السنّة أو الإبداع: نحو تجديد للمفهوم
فئة : مقالات
ما علاقة السنّة بالإبداع؟ وما معنى أن نكون سنيّين اليوم؟ ألا يعني ذلك أن نكون مبدعين ولسنا مجرد متمذهبين تابعين لمذهب الأسلاف فقط؟ نطرح هذا السؤال في خضم تحولات الحراك العربي الذي بدأ مستنيراً بإيقاعه الثوري المدني، غير أنه، وهذا هو مكر التاريخ، مكّن بالرغم من أفقه العقلاني القوى اللاعقلانية من الشروع في الهيمنة على الفضاءات العامة من أجل مواجهة الحداثة، بهدف استعادة مشروع سلفي يستهدف أسلمة المجتمعات العربية الإسلامية، ومن ثمة تمكنت هذه القوى من استغلال غير مسبوق للميديا، فأنتجت خطاباً دينياً لا عقلانياً محتكراً من قبل الدعاة الذين يفتقرون إلى ثقافة علمية رصينة تستند على تكوين في علوم الفقه وأصوله وعلم التفسير وعلم الحديث وعلوم اللغة والبلاغة والكلام، ناهيك عن العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة من لسانيات وهرمونيطيقا وفلسفة وترجمة، وغير ذلك من العلوم التي تسهم في تجديد الفكر الديني وأنسنة خطابه، ليستكمل ما بدأه المجددون الأوائل من فقهاء وأصوليين وعلماء الكلام والتصوف الذين أسسوا لمنظومة فريدة متميزة بإبداعاتها الرصينة، لكنها بفعل التخمة النصية والتراجع التاريخي وسيادة الوصاية المذهبية أنتجت الكسل الفكري، وحاربت الاجتهاد بما هو إبداع ترتبت عنه محن كبرى عاشها الفقهاء الفلاسفة المستنيرون والكثيرون ممّن حملوا أنفسهم على التفكير برؤية متجددة منذ ابن رشد إلى نصر حامد أبي زيد، هكذا انغلقت هذه المنظومة على نفسها وباتت خطاباً مكروراً لا يستعيد سوى أشباح القرون الوسطى ولا يسترجع سوى استيهاماتها المغرقة في الاتباع والتشدد، وبذلك تمّ نسيان العقل المبادر لصالح اللاعقل والغوغائية الدينية التي تغذي خطاب الكراهية واللا تسامح والعنف المعنوي في حق المختلفين دينياً أو مذهبياً أو فكرياً، ممّا مكن من ظهور عقول مسلوبة تناصر اليوم ما يُسمّى بالدولة الإسلامية التي غدت تهدد المجتمع الإنساني برمّته.
ليس علينا الآن كباحثين سوى العودة إلى نشأة المفهوم، أعني مفهوم السنّة بهدف تأصيله وتحريره ممّا شابه من تراكمات مفهومية حولت معناه الأصلي كما هو مؤسس في لغة الضاد وصيرته دالاً على نقيضه أحياناً، فلم يعد مفهوم السنّة دالاً على الفعل المبادر غير المسبوق، أو المتميز بإبداعيته، بل صار دالاً فقط على الاتباع الكلي لمذهب السلف، وهكذا صار من نسميه سنياً دالاً فقط على الانتماء والولاء، أي أنّ المسلم السنّي اليوم هو مجرد كائن يقتصر دوره على التموقع داخل المذهب السنّي ويمتثل للعبادات، ويتصرف وفق ما جاء في السنّة من قول أو فعل أو تقرير. والحال أنّ هذا فقط ليس سوى تغيرات بالمعنى التاريخي لحقت بلفظ السنّة فحولتها إلى مذهب جماعي عريض قائم على التبعية والتقليد، تولد عنه ما يُسمّى بمجتمع جماعة أهل السنّة، والمسلم السني داخل جماعة أهل السنّة ليس سوى ذلك الإنسان الذي انتفت فرديته فصار حاملاً لقيم جماعية تقوم على مبدأ الثبات، فهده القيم هي ما يحدد هويته وغايته، فالهوية السنّية ليس لها من غاية سوى أن يكون الفرد خاضعاً لمبادئ تقررت سلفاً، أي أن يكون مطابقاً لقاعدة الهويّة الجماعية التي قد ينتفي في ظلها أي نزوع نحو الغيرية، بما هي أرادة الفرد في أن يتحرر من قيود الاتباع وينخرط في الصيرورة.
إنّ الأمر يقتضي مجدداً العودة إلى الأصل، أصل معنى السنّة، لا من أجل تأسيس التقليد، وإنما من أجل التحرر والانفلات عن المطابقة بالأصل، ونسيان التقليد، واستعادة الوجود بما هو وجود ابتكاري.
عودتنا إلى الأصل هنا هي بمثابة تذكر الاختلاف الذي تمّ نسيانه عبر تاريخ من التقليد المذهبي الذي أنتج ما اصطلح عليه اليوم بالسنّية الدالة على السلفية والأصولية، وأنتج أزمة الهويّة داخل مجتمعات لم تقدر بعد على الانخراط في أفق المستقبل وظلت حبيسة أوهام فكر هووي ماضوي يحدد مصيرها، وبالتالي يحول دون انعتاقها من قبضة ماضٍ تمّ تقديسه إلى حد التأليه.
والعودة إلى الأصل هنا هي عودة من أجل فهم الأساس الذي تأسس عليه الاختلاف الذي غدا يفعل الممارسة النمطية تقليداً ما يفتأ يتكرس كمنظومة ينحصر داخلها الإنسان، منظومة تحدد معيار ماهو حق وما هو باطل، ما هو سنّي وما هو بدعي.
و الحال أنّ عودتنا إلى سؤال ما معنى أن تكون سنيّاً اليوم؟ إنما يتوخى انتشال الدال مما لحقه من مدلولات عملت عبر التقليد الفقهي على انسلابه واغترابه عن فعل الوجود بما هو تأسيس وتأصيل للحدثية، ليغدو في نهاية المطاف مدلولاً لنظام الوصاية الذي يحول دون الإنسان وقدرته على توظيف العقل دون تدخل وسائط الهيمنة.
فأن تكون سنيّاً اليوم، لا يعني بأيّ حال من الأحوال أن تكون نسخة مطابقة لأفعال وأقوال وتقريرات الرسول، فذلك يُعدّ من قبيل المستحيلات، وتقليد من هذا القبيل يتمّ على حساب الروح والفعالية والذات والتاريخ، فأنت لا تكون ما هو بقدر ما تصير ما ليس هو، أي ذلك "الهو" المغترب عن ذاته، إنه تعبير عن أزمة هويّة تدعي المطابقة، لكنها في واقع الأمر تفقد ذاتيتها، وتغدو غيرية لا تاريخية، عوض أن تكون غيرية تاريخية.
أن تكون سنيّاً اليوم يعني أن تتأسى بالسنّة باعتبارها تأسيساً، وانفلاتاً عن التقليد، وهذا هو معناها الأصلي كما تدل على ذلك مدلولاتها الأصلية كما سنرى. إنّ السنّة بهذا المنظور هي استشراف للمستقبل، إنها اقتداء وليس تقليداً، اقتداء بما هو تذكر لحالة الاختلاف الذي تأسست عليه السنّة، وانفلات عن التقليد الذي صيّر السنّة فعلاً للتبعية ونفياً للاستقلالية والإرادة.
أن تكون سنيّاً اليوم هو أن تسنّ لنفسك منهجك الخاص الذي يمنحك حق الوجود والفعل والتأثير والفعالية، إنه معنى يعطي للسنّة معناها الأساس المتمثل في تأسيس المستقبل وليس المكوث في الماضي.
أن تكون سنيّاً اليوم معناه أن تستعيد المبادرة وتسلك لنفسك طريقة غير مسبوقة، لكنها مع ذلك مؤثرة. وهذا هو معنى السنّة الذي تمّ تحويله عن مساره، وهو المعنى الذي ارتكز عليه في العهد النبوي، ذلك أنّ معناه الأصلي لغة واصطلاحاً لا علاقة له بالاتباع، وإنما بالإبداع وليس بالبدعة التي ينحصر معناها عند علماء الأصول والحديث في بداية الأمر على المبالغة في التقليد داخل مجال العبادات، إنّ البدعة لا تعني انتهاج طريقة جديدة، وإنما المغالاة في التعبد، إنها تعبير عن نمطية طقوسية تصل أحياناً إلى نفي الحياة والغلو في التعبد.
إنّ معنى السنّة في اللغة العربية إنما كان يحيل إلى التأسيس للجديد. يقول الشاعر(نصيب):
كأنما سننت الحب أول عاشق من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي
ويقول الشاعر خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة سرتها فأول راض سنّة من يسيرها (أورده صاحب اللسان في مادة "سنن")
ومعنى ذلك أنها تدل على الفرادة والتميز في انتهاج أسلوب جديد في الحياة، لكنه أسلوب مؤسس لقدرته على التأثير، ومن ثمّ نجد في كتب مصطلح الحديث هذا التعريف للسنّة:
"كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده، قيل هو الذي سنّه". وفي الحديث: من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء...، الحديث - أخرجه مسلم.
أمّا المعنى الاصطلاحي فهو يقرر حالة التأسيس للجديد، وبذلك أطلق على أقوال الرسول لفظ الحديث الذي يعني الجديد، كما أنّ الأفعال والتقريرات تدخل ضمن هذا المنظور للسنّة والسيرة. والمعنى الاصطلاحي الفقهي يؤكد أنّ السنّة هي كلّ ما ثبت عن النبي ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب، أي أنها تأسيس للفعل خارج نطاق الفرض الذي يكرس التبعية والامتثال الآلي.
ومادام الأمر كذلك فأن تكون سنيّاً اليوم معناه أن تقتدي بفعل التأسيس وليس بأمر التقليد الذي يمنح المسلم اليوم أن يكون سنيّاً بالفعل، والسنّي وفق هذا المنظور هو الذي يمتلك القدرة على الإبداع وليس الاتباع، إنها قدرة على إبداع الخير ومنحه للغير، وليس معناه تبني سلوكات نمطية معينة يفقد بموجبها الفرد أي قدرة على المبادرة دون الرجوع إلى سلطة الإفتاء التي تقرر ما يوافق السنّة وما يخالفها. إنّ الاقتداء بالأصل كتأسيس هو تحرر من الأصل ذاته كنموذج للتقليد، وتحرر من النمطية التي تصيّر الإنسان نسخة مطابقة لأصل أفرغ من محتواه. وبذلك فإنّ الإفتاء غير الاجتهادي يغدو خارجاً عن مفهوم السنّة، خاصة إفتاء فقهاء الفضائيات الذين تخصصوا في شن حروب عدائية ضد كلّ ما هو جديد وإبداعي.
وفق هذا المنظور تغدو "السنّة" رديفاً للإبداع، وليس للبدعة التي لا تحيل إلا على الاتباع، لكنّ الممارسة الفقهية المعبرة عن استراتيجية إرادة الهيمنة حولت معنى كلٍّ من السنّة والبدعة ليدل على نقيضهما. وهكذا غدت السنّة خاصية من خاصيات مذهب الاتباع، كما غدت البدعة تشمل جوانب الحياة غير التعبدية في حين أنها لم تكن تعني سوى الإفراط والغلو المذهبي في مجال الطقوس التعبدية لا غير، وفي أحيان أخرى تدل على التقصير بشأنها يقول الشاطبي: (البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) وبناء على هذا التحديد فالبدعة لم تكن تعني أبداً انخراط الناس في إبداع طرق حياة جديدة مغايرة للأسلاف، أي أنها لا تخضع بالضرورة لمنطق السلف ولا لمذهبه ولا لتحديداته ولا حتى لأخلاقه التي لم تكن خالية من العنف والنزوع نحو الاعتداء والسفك وغير ذلك من التصرفات اللاأخلاقية.
ولكنّ الغريب في التصور الاتباعي للسنّة الذي ساد عبر القرون، إنما يتمثل في تقديس السلف الصالح واعتبار كل ما بدر منهم خيراً مطلقاً، وهذا الأمر لا يمنع بعض المتشددين المنتسبين لمذهب السنّة اليوم من إعادة إنتاج العنف تجاه الآخر، باعتباره اتباعاً للسلف الصالح وتطابقاً معه. إنه أسلوب سائد اليوم لدى الداعشيين، وكلّ الجماعات الأصولية السنيّة التي لا تتوانى في الانخراط في أعمال دموية تجاه من تسميهم ضالين وزائغين عن السنّة.
إنّ استعادة معنى السنّة يفترض استعادة معناها الأصل، بما هو إتلاف للعادة، أي بما هو دلالة على سك طرق جديدة في مجالات الحياة، إنها خروج عن نظام التقليد والأحقية، وممارسة لحقّ الاختلاف، فالاقتداء بالسنّة هو بناء للقدرة على الوجود، والانفتاح على العالم، إنه قدرة على تأسيس عالم جديد منفلت عن النسق الاستبدادي الذي لم يكرّس سوى التخلف والتبعية ونفي الإرادة والطاعة.
أن تكون سنيّاً اليوم معناه أن تلتحم بإرادتك في صنع التاريخ. إنه تأسٍّ بالسنّة النبوية بما هي انفلات عن نظام قديم وانخراط في فعل تاريخي مغاير غدا مؤسساً، لكنه تحول مع الأسف بفعل إرادة الهيمنة إلى تقليد وركون إلى الثبات، ورفض مطلق للإصلاح.
أن تكون سنيّاً اليوم معناه أن تنخرط في حركة استئناف البدء/الأصل لا من أجل استرجاعه، ولكن من أجل التأصيل لممارسة جديدة قادرة على تحرير الإنسان من أي وصاية، كما هي قادرة على تأصيل الإبداع ومنح الخير.
استئناف التاريخ واستعادته بكيفية جديدة يقتضي تحرير مفهوم السنّة من مدلولها الاتباعي واستعادته ككيفية مغايرة لبناء مجتمع جديد ينخرط أولاً في تجديد خطاب ديني يسهم في بناء مواطن يبتكر وجوده الحر ولا يستعيد فعل سلفه إلا على سبيل العبرة لا على سبيل بناء نمط كينونته.