الشعبويَّة والديمقراطيَّة
فئة : مقالات
الشعبويَّة والديمقراطيَّة([1])
توطئة
يواجه الباحثُ سؤالاً مركزيَّاً يبدأ من العنوان: ما العلاقة بين الشعبويَّة والديمقراطيَّة؟[2] وهل ثمَّة تأثير من الأولى على الثانية؟ وإذا كان المفهومان يتشاطران فكرة محوريَّة أساسها أنَّ سلطة الدولة ينبغي أن تقوم على الشعب، فإنَّهما يتعارضان في الجوهر؛ حيث تقوم الفكرة الشعبويَّة على رفض "نخبة معيَّنة"، سواء كانت هذه النخبة موجودة وحقيقيَّة أم أنَّها مفترضة وحتى متخيَّلة، لكنَّه يتمُّ النظر إليها لكونها تشكّل عائقاً أمام سلطة الشعب أو تحاول إقصاءها[3]، وذلك يمثل أساس توجُّهها بالضدّ من الديمقراطيَّة.
ووفقاً لهذا المنطق؛ فالشعبويَّة وصف يطلق على نمط التفكير السياسي الذي يجنح لتقديس الشعب باعتباره يمثل الحقيقة المطلقة؛ وتشتقّ كلمة الشعبويَّة من الشعب، والقدرة على إقناع أوسع قدر ممكن منه؛ ومثل هذا الوصف يعتمد على الديماغوجيا التي تقوم على دغدغة عواطف أكثريَّة الناس والتأثير في مشاعرهم بخطاب موجَّه إليهم مباشرة ويدّعي تمثيلهم والنطق باسمهم. وبشكل عام تميل الشعبويَّة إلى الانعزاليَّة وذلك للحفاظ على تماسكها وأتباعها.
الشعبويَّة وصف يطلق على نمط التفكير السياسي الذي يجنح لتقديس الشعب باعتباره يمثل الحقيقة المطلقة
ولا يكاد يخلو أيّ نقاش سياسي أو انتخابي في السنوات الأخيرة من الحديث عن الشعبويَّة، علماً بأنَّ الشعبويين لا يمثّلون كتلة متجانسة أو موحّدة أو رأياً سياسيَّاً واحداً أو منطلقات فكريَّة واحدة، بل هم يتوزّعون على أطياف مختلفة ومتباعدة لدرجة التناقض، وتتراوح مواقفهم بين اليمين واليسار ومن أقصى التشدّد إلى نقيضه في التشدّد الآخر، لكنَّ ما يجمعهم هو الخطاب الذي يزعم تمثيله "الحقيقي" للشعب، وما عداهم أعداء الشعب وخصوم الحقّ والحقيقة. وتبرز الشعبويَّة في الغالب في الطبقات الدنيا من المجتمع، تلك التي تشعر بعدم تمثيلها الحقيقي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ردّ فعل لما هو قائم من سياسات ومؤسَّسات وأنظمة.
وبفعل الخطاب الشعبوي-التعبوي والتحريضي ومردوداته انتشرت الشعبويَّة في عالم السياسة، وأصبح تأثيرها ملموساً وواضحاً في العديد من المنظمات السياسيَّة، وخصوصاً تلك التي حظيت بزعامات كارزميَّة يساريَّة أو يمينيَّة، علمانيَّة أو دينيَّة، في السلطة أو خارجها. وتمكّن بعض الشعبويين في أوروبا في السنوات الأخيرة من حجز مقعده في ستراسبورغ عضواً في البرلمان الأوروبي، في حين رفع آخرون راية مناهضة العولمة أو معاداة الهجرة والمهاجرين واللّاجئين أو مناهضة الإسلام أو رفض المؤسَّسات والتصدّي لدور النخب أو غير ذلك من شعارات تحريضيَّة. ولكنَّ النقطة المركزيَّة في الشعبويَّة دائماً هي وجود زعيم ذي شخصيَّة كارزميَّة يتولّى دوراً حاسماً في توحيد الشعب ويقوم بدور تحويل "الإرادة الشعبيَّة" إلى حكم من خلال السلطة التي يوكلها الشعب إليه[4].
جديد الشعبويَّة وقديمها
يُعتبر العام 2016 عام الشعبويَّة على المستوى العالمي بامتياز، لصعودها في الغرب من خلال صناديق الاقتراع إلى البرلمان وإلى سدّة الحكم، وهكذا اندرج تحت عنوان الشعبويَّة دونالد ترامب الرئيس الأمريكي، وماري لوبين "الفرنسيَّة"، وخيرت فيلررز "الهولندي"، وبيرني ساندرز "الأمريكي"، وسيريزا "اليونانيَّة"، وبوديمويس "الأسبانيَّة"، ويانوش أدير "الهنغاري"، فضلاً عن هوغو شافيز "الفنزويلي"، وإيفو موراليس إيما "البوليفي"، إضافة إلى برلسكوني "الإيطالي"، ...وغيرهم. ويحيل جان فيرنر مولر مصطلح "الشعبويَّة" إلى العواطف والأمزجة أكثر ممَّا يمثّله أيّ مضمون[5].
وبغضّ النظر عن انتماءات السياسيين الفكريَّة وتوجّهاتهم الاجتماعيَّة، فإنَّ إحدى المسائل التي ظلّت تشغلهم هي كيفيّة الاستحواذ على الجمهور وقدرتهم على توجيهه بخطاب مؤثر ومثير في الوقت نفسه لكسب تعاطفه وبالتالي ثقته، سواء بالانتخابات وصندوق الاقتراع في الأنظمة الديمقراطيَّة أم عبر تجييش الكتل البشريَّة الهائلة، تلك التي تذكّر بعصر المداخن ودفعها للتمرّد وإلى حلبة الصراع لحسمه سلماً أو عنفاً وبشتَّى الوسائل لتحقيق الأهداف التي تسعى الشعبويَّة للوصول إليها وخصوصاً في العالم الثالث. وعادة ما يستثير الخطاب الشعبوي الجمهور، خصوصاً إذا تميَّز قائده بمواصفات كارزميَّة، فترى الجمهور يمتثل لإرادته وينساق بعواطفه خلفه.
ولعلّ ما يجمع الشعبويين هو: التبسيطيَّة السياسيَّة والاستخدام العاطفي لمفردة "الشعب"، واستدعاء التراث والرموز التاريخيَّة أحياناً، والادّعاء بالتعبير عن الضمير، وعموماً فالخطاب الشعبوي هو خطاب مبهم وعمومي في الغالب ويميل إلى الإثارة والحماس وإلهاب المشاعر وتقديم الأحلام والوعود مع إحالات إلى التاريخ واستخداماته بصورة آيديولوجيَّة وعلى نحو انفعالي؛ وبقدر ما يركّز الشعبويُّون على الممارسة، فإنَّهم غير معنيين بالفكر، ويعتبرون التنظير مجرَّد ثرثرة فارغة، ولهذا فالشعبويَّة أقرب إلى الميتافيزيقيا السياسيَّة، أو اللّاهوت السياسي بهذا المعنى.
وباختصار يمكن تلخيص أهمّ خصائص الحركات الشعبويَّة، وهي: تعارضها مع ما هو قائم، ومعاداتها للنخبويين، وتشديدها على التجانس الذي يجمعها في إطار انقسام بين "النحن" والـ"هُمْ"، وإيمانها بزعامة مطلقة للقائد الملهم ذي الشخصيَّة الكارزميَّة، وحشدها الجموع كمصدر للقوَّة وخطاب يستبعد أيَّة حلول وسطيَّة، فضلاً عن إضفاء أحكام أخلاقيَّة عليه كمصدر للسلطة، ورفع شعارات راديكاليَّة فيما يتعلق بالإصلاح[6]. ويمكن القول إنَّ الشعبوية كظاهرة هي إحدى علامات الأزمة في الوضع السياسي وفي الغرب تحديداً، مثلما هي دليل على خلل المؤسَّسات الديمقراطيَّة التمثيليَّة، وربَّما إحدى مظاهر انحسار الحداثة أو تدهور قيمتها.
بمَ يمتاز الخطاب الشعبوي؟
إذا كانت الجماعات الشعبويَّة في الغرب في الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الماضي تنحدر من أصول يساريَّة في الغالب، وهي خليط من تيَّارات ماويَّة وتروتسكيَّة وقوميَّة، وهو ما انعكس على بلادنا أيضاً بتأثرها بهذه الموجة، فإنَّ الحركات الشعبويَّة اليوم هي من التيَّارات اليمينيَّة، وفي بلادنا من الجماعات الإسلاميَّة والتيَّارات الدينيَّة بشكل عام، تلك التي تتعكّز على الشعب أيضاً وتراهن على فطرته، وتعتقد أنَّ بإمكانها قيادته بالتحريض والشحن الديني والطائفي، سواء لكلّ الشعب أو لجزء منه: طائفة أو مذهب أو إثنيَّة تزعم التعبير عنها وتمثيلها والنطق باسمها؛ وتلك إحدى مآزق السياسة في الوقت الحاضر.
وفي الغرب مثلما عندنا، فإنَّ الخطاب الشعبوي يترك أحياناً ردود فعل حادَّة لما يمثل من خطر على السلام المجتمعي، نظراً لقدرته الاكتساحيَّة وإمكانيّته في إثارة البلبلة والهيجان في صميم المجتمعات، والأمر يتخذ في أحيان أخرى بُعداً أخلاقيَّاً بين "الأخيار والأشرار" و"الحق والباطل"، وهي تصنيفات غالباً ما يستحضرها الشعبويُّون ضدّ خصومهم أو أعدائهم.
والشعبويَّات ليست واحدة، بل هناك أنواع منها، فهناك: شعبويَّة سياسيَّة، لا سيَّما حين ارتبطت بفترة العسكريتاريا وصعود النخب العسكريَّة ذات التوجُّهات القوميَّة إثر الثورات والانقلابات العسكريَّة التي حصلت في مصر والعراق وسورية، ويمكن إضافة اليمن والجزائر وغيرها، وهناك شعبويَّة ثقافيَّة، على الرّغم من أنَّ ياسين الحاج صالح يسجّل غياب تيَّار شعبوي ثقافي، لافتاً النظر إلى أنَّ التيَّارات الشموليَّة القوميَّة والدينيَّة واليساريَّة نظرت إلى الشعب بمنظار أبوي، وهو بالنسبة إليه مدعاة للأسف أكثر ممَّا للابتهاج[7].
ولعلّ هذا يُعيد طرح السؤال عن علاقة الشعبويَّة بالديمقراطيَّة: فهل الأولى عائق أمام الثانية، أم أنَّها رغبة في تعديل المسار الديمقراطي المنحرف؟ وبالطبع كان انبعاث الشعبويَّة نتيجة لانسداد الآفاق في الغرب، في حين أنَّ التحدّيات التي تعترض ولوج المسار الديمقراطي في البلدان النامية هي التي قادت إلى بروز تيَّارات شعبويَّة، وخصوصاً من جماعات الإسلام السياسي في ربع القرن الماضي.
إنَّ الاختلاف بين شعبويَّة غربيَّة، إذا جاز لي التعبير، وشعبويَّة عالمثالثيَّة يتعلّق بزاوية النظر بين الشعبويَّة المرفوضة وبين الشعبويَّة المطلوبة. ويعتقد عزيز العظمة أنَّ الشعبويَّة تمثل عائقاً يحول دون الاستيعاب المفهومي للديمقراطيَّة، والأخيرة هي نظريَّة التعدّديَّة والعقلانيَّة والعلمانيَّة، وهذه الأخيرة نراها اليوم حاضرة في الخطاب التحريضي اليساري والإسلامي والقومي للديمقراطيَّة، خصوصاً أنَّ هناك وهماً بأنَّ للشعب جوهراً ميتافيزيقيَّاً متعالياً على التاريخ في مساره وخصوصيَّاته[8].
وهناك شعبويّة ثوريّة، كما يطلق عليها مرشد القبي، وهي المرحلة التي بدأت مع ثورات ما عُرف بالربيع العربي وشعارها الرئيس "الشعب يريد ..."، وبطلها رجل الشارع أو المواطن العادي غير المتحزّب أو المؤطّر، وهذا الأخير حاول لاحقاً الاستحواذ على رحيق الثورة[9]، كما يقول، ولكنَّ الشعبويَّة الإثنيَّة والدينيَّة، وبشكل خاص الطائفيَّة أو المذهبيَّة، هي أخطر أنواع الشعبويَّة كما أرى، لأنَّها تتعلّق بالهويَّة والخصوصيَّة والشعور بالانتماء لمجموعة موحَّدة في إطار نظام نسقي.
وبهذا المعنى يمكننا تمييز الشعبويَّة عن الديمقراطيَّة، سواء بوجودها في المعارضة أم حين تصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، مستغلّة الأزمات التي تعيشها بلدانها عازفة على وتر العواطف والمشاعر والزعم بتمثيل مجموع الشعب والدفاع عن مصالحه، وذلك من خلال:
1- إنَّها ليست عقيدة سياسيَّة أو آيديولوجيا، وذلك لأنَّها لا تتجسَّد في نمط محدَّد أو نظام سياسي بعينه ولا في مضامين فكريَّة واحدة، وهي تختلف عن الحركات ذات الطابع الثوري التقليدي، ولكنَّها بشكل عام هي أسلوب جديد يتخذ شكل الاحتجاج وردود الأفعال تتبنّاه حركات متنوّعة تزعم انتسابها جميعها إلى الشعب والتعبير عنه، وهي غالباً ما تكون خارج السلطة وحين تصل إلى السلطة تفقد في الغالب مبرّر وجودها، خصوصاً افتقارها إلى مشروع سياسي واضح ومحدَّد، في حين أنَّ الديمقراطيَّة مؤسَّسات وقوانين وآليَّات حكم؛ من مفرداتها إجراء انتخابات دوريَّة وفقاً لمبدأ التداول السلمي للسلطة، وأساسها فصل السلطات بوجود قضاء حامٍ نزيه ومحايد ومساءلة وحريَّات عامَّة وخاصَّة.
2- زعمها تمثيل الشعب وحدها، وعلى نحو حصري، خصوصاً حين يتمّ ربط ذلك أخلاقيّاً بالشعبويين بصورة دائمة وغير قابلة للقياس، فمنافستها "نخبة فاسدة" وحين تصل الشعبويَّة إلى الحكم تصبح معارضتها هي الأخرى "مرذولة"، في حين أنَّ الديمقراطيَّة بتعريفها المبسّط تعني باختصار "سيادة الشعب عبر ممثليه وحقّ تقرير مصيره بإرادته الحرّة"، استناداً إلى مبادئ الحريَّة والمساواة وفصل السلطات. وقد عبّر عن الفهم الشعبوي نايجل فاراج رئيس حزب الاستقلال المناهض لاستمرار بريطانيا بالاتحاد الأوروبي حين اعتبر النصر الحقيقي تحقّق للشعب "الحقيقي". وفي عُرفه فإنَّ 48% من الشعب المتبقي من البريطانيين الذين صوَّتوا مع البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي هم لا يمثلون الشعب الحقيقي.
3- رفضها التعدّديَّة والاعتراف بالآخر، لأنَّها وحدها من يحقّ له تمثيل الشعب. ولعلّنا نتذكّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين خاطب جمهوره الحزبي في مؤتمر خاص قائلاً: "نحن الشعب...من أنتم"؟ وقصد بذلك كلّ خصومه وأعدائه مسقطاً عنهم صفة انتمائهم أو تمثيلهم لجزء من الشعب، وهو القول الذي كان لويس الرابع عشر يردّده: الدولة أنا، وأنا الدولة، في حين أنَّ من أولى أساسات الديمقراطيَّة إقرارها بالتنوّع وقبولها بالتعدديَّة والاعتراف بالآخر، وإنْ كانت "الأغلبيَّة" حاكمة، فمن واجبها حماية حقوق "الأقليَّة"، مثلما من واجب هذه الأخيرة الإقرار بحقوق "الأغلبيَّة"، وإن كان الأمر يتمّ بتداوليَّة أو تناوبيَّة يحكمها صندوق الاقتراع الفيصل في عمليَّة التغيير، مع وجود منظومة قانونيَّة أساسها حكم القانون والقضاء المستقل والمساءلة والشفافيَّة.
4- ارتباطها بسياسات الهويَّة، وهذه الأخيرة تتطلّب الاعتراف بشروط عادلة للعيش المشترك، لا سيَّما بتوفّر الأسس السليمة لفكرة المواطنة والاتحاد الطوعي لمواطنين أحرار متساوين، ولكنّهم في الوقت نفسه مختلفون، لأنَّهم متنوّعون. أمَّا محاولة إلغاء الفروق تحت فكرة "الشعب الواحد" المتجانس الذي لا اختلاف بين أفراده، فهي نزوع إلى الهيمنة وإملاء الإرادة، إضافة إلى كونها ضرب من الوهم، فالاختلاف والتنوُّع من طبيعة الأشياء. وهكذا فالشعبويُّون يعاملون الآخرين بالجملة بصفتهم "أعداء الشعب"، لأنَّ الشعب صيغة جمع لـ"نحن"، وما عداه ليس سوى أشتات متفرّقة خارج الإطار الكلّي الذي يزعمون تمثيله.
وإذا كان مصطلح الشعبويَّة يتكرَّر اليوم مع كلّ انتخابات، كما حصل في الولايات المتحدة خلال حملة الرئيس دونالد ترامب وما بعده، ومع التصويت على "بريكست" في بريطانيا، وكذلك في انتخابات النمسا وإيطاليا وهنغاريا وغيرها، فإنَّه من الصعب حصر الشعبويَّة في تجربة واحدة أو تيّار واحد، لأنَّها تمثّل ظواهر في غاية الاختلاف، فضلاً عن غياب معيار موحد.
ويحدّد بعض قواميس اللغة "الشعبويَّة" بأنَّها خطاب سياسي موجَّه إلى الطبقات الشعبيَّة قائم على "انتقاد النظام والمسؤولين والنخب"، وحسب مارك غلورباي فالشعبويَّة هي "البحث من قبل سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي مباشر في خطاب عام يتحدَّى المؤسَّسات التقليديَّة الديمقراطيَّة"[10].
متى نشأت الشعبويَّة؟
لا يمكن تحديد تاريخ لنشوء الشعبويَّة، ولعلّها كانت موجودة في كلّ العصور، لكنَّ ظهورها يختلف من مجتمع إلى آخر، وأمّا التعبير المعاصر عنها، فإنَّه يمكن إرجاعه إلى نشوء حركة شعبويَّة في روسيا والولايات المتّحدة في أواخر القرن التاسع عشر، وإنْ كان كلّ خطاب يوجَّه إلى "العامَّة" ويدّعي النطق باسمها هو خطاب شعبوي، لكنَّها بالأصل عُرفت في روسيا حين نشأت حركة فلّاحيَّة رفعت بعض التوجُّهات ذات الصلة بالعدالة الاجتماعيَّة ونشطت هذه الحركة في عهد القياصرة الروس، ولاسيَّما في عام 1870، وهي الفترة ذاتها التي شهدت فيها الولايات المتّحدة حركات احتجاج في الرّيف ضدّ المصارف وشركات سكك الحديد.
وقد اكتسب هذا المصطلح صفات جديدة في منتصف القرن العشرين على يد الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون والبرازيلي غيتوفارغاس اللّذين جسَّدا حركات شعبيَّة وطنيَّة ذات توجُّهات اجتماعيَّة. وإذا كانت هذه النشأة الحديثة للشعبويَّة، إلَّا أنَّها كانت موجودة قبل ذلك في كلّ خطاب سياسي أو آيديولوجي أو ديني يدّعي امتلاك الحقيقة وأفضليَّاته على الآخرين وحقّه في تمثيل الشعب باستثارة غرائزه والتأثير فيه عاطفيَّاً. وإذا كنّا قد تحدثنا عن الشعبويَّة خارج الحكم، فيمكن تحديد بعض ملامحها وتشخيص بعض سماتها وهي في السلطة:
1- نظرتها الشموليَّة، ولاسيَّما حين تصل إلى الحكم، حيث تتّجه إلى "احتلال" الدولة عبر توظيف الأتباع، مثلما تتدخّل في الإعلام والقضاء بإعطاء نفسها "حقّ" تمثيل الشعب.
2- الزبائنيَّة، أو الزبونيَّة، حيث تتّجه إلى تقسيم المغانم، ولاسيَّما بعد الوصول إلى الحكم، وذلك بهدف البقاء فيه وكسب الأنصار، سواء على شكل رشوات سياسيَّة أم ماليَّة أم إداريَّة أم غيرها، إضافة إلى دغدغة عواطف الناس، كما هي الدعوة لتوزيع عائدات النفط مباشرة أو حين يتصرَّف ساسة شعبويُّون في أوروبا الوسطى بمساعدات الاتحاد الأوروبي دون أيّ اعتبار للقوانين والأنظمة، في محاولة رشوة بعض الفئات والمراتب الاجتماعيَّة لضمان تأييدها.
3- القمع الممنهج الفكري والسياسي، سواء عبر الآيديولوجيا والضخّ الإعلامي أم عبر القمع السياسي والبوليسي، ولاسيَّما للأعداء والخصوم وكلّ أشكال المعارضة من المجتمع المدني، وأيّ نقد في عُرف الشعبويين إنَّما يهدّد مزاعمهم في التمثيل الأخلاقي والحصري للشعب، وليس الأعداء سوى عملاء للخارج أو مشبوهين. وحتى حين يفشل الشعبويُّون فإنَّهم يردّون فشلهم إلى محاربة النخبة التي تآمرت عليهم في الداخل والخارج، أي إنَّ نظريَّة المؤامرة حاضرة في الخطاب الشعبوي.
رُبَّ سائل يسأل: لماذا يستمرُّ الشعبويُّون بإجراء انتخابات بعد أن حصلوا على السلطة، فبإمكانهم تغيير النظام الانتخابي وممارسة هيمنة على الإعلام؟ لكنَّ هذا شيء، وإمكانيَّة القطع مع الديمقراطيَّة شيء آخر، خصوصاً وأنَّ هذه الأخيرة جاءت عبر تراكم وتدرُّج طويل الأمد وبطيء وأصبحت جزءاً من عادات وتقاليد المجتمع، لاسيَّما حريَّاته وحقوقه المدنيَّة والسياسيَّة، إضافة إلى المنجزات التي تحققت على صعيد حريَّة التعبير وحقّ الاعتقاد وحقّ التنظيم الحزبي والنقابي والحقّ في المشاركة، وهذه هي الحقوق الأساسيَّة التي لا يمكن تجاوزها أو الانتقاص منها، خاصَّة في البلدان الديمقراطيَّة التي صعدت فيها الشعبويَّة عبر صندوق الاقتراع، إضافة إلى بعض الحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة.
وهكذا تنشأ ديمقراطيَّات غير ليبراليَّة أو تحدُّ أحياناً من تطوّر الديمقراطيَّة، والأمر يواجه البلدان النامية بشكل خاص، حيث لم تترسَّخ بعدُ تجاربها الديمقراطيَّة التي ما يزال قسمها الأعظم جنينيّاً أو حتى ناقصاً أو مبتوراً، ناهيك عن محاولات للافتئات عليها أو تسفيهها أو إفراغها من محتواها، وهكذا تبقى اللافتة ديمقراطيَّة، أمَّا واقع الحال، فإنَّها مثل إطار بلا صورة أو عنوان بلا مضمون، فمثلاً في بلد مثل هنغاريا حيث تحكم الشعبويَّة، فإنَّ أيَّ انتقاد للدستور يعتبر انتقاداً للوطن، وهو ما تؤكّده مقدّمة الدستور الذي يُوصف بأنَّه "ديمقراطي" وذلك طبقاً للنزعة القوميَّة البارزة فيه، "لأمَّة من المسيحيين الصالحين المتحدّرين من مجموعة إثنيَّة غالبة". وهو ما يتعارض مع روح الديمقراطيَّة وجوهرها القائم على المساواة والحرّيَّة والكرامة والعدالة والمشاركة.
وحين فاز نيكولاوس مادورو في فنزويلا في أواخر عام 2015 حاول مركزة السلطة بيده بسبب الخطر الخارجي واتهامه المعارضة بالتواطؤ مع القوى الأجنبيَّة، وحين لم يتمكَّن من إمرار بعض القرارات بسهولة أنشأ برلمان الكوميونات لاستيلاد شرعيَّة موازية للبرلمان، وهكذا فالدساتير الشعبويَّة توضع للحدّ من قوَّة خصوم الشعبويين حين يكونون قد وصلوا إلى الحكم.
وإذا كانت أنظمة عديدة تجري انتخابات، فهذا لا يعني أنَّها ديمقراطيَّة، فالانتخابات وحدها دون ليبراليَّة ستكون ناقصة، خصوصاً حين لا تتقيَّد بحكم القانون وتخلّ بالضوابط والتوازنات الكابحة للسلطة التي ينجم عن اشتغالها توسيع الحقوق، ويصبح أحياناً حكم الأكثريَّة وحكم القانون في تعارض، لأنَّ الأكثريَّات تخنق المعارضات وتهدّد الحقوق الأساسيَّة، وكان النموذج ما بعد الاشتراكي في أوروبا الشرقيَّة خير مثال على ذلك.
إنَّ أساس الديمقراطيَّة يقوم على شرعيَّة الصراع وشرعيَّة الاختلاف.
هل الشعبويَّة خطر على الديمقراطيَّة؟
بفوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة وانتصار جماعة البريكست في بريطانيا ازداد القلق بخصوص غياب الرضا الاجتماعي، وارتفعت إنذارات مبكرة بوجوب القضاء على الشعبويَّة، لأنَّها تشكّل تهديداً حقيقيّاً للديمقراطيَّة. وتذهب المفكّرة البلجيكيَّة اليساريَّة شانتال موف إلى اعتبار الشعبويَّة نمطاً من الممارسة السياسيَّة يهدف إلى بناء "إرادة جماعيَّة حرَّة" مقابل الديمقراطيَّات الليبراليَّة التي تقوم على العقد الاجتماعي، والتي أفضت لاحقاً إلى تخفيض حدَّة الصراع الاجتماعي، بحيث لم تبق الفوارق النوعيَّة بين الأحزاب التي تتداول على السلطة، وحسب قولها: "إنَّ شيطنة الشعبويَّة والفزع من عودة محتملة للفاشيَّة سيكون كافياً لوقف نمو الأحزاب والحركات التي تستدعي الإجماع النيوليبرالي للمساءلة"[11].
لعلّ من الأسباب الحقيقيَّة لصعود الشعبويَّة في السنوات الأخيرة تخلّي أو تراجع الأحزاب "الديمقراطيَّة" عن مبادئ السيادة الشعبيَّة والمساواة، فضلاً عن ذلك صعود النيوليبراليَّة التي أدخلت بعض التجارب الديمقراطيَّة في مرحلة "ما بعد الديمقراطيَّة" (Post Democracy)، حسب شانتال موف، والديمقراطيَّة تعني سلطة الشعب من المركّب اليوناني (Demos - Kratos)، وهذا يعني أنَّ مبدأ الشرعيَّة لا يمارس بصورة مجرَّدة وإنَّما عبر مؤسَّسات خاصَّة، وهذه المؤسَّسات تطوَّرت في الغرب في سياقات تاريخيَّة تحت عناوين مختلفة: الديمقراطيَّة الحديثة، الديمقراطيَّة التمثيليَّة، الديمقراطيَّة البرلمانيَّة، الديمقراطيَّة الدستوريَّة، الديمقراطيَّة الليبراليَّة، الديمقراطيَّة التعدُّديَّة، وكلّها تقوم على: ليبراليَّة سياسيَّة وحكم القانون وفصل السلطات وحريَّات عامَّة وفرديَّة.
ووفقاً لـ"كارل شميت" فإنَّ الليبراليَّة تنفي الديمقراطيَّة والديمقراطيَّة تنفي الليبراليَّة، لأنَّه يميّز الظاهرة السياسيَّة التي تقوم على ثنائيَّة الصديق والعدو، في حين أنَّ الأصل حسب "هابرماس" هو الحريَّة والمساواة، وقد أدّت التطوُّرات إلى إضعاف القيم الديمقراطيَّة نتيجة لتحقّق الهيمنة النيوليبراليَّة، حتى إنَّ بعض الأحزاب الديمقراطيَّة الليبراليَّة قبلت الإملاءات الرأسماليَّة للتمويل، ولاسيَّما تدخُّلات الدولة وسياستها، كما تقلّص دور البرلمانات والمؤسَّسات التي تتيح للمواطنين التأثير على القرارات السياسيَّة، وجرَّد المواطنين من إمكانيَّة ممارسة حقوقهم الديمقراطيَّة[12].
ولم تعد الانتخابات تقدّم أيَّ فرصة للاختيار بين بدائل فعليَّة وسط الأحزاب التقليديَّة التي تشكّل الحكومة، وهكذا أصبحت السياسة مسألة محض تقنيَّة تتعلّق بإدارة النظام المتمأسس، وهي حقل حصري للخبراء، واستمرَّ تداول السلطة بين أحزاب قائمة (يمينيَّة ووسطيَّة)، وتمَّ اتهام المعارضين لهذا الإجماع باعتبارهم "متطرّفين" ووصفوا بالشعبويين. في حين أنَّ الشعبويين يصفون أعداءهم وخصومهم من النخب بأنَّهم سبب الأزمة وانتهاء قاعدة سيادة الشعب باعتباره الأساس في الديمقراطيَّة.
وقد حصل مثل هذا التطوُّر في ظلّ دور القطاع المالي على حساب الاقتصاد الإنتاجي وفي ازدياد العمالة الرخيصة وفقدان وظائف عديدة. وساهمت سياسة الخصخصة وخفض الإنتاج في خلق حالة من البطالة وازداد وضع العمَّال صعوبة، وكان هذا من نتائج أزمة عام 2008 التي أدَّت إلى انهيار بنوك عملاقة وشركات تأمين كبرى، وارتفع التفاوت بين الشمال والجنوب، ولاسيَّما بسبب عدم المساواة، إضافة إلى الهجرة من الجنوب إلى الشمال، حيث أصبح المهاجرون واللّاجئون يمثلون إحدى التحدّيات الكبرى في الغرب، إضافة إلى تحدّي الإرهاب الدولي، كما ترك الوضع تأثيره على الطبقة الوسطى التي دخلت في عمليَّة إفقار سريع، ومن جهة أخرى غاب خطاب المساواة من القوى الديمقراطيَّة الليبراليَّة في ظلّ المجتمع الاستهلاكي، وخصوصاً في ظلّ صعود نخبة أوليغارشيَّة هي التي كانت وراء فوز وحضور الأحزاب الشعبويَّة اليمينيَّة، بزعم الدفاع عن الشعب ضدّ العولمة وإعادة السلطة التي صادرتها النخب وما إلى ذلك، خصوصاً مع ارتفاع مسألة العداء للأجانب.
لقد استثمرت الشعبويَّة لحظة التغيير فتعكّزت على بناء مفهوم يحاكي الشعب، وذلك بإنشاء جبهة تضمُّ قطاعات من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى المتأثرة بالعولمة النيوليبراليَّة، وبالطبع فتلك نقطة خلاف بين الشعبويَّة اليمينيَّة والشعبويَّة اليساريَّة في فرنسا على سبيل المثال، فالشعبويَّة اليمينيَّة، ممثلةً بماري لوبن، تتبنَّى مفهوماً محدوداً للشعب تقصره على المواطنين الأصليين "النحن"، وذلك باستبعاد المهاجرين "الهُمْ"، وهؤلاء يقاربون مفهوم النخبة المعادية للأمَّة، في حين أنَّ الشعبويَّة اليساريَّة التي يمثلها جون لوك ميلانخو فإنَّ مفهوم "النحن" يضمُّ المهاجرين وحركات البيئة ومجموعة الميم (المثليين)، أمَّا "الهُمْ"، فيتمثلون بمجموعة القوى التي تدعم سياسات اللّامساواة الاجتماعيَّة.
الفارق بين الشعبويَّة اليمينيَّة الضيقة والشعبويَّة اليساريَّة الواسعة هو الموقف من الديمقراطيَّة، ففي حين أنَّ الأولى تقوم على السلطويَّة وتقيّد الديمقراطيَّة، تسعى الثانية لتوسيع دائرتها وتجذيرها من منظورها الخاص الذي يعزل الأعداء ويقلّص من دائرة الخصوم.
ثنائيَّة الشعبويَّة
تحتاج سياسات الهويَّة إلى ثنائيَّة تحكمها دائماً، أي: "نحن" و"هُمْ" في إطار تضادّ يمثّل التناقض الذي يقود إلى صراع غير عقلاني أحياناً، في ظلّ احتراب بين الحقّ والباطل والخير والشرّ. وكانت الثورة الفرنسيَّة قد استثارت تلك التناقضات على نحو حاد. أمَّا في بلادنا العربيَّة، فأظنُّ أنَّ صراعاً قويَّاً يجري في ثنايا مجتمعاتنا بين شعبويَّة يمينيَّة، دينيَّة وطائفيَّة في الغالب، وبين شعبويَّة يساريَّة قوميَّة وماركسيَّة أو من بقاياهما، وسيكون هذا الصراع في السنوات القادمة أشدَّ ضراوة، خصوصاً بانخراط كتل بشريَّة واسعة فيه. وأعتقد أنَّ التفكير السياسي الذي كان سائداً في الخمسينيّات وحتى نهاية الثمانينيّات، لم يعد قادراً على حسم الصراع، خصوصاً بانبعاث الهويَّات الفرعيَّة، سواء الدينيَّة أو الإثنيَّة أو اللغويَّة أو السلاليَّة، يضاف إلى ذلك صعود دور العامل الطائفي، والدور الذي تلعبه القوى الخارجيَّة المتسيّدة في ظلّ العولمة، ولاسيَّما في عهد ما بعد الحرب الباردة وتحوُّلات الصراع الآيديولوجي على المستوى الكوني. وإذا كانت الديمقراطيَّة الغربيَّة قد أدارت ظهرها للطبقات الفقيرة والضعيفة، فإنَّ هذه الأخيرة سبق أن أدارت ظهرها للديمقراطيَّة أيضاً، بيد أنَّ الالتفات للمسألة الاجتماعيَّة أعاد الاهتمام بها في الوقت الحاضر، وهو ما يحاول الشعبويُّون توظيفه في الغرب وفي بلادنا على نحو أشدّ، لتعلّق الأمر بالصراع الديني وبشكل الصراعات المذهبيَّة والانقسامات الحادَّة التي سبَّبتها منذ الثورة الإيرانيَّة منذ عام 1979 ولحدّ الآن.
وظهرت الشعبويَّة على نحو بارز عشيَّة انهيار جدار برلين عام 1989، والإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقيَّة الاشتراكيَّة: بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيّا الديمقراطيَّة ويوغسلافيا ورومانيا وغيرها، حيث كانت الساحات والميادين تمتلئ بشعارات شعبويَّة بادّعاء تمثيل الشعب مقابل ادّعاء السلطات زعمها بأنَّها تمثّل الشعب، وغطّت شعارات الحريَّة والكرامة وحقوق الإنسان والتعدديَّة والاعتراف بالآخر الساحات والشوارع في أوروبا الشرقيَّة من وارسو إلى بودابست ومنها إلى براغ ثمَّ إلى برلين، وعلى الرغم من أنَّ دماء غزيرة سالت في ميادين بوخارست، وفيما بعد في يوغسلافيا التي انقسمت إلى 6 كيانات، إلّا أنَّ الصراع بشكل عام كان قد حُسم لاحقاً في المركز، وفي موسكو بالتحديد، حين انقسم الاتحاد السوفييتي السابق إلى 15 كياناً وجرت حروب في جورجيا وأوكرانيا ولاحقاً في شبه جزيرة القرم وغيرها.
لا يمكن تحديد تاريخ لنشوء الشعبويَّة، ولعلّها كانت موجودة في كلّ العصور، لكنَّ ظهورها يختلف من مجتمع إلى آخر
ولعلّ شعارات مثل الحريَّة والخبز والكرامة كانت قد ارتفعت لاحقاً في تونس ومصر من شارع الحبيب بورقيبة إلى ساحة التحرير في القاهرة وامتدَّت إلى العديد من العواصم العربيَّة، وكأنَّها تريد القول إنَّ من يوجد في هذه الميادين يمثل أو يعبّر عن تطلّعات شعوب هذه البلدان وليس السلطات، وحين أطيح بسلطات: زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، ارتفعت دعوات للترويج لفكرة العزل السياسي واستثناء المرتكبين أو أتباع النظام السابق من المواقع السياسيَّة، وذلك تأسيساً على فكرة شعبويَّة أساسيَّة هي النحن الظافرة والهُمْ الخاسرة. وهي المسألة التي أقيمت على أساسها "فكرة العدالة الانتقاليَّة" التي تقتضي كشف الحقيقة كاملة: ماذا حصل؟ ولماذا حصل؟ وكيف حصل؟ ثمَّ المساءلة بهدف جبر الضرر والتعويض وصولاً إلى المصالحة الحقيقيَّة، وإصلاح الأنظمة القانونيَّة والقضائيَّة والأمنيَّة، لكي لا يتكرَّر ما حصل[13].
الخلاصة أنَّ الشعبويَّة الأوروبيَّة التي تتصدَّر المشهد السياسي في الغرب هي خليط غير متجانس لقوى يمينيَّة ويساريَّة تستند إلى منظومات ثقافيَّة وقيميَّة تريد تغيير الوضع السائد، حملت لواءه أحزاب متنوّعة منها: حزب الجبهة الوطنيَّة الفرنسي الذي تأسَّس عام 1972 وقد حصل على 13.2% في آخر انتخابات جرت عام 2017، وحزب فرنسا الأبيَّة الشعبوي اليساري الذي حصل في الانتخابات المذكورة على 11% وهو يدعو إلى انسحاب فرنسا من اتفاقيَّات الاتحاد الأوروبي وخروجها من الناتو (حلف شمال الأطلسي).
أمَّا حزب البديل الألماني، فقد تأسَّس عام 2013 وتتزعّمه فراوكا بتيري وهو من أعداء اليورو، وقد حصل الحزب على 12.3% من الأصوات خلال انتخابات عام 2017، وحزب الحريَّة النمساوي الذي يتزعَّمه هاينز كريستيان شتراخه فقد حقق 26% من الأصوات خلال انتخابات عام2017 وهو ضدّ الاتحاد الأوروبي أيضاً.
وفي المجر تأسَّس حزب "فيديز" ويتزعَّمه رئيس الوزراء السابق فيكتور أوربان، وحصل في انتخابات عام 2014 على 44.9% من المقاعد البرلمانيَّة، وهو معادٍ للاتحاد الأوروبي كذلك.
وحزب رابطة الشمال في إيطاليا ورئيسه ماتيو سالفيني وقد حصل على 17% في انتخابات عام 2018، وحزب حركة الخمس نجوم في إيطاليا أيضاً الذي حصل على 32.7% من المقاعد في انتخابات عام 2018 ويترأسه الممثل الكوميدي جوزيبي غريللو.
أمَّا في هولندا، فقد احتلَّ حزب الحريَّة مرتبة جديدة في انتخابات عام 2017 ونال 13.1%.
وفي بولونيا حصل حزب القانون والإنصاف على 37.6% في انتخابات عام 2015 ويترأسه ليخ كاشينسكي وأخوه التوأم كاشينسكي، ويعتبر زعيم حركة تضامن 1981-1989 ليخ فاليسيا من أبرز الشعبويين في أوروبا ضدَّ حكم الحزب الشيوعي (حزب العمَّال البولوني الموحّد)، وقاد حركة احتجاج عمّاليَّة حتى تحقق لها الفوز في عام 1989.
وحزب آنو التشيكي، ويزعمه الميلياردير أندريه بابيش الملقّب بـ"ترامب التشيكي".
أمَّا الخطاب الشعبوي عن الديمقراطيَّة في بلادنا، فقد وجد ضالّته في اتفاق ذي دلالة؛ في نقد استبداد الدولة لمعارضتها من جانب الحركات الشعبويَّة (يساريَّة أو قوميَّة أو إسلاميَّة) بزعم غربتها عن المجتمع، وفي إطار شعبوي أساسه ادّعاء تمثيل هذا الشعب بإعادة لحم العلاقة بين الدولة والشعب.
وقد برع الإسلاميُّون أو الإسلامويُّون، ولاسيَّما تنظيم القاعدة ومن بعده تنظم داعش في توجيه خطاب مؤثر استغلّ الاستلاب الخارجي باستمرار عدم حلّ القضيَّة الفلسطينيَّة والاعتراف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، وخصوصاً حقّ تقرير المصير، إضافة إلى احتلال أفغانستان والعراق على التوالي 2001 و2003، الأمر الذي تمكّنوا فيه من مخاطبة قاع المجتمع وفئات متدنّية وساخطة بسبب وضعها الاجتماعي والمعيشي البائس في الغالب، ومن جهة شعورها بالتهميش والحرمان، إضافة إلى الهيمنة الخارجيَّة وتغوّل السلطات على حريَّاتها وحقوقها الأساسيَّة، وهو ما دفعها ومنذ عقد ونصف من الزمان إلى إشعال المنطقة كلّها، بل وإشعال العالم بالحرائق، بما قامت به من انتهاكات وارتكابات وجرائم ضدّ الإنسانيَّة، بما فيها الإبادة الجماعيَّة وجرائم الحرب بحقّ مكوّنات أساسيَّة مثل المسيحيين والإيزيديين وجميع أتباع الأديان والمذاهب المخالفين لتوجُّهها الأحادي بزعمها "الفرقة الناجية" وما عداها ليسوا سوى أعداء الإسلام: السلطات والحركات والتيَّارات السياسيَّة والاجتماعيَّة جميعها: الأديان والمذاهب والغرب، بل والعالم كلّه.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 13
[2]- نظّم منتدى أصيلة في موسمه الدولي 39 (2017) ندوة بعنوان: "الشعبوية والخطاب الغربي حول الحكامة" شارك فيها 26 باحثاً ومثقفاً وممارساً سياسيّاً وناشطاً مدنيّاً أجانب وعرباً، وافتتحها بكلمة ترحيب محمّد بن عيسى، وقدّم للكتاب د. المختار بنعبدلاوي، واحتوت الندوة على أربعة محاور أساسيّة: الأوّل الشعبويّة والنظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة، والثاني: الشعبويّة والأزمة الأمنيّة، والثالث: انهيار الاقتصاد العالمي وصعود الشعبويّة، والرابع: الشعبويّة ونموذج الديمقراطيّة التمثيليّة في تشكيلاتها المؤسّسيّة، ويمكن الاطلاع على آراء الباحثين والمشاركين التي تضمّنت طيفاً واسعاً من الآراء ووجهات النظر تمثّل خلاصات مهمّة بلورها محمّد بن عيسى بكلمته الافتتاحيّة، حين دعا للتحرّك في ثلاثة اتجاهات: الأوّل: تفعيل قنوات الاتصال بالغرب وفتح حوار مع نخبه ومؤسّساته الفاعلة لتبيان مخاطر الانسياق في التعاطي العاطفي مع التيّارات الشعبويّة الفوضويّة. الثاني: الانكباب على التأمّل والتفكير في أوضاعنا العربيّة والأفريقيّة من زاوية أنَّ الشعبويّة حالة يجب عزلها عن الحركات الآيديولوجيّة التي تستمدّ منها النار. الثالث: تقوية الأواصر الفكريّة بين النخب العربيّة والأفريقيّة لتستعيد مكانتها ودورها التنويري في المجتمع.
وللمزيد من المعلومات انظر: د. المختار بنعبدلاوي- الشعبويّة والخطاب الغربي حول الحكامة، إصدار منتدى أصيلة، الرباط، 2018.
[3]- Benjamin Arditi - Populism as an internal periphery of Democratic politics, in Francisco Panizza, ed, populism and the mirror of democracy, London, New York, Verso, 2005, pp 72-98. Margaret, Cannoun- Trust the people, populism and the two faces of democracy, political studies, Vol.47, no.1 March 1999, pp 2-16.
[4]- انظر: عماد سلامة- التحوّل الديمقراطي والشعبويّة الطائفيّة: حالة لبنان، مجلة المستقبل العربي، العدد 403 أيلول/ سبتمبر 2012.
[5]- انظر: جان فيرنر مولر- ما الشعبويّة؟ ترجمة: رشيد بو طيب، منشورات منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، ط1 2014 وط2 2017.
[6]- انظر: عماد سلامة- التحوّل الديمقراطي والشعبويّة الطائفيّة: حالة لبنان، مصدر سابق.
[7]- انظر: ياسين الحاج صالح- لا شعب ولا شعبويّة... إنَّها خطط نخبويّة فقط، جريدة الحياة (اللندنيّة) 28/3/2008.
[8]- انظر: عزيز العظمة- الشعبويّة ضدّ الديمقراطيّة -خطاب الديمقراطيّة المعاصر في الوطن العربي، في "ديمقراطيّة من دون ديمقراطيين"، إعداد: غسان سلامة، مركز دراسات الوحدة العربيّة بالتعاون مع المعهد الإيطالي "فونداسيوني ايني انريكوماتيي"، 2000.
[9]- انظر: مرشد القبي- الشعبويَّة، إنعاش للديمقراطيَّة أم تهديد لها، مجلة المستقبل العربي، العدد 31، شهر 7/2011.
انظر كذلك: عبد الحسين شعبان- الشعب يريد- تأمّلات فكريَّة في الربيع العربي، دار أطلس، بيروت، 2012.
[10]- نقلاً عن حازم صاغية...لكن ما هي الشعبويَّة؟ ومن هو الشعبوي؟ وكيف يدار الصراع ضدَّهما؟ جريدة الحياة، 31/أغسطس 2017.
[11]- انظر: شانتال موف، هل يمكن أن تكون الحركات الشعبويَّة ديمقراطيَّة، ترجمة محمود هدهود، موقع إضاءات، 1/2/2018. قارن كذلك: مرشد القبي، الشعبويّة، إنعاش للديمقراطيّة أم تهديد لها؟ مصدر سابق، ويأتي على ذكر أعمال بيير أندريه تاغاييف وغاي هارماي وشانتال موف وألكسندرا دورنا، وهي أعمال تصبّ في الفلسفة والسياسة وعلم النفس.
[12]- قارن: عبدالله ولد أباه، الشعبويَّة الجديدة ورهانات الديمقراطيَّة والأمن، جريدة الاتحاد، 18/7/2017.
[13]- انظر: عبد الحسين شعبان، العدالة الانتقاليَّة": مقاربات عربيَّة للتجربة الدوليَّة، مجلة المستقبل العربي، العدد 413، الشهر السابع 2013.