الشَّفاعة المحمّدية والخلاص المسيحي؛ أيّةُ علاقة؟
فئة : مقالات
ظلّت المفاهيم الدّينية، بما تحمِله من تعدُّد في التّصورات والرؤى، وما تختزنه من حمولات ثقافية، تؤطِّر العنصر الإنساني في مناحي مختلفة، سواء على المستوى السّلبي أم الإيجابي. كما رافَقَتْ هذه المفاهيم مسيرته بمختلف مستوياتها، وصولاً إلى العصر الذي تجاوز كثيرًا من المفاهيم الدينية بما راكَمَه من التّجارب الإنسانية، عبر مختلف المحطَّات التّاريخية. وسواء اتَّفقْنا مع هذه المفاهيم أم اختلفنا، فأنّها تنبعُ في امتداداتها من الكائن الإنساني وجنوحه نحو تطلُّعات وطموحات يقرأ فيها عالم الغيب، أو ما وراء الطبيعة أو "الميتافزيقا" قراءةً لاهوتيةً، بتعبير أوغست كونت، دون أنْ تكون للإنسان القدرة على تجاوز هذه المرحلة من التّاريخ الفكري الإنساني، إلى مرحلة العلمية، أو التفكير العقلاني النَّقدي بالرّغم من وجود مدارس عديدة تنتقد هذه المدرسة الوضعية نفسها.
ليس الإسلام بدْعاً من الدّيانات التي حملتْ في تصوراتها وعقائدها وأفكارها مفاهيم كبيرة، استطاع من خلالها أنْ يؤطِّر ويعبِّئ ويدمج تصوّرات النّاس من خلالها، بل هو امتداد لهذا الإرث التاريخي الذي لم ينفصل يومًا عن مسيرة التثاقف، أو حركة التَّأثير والتأثُّر. وبما أنّ التثاقف جدلية طبيعية في مسيرة الأديان، كان لزامًا أنْ يرفع الإسلام حياده، فيعيد تشكيل هذه العقائد والتّصورات والأفكار الضّاربة في عمق التاريخ، وفق منظور جديد، يصيغ فيه رؤيته للإنسان والكون والحياة، دون أنْ يستوعب تلك المفاهيم ولا يتجاوزها إلى حيث الأفق الإنساني الواقعي، فكل المفاهيم الدينية هي في نشأتها وتطورها مرتبطة بزمانها ومكانها. وهذا ليس طعنًا في مصداقية الدّين أو شرعيته، ولكنّ البحث في طبيعة هذه المفاهيم يفرض علينا في كثير من الأحيان أنْ لا ننجرَّ وراء دعوات عصبية أو مذهبية، تنسينا الإقرار ببعض مستلزمات البحث العلمي الموضوعي ولو جانبَنا الصّواب. كما تفرض علينا طريقة البحث الذي نُلزم به أنفسنا أنْ نقدِّم بين يديه ما يمكن أنْ يكون لبسًا نظريًا أو تعتيمًا حول طبيعة الموضوع المدروس. ولعلّ أهمّ معطىً في هذا الصّدد أنْ نميِّز في الإسلام بين المصدر الأول الذي هو القرآن الكريم، مهْمَا تعدَّدَتْ المدارس في رؤاهم له واختلفت في طرائق تأويله أو تفسيره، وبين كلّ ما أنتجَه العقل البشري من روايات وعلوم وأصول وقواعد.
إنّ هذا التّمييز ضروري من الناحية المنهجية، كما تمّت الإشارة إلى ذلك في بحوث ومقالات متعدّدة، فالأمر يحتاج منّا كثيرًا من العمق المعرفي من النّاحية المنهجية خاصة، ونحن نتناول قضية لها تبعات ونتائج على العقل الدِّيني بشكل عام، وبالتّالي فعملية التَّفريق التّي قُمنا بها وأكَّدْنا عليها في كثير من مواقفنا ستكون لها قيمتُها المضافة، وستكشف بشكل أو بآخر عن البناء المتهافت لكثير من التصوُّرات والعقائد التي بنيت على ثقافة العصر بكلِّ تجلياتها.
اخترنا، لمعالجة هذه الإشكالية، عقيدةً يعتبرها المسلمون بمختلف توجّهاتهم ومنطلقاتهم من العقائد الثّابتة في بنية الفكر العقدي الإسلامي، والمنبنية أساسًا على ثقافة روائية ضخمة، كانت تستمدّ مرجعيتها من الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، وتشحن المسلمين بتصوّرات ومفاهيم عبر أدواتها المعروفة، لعلّ أهمّها علم الرّواية والدّراية. إنّها الشفاعة المحمّدية كما يزعم من كان الكِتاب عنده مجرّد أماني نفس وتطلُّعات نحو تحقيق مبتغياته الدُّنيوية، أو الأخروية لمن يؤمِن بالمفهوم الإسكاتولوجي. والخطير في هذه العقيدة أنّها ستكشف على مدى التناقض الحاصل بين النّظرية والتطبيق في العلوم والعقائد الإسلامية، وستبيِّن بأنّ كثيرًا من المفاهيم الدِّينية هي مفاهيم مسيحية يهودية في قالبٍ إسلاميٍّ.
وستكون مقاربتنا لهذا الموضوع من خلال التصور التالي:
1- القرآن الكريم وإبطال مفهوم الشّفاعة المحمّدية:
قبل البدء في تحليل مستلزمات موضوعنا لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ العلوم والعقائد والأسُس الفكرية، لم تكُن تبنى على قراءة قرآنية منفصلة عن الواقع التّاريخي والجغرافي، بل كانت تؤسَّس في كثير من الأحيان على ثقافة العصر بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. وكان القرآن الكريم مجرّد شاهد على هذه العقيدة أو ذاك التصوّر، عن طريق التّوظيف الإيديولوجي الذي كان يستعمله كل فريق اتجاه الآخر، فلم تكن عقيدة الشّفاعة خارجة عن هذا السياق المنبثق عما قلناه سابقًا، بل جسَّدتْه أحسن تجسيد، وكشفت النّقاب عن الخلل البنيوي في مدارسة مثل هذه العقائد. وبناءً على ذلك سنقوم بدراسة الموضوع رغم المخاطر التي تحف به، معتمدين على القرآن الكريم وفهمنا النّسبي له، وفق قراءة نستحضر فيها البعد الإنساني الواقعي بعيدًا عن الأماني والمثاليات.
إنّ أوّل ما يطالعنا في قراءة هذا الموضوع هو عدم وجود أيّ إشارة حقيقية يمكن أنْ نتلمّسها من خلال القرآن الكريم على صدق هذا التوجّه، بل كان الأمر ينحو منحى النّفي لمثل هذه التصورات جملةً وتفصيلاً. فالشّفاعة ليست لأحد بل هي بيد الله، حسب النص القرآني: "قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا"(الزمر/44)، واليوم المتحدّث عنه بأنّه يوم للشّفاعة المحمّدية هو يومٌ لا تنفع فيه الشّفاعة ولا الخلّة: "وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ"(البقرة/48)، ويقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ"(البقرة/254). وأيّ إقحام لشخصية النّبي محمد، صلى الله عليه وسلّم، داخل النّص القرآني، هو تحريفٌ له بشكلٍ من الأشكال. إذ أوضحت الآيات أنّ الأمر ليس بيد أحد مَهْما كان حجمه أو ماهيته، وأشارت إلى أنّ التماس الشّفعاء وهْمٌ من الأوهام، وسبيل من اعتادت الوسائط أنْ تحلَّ مشكلاته وما يستجدّ من أموره، إذ يقول تعالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَو كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ"(الزمر/43).
وهكذا يقرِّر القرآن الكريم من جديد بطلان نظرية، لا زالت العلوم الإسلامية تحتضنها بقواعدها ورواياتها، ويكشف عن عمق الهوة الحاصلة بين العلوم ومقرّرات القرآن الكريم. وسيبقى هذا الشّرخ الكبير في البنية المؤسِّسة للعلوم ملقيًا بظلاله على كلّ إصلاح لا يستحضر هذا البعد في التعاطي مع هذه القضايا. فالشّفاعة كما قررها القرآن الكريم ضرْبٌ من الأماني الإنسانية المرافقة لمسيرة هذا الكائن، في أيّ مكان أو زمان، عندما تتقطَّع به سبل الاستمرارية أو يصيبه العجز والقصور، إذ يقول تعالى: "هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ "(الأعراف/53). ومن هذه الأماني أنّهم لن تمسّهم النّار إلا أياما معدودات، يقول تعالى: "وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"(البقرة/80).
فالجهل والتستّر يكمنان وراء شفاعة الآخرين من قريب أو من بعيد، ولن ينشئ إنسانًا في بعده الحضاري أو الإنساني القيمي، وإنّما سيبني صورة لإنسان وهْمي صَادَرَ حقَّه الوسطاء والشُّفعاء، وغابت قيمته المضافة داخل المنظومة الكونية، بتمسّكه بسراب سرعان ما ستنكشف حقيقته مهْمَا كان حجم هذا الوسيط أو الشّفيع، فمحمّد نفسه رسولٌ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فكيف يملكها لغيره؟ يقول تعالى: "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"(الأعراف/188).
2- الثقافة الروائية والاستلهام المسيحي:
يبدو من الوهلة الأولى أنّ عنوانًا مثل هذا يحمل بعدًا إيديولوجيًا، أسعى من خلاله إلى ضرب القاعدة الروائية دون أيّ ضوابط أو قواعد، ولكنّ الحقيقة مختلفة عن هذا وذاك، حين ننزل إلى المستوى التطبيقي الذي نرى فيه الأشياء وفق شكلها الأصلي، بعيدًا عن كلّ إطراء أو مزايدة. والهدف الأساسي من النّزول إلى أرضية التطبيق، هو إدراك حجم الهوة التي يمكن أنْ يخلِّفها مفهومٌ في حجم ما نحن بصدد دراسته. ولعلّ أخطر إشكالية تتضمّنها البنية الروائية هي مخالفتها لمضامين القرآن الكريم وتصوّراته في كثير من الأحيان.
والغريب في الأمر أنّ علماء الرّواية والدّراية، والنّاطقين الرسميين باسم هذا العلم، كانوا ولا زالوا يؤمنون بأنّ القرآن الكريم لا يمكن أنْ يكون مخالفًا لما سمّوه سُنَّةً، ومع ذلك ظلّت هذه الأصول والقواعد الحديثية حبيسة العقل التنظيري المشبّع بالأفكار المجردة. ولعل موضوعنا خير مثال على ما أكّدناه سابقًا، من كون البناء المتهافت لنظرية الحديث لم يجد مصداقيته إلا من خلال شرعية مزعومة أحاطتْ نفسها بهالة كان الدين والإنسان أحد ضحاياها الأساسيين.
لكن قبل أنْ نبدأ الحديث عن بعض مظاهر التّناقض الحاصل بين القرآن الكريم والروايات الحديثية، لا بأس من أنْ نضع بين يدي القارئ الكريم تصورًا نرى أنّه من بين الإشكاليات الخطيرة في البنية الروائية، وهو تصور نابع من عمق الأزمة الثقافية الفكرية التي مرّ فيها الفكر الإسلامي، إنها إشكالية التثاقف الحاصل بين مختلف الديانات والمذاهب والتوجهات، ولعلّ الرواية الثقافية التي ضمتها كتب الحديث ونَسَبَتْهَا إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، أحد مظاهر هذه الأزمة، فقد كانت كثير من الروايات تعبِّر بعمق عن هذه الظاهرة المتجلية بشكل واضح لمن يدرس الكتب المقدسة عمومًا.
من هنا نؤكّد على أنَّ مفهوم الشَّفاعة المحمّدية ما هو إلا صورة أخرى لمفهوم الخلاص المسيحي، المؤمِن بيسوع مخلِّصًا للإنسانية من خطيئتها الأولى التي لا تُزَالُ أو تُمحى إلا بالإيمان بيسوع ربًّا، فقد ورد النص التالي في إنجيل لوقا 1/ 69: "وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه. كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا. ليصنع رحمة مع آبائنا ويذكر عهده المقدس. القسم الذي حلف لإبراهيم أبينا أن يعطينا أننا بلا خوف منقذين من أيدي أعدائنا نعبده بقداسة وبر قدامه جميع أيام حياتنا. وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعدّ طرقه. لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء. ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام."
ليس الهدف من هذه الرواية أنْ نبيّن صدق هذه العقيدة من بطلانها، بقَدْرِ ما نريد أنْ نؤكِّد على أنّها أخذت شكلاً آخر في الرواية الإسلامية، مع احتفاظها بالمضمون نفسه للعقيدة المسيحية. وحتى لا يتيه بنا الفضاء النظري بعيدًا، نقرأ الرّواية التالية بما تحمله من تناقضات وتباينات مقارنة بالقرآن، فقد ورد في صحيح مسلم: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومًا بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة فقال أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض وسماك الله عبدًا شكورًا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، فيأتون إبراهيم فيقولون أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى، صلى الله عليه وسلم، فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم موسى، صلى الله عليه وسلم، إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى، صلى الله عليه وسلم، فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى، صلى الله عليه وسلم، إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر له ذنبًا، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى." (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها)
فبنظرة إلى الحديث السابق تتبين جملة من الإشكالات نجملها فيما يلي:
- التّوظيف المغرض للغة قرآنية من أجل تمرير أهداف معينة.
- التّركيز على خمس أنبياء دون غيرهم يوحي بانتقائية مغرضة بالرغم من توفر الأخطاء نفسها بالنسبة لغيرهم.
- توبة الأنبياء السابقين من ذنوبهم لن تجعلها ملتصقة بهم وموضعًا للنَّقص بالنسبة إليهم.
- إقحام الفهم التَّوراتي لقصة إبراهيم في ذكر الكَذبات الثّلاث التي تتناقض مع من وصفه الله بالصديق، وهو نصٌّ مأخوذ من سفر التكوين وصِيغَ في شكْل رواية أسندت إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
- عدم ذكر أيّ خطأ، أو ذنب لعيسى بن مريم في الرّواية، تجعل منه أيضًا أهلاً للشفاعة المذكورة. فلماذا لم يتمّ إسنادُها له إذا اعتبرنا أنّ المانع من تقبُّل الأنبياء لها هو أخطاؤهم؟
- الشّفاعة المحمّدية تتناقض مع نفي القرآن الكريم لها، وعدم تعيين محمّد شفيعًا للمذنبين.
عود على بدء:
كانت الثقافة المسيحية ملهمةً للعقل المسلم بتبنّيها لمفهوم الخلاص، واستطاعت أنْ تشحن المخيِّلة عن طريق القواعد والأصول التي كانت تسمح في كثير من الأحيان بتمرير أيّ إيديولوجية مهْما كانت مخالفة لمقرّرات القرآن الكريم. والرواية الحديثية أحد هذه الأصول التي احتضنت العقائد والتصورات المنبثقة عن آمال الشعوب المستضعفة، والراغبة في العوالم المثالية التي يتمّ فيها التخلُّص من الآثام والذنوب العالقة بالحياة الإنسانية. وهكذا كان مفهوم الشّفاعة المحمّدية أحد مظاهر امتداد الفكر المسيحي في قالب إسلامي، عبْر قنوات معرفية لا زالت تسمح بتمرير تصوّرات مثالية، لا علاقة لها بالواقع الإنساني.