديمقراطيّة كفر مناقض للإسلام مخرج من الملّة. وتتسع دوائر التكفير في فكر السلفيّة الجهاديّة، حيث تبدأ بمسألة التكفير أوّلا وعنها يتفرّع تكفير الحكّام الذين يحكمون بالقوانين الوضعيّة، وتكفير الرّاضين بذلك، وتكفير من لم يكفّر هؤلاء جميعا، كما أنّ البلدان التي تحكم بالقوانين الوضعيّة. فتصبح حتما دار كفر. ويستنتج عبد الغني عماد من خلال عرضه للأسس الفكريّة التي قامت عليها التيارات الجهاديّة أنّ منهجيّتها انتقائيّة وتاريخيّة. وأنّ من آثار تصوّراتها القائمة على العودة إلى الماضي إحداث شلل في الإبداع والاجتهاد، لأنّها تفترض أنّ الإسلام تحقّق كلّيا في الماضي، وأنّ مهمّة المسلمين استعادة ما تحقّق وتكراره من جديد، وهو ما يفضي إلى قراءة نصوصيّة جامدة جعلت السّلفيين أسرى لشكليات التديّن وقضايا الغيب كالزيّ واللّحية وأسلوب الكلام وحدود العلاقة بالمرأة وكيفيّة دخول البيوت وطريقة تناول الطعام أو الجلوس. واستنتج أنّ الهويّة السّلفيّة تستحضر مفهوم الفرقة الناجية وتحتكر النطق باسم الإسلام، فهي هويّة دفاعيّة منفصلة عن الواقع وغافلة عن أسباب التخلّف ومفجوعة بحسّ فقدان الغلبة.
أمّا في القسم المتعلقّ بالعيّنة اللبنانيّة، فقد قارب المؤلّف إشكاليّة العبور من الدّعوة إلى السياسة في مجتمع متنوّع، وانطلق من البحث في النشأة والبدايات، مبيّنا أثر البيئة اللبنانيّة في التيارات السلفيّة العلميّة والحركيّة، فضلا عن تأثير السّياق الدولي في مسار تلك الحركات، فقد كانت تلك التيارات تتفاعل مع الأحداث الوطنيّة والعالميّة. ومثّل كلّ حدث أثرا في تصوّراتها، بل إنّ بعضها كان حدّا فاصلا بين مرحلتين مختلفتين. كالتحوّل مثلا من السلفيّة العلميّة إلى السلفيّة الحركيّة. ولم يقف الكاتب عند حدود تأثير التيّارات العلميّة والفكريّة، وإنما رصد أيضا نشاط الجمعيات الدينيّة التي كثيرا ما تعتمد تمويلات خارجيّة مصادرها مختلفة بحسب انتماءاتها الطائفيّة ومقاصدها السياسيّة، وهو ما ولّد مظاهر مختلفة من التعامل مع هذا الوضع المتنوّع طائفيّا: الأوّل صداميّ، ومن أبرز العيّنات في هذا السياق مواقف الشيخ "الشهال" من حزب الله ومن النظام السوريّ الذي يدعمه والذي ضيّق على التيّارات السلفيّة السنيّة، وقد زادت حدّة مواقفه بعد أحداث 7 آيار 2008 حين دعا إلى النّفير العام بين شباب أهل السنّة للردّ على الاجتياح الفارسي حسب تعبيره.[5] والثاني موقف حواريّ متسامح، ومن أمثلته توقيع الشيخ الزعبي وثيقة فكريّة وحواريّة مع حزب الله واعتبرها الشيخ مانعة من استغلال الخلاف بين السلفيين (السنّة) والشيعة. وأثارت هذه الوثيقة عاصفة من الاستنكار والشّجب في الأوساط السنية عامة، وهو ما اضطرّ موقّعوها إلى التراجع عنها.[6] أو موقف "عصبة الأنصار" الذي وصل من المرونة حد القول إنّ العلاقة مع حزب الله قائمة على إبعاد شبح الاقتتال الطائفي وعدم الاستجابة للتحريض الذي يخدم أعداء أمتنا."[7]
لقد رصد المؤلّف أثر الأحداث السياسيّة في السلفيّة اللبنانيّة وحاول، وهو يتناول كلّ تيّار على حدة، إبراز جدل الأصول والواقع. فاندلاع "الثورة السّوريّة" مثلا رفع من حدّة التسييس لدى السلفيين، وفاقم التوتّر في السّاحة اللبنانيّة في ظلّ الانقسام السياسيّ والطائفيّ الحادّ، وقد برزت نتيجة هذا الحدث ظاهرة الأئمّة الأمراء، وقد قدّم بعضهم فتاوى في نصرة "الثورة السوريّة" و"الجهاد" لنصرة أهل الشام ردّا على تدخّل حزب الله في القصير. ومن أمثلة الدّاعين إلى هذه المواقف الشيخ سالم الرّافعي والشيخ أحمد الأسير. ولكنّ هذه الدّعوات ظلّت حسب رأي المؤلف غارقة في شعبويّة طائفيّة ومذهبيّة تفوق قدرة الشعب اللبناني على تحمّلها عارية بهذا الشكل.
وفي الفصل الذي عقده المؤلّف للسلفيّة الجهاديّة اعتراف بصعوبة مقاربة المبحث بسبب ما تحيطه هذه التنظيمات نفسها من السريّة وأساليب التخفيّ، فضلا عن طابعها الشبكيّ الذي يجعلها في كثير من الأحيان مجموعة من الخلايا المتخفّية والمتفرّقة. ولقد حاول المؤلّف بيان فصول الصّدام التي خاضها هذا التيّار مع الأجهزة الأمنيّة السوريّة متتّبعا أهم فصائلها ووجهات الجهاد التي دعت إليها. وقد استنتج من خلال عرضه الدّقيق والمفصّل لآثار هذه الشبكات وأعمالها مثل عصبة الأنصار ومجموعة الضنية والقرعون ومجدل عنجر وشبكة تفجير المطاعم، وظاهرة الخروج للجهاد في العراق، أنّ المسألة ليست محصورة في ظواهر وحالات محليّة، وأنّ القضيّة أبعد من ذلك، خاصّة وأنّ الأمر بدأ يظهر وكأنّ ثمّة خلايا نائمة وأخرى يعاد تشكيلها كلّما تمّ تفكيك إحداها، وهي تنشط وتتحرّك حين تدعو الحاجة.[8] وقد تنوّعت وجهات وأهداف هذه الشبكات وتفرّقت بين أهداف طائفيّة داخليّة وأهداف إقليميّة وأخرى عالميّة. واعتبر أنّ هذه التيارات تعيش مسار تطوّر وتوليد للخلايا والشّبكات التي تتغذّى من بعضها، مستندة إلى مظلوميّة أهل السنّة والجماعة التي أصبحت مسلّمة يُعتقد بها. ولكنّ تلك المظلوميّة ليست مجرّد مقولة وفق ما تكشفه بقيّة فصول الكتاب، إذ ينكشف من خلال تناول المؤلف لتيّار فتح الإسلام ما يمكن أن تصل إليه المواجهة مع تلك التيارات من خسائر بشريّة ومادّية، مثل مواجهة فتح الإسلام في مخيّم نهر البارد.[9]
لقد تراوحت علاقة تلك التيّارات بالواقع اللبنانيّ بحسب رأي المؤلّف بين القدرة على التفاعل معها وحصول القطيعة والمواجهة مع بنيتها العقديّة وخارطتها السياسيّة والطائفيّة. فقد غلب على مواقف تلك التيارات شأنٌ خارجيٌّ اتّصل بالعراق أو سوريا وجهة للحرب، ودول تمويل من الخليج ودعاة من أرضها، إذ هي فشلت في كثير من الأحيان في التفاعل مع البيئة اللبنانيّة وفهم خصوصيّتها. ولهذا، فقد كان عمرها أحيانا قصيرا وأحيانا أخرى كانت عاجزة عن التحوّل إلى لاعب ثابت في الداخل اللبنانيّ، مثل جبهة النّصرة وتنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش).
ولقد حاول المؤلّف، وهو يدرس نقاط التقاطع بين الإسلاميين في المخيّمات الفلسطينيّة ووجوه الاختلاف بينها، أن يبيّن أسسها النظريّة واختياراتها السياسيّة. فعصبة الأنصار تلتقي مثلا مع حركتيْ حماس والجهاد في المواقف السياسيّة ولكنّها تختلف عنها في القيام بأعمال عسكريّة وتفجيريّة داخل الأقطار العربيّة. والحاصل من ذلك أنّ بعض التيّارات ظلّت ضعيفة الصلة بالواقع اللبنانيّ من خلال رسمها أجندات عمل خارجيّ صارت آثاره تتضاءل يوما بعد يوم.
ويبيّن المؤلّف في خاتمة كتابه أنّ التيارات السلفيّة أصبحت نموذجا لحركات سياسيّة تطلب السلطة، وتسعى إليها وتطرح نفسها بديلا شاملا لكل القوى الأخرى. ولكنّ الحالة اللبنانيّة لا تمثّل مجرّد امتداد فكريّ وماليّ لتلك الحركات، وإنّما حاول المؤلّف بيان خصوصياتها التاريخيّة المرتبطة بالبيئة اللبنانيّة. فالمجتمع اللبناني لم يكن كالمصريّ جاهزا أواخر العشرينيات من القرن المنصرم للالتحاق والتجاوب مع الحركات الإسلاميّة. وقد أثّر الصراع الفلسطينيّ السوريّ على الساحة اللبنانيّة، فتسبّب في إحداث فوضى وفراغ سياسيين أجهضا الظروف العمليّة لإعادة تفعيل الحركات الإسلاميّة. فضلا عن التدخل الإيراني الذي دعّم طائفة على حساب أخرى، وهو ما أفضى إلى تحوّل سنّة لبنان إلى طائفة من الطوائف.
ويطرح المؤلّف إشكاليّة الخلط بين الدّعوة والسياسة في مجتمع متنوّع طائفيّا ومذهبيّا وسياسيّا. ففي الأمر مخاطر جمّة لعلّ من أهمها تحوّل المجتمع إلى ساحة احتراب أهليّ مدمّر.
3- قراءة نقديّة في الكتاب:
يبدو الكتاب من الناحية المنهجيّة متماسك الأبواب والفصول، إذ هو يقوم على الانتقال من رصد عام للتيارات السلفيّة إلى التركيز على البيئة اللبنانيّة، وقد تدرّج مؤلّفه تدرّجا متأنيا، وهو يعرض التيارات ويكشف خلفياتها الفكريّة وأهدافها السياسيّة ومصادر تمويلها، ويبيّن أثر الأحداث العالميّة والمحليّة فيها. وذاك جهد بحثي حوّل الكتاب إلى ما يشبه الموسوعة. ولكنّه مع ذلك، وقع في تكرار كثير من المعطيات التي تتقاطع فيها الأحداث والتيارات. ولعلّ السبب في ذلك اعتماد منهج يقوم على فصل التيارات بعضها عن بعض إذ قامت جلّ فصول الكتاب على أسماء تيّارات، وهو ما جعل الطرح الإشكاليّ، وإن حضر في الكتاب مقتصرا على خواتيم الفصول والأبواب والكتاب عامّة. ويمكن أن نقترح طرحا بديلا يقوم على إشكاليات من قبيل: المرجعيّة النظريّة للتيارات السلفيّة، وتمييز القديم منها عن الحديث والمعاصر والمواقف السياسيّة لهذه التيّارات في علاقتها بالقضايا المحليّة في لبنان (الحرب الأهليّة اللبنانيّة، الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانيّة، انسحاب إسرائيل من لبنان، اغتيال الرئيس سعد الحريري، ثورة الأرز وانسحاب القوات السوريّة من لبنان، الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006، معارك نهر البارد...) والعالميّة (القضيّة الفلسطينيّة، حرب العراق، أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحوّلات "الربيع العربيّ"، الحرب السوريّة...) وقضيّة التمويل الخارجي للسّلفيّة (مصادرها، الجماعات المستفيدة من هذا الدعم، أسباب التّوافق بين المانحين والممنوحين)، فضلا عن رصد أثر تلك التيارات في المجتمع اللبنانيّ أو جدله مع التيارات الفكريّة الأخرى نقدا ونقضا أو تفاعلا. فتعدّد التّسميات وتقديم كمّ هائل من المعلومات يجعل عمليّة متابعة التحوّلات التي شهدها الواقع اللبنانيّ عسيرة على من لم يعشها مع المؤلف.
ويمكن القول، إنّ صفة المؤلّف باعتباره باحثا في علم الاجتماع قد أثّرت في منهج العمل، وذاك أمر طبيعيّ، ولكنّ إدراك مدى تأثير تلك التيّارات في المجتمع اللبنانيّ كان يحتاج إلى بعض الإحصائيّات التي ندرك جيّدا عسر الحصول عليها في ظلّ ممارسة كثير من تلك التيّارات السّلفيّة للعمل السرّي واعتمادها التخفّي في مجتمع لا يخلو من الطائفيّة ويرابط الأعداء على حدوده. ولكنّ مسالك الإحصاء متاحة على الأقلّ للباحث عن الفصائل التي اتخذت منهج التّسامح والدّعوة العلنيّة؛ فبعض الإحصائيّات من شأنها أن تبيّن موازين القوى السلفيّة في المجتمع اللبنانيّ.
ليست هذه الملاحظات ممّا ينقص من قيمة الكتاب، ففيه من دقّة التناول وموسوعيّة البحث ما يجعله عملا ينوء بعبئه فريق، فكيف وهو عمل فرديّ. وفي ظنّنا أنّه يمكن إفراد عمل مستقلّ لكلّ تيار من هذه التيّارات. ويبقى فضل الكتاب في كونه استطاع العبور عبر تلك التيّارات المتشابكة بكلّ كفاءة علميّة جنّبت صاحبه الوقوع في مزالق التحامل أو المدح؛ إذ ظلّ هاجسه دوما البحث عن الأسس المعرفيّة والتأثيرات التاريخيّة وتشابك القضايا الوطنيّة مع القضايا الدّوليّة. فالتيّارات السلفيّة، وإن انغلقت مقولاتها فقد انفتحت مجالات نفوذها ودوائر تأثيرها حتّى صارت، وهي تحاول تأصيل الهويّة دون هويّة وطنيّة.
[1] يقول عبد الغني عماد: "هذا الكتاب يستكمل جهدا كنت قد بدأته في كتابي "الحركات الإسلاميّة في لبنان، إشكاليّة الدين والسياسة في مجتمع متنوّع." عبد الغني عماد، السلفيّة والسلفيّون الهويّة والمغايرة، قراءة في التجربة اللبنانيّة، ط1، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2016، ص 17
[2] انظر: المرجع نفسه، ص 16
[3] المرجع نفسه، ص 50
[4] انظر: المرجع نفسه، ص 91
[5] انظر: المرجع نفسه، ص 181
[6] انظر: المرجع نفسه، ص 184
[7] انظر: المرجع نفسه، ص 280
[8] انظر: المرجع نفسه، ص 233
[9] كانت حصيلته من القتلى 450 مدنيا وجنديا ومقاتلا، وتدمير المخيّم والمناطق المحيطة به وترحيل ما يقارب 6000 أسرة وخسائر اقتصاديّة هائلة وتدمير 80 بالمائة من المنازل. انظر المرجع نفسه، ص 239