السنّة وإشكاليّـات التأسيس
فئة : مقالات
لئن سعى عدد من الأصوليّين إلى تأسيس السنّة أصلاً تشريعيًّا ثابتًا، وذلك من خلال علاقتها بالقرآن، وفي حين وقف بعضهم على اعتبارها نصّاً شارحاً يقوم ويعتمد على النص الأساسي (القرآن)، فقد اعتبرها بعضهم الآخر تشريعاً مستقلاً يتعدّى مجرد الشرح والتفسير.
ويبدو أنّ الأمر لم يقف بالإشكاليات الدائرة حول السنّة النبوية على الخلاف حول استقلالية التشريع، بما يعني "استقلال السنّة بالتشريع عن القرآن"، بل وصل الأمر بهذه الإشكاليات إلى الحد الذي أدى إلى ظهور طائفة قد ردت الأخبار "الأحاديث" كلها، بما يُحيل ربما إلى أنّ الإشكالية لم تكن فحسب إشكالية تشريع، وهذا ما سنحاول بيانه في هذه الدراسة الموجزة.
السنّة قبل التأسيس:
لقد جرى دائمًا اعتبار "الإمام الشافعي" المؤسِس الأول لعلم أصول الفقه، المعنيّ ببيان أسس التشريع الإسلامى، لاسيما أنّ "نسبته إلى علم أصول كنسبة أرسطو طاليس الحكيم إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل أحمد إلى علم العروض، ... إذ كان الناس قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويعترضون ويستدلون، ولكن ما كان لهم قانون كلّيّ يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع"([1])، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الأصول التي أسسها الشافعي (كالقرآن والسنّة والإجماع والقياس)، لم يكن معمولاً بها من قبله، بل كان معمولاً بها بالطبع، ولكن الأمر يتمحور بالأساس حول كيفية التعامل مع هذه الأصول، فكيف تم التعامل مع السنّة قبل الإمام الشافعي أي (قبل مرحلة الأصول)؟!
كانت السنّة قبل مرحلة الأصول على حد تعبير الإمام ذاته "سنن رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحدهما نص كتاب، فاتبعه رسول الله كما أنزل الله، والآخر: جملة بيّن رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامًّا أو خاصًّا، وكيف أراد أن يأتي بها العباد وكلاهما اتبع فيه كتاب الله، قال: فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أنّ سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين، أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسول الله مثل ما في نص الكتاب، والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما، والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه، أن يسنّ فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسنّ سنّة قط إلا ولها أصل في الكتاب كما كانت سنّته لتبين عدد الصلاة وعملها وكذلك ما سنّ فلا البيوع وغيرها من الشرائع"([2]).
من ذلك فالسنّة قد كانت على ثلاثة وجوه، الوجه الأول: بيان ما نص في الكتاب، أي أنّ الآية تكون مذكورة في الكتاب وتأتي السنّة لبيانها وتفسيرها فيقول: قال الله تعالى: "إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" (النساء: 103)، وقال: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" (البقرة: 43)، وقال: "وأتموا الحجّ والعمرة لله" (البقرة: 196)، ثم بيّن على لسان رسوله من الصلوات ومواقيتها وسننها، وعدد الزكاة ومواقيتها، وكيف عمل الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبت، وتختلف سننه وتتّفق، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنّة.([3])
والوجه الثانى: هو ما ذُكر عاماً في الكتاب دلت السنّة على أنّه خاص فيقول في باب (ما نزل عامّاً دلت السنّة خاصةً على أنّه يراد به الخاص) يقول: قال جل ثناؤه: "ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ...." (النساء: 11)، وقال: "ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولدٌ، فإن كان لهن ولدٌ فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ...." (النساء: 12)، فأبان للوالدين والأزواج مما سمّى في الحالات وكان عامّ المخرج فدلت سنّة رسول الله على أنّه إنّما أريد بعض الوالدين والأزواج دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والأزواج دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً، ولا يكون الوارث منهما قاتلاً أو مملوكاً. وقال الله تبارك وتعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله" (المائدة: 8)، وسنّ رسول الله أن لا قطع في ثمرٍ ولا كسرٍ، وأن لا يُقطع إلا من بلغت سرقته رُبع دينارٍ فصاعداً"([4])
الوجه الثالث: ما سنّ رسول الله ليس فيه نص كتاب، أي السنّة التي ليس لها مردود في الكتاب. وهذا الوجه هو ما كان محل الخلاف، إذن، فالخلاف كان حول استقلال السنّة بالتشريع عن القرآن.
هكذا يبدو أنّ السبب الرئيسي وراء هذا الخلاف قد نشأ نتيجة وجود بعض الروايات التي تؤكد أنّ السنّة لم تدون سواء في عهد النبيّ أو بعد وفاته مباشرة، إذ روي عن أبي سعيد الخدرى أنّ رسول الله قال "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، فمن كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه"([5]).
و"عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه ونحن نكتب الأحاديث فقال ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث سمعناها منك. قال: أكتاباً غير كتاب الله تريدون؛ ما أضل الأمم من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله. قال أبو هريرة فقلت: أنتحدث عنك يا رسول الله؟ قال: نعم تحدثوا عني ولا حرج، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وفي رواية أخرى "عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه ونحن نكتب الأحاديث فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله، أَتدرون ما ضل الأمم قبلكم إلاّ بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى. قلنا: أنحدّث عنك يا رسول الله؟ قال: حدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار. قلنا: فنتحدث عن بني اسرائيل؟ قال: حدثوا ولا حرج، فأنّكم لم تحدّثوا عنهم بشيء. إِلا وقد كان فيهم أعجب منه، قال أبو هريرة: فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار"([6]).
وبالرغم من وجود بعض الروايات التي تُضاهي وتُناظر بالطبع تلك الروايات السالفة، فتؤكد أنّ النبيّ قد أمر بالتدوين عنه، كرواية "اكتبوا لأبي شاه"، عن أبي هريرة "حدثنا مؤمّل قال: حدثنا الوليد وحدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثنا أبو سلمة يعني ابن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال: لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الخطبة، خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي. فقال: اكتبوا لأبي شاه"([7]).
إلا أنّ الإشكالية إنّما تنطوى بالأساس حول تباين هذه الروايات وتناقضها([8])، هذا التباين الذي سيُلحق تِباعاً بالأحاديث الفعلية المنسوبة إلى النبيّ، وهو ما يصعب التثبت من صحته، إذ إلى أيّ مدى هذا الحديث أو ذلك ينسب بالفعل إلى النبيّ ذاته؟!
هذا بالإضافة إلى الوضع (الكذب على الرسول) وأسبابه، والذي نقله النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض بقوله: "الكاذبون ضربان: أحدهما ضرب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله (ص) وهم أنواع منهم من يضع ما لم يقله رسول الله أصلاً كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج لله وقاراً إما حسبة بزعمهم، وتديناً كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب، وإما تعصباً واحتجاجاً كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب، وإما إشباعاً لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، ومنهم من لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً، ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها إما للإغراب على غيره، وإما لرفع الجهالة على نفسه، ومنهم من يكذب فيدّعي سماع ما لا يسمع ولقاء من لم يلق ويحدّث بأحاديثهم الصحيحة عنهم، ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحِكَم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي (ص)"([9])، وهذا المبحث جدير بالدراسة والنظر([10])
وبناءً على ذلك، يمكن القول إنّ الخلاف الذي نشأ حول السنن النبوية التي لم يرد لها ذكر في القرآن، كان نتيجة لعدم الثقة في بعض الأحاديث، التي تأتي بالطبع من عدم معرفة إذا كانت هذه الأحاديث قد قالها النبيّ بالفعل، أم هي منسوبة إليه وموضوعة عنه. ومن ذلك ما نقله فخر الدين الرازي عن بعض المخالفين لحجية السنّة إذ "قالوا: إنّا نحكم بالضرورة أنّ الرسول (ص) متى كان يشرع في الكلام فالصحابة ما كانوا يكتبون كلامه من أوّله إلى آخره لفظاً، وإنّما كانوا يسمعونه ثم يخرجون من عنده، وربّما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة، ومن المعلوم أنّ العلماء الذين تعودوا تلقّف الكلام ومارسوه وتمرنوا عليه لو سمعوا كلاماً قليلاً مرة واحدة، فأرادوا إعادته في تلك الساعة بتلك الألفاظ من غير تقديم ولا تأخير لعجزوا عنه، فكيف الكلام الطويل بعد المدّة المتطاولة من غير تكرار ولا كتابة"([11]).
ولعلّ ذلك ما جعل الإمام مالك يسرد بعض الأحاديث المتباينة جنباً إلى جنب في موطّئه، وهو أوّل مدونة في الحديث والفقه كذلك، إذ عصر التصنيف لم يكن قد بدأ بعدُ في زمن مالك. ففي (كتاب القبلة) يذكر مالك بابين متناقضين، (باب النهي عن استقبال القبلة والإنسان على حاجته) فيقول: حدثني يحيى عن مالك، عن إسحق بن أبي طلحة، أنّه سمع أبا أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله (ص) وهو بمصر يقول: والله ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس وقد قال رسول الله (ص): "إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه"، وفي (باب الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط)، حدثني يحيى عن مالك، عن يحيى بن سعيد، قال عبد الله: لقد ارتقيتُ على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله (ص) على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته، ثم قال "لعلك من الذين يصلون على أوراكهم"؟([12]).
بل لعل اختلاف الصحابة وتباينهم، بل واختلاف الفقهاء من بعدهم في بعض الأمور المتعلقة بالتشريع كان نابعًا بالأساس من اختلاف بعض الأحاديث النبوية وتباينها، فعلى سبيل المثال ما رُوي عن عائشة وتعارضها مع أبي هريرة في صيام الذي يصبح جُنباً في رمضان، ففي (باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنباً في رمضان)، "حدثني يحيى عن مالك، عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري، عن عائشة أنّ رجلاً قال لرسول الله وهو واقف على الباب وأنا أسمع، يا رسول الله إنّي أُصبح جُنبًا وأنا أريد الصيام، فقال (ص): وأنا أصبح جُنبًا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال له الرجل: يا رسول الله إنّك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب الرسول، وقال: والله إنّي لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي"([13]).
أما رواية أبي هريرة المتعارضة تمامًا مع رواية عائشة فهي التالية: "عن مالك، عن سُميّ مولى أبى بكر بن الحارث بن هشام، أنّه سمعه يقول: كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، فذُكر له أنّ أبا هريرة يقول: "من أصبح جُنباً أفطر ذلك اليوم، فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمَّيْ المؤمنين عائشة وأمّ سلمة، فلتسألنهما عن ذلك، فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة، فسلّم عليها، ثم قال: يا أمّ المؤمنين إنّا كنا عند مروان بن الحكم، فذُكر له أنّ أبا هريرة يقول: من أصبح جُنباً أفطر ذلك اليوم، قالت عائشة: ليس كما قال أبو هريرة، يا عبد الرحمن أترغب عما يصنع رسول الله (ص)؟ فقال عبد الرحمن: لا والله، قالت عائشة: فأشهد على رسول الله (ص) أنّه كان يُبيح جُنباً من جِماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم"([14])
ومن ثمّ كان لِزاماً على الصحابة أن يضعوا بعض المعايير لقبول هذه الأحاديث، فوضعوا معيارًا هاماً وهو "المصلحة"، فكانت السنّة لدى الصحابة توزن بميزان المصالح - إذا جاز هذا التعبير -، وذلك على النحو الذي أقره أبو بكر الصديق حين قاتل مانعي الزكاة، على الرغم من وجود حديث للنبى قد حدّثه به عمر بن الخطاب معترضاً بذلك على إقراره قتل المسلمين مانعي الزكاة، إذ قال عمر "كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه. وحسابُه على الله"([15]). وبالرغم من ذلك فإنّ أبا بكر أقر بقتالهم، واحتج بأنّ الزكاةَ فرضٌ أساسي من فروض الإسلام، من امتنع عنه يصبح مرتدًّا وجبَ قتله.
أمّا المعيار الثاني الذي كان الصحابة يتعاملون من خلاله مع الأحاديث والآثار النبوية، فهو "العمل" أي الأخذ بالسنن التي كان معمولاً بها.
ويُروى كذلك عن "أبي الدرداء" الخزرجي الأنصاري "أنّه كان يسأل فيجيب، فيقال له: إنّه بلغنا كذا وكذا، بخلاف ما قال، فيقول: وأنا قد سمعته ولكن أدركت العمل على غير ذلك"([16]).
هذا المعيار الأخير "العمل" الذي بلوره مالك معيارًا أساسيًّا تُقاس به صحة الحديث، وضعَ "عمل أهل المدينة" أصلاً من أصول التشريع الفقهي لديه، فكان مالك يتخيّر الأحاديث النبوية على ضوء ما كان معمولاً به في المدينة آنذاك، فكان يأخذ الأحاديث التي تتّفق مع عمل أهل المدينة، أمّا ما يخالفه من الأحاديث، فلم يأخذ به، فيروي القاضي عياض في (باب ما جاء عن السلف والعلماء في وجوب الرجوع إلى عمل أهل المدينة، وكونه عندهم حجّة، وإن كان ذلك خلاف الأثر، قال ابن القاسم، وابن وهب: "رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث"([17]).
ومثالاً على ذلك في (كتاب البيوع)، (باب بيع الخيار)، أنّ رسول الله قال: "المُتبايعان كلّ واحدٍ منهم على صاحبه ما لم يتفرّقا إلا بيع الخيار"، قال مالك: "وليس لهذا عندنا حدّ معروف، ولا أمر معمول به"([18])
السنّة أصلاً دينيًّا ثابتًا:
وبناءً على ما سبق فقد مضى الشافعي يؤسّس السنّة النبوية أصلًا دينيًّا ثابتًا، ويؤكّد أنّ كلّ سنّة عن النبيّ سواء ذُكر فيها نص كتاب أو لم يُذكر، هي سنّة واجبة الاتباع، وبالتالي فهي مستقلة بالتشريع عن القرآن، بل -إذا جاز التعبير- قطعية التشريع فيقول: "لقد سنّ رسول الله مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سنّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقاً"([19])، وقد استند في ذلك إلى النص القرآني، فيستدل الشافعي ببعض الآيات القرآنية التي تؤكد طاعة الرسول، بل وتأتي مقرونة بطاعة الله كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسن تَأْوِيلًا} (النساء: 59)
وكذلك رادف الشافعي بين لفظ الحكمة المنصوص عليها في القرآن، وبين السنّة([20])، فيقول: "كل ما سنّ رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا من ذكر ما مَنَّ الله به على العباد من تعلّم الكتاب والحكمة، دليل على أنّ الحكمة سنّة رسول الله"([21])، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231).
ولكن يبدو أنّ الأمر لم يقف بالإشكاليّات الدائرة حول السنّة النبوية عند الخلاف حول السنن التي ليس لها مردودٌ في القرآن، فكان بعضهم لم يأخذ بها، علاوة على وضع معايير لقبول الحديث، "كالمصلحة والعرف المعمول به"، بل وصل الأمر بهذه الإشكاليات إلى الحد الذي أدّى إلى ظهور طائفة قد ردّت الأخبار أو "الأحاديث" كلها، -بما يُحيل ربما على أنّ الإشكالية لم تكن فحسب إشكالية تشريع "أي استقلال السنّة بالتشريع عن القرآن"، بقدر ما كانت بالأساس "إشكالية في الثبوت"- وهذا مصطلح يُحيل على الطريقة التي نحكم بها على نصّ ما، بأنّه هل وصل إلينا بطريقة موثوق بها لا شك فيها؟!!
ويذكر الشافعي هذه الطائفة في كتابه "جماع العلم" تحت باب "حكاية قول الطائفة التي ردّت الأخبار كلها"، فيقول: "قال لي قائل ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه: أنت عربيّ والقرآن نزل بلسان من أنت منهم وأنت أدرى بحفظه وفيه لله فرائض أنزلها لو شك شاكّ قد تلبس عليه القرآن بحرف منها استتبته فإن تاب وإلا قتلته وقد قال: عز وجل في القرآن {تبياناً لكل شيء} فكيف جاز عند نفسك أو لأحد في شيء فرضه الله أن يقول مرّة: الفرض فيه عام، ومرّة: الفرض فيه خاص، ومرّة: الأمر فيه فرض، ومرّة: الأمر فيه دلالة؟ وإن شاء ذو إباحة وأكثر ما فرقت بينه من هذا عندك حديث ترويه عن رجل عن آخر أو حديثان أو ثلاثة حتى يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وجدتك ومن ذهب مذهبك لا تبرئون أحدًا لقيتموه وقدمتموه في الصدق والحفظ ولا أحد لقيت ممن لقيتم من أن يغلط وينسى ويخطئ في حديثه بل وجدتكم تقولون لغير واحد منهم أخطأ فلان في حديث كذا وفلان في حديث كذا ووجدتكم تقولون لو قال رجل لحديث أحللتم به وحرمتم من علم الخاصة لم يقل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما أخطأتم أو من حدثكم وكذبتم أو من حدثكم لم تستتيبوه ولم تزيدوه على أن تقولوا له بئس ما قلت: أفيجوز أن يفرّق بين شيء من أحكام القرآن وظاهره واحد عند من سمعه بخبر من هو كما وصفتم فيه وتقيمون أخبارهم مقام كتاب الله وأنتم تعطون بها وتمنعون بها؟"([22])
وإلى جانب هذه الطائفة وموقفها من السنّة، وكذلك، الطائفة السالفة التي ردّت السنّة التي ليس لها مردود في القرآن، كانت هناك طائفة ثالثة، وهي من ردّت خبر الخاصة "خبر الآحاد" وهؤلاء قد ذكرهم الشافعي كذلك في كتاب "جماع العلم"، (باب حكاية قول من رد خبر الخاصة)([23])
السُنّة قاضية على القرآن!!:
بحث الفقهاء والأصوليون الأوائل العلاقة بين السنّة النبوية والقرآن الكريم، مؤكدين أنّ السنّة هي الأصل الثاني للتشريع بعد القرآن الأصل الأول بالطبع، وطالما لجأ هؤلاء إلى السنّة وذلك لتبيّن مُبهمَ القرآن، وتفصيل مجمله، ومن ثمّ فهي لم تخرج عن كونها مفسّرةً وشارحةً له، بل إذا تعارضت معه تُردّ بالطبع لصالح القرآن، فكان مالك -على سبيل المثال- يردّ الأحاديث التي كانت تتباين مع ظاهر القرآن، فقد ردَّ حديث "نهي رسول الله (ص) عن أكل كل ذي مخلب من الطير، إذ مشهور مذهب مالك إباحة أكل الطيور، "ولو كانت ذات مخلب"، وأخذ في ذلك بظاهر القرآن الكريم: "قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ..."([24])، وترك الحديث، وضَعّفَهُ لهذه المعارضة، وقد وجدناه أيضاً يحرّم أكل الخيل لظاهر القرآن الكريم "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً"([25])، فلم يذكر طعامها، فكان ظاهر القرآن تحريمه، وقد ورد في صريح بعض الأحاديث تحليله"([26])
وكذلك الشافعي الذي راح يؤكد أنّ السنّة شارحة للقرآن ومبيّنة له فيقول: في (باب ابتداء الناسخ والمنسوخ): "وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمة، وفرض فيه أثبتها وأخرى نسخها: رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه... وأبان الله لهم إنّما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأنّ السنّة لا ناسخة للكتاب، وإنّما هي تبع للكتاب، بمثل ما نزل نصّاً، ومفسّرة معنى ما أنزله الله منه مجملاً"([27]).
بيد أنّ الأمر لم يقف بالسنّة وعلاقتها بالقرآن عند هذا الحد الذي أصر عليه الفقهاء الأوائل بل وصل الأمر بالسنّة مع بعض الفقهاء والأصوليين المتأخرين إلى اعتبارها غير موازية ومساوية للقرآن فحسب، بل ناسخة له وقاضية عليه.
فها هو الغزالي يؤكّد جواز "نسخ القرآن بالسنّة والسنّة بالقرآن لأنّ الكلّ من عند الله عز وجل، لا خلاف في أنّه لا ينسخ من تلقاء نفسه بل بوحي يوحى إليه، لكن لا يكون بنظم القرآن. وإن جوزنا النسخ بالاجتهاد. فالإذن في الاجتهاد يكون من الله عز وجل، والحقيقة أنّ الناسخ هو الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم. والمقصود أنّه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن، بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار، والمنسوخ باعتبار، وليس له كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن، وإنّما الاختلاف في العبارات فربما دل كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته فيسمى قرآنًا وربما دل بغير لفظ متلو فيسمى سنّة، والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال على أنّهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال لا أقدر عليه من تلقاء نفسي وما طالبوه بحكم غير ذلك، فأين هذا من نسخ القرآن بالسنّة وامتناعه؟"([28])
وفي كتاب (شرح السنّة) للبربهاري، يفتتح كتابه بقوله: "اعلموا أنّ الإسلام هو السنّة، والسنّة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر (...) وقال يحيى بن كثير: السنّة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنّة، ويقول أيضًا: إنّ القرآن إلى السنّة أحوج من السنّة إلى القرآن. وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا شك أنّه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه"([29]).
ويبدو أنّ الإشكالية لا تكمُن بالطبع حول اعتبار السنّة وحيًا كالقرآن، وبالتالي فهي ناسخة له، لأنّ الكلّ أي الوحيين من عند الله كما أشار الغزالي، وإنّما تكمُن بالضرورة حول أنّ السنّة لم تحْظ بمثل ما حظي به القرآن من العناية والجمع، إذ سواء دُوّنتْ في عهد النبيّ أو دُوّنت بعد وفاته، حسب اختلاف الروايات المتعلقة بهذا الشأن -كما أشرنا مسبقاً-، فإنّها لم تُجمع بشكل منظّم ومرتّب إلاّ بداية من القرن الثاني الهجري.([30])
علاوة على أنّها أصبحت أرضاً للصراعات المذهبية، إذ كانت هذه الصراعات أحد التداعيات التي جعلت الشافعي يؤسّس لحجيّة السنّة وذلك على نحو ما أقرّه الفخر الرازي بقوله: "الناس كلهم كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، أمّا أصحاب الحديث، فكانوا حافظين لأخبار الرسول (ص)، إلا أنّهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً بقوا على ما في أيديهم عاجزين متحيّرين، وأمّا أصحاب الرأي فكانوا أصحاب الجدل والنظر، إلا أنّهم كانوا فارغين من معرفة الآثار والسُنن، وأما الشافعي فإنّه كان عارفاً بسنّة النبيّ (ص) محيطاً بقوانينها وكان عارفاً بآداب النظر والجدل، وكان فصيح اللسان قادراً على قهر الخصوم، فأخذ في نصرة أحاديث رسول الله (ص)، فانقطع بسببه استيلاء أصحاب أهل الرأي على أصحاب الحديث وسقط فقههم"([31]).
بل وكذلك الصراعات السياسية التي تمخضت بعد ذلك عن صراعات عقائدية دينية على نحو الصراع السنّي الشيعي على سبيل المثال، ولعل أبرز مثال على ذلك هو اعتقاد الشيعة أنّ الصحابة، خاصّة عمر بن الخطاب، قد أعرضوا عن تدوين السنّة لدواعٍ سياسية خاصّة بمسألة الخلافة، "فالمنع عن التدوين جاء لمنع التصريح بخلافة العترة"([32])، فاعتقدوا أنّ ابتداء منع التدوين قد ظهر على لسان عمر بن الخطاب قبيل وفاة النبيّ، وذلك وفقاً للرواية التي أوردها البخاري في صحيحه: "قال عليه السلام حين اشتد عليه المرض: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، فقال عمر: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط. قال: قوموا عنّي، ولا ينبغي عنّي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه"([33]).
وإلى جانب ذلك، بحث الأصوليون في بيان العلاقة التشريعية بين السنّة والقرآن، مؤكدين أنّ كل ما رُوي عن النبيّ هو قيد الإلزام والطاعة المطلقة سواء تعلق ذلك بالأمور الدينية العقائدية، أو بما هو مرتبط بالأمور الاجتماعية وسلوك الحياة اليومية، لأنّ كل ذلك هو وحي من لَدُن الله.
فإنّه لزم بالأحرى بيان علاقة القرآن بالسنّة، لاسيما أنّنا نجد كثيرًا من الآيات القرآنية تحصر طاعة النبيّ في الأمور الدينية فحسب، بل وبيان صفته التشريعية باعتباره مُبلّغًا للوحي وداعيًا إلى الرسالة، كغيره من الرسل ليس عليه سوى البلاغ المبين([34])، ويتضح ذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} (فصلت: 6)
ويفسّر الطبري هذه الآية بقوله: "يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك: أيها القوم، ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة لست بمَلك (يُوحَى إِلَيَّ) يوحي الله إليّ أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد.(فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) يقول: فاستقيموا إليه بالطاعة، ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الآلهة والأوثان"([35])
علاوةً على ذلك فهناك روايات تُنسب إلى النبيّ تؤكد أنّ أقواله وأفعاله المتعلقة بالشؤون الدنيوية هي محض اجتهاد منه خاضع بالطبع لمعايير اجتماعية محددة، فيروي مسلم في صحيحه "عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنّما أنا بشر وإنّه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنّه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنّما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها"([36])، كذلك اعتبر النبيُّ الناسَ أدرى وأعلم منه في مشاغلهم الدنيوية.
[1] فخر الدين الرازي، مناقب الإمام الشافعي، ت: أحمد حجازي السقا، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008م، ص ص 158، 159
[2] الشافعي، الرسالة، دار التأصيل، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ص ص 91، 92
[3] الشافعي، الرسالة، سبق ذكره، ص 31
[4] الشافعي، الرسالة، ص ص 64 - 76
[5] ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، إدارة الطباعة المنبرية، ج1، ص 63، ورواه أيضاً مسلم في صحيحه.
[6] الخطيب البغدادي، تقييد العلم، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنّة النبوية، ص 34
ويورد مسلم في مقدّمة صحيحه أبواباً كثيرة تفيد التحذير من الكذب على الرسول، والنهي عن كتابة الحديث، ونكتفي هنا بذكر عناوين تلك الأبواب للإيجاز: باب تغليظ الكذب على الرسول (ص)، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وباب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحمّلها، وباب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذّابين، والتحذير من الكذب على الرسول، أنّ رسول الله قال "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه بخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وأنس بن مالك.
[7] سنّن أبي داوود، كتاب العلم، "باب في كتاب العلم" حديث رقم "3649"، كما روى البخاري كذلك عن أبي هريرة أنّه قال "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله (ص) أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمر بن العاص، فإنّه كان يكتب ولا أكتب".
وكذلك "عن أبي هريرة قال: كان رجل يشهد حديث النبي صلى الله عليه، فلا يحفظه فيسألني، فأحدثه، فشكا قلة حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه، فقال له النبي صلى الله عليه: استعن على حفظك بيمينك يعني الكتاب" انظر، الخطيب البغدادي، تقييد العلم، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنّة النبوية، ص 65
[8] لقد حاول العلماء بالطبع، خاصة علماء الحديث، التوفيق بين هذه الروايات، ورفع التباين عنها، إلا أنّ معظمهم –إن لم يكن جميعهم-، قد جاؤوا من الناحية الزمنية بعد التدوين الفعلي أو بالأحرى الجمع الفعلي للسنن النبوية في كتب الصحاح والمسانيد، وغيرها من كتب الحديث، فعلى سبيل المثال فقد راح ابن قتيبة يوضّح دواعي هذه الاختلافات وأسبابها، ويحاول التوفيق بينها أو بالأحرى "التأويل" وفقاً لعنوان كتابه "تأويل مختلف الحديث"، فيقول: "إنّ في هذا معنيين: أحدهما أن يكون من منسوخ السنّة وتفوت الحفظ بالسنّة، كأنّه نهي في أوّل الأمر عن أن يكتب قوله، ثم رأى بعد ذلك أنّ السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيّد، والمعنى الآخر: أن يكون خصّ بهذا عبد الله بن عمرو لأنّه كان قارئاً للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة، أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجّي، فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له" انظر، ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، دار الحديث، خرج أحاديثه: أبو المظفر سعيد السنّاري، القاهرة، 2006، ص 367
[9] النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، دار السلام، تقديم: وهبة الزحيلى، القاهرة، 1996م، ج1، ص 108
[10] انظر، أكرم ضياء العمري، بحوث في تاريخ السنّة المشرفة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ص ص 10- 43، وأيضا انظر محمود أبو رية، أضواء على السنّة المحمدية، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، ص ص 91- 115
[11] الرازي، المحصول في الأصول، ج2، ص 151
[12] مالك، الموطأ، دار الحديث، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقى، القاهرة، ص 158
[13] مالك، الموطّأ، سبق ذكره، ص 234
[14] مالك، الموطأ، سبق ذكره، ص ص 223، 224
[15] ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحِكَم، مؤسّسة الرسالة، بيروت 2001، ج 1، ص 226
[16] انظر، القاضي عياض، ترتيب المدارك، نقلاً عن أمين الخولى، مالك بن أنس، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ص 154
[17] القاضي عياض، ترتيب المدارك، نقلاً عن أمين الخولي، مالك بن أنس، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ص 45
[18] انظر، مالك، الموطأ، سبق ذكره، ص 462
[19]الشافعي، الرسالة، سبق ذكره، ص 88
[20] انظر الفكرة نفسها، جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م، وكذلك، محمد شحرور، السنّة الرسولية والسنّة النبوية، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2012م، وأيضاً، نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، مكتبة مدبولي. القاهرة، الطبعة الثانية، 1996
[21] الشافعي، الرسالة، سبق ذكره، ص 32
[22] الشافعي، الأمّ، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوى، دار الحديث، القاهرة، 2008م، ج9، ص ص 255، 256
[23] الشافعي، الأمّ، سبق ذكره، ج9، ص 266
[24] سورة الأنعام، آية: 145
[25] سورة النحل، آية: 8
[26] أبو زهرة، مالك (حياته وعصره - آراؤه وفقهه)، دار الفكر العربى، ص 307
[27] الشافعي، الرسالة، ص 106
[28] أبو حامد الغزالي، المستصفى، ، دار الحديث، ت: محمد تامر، ج1، ص ص 298-301
[29] البربهاري، شرح السنّة، مكتبة الغرباء الأثرية، تحقيق: بن القاسم الردادى، الطبعة الأولى، 1993، ص ص 67، 89، 122
[30] إذا جرى الاحتجاج بأنّ إشكاليات السنّة قد انتهت وتفككت بمجرّد جمعها وحفظها في كتب الأحاديث والمسانيد، ودأب العلماء على تنقيتها والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وما صاحبها من عملية "الجرح والتعديل"، فإنّ الرد على ذلك سيكون باستدعاء بعض أقاويل القدماء ونقدهم لبعض الأحاديث التي دوّنت بالفعل وللغرابة في كتب الصحاح التي صُنّفت بالأساس لجمع ما صحّ من أقوال الرسول وإقصاء ما سواها من الأحاديث الباطلة التي لا يُعتد بها، إذ لم يسلم "صحيح البخاري" ذاته، من احتوائه على أحاديث لم يعتدّ بها بعض العلماء والمفسّرين، -فعلى سبيل المثال لا الحصر-، يذكر ابن كثير حديثاً قد رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن العاص عن النبيّ أنّه قال: "بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدّثوا عني ولا تكذبوا عليّ، ومن كذب عليّ، فليتبوّأ مقعده من النار"، ويُعلق قائلاً: "وهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها وليس عندنا ما يصدّقها ولا ما يكذّبها" انظر، ابن كثير، البداية والنهاية، ط1، 1966، ج1، ص ص 6، 7، وينتقد كذلك حديثًا لأبي هريرة مرفوعاً مباشرة إلى النبيّ عن خلق الأرض في سبع أيام، بحجة أنّه غريب المتن، ومخالف للقرآن، فيقول: "في متنه غرابة شديدة فمن ذلك أنّه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض، وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن، لأنّ الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السماوات في يومين من دخان، وهو بخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من زبده الأرض بالقدرة العظيمة البالغة، كما قال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في خبر ذكره عن أبي مالك.."، في حين أنّ البخاري قد صحّح هذا الحديث عن أبى هريرة، انظر، ابن كثير، البداية والنهاية، ج1، ص ص 31- 34
وكذلك انتقد (ابن الأثير 630ه) الطبري في مسألة (خلق الشمس والقمر) حين استشهد بأحاديث يعتبرها منافية للعقول فيقول: "روى أبو جعفر ههنا حديثاً طويلاً من عدّة أوراق عن ابن عباس عن النبيّ (ص) في خلق الشمس والقمر، وسيرهما فإنّهما على عجلتين لكل عجلة ثلاثمائة وستون عروة يجرّها بعددها من الملائكة، وأنّهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض فذلك كسوفهما، ثم إنّ الملائكة يخرجونهما فذلك تجليهما من الكسوف، وذكرَ الكواكبَ وسيرها وطلوع الشمس من مغربها، ثم ذكر مدينة بالمغرب تسمى (جابرسا) وأخرى بالمشرق تسمى (جابرقا)، ولكل واحدة منهم عشرة آلاف باب يحرس كل باب منها عشرة آلاف رجل لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة وذكر يأجوج ومأجوج ومنسك وثاريس إلى أشياء أُخَر لا حاجة إلى ذكرها فأعرضتُ عنها، لمنافاتها العقول. ولو صحّ إسنادُها لذكرناها وقلنا به ولكن الحديث غير صحيح، ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطّر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف" ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق: أبو الفداء عبد الله القاضي، الطبعة الأولى، 1987م، ج1، ص ص 21، 22
[31] فخر الدين الرازي، مناقب الإمام الشافعي، المكتبة الأزهرية للتراث، ت: أحمد حجازي السقا، ص ص 65، 66
[32] علي الشهرستاني، منع تدوين الحديث، ص 358
[33] انظر، صحيح البخاري، باب كتاب العلم.
[34] {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النحل: 35)
[35] انظر، الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، ت: محمود محمد شاكر، القاهرة، تفسير (فصلت: 6)، وانظر، كذلك الآيات (الأنعام: 106)، و(الإسراء: 36)، و(المائدة: 67).
[36] صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب (الحكم بالظاهر واللحن بالحجة).