السوسيولوجيا الانعكاسية عند بيير بورديو
فئة : مقالات
السوسيولوجيا الانعكاسية عند بيير بورديو
عثمان لكعشمي
ترمي هذه الورقة إلى الكشف عمّا يُسمى بالسوسيولوجيا الانعكاسية la sociologie réflexive عند بيير بورديو Pierre Bourdieu، وإبراز مكانتها في الصرح النظري لصاحبها، فضلاً عن فتح أفق جديد يرنو إلى بلورة مدخل جديد إلى نظريته، التي تعتبر بحق، وبشهادة خصوم صاحبها، من أعمق النظريات السوسيولوجية المُعاصرة، بل من أكثر نظريات العُلوم الاجتماعية علمية، جديرة بلقب نظرية علمية. من هنا، يستمد عنوان هذه الورقة مشروعيته الإبستيمولوجية: "السوسيولوجيا الانعكاسية عند بيير بورديو".
ما هي محددات السوسيولوجيا الانعكاسية عند بورديو، وكيف يمكن تعريفها؟ وما الجدوى السوسيولوجية والعلمية منها؟ وما موقعها ضمن صرحه النظري السوسيولوجي العام؟ وهل يُمكنها أنْ تشكل مدخلاً جديداً لقراءة نظريتة السوسيولوجية؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول مخاتلتها في نصنا هذا؛ انطلاقاً من السوسيولوجيا الانعكاسية التي سنعمل على تحديد ملامحها ومعالمها، وكذا البحث عن منافعها العلمية، وصولاً إلى فتح أفق جديد لقراءة نظرية الممارسة الاجتماعية.
*****
على الرغم من المزاعم المُجْحفة في حق عالِم اجتماع كبورديو، واتهامه بالتعقيد والغموض وما إلى ذلك؛ فقد لا يخفى على أي مثقف بصفة عامة، وأي عالِم اجتماع بصفة خاصة، تلك الجاذبية أو لنقل، ذلك "العُنف الرمزي" بلغة بورديو نفسه، الذي تمارسه النظرية السوسيولوجية لبورديو؛ من خلال الانتظام التجريدي لمفاهيمها وإمكانيتها الإجرائية وقدرتها الإبستيمولوجية في تفسير وفهم العالَم الاجتماعي.
هناك العديد من التفسيرات والتعليلات لهذه الجاذبية، وهي كثيرة خاصة في الأوساط الثقافية الفرنسية والأوروبية، وهي تتعدد بتعدد القراءات والمدارس والاتجاهات. فطالما لقيت أعمال بورديو الكثير من سوء الفهم، مثله في ذلك مثل نتشه وهايدغر مثلاً، سواء عندنا أو عند غيرنا. قليلة هي الأعمال الجيدة التي سبرت أغوار النظرية البورديوية في عالمنا العربي، مع تسجيل استثناءات قليلة جداً في المغرب الكبير. فعادة ما تفسر هذه الجاذبية بنظرية الممارسة الاجتماعية في حد ذاتها، لكن نادراً ما يتساءل قُراء وشُراح بورديو عن السبب العميق الكامن وراء هذه الجاذبية التي تُمارسها سوسيولوجيا بورديو على المثقفين والباحثين في العُلوم الاجتماعية، رغم امتعاض الكثيرين عنها. والحال أنها تعود في جوهرها إلى التفكير السوسيولوجي الانعكاسي لصاحبها في حد ذاته، أو ما يُنعت بالسوسيولوجيا الانعكاسية أو الانعكاسية العلمية.
صحيح أن هذه الأخيرة لم تُولد مع عالِمنا، خاصة في العلوم الاجتماعية، بل كانت هناك محاولات وإرهاصات محتشمة قبله، ولو أنها -الانعكاسية- كانت محط إقصاء وتهميش، كما جاءت بعده العديد من الاجتهادات بهذا الشأن، التي لقيت قبولاً كبيراً في مجالات العلوم الاجتماعية[1]. لكن يبقى المُقترح البورديوي إلى اليوم يتمتع بأصالة تنظيرية وعملية وإجرائية، متفردة.
إن السوسيولوجيا الانعكاسية عند صاحب الانعكاسية، لديها تسميات وتوصيفات متعددة. تتعدد بتعدد سياقات توظيفها الإبستمولوجي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي، من قبيل: المَوْضَعَة المُشَارِكَة l'objectivation participante، الانعكاسية العلمية، سوسيولوجيا السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا الانعكاسية، التفسير العاكس، الانعكاسية اللا إرادية... إلخ. قد تختلف التسميات والتوصيفات والنُعوت من سياق لآخر، ومن توظيف لآخر، ومن مجال علمي لآخر، لكنها تتضمن في نهاية المطاف المعنى نفسه من حيث بنيتها المعرفية ومفعولها العلمي وقدرتها التوليدية؛ فكيف يُمكن تعريفها والحالة هذه؟
تجدر الإشارة إلى أننا لسنا بصدد نظرية سوسيولوجية أو إبستيمولوجية حتى، وإنما نحن بصدد مُقترح سوسيولوجي- إبستيمولوجي يرمي في نهاية المطاف إلى إعادة تعريف العلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، من خلال هدم المواقف الكلاسيكية السائدة عنها في العلوم الاجتماعية عامة، وفي السوسيولوجيا خاصة، التي تختزلها في علاقة ميكانيكية وأحادية، من العنصر الواحد تجاه الآخر، مع التركيز على موضوع المعرفة السوسيولوجية أكثر من الذات المنتجة لها، وهو الأمر الذي يُوقع السوسيولوجيا وعُلماء الاجتماع في فخ اللاعلمية والمعيارية؛ ذلك الفخ الذي ينصبه خصوم هذا العلم المُزعج بإحكام شديد. وهذا الخصم ليس إلا السلطة السياسية والطبقة الاجتماعية المُهيمنة، التي تستفيد من الوضع القائم: وضع الهيمنة البنيوية: سلطوية، طبقية، ذكورية.
إلا أن عِلم الاجتماع الذي يدافع عنه بورديو، والذي يعمل على الكشف عن القواعد والاستراتيجيات والآليات الخفية لإنتاج وإعادة إنتاج السلطة والعالَم الاجتماعي، سُرعان ما يُقِضّ مضاجع المُهيمِنين الذين يمتلكون الرساميل الاجتماعية والثقافية، المادية منها والرمزية، والمتحكمين بقواعد اللعبة، وما يُتيح لهم ذلك من تحكم بزمام المصالح والمنافع والامتيازات. لهذا، يرى صاحب نظرية العالَم الاجتماعي، أن الاتهام الدائم للسوسيولوجيا باللاعلمية والتدقيق المستمر في مدى عِلميتها دون العلوم الاجتماعية الأخرى ليس بريئاً، بل يعود في المقام إلى كونها علماً مزعجاً [2]une science qui dérange. لذلك، يمكن القول، إننا أمام مشروع سوسيولوجي علمي؛ فبالإضافة إلى نقده السوسيولوجي للحتمية الاجتماعية وما يترتب عنها من هيمنة، فإنه يهدف أولاً وقبل أي شيء آخر، إلى إضفاء الطابع العلمي على السوسيولوجيا[3]. لكنه ليس مشروع مَوْضَعَة للعالَم الاجتماعي فحسب، وإنما هو أيضاً مشروع موضعة للذات المُمَوْضِعَة للعالَم الاجتماعي. وهنا بالضبط، تكمن أصالته العلمية ورصانته الإبستمولوجية.
الشيء الذي يتطلب إعادة ذلك السؤال الإبستمولوجي المُلازم للبحث العلمي في العُلوم الاجتماعية منذ نشأتها وميلادها إلى اليوم: كيف يُمكن للعالِم الاجتماعي أنْ يكون ذاتاً عارفة -مُمَوْضِعَة وموضوعاً -مُمَوْضَعاً من طرفها في الآن نفسه؟ إن السوسيولوجيا الانعكاسية، ليست أكثر من مقترح لمجاوزة هذه الإشكالية التي لا تنفك عن التوالد والتناسل، والتي تحولت إلى عائق إبستمولوجي يحول دون إمكانية علمية السوسيولوجيا وموضوعيتها المُفترضة فيها كعلم.
من هنا تأتي الضرورة العلمية للسوسيولوجيا الانعكاسية بما هي موضعة مُشَارِكَة. موضعة ماذا؟ موضعة الذات السوسيولوجية: "مَوْضَعةُ الذاتِ المُمَوْضِعَة، والذات المحلِّلة... مَوْضَعَة الباحثِ نفسه"[4]، أيْ موضعة ذات عالِم الاجتماع، بأي معنى هي موضعة؟ موضعة بالمعنى الذي يعمل فيه عالِم الاجتماع على البحث عن الشروط الاجتماعية للذات السوسيولوجية التي تُنتج المعرفة السوسيولوجية، بما فيها ذات عالِم الاجتماع في حد ذاته كعون سوسيولوجي agent sociologique، إنْ صح التعبير. بهذا المعنى تكون مُشارِكة؛ موضعة مُشَارِكَة: مَوضعة للمُمَوْضِع من طرف المُمَوْضِع عينه.
إنها موضعة مُشَارِكَة، وليست ملاحظة بالمُشاركة -منهج الإثنولوجي الأجنبي- بالمعنى الإثنولوجي للعبارة. لهذا، فالأمر لا يقتصر على عرض "التجربة المعيشة" للإثنولوجي الغريب، أو بالوضعية التي يشغلها الباحث في الوسط العالِم savant، أو بسيرته الذاتية كما هو مألوف، وإنما يتعلق الأمر بتحليل الشروط الاجتماعية لإمكانية هذه التجربة نفسها: "ليس من شأن عملية موضعَة الشروط الاجتماعية أنْ تتّخذ من "التجربة المعيشة" للذات العارفة موضوعًا للكشف والتحقيق، إنّما الشروط الاجتماعية لإمكان هذه التجربة (من حيث الآثار والحدود)، وعلى نحو أدقّ، لإمكان فعلِ المَوْضعة. إنّها تَنشُد مَوضعةَ العلاقة الذاتية بالموضوع -من دون أن يؤدي ذلك إلى ذاتويّة نسبيّة منافية، إلى حدّ ما، للعلم- ويُعدّ هذا أحد شروط الموضوعية العلمية"[5].
إنّ الغاية من الموضعة ليس هو الأنثروبولوجي الذي يدرس مجتمعاً غريباً، بل العالَم الاجتماعي الذي أنتج الأنثروبولوجي والأنثروبولوجيا الواعية واللاواعية التي يعتمدها الباحث عند ممارسته الأنثروبولوجية؛ لا يتعلق الأمر هنا بمَوضعة بيئته الأصلية وموقعه ومساره في المجال الاجتماعي وانتمائه وقناعاته الاجتماعية والدينية وعمره وجنسه وجنسيته فحسب، وإنما يتعلق الأمر أيضاً، وبشكل خاص بالموقع الذي يشغله في عالَم الأنثروبولوجيين المصغَّر؛ فاختياراته العلمية مًتعَالِقة بشكل قوي بالموقع الذي يشغله في عالَمه المهني، أو في ما يُسميه بورديو بالحقل الأنثروبولوجي، وما يتضمنه من تقاليد وخصوصيات وطنية وعادات في التفكير وطقوس وقيم وما إلى ذلك، فضلاً عن التاريخ الجماعي للتخصُّص العلمي والأكاديمي، وجميع المسبقات اللاشعورية المتجذرة في مقولات الإدراك المعرفي للعالم[6].
يتعلق الأمر ها هنا بالأنثروبولوجيا الانعكاسية، وهو الأمر الذي ينطبق على السوسيولوجيا عينها. فالانعكاسية السوسيولوجية هي بشكل أو بآخر بمثابة امتداد للانعكاسية الأنثروبولوجية. كيف لا وبورديو لا ينفك عن التأكيد على وحدة العُلوم الاجتماعية والإنسانية تحت راية الأنثروبولوجيا، بعيداً عن الإثنولوجيا الفرنسية الضيقة، وقريباً من عمق الأنثروبولوجيا الألمانية وحداثة الأنثروبولوجيا الإنجليزية، تلك الأنثروبولوجيا التي تضم اليوم الإثنولوجيا والسوسيولوجيا[7].
على الرغم من ذلك، فإن السوسيولوجيا الانعكاسية عند بورديو تتجاوز بقدر معين الأنثروبولوجيا الانعكاسية. وإنْ كانت الثانية ترمي إلى موضعة الأنثروبولوجي لموضعته، انطلاقاً من أنثروبولوجيا المعرفة، فإن الأولى أشمل منها والحالة هذه؛ لأنها تنطلق من سوسيولوجيا المعرفة بعامة وسوسيولوجيا العلوم بخاصة، وبغض النظر عن كونها علماً للاجتماعي؛ أيْ إنها تمتلك صلاحية ومشروعية موضعة المعرفة الأنثروبولوجية نفسها، باعتبارها منتوجاً اجتماعياً لها شروطها وأطرها الاجتماعية التي ساهمت في إنتاجها؛ أيْ ممارسة سوسيولوجيا الأنثروبولوجيا. فضلاً عن كون السوسيولوجيا الانعكاسية ليست أكثر مما يُسميه بورديو بسوسيولوجيا السوسيولوجيا أو سوسيولوجيا عُلماء الاجتماع. إننا أمام سوسيولوجيا مُضاعَفة أو لنقل سوسيولوجيا من الدرجة الثانية.
تعمل السوسيولوجيا الانعكاسية أو موضعة التجربة ما قبل الانعكاسية لعالِم الاجتماع على ثلاثة مستويات أساسية؛ يُمكن تقديمها كالآتي:
- المستوى الأول: موضعة الموقع الذي تشغله الذات المُمَوْضِعة في المجال الاجتماعي. ويُمكن تحديد هذا المستوى في المجال الاجتماعي، أو بالأحرى في الموقع الاجتماعي للباحث؛ أيْ البحث عن المتغيرات المعهودة الخاصة به كعون اجتماعي، مثل السن، والجنس والأصل الاجتماعي...إلخ، وكذا البحث عن مساره وانتماءاته الاجتماعية والدينية. والكشف عن دورها في إنتاج ذات الباحث كعالم اجتماع؛
- المستوى الثاني: موضعة الموقع الذي تشغله الذات في الحقل السوسيولوجي، ويُمكن وسمه بالمجال الإبستيمولوجي للسوسيولوجيا. ويتعلق بالموقع الإبستيمولوجي الذي يحتله الباحث في الحقل السوسيولوجي الذي ينتمي إليه، في علاقته بالعُلوم الاجتماعية بصفة عامة؛ أيْ دراسة معرفته السوسيولوجية المنتجة والمستعملة في أبحاثه ودراساته، من مفاهيم ونظريات وبراديغمات...إلخ، بالإضافة إلى تقاليده العلمية وخصوصياته الوطنية والقومية. مع إبراز مكانتها في البنية المعرفية للسوسيولوجيا والعلوم الاجتماعية؛
- المستوى الثالث: التاريخ الاجتماعي للحقل السوسيولوجي؛ بمعنى آخر: البحث عن التاريخ الأكاديمي التخصصي للباحث وموقعه الأكاديمي ضمن المنظومة الأكاديمية؛ أيْ الكشف عن اللا- شعور الأكاديمي لعالِم الاجتماع. هذا وبغض النظر عن موضَعة العالَم السيكولائي، أو تلك النزعة الثقافوية أو الفكروية intellectualisme المُتعالية، ذات وجهة نظر مطلقة، عن الواقع الاجتماعي وما يفرضه من مصالح وإكراهات، أو لنقل موضعة مفعولها الفكري المتمثل في "وهم غياب الوهم".
ثلاثة مستويات للآلية الانعكاسية، بعلاقتها الجدلية فيما بينها، يُمكنها أنْ تُمكن السوسيولوجي من الوعي بلا وعيه السوسيولوجي والإبستمولوجي والاجتماعي. ومن ثمة القدرة على توظيف تجاربه الذاتية المُسبقة، بعد إخضاعها للانعكاسية العلمية، في موضعة العوالِم الاجتماعية.
لعل هذا الأمر، يشكل نقلة نوعية في الممارسة السوسيولوجية البورديوية، خاصة في صرامته القطعية بإحداث قطيعة إبستمولوجية بين التجارب الذاتية والموضوعية، بين "الحس المُشترك" والحس العلمي. فالمَوْضعة العلميّة لا تكتمل إلّا إذا تضمّنت وجهة نظر الذات التي تقوم بعملية الموضعة[8]. والدليل على ذلك، هو تفنيده للحذر المستمر المضاد لإسقاط الذات العارفة على موضوع معرفتها؛ أيْ رفضه للقطيعة الكلاسيكية المعهودة في العلوم الاجتماعية بين التجربة الذاتية للباحث وموضوع بحثه[9]، وهي القطيعة الإبستمولوجية -بالمعنى الباشلاري للمفهوم- التي دعا إليها هو عينه في كتابه المنهجي الموسوم بـ"حرفة السوسيولوجي". وإنْ كان يبدي رحابته في توظيف التجارب المُسبقة للباحث في فهم موضوع بحثه، فإنه يدعونا إلى موضعتها أولاً، ثم توظيفها ثانياً؛ ولا سيما أن فكرة الموضعة المُشَارِكَة، لم تنضج وتختمر بشكل كاف إلا في مساره النهائي من حياته السوسيولوجية والعلمية، والتي توجها بمداخلته الشهيرة في المعهد الملكي البريطاني للأنثروبولوجيا أو معبد الأنثروبولوجيا كما يفضل تسميته، التي وسم عنوانها بالفكرة آنفة الذكر: "الموضعة المشاركة"، حيث قدمها قبل وفاته بسنتين تقريباً، والتي كانت بمثابة تعريف أو تقديم تفكر انعكاسي لمقترحه العلمي، وهي تعتبر من بين أهم ما قدمه بورديو في الانعكاسية العلمية بصفة عامة، والانعكاسية الأنثروبولوجية بصفة خاصة.
هناك الكثير من التطبيقات أو الممارسات للسوسيولوجيا الانعكاسية، قبل مداخلته المعنية بكثير، التي تعود إلى العديد من الأعمال الإبستيمولوجية والسوسيولوجية، سواء بشكل ضمني أو صريح، نذكر منها: مُجمل نظرية الممارسة، الحس العملي، علم العلم والانعكاسية، رقصة العُزاب، الإنسان الأكاديمي، أسئلة السوسيولوجيا، درس في الدرس... وَهَلُمَّ جَرّاً. فضلاً عن كتابه المعنون بـ "المجمل من أجل تحليل- ذاتي"[10]، الذي عمل فيه صاحبه على موضعة ذاته العارفة كعالِم اجتماع، موضعة- ذاتية، من أجل أنْ يكشف عن الشروط الاجتماعية المُتعالقة بمساره الاجتماعي، وكذا الكشف عن موقعه الأكاديمي والمهني المرتبط بمساره المدرسي، وغيرها من المحددات التي صاغت بيير بورديو السوسيولوجي. بصيغة أخرى، إنه مارس سوسيولوجيا سوسيولوجيا بورديو. بهذا يكون تحليلاً ذاتياً؛ أيْ موضعة الذات السوسيولوجية لذاتها المُمَوْضِعة، وليس بالمعنى الذاتوي الفينومينولوجي الصرف، أو الأنطولوجي المحض.
الأمر نفسه نجده في عمله الموسوم بـ "درس في الدرس"[11]، الذي نُشر قبل الكتاب سالف الذكر بكثير، حيث كان من المُفترض، أنْ يُقدم درساً سوسيولوجياً افتتاحياً في الكوليج دو فرانس Le Collège de France؛ لكنه وعلى عكس المتوقع، لم يرض إلا أنْ يكون موضوعه هو هذا الدرس الافتتاحي عينه؛ أيْ ممارسة سوسيولوجيا الدرس الافتتاحي. هذه هي السوسيولوجيا الانعكاسية، أو لنقل هذا توضيح آخر لها.
*****
على عكس المزاعم النقدية الموجهة لسوسيولوجيا بورديو ونظريته عن العالَم الاجتماعي، كان آخرها كتاب "الخطر السوسيولوجي" لجيرالد برونير وإتيين جيان، التي تعتبره إيديولوجياً مقنعاً أكثر منه عالِم اجتماع، ولاسيما أنه جعل من السوسيولوجيا "رياضة قتالية" un sport de combat كما قيل، بالإضافة إلى اعتباره نظريته السوسيولوجية نظرية حتمية تُعلي من شأن البُنية الاجتماعية على حساب الإرادة الحرة للأفراد. والحال أن بورديو المعني بالنقد هنا، قد أجاب عن تلك المزاعم النقدية وغيرها كثير في كتابه "أسئلة السوسيولوجيا"، قبل صدور الكتاب المعني بما يناهز أربعة عقود. فعلى عكس كل تلك المزاعم وغيرها كثير، وبناء على المُقترح البورديوي المتمثل في السوسيولوجيا الانعكاسية أو الموضعة المُشَارِكَة أو ما يحل محلها، يُمكن القول: إننا في حاجة إلى مدخل جديد لقراءة النظرية السوسيولوجية البورديوية، الذي سيمكننا من فتح أفق جديد أمام سوسيولوجيا علمية حيوية طالما فُهمت على نحو سيء، سواء باسم هذه النزعة أو تلك. الكفيل بتحرير النظرية السوسيولوجية من أغلال الثنائيات الضيقة والقُطبية الموهومة بين الموضوعية والذاتية، بين الشمولية والتحليلية، بين الماكروسوسيولوجية والميكروسوسيولوجية، بين المجتمعية والفردية.
المراجع
بالعربية
احجيج، حسن، نظرية العالَم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو، الطبعة الأولى (الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2018).
بورديو، بيير، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، الطبعة الثالثة (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2007).
_____________، الموضعة المشاركة: في موضعة الشروط الاجتماعية للموضعة، ترجمة الحبيب الدرويش، مراجعة المولدي الأحمر، عمران، المجلد التاسع/ العدد 34 (2020).
بالفرنسية
Bourdieu, Pierre, Passeron, J-C et Chambordon, J-C, Le métier de sociologue (Paris: Mouton, 1968).
_____________, La distinction: Critique sociale du jugement (Paris: Minuit, 1979).
_____________, Leçon sur la leçon (Paris: Minuit, 1982).
_____________, Questions de sociologie (Paris: Edition Minuit, 1984/2002).
_____________, Esquisse pour une auto- analyse (Paris: Raisons d’agir, 2004).
_____________, L’objectivation participante, Actes de la recherche en sciences sociales, N 150 (2003).
Bronner Gérald, Géhin Étienne. Le danger sociologique (Paris: Puf, 2017).
[1] من بين تلك المحاولات والاجتهادات -القبلية والمتزامنة والبعدية- يمكن ذكر: نظرية العقل عند هربرت ميد، الإثنوميدولوجيا عند هارولد غارفينكل، نظرية البنينة عند أنطوني غيدنز... إلخ.
[2] يُمكن الرجوع إلى المرجع الآتي:
Pierre Bourdieu, questions de sociologie, (Paris: Edition Minuit, 1984/2002), P19
[3] تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن بورديو، قد نجح على نحو كبير في الإعلاء من شأن السوسيولوجيا إلى مرتبة العلم. ويكفي أنْ نشير إلى أنه نجح في صياغة مُعادلة رياضية لوغاريتمية للممارسة الاجتماعية: "[(الهابيتوس) (الرأسمال)] + الحقل = الممارسة". انظر:
Pierre Bourdieu, La Distinction: Critique sociale du jugement, (Paris: Minuit, 1979), P 112
[4] بيار بورديو، الموضعة المشاركة: في موضعة الشروط الاجتماعية للموضعة، ترجمة الحبيب الدرويش، مراجعة المولدي الأحمر، عمران، المجلد التاسع/ العدد 34 (2020)، ص 142
Pierre Bourdieu, L’objectivation participante, Actes de la recherche en sciences sociales, N 150 (2003), P43
[5] الموضعة المشاركة، سبق ذكره.
[6] نفسه.
[7] الموضعة المُشاركة، ص 153
[8] الموضعة المشاركة، سبق ذكره، ص 144
[9] نفسه، ص 148
[10] Pierre Bourdieu, Esquisse pour une auto- analyse, (Paris: Raisons d’agir, 2004).
[11] _____________, Leçon sur la leçon, (Paris: Minuit, 1982).