الشوراقراطية أم الديمقراطية التشاورية؟ هوس التأصيل ومشكلة البديل في الفكر العربي المعاصر


فئة :  مقالات

الشوراقراطية أم الديمقراطية التشاورية؟  هوس التأصيل ومشكلة البديل في الفكر العربي المعاصر

الشوراقراطية أم الديمقراطية التشاورية؟

هوس التأصيل ومشكلة البديل في الفكر العربي المعاصر

ينبعث مفهوم الشوراقراطية من شرارة السجال الذي دار حول الشورى والديمقراطية؛ إذ وجد البعض صعوبة في درء مفهوم الشورى والاستعاضة عنه بالديمقراطية، ووجد البعض الآخر حرجا في درء الأخير والاستعاضة عنه بالشورى، فقرر الدمج بين الاثنين في قالب واحد، والحق أنه قد قتل المفهومين معا، ما أدى إلى تعتيم وتضبيب هذا المفهوم المركب، حيث أصبحنا لا نفهم ما معناه، والغاية منه، فلا هو بشورى ولا هو بديمقراطية، وعلينا أن نقتنع أن بين المفاهيم – كما يقول داريوش شايغان – تصدعات وأخاديد لا يمكن تخطيها، وينبغي سدها بوسائل أخرى، غير الوسائل التي نلجأ إليها عادة [1]؛ أي الدمج والمزج، ونفهم من هذا الدمج الفضفاض والركيك شيئا ينبغي الإشارة إليه هنا، وهو أن المفكرين العرب وهم يطارحون قضية المأصول والمنقول يساورهم هوس غريب وعجيب في عقد توافقات وتواؤمات، حيث يبحثون في كل مسألة عن وسط، معتقدين أن الوسط هو الحل، في حين أن الوسطية ما هي إلا أسطورة ابتكرها الفكر المضطرب، فإما أن نحتكم إلى الشورى، وإما أن نعتمد الديمقراطية، ولا وسط بين الاثنين، ولاسيما إذا كان هذا الوسط هو إذابة المفهومين في قالب واحد، فيكون عمل هذا الباحث الذي ينقب عن الوسط شبيها بعمل الحداد الذي يذيب معدنين ليستخرج منهما معدنا جديدا، فيكون هذا الأخير هو ذاته، لا مزيجا بين معدنين؛ فالمعدن الذي تمت إذابته قد انتهى أمده بصنع معدن جديد مكانه. والأمر نفسه مع مفهوم الشوراقراطية، وسنبين كيف أن هذا المفهوم قد وأد مفهومين حيين.

يجب أن نتساءل أولا ما هو المفهوم الحي؟

يعرفه المفكر المغربي طه عبد الرحمن بأنه المفهوم الذي يستند إلى الجانب التأثيلي الإشاري الذي يجس نبض الحياة في الفلسفة والفكر، بدل الجانب الاصطلاحي العباري الذي يجمد حياة الفلسفة والفكر، والتأثيل هو "جملة العناصر الصرفية والدلالية التي تصاحب المعنى الاصطلاحي للمفهوم الفلسفي من غير أن تدخل فيه كمقوم من مقوماته، مثل المدلول اللغوي والصيغة ومضمونها والتقابلات والتلازمات والاستعمالات داخل الحقل الذي يتداول فيه اللفظ الموضوع لهذا المفهوم"[2]. ومنه، لا يجب أن نكتفي بالاصطلاح فقط في مفاهيمنا، بل يجب أن نعود إلى تأثيلها؛ أي إلى العناصر التشخيصية والتشبيهية المتداولة في الحقل الفلسفي العربي. إذن، الشرط في المفهوم لكي يكون حيا هو التأثيل، والشرط في التأثيل لكي يكون ناجعا هو الممارسة، فكيف صك الفكر العربي مفهوما لم يمارسه؟! أهو هوس بالتأصيل فقط دون التأثيل؟

1 . الشوراقراطية وهوس التأصيل:

إن دلالة مفهوم الشوراقراطية لم تأت من خواء وفراغ، بل كانت لها أسباب معينة تثوي وراء تأصيلها وتتوارى خلفها عوامل اجتماعية فئوية تشحن المفهوم بالطاقة الأيديولوجية لما له من فائدة لفئة معينة من المجتمع. والتأصيل في الغالب لا يكون إلا لأسباب أيديولوجية وسياسية، ولا علاقة له بالمفهوم في حد ذاته، إن ما يحدث، إنما يحدث على الأرض، وليس في سماء منظومات المعاني والدلالات. لذلك ننفي جانب التأثيل في الشوراقراطية وندعم جانب التأصيل، وقد تفجر من معين صدام الحداثة بالتقليد، فكانت الدعوة خافتة وباهتة إلى الركون للحداثة ومفاهيمها، والانقلاب على التقليد ومفاهيمه، ولكن هيهات ... هيهات! فذلك ليس بالأمر السهل، فكان الخلط هو الحل، ويكون المفهوم قد اختل.

إن اختلاف البيئة التي أينع فيها مفهوما الديمقراطية والشورى يحول دون المزج بينهما؛ فالديمقراطية ارتبطت بالحداثة والليبرالية، وطرأت عليها مجموعة من التغيرات الداخلية والخارجية التي خلقت منعطفا سياسيا في تيارات ما بعد الحداثة، فانحرف مدلولها على ما كان عليه في بدايته ببلاد الإغريق، وحتى أفلاطون وأرسطو انتقدوها من حيث إنها قرينة الفوضى، فبتنا أمام صورتين للديمقراطية؛ الأولى فضيلة والثانية رذيلة، غير أن الفكر العربي قد اجتر الصورة الأولى دون أن يأبه للثانية، فكان من نتائج هذه النظرة الواحدة أنه وقع فريسة للشعارات المغالية في المثالية والمشتطة في الطوباوية والغارقة في اللاواقعية، فأمسى فكرا حالما ومخبولا ومهترا.

إضافة إلى ذلك، فالفكر العربي الفلسفي قد همش الديمقراطية لمدة طويلة جدا، فظلت كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري من اللامفكر فيه، وحتى المحاولات الشحيحة التي انبرت إلى ترجمتها، كانت ترجمتها محتشمة جدا؛ فالفارابي ترجمها إلى "الجماعية"، وفي ذلك يقول المفكر المغربي: "نسجل بداية أن الحكم الجماعي أو حكم الشعب نفسه بنفسه، تصور كان غائبا تماما عن أفق التفكير السياسي في الإسلام، مما يسمح لنا بالقول إن الديمقراطية بهذا المعنى كانت من اللامفكر فيه"[3]، غير أن غيابها عن التفكير السياسي الإسلامي لا يعني غيابها كقيمة أخلاقية عليا بوصفها الهدف الأسمى الذي يراد بلوغه من خلال تطبيقاتها السياسية شأنها شأن الشورى.

أما مفهوم الشورى، بالرغم من وجود إشارات له واضحة في القرآن الكريم، إلا أنها ليست بذلك الوضوح الذي يجعل منه نظاما متراص الأطراف يمكن اعتماده كنظام سياسي في دولة معينة، وبقي منحسرا في جانب أخلاقي وقيمي، ولا يرتقي إلى مستوى الممارسة السياسية، فضلا على أنه مسكون بروح الدين الإسلامي، ويخضع لمبادئها وضوابطها، ومهما قلنا إن الإسلام قد ترك الحرية للمسلمين للتصرف فيه، فإن هامش الحرية فيه ضيق جدا؛ وذلك لأن الشعب يغيب فيه كعنصر أساسي للحرية. ولهذه الاعتبارات، فإن الدمج بين المفهومين لطرافته فإنه من العبث والجنون، زيادة على أن التوافق لا يمكن أن يلمس جوهر المفهومين، لكنه ممكن عرضا، والعرض متغير عكس الجوهر، فلا يعتد به ولا يحتكم إليه في المفاهيم. وعليه، فإن ما نحتاج إليه حقا هو فهم ما نريده وما نبتغيه وما نرتجيه، ولا يجب أن نسمح بتوغل العاطفة إلى صميم فهمنا لما نريد، وتجاوزا للركاكة والفضاضة في مفهوم الشوراقراطية، أقترح مفهوما آخر رغم "غربيته" إلا أنه قد يعبر حقا عما نريده، هو مفهوم الديموقراطية التشاورية.

2 . الديموقراطية التشاورية ومقترح البديل:

استلهمت نموذج الديمقراطية التشاورية من الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، صاحب النظرية الاجتماعية والنقدية وأحد الأقطاب البارزة في مدرسة فرانكفورت، يوصف بأنه فيلسوف التواصل؛ لأن فلسفته الاجتماعية كانت مرتكزة على هذه التيمة، وشيدت مختلف أفكاره على متنها، والتواصل عنده هو "التفاعل بين ذاتين قادرتين على الحوار ويلتزمان بعلاقات شخصية (بالألفاظ والكلمات والجمل) والتواصل يتم صياغته على أساس نظري لا ينفصل عن نظرية المناقشة القائمة على التبرير، فالتواصل والتبرير هما أساسا الفعل التواصلي"[4]، وقد لاحظ هابرماس أن التواصل والنقاش والحوار أو ما يسميه بالتذاوت هو الدواء لكل داء اجتماعي متمثل في الصراعات والنزاعات، والتي يسميها أكسيل هونيث بالأمراض الاجتماعية، وعلى هذا الأساس تقوم الديمقراطية عنده؛ إذ إنها مرتبطة بنظرية المناقشة والحوار التي لا تنفصل في حد ذاتها عن التواصل، وفيها يتفق المتحاورون على التنسيق بين برامج عملهم؛ وذلك من خلال التفاعلات التي تتم بينهم، والتي تمنحهم حرية التعبير عن أفكارهم وانتماءاتهم الثقافية والعرفية.

ويكتسي التواصل عنده طابعان؛ طابع تقييمي وطابع تجريبي. فأما الأول، فيعتبر أن العلاقة التواصلية تعتمد على قيم أخلاقية ثابتة يمكن الاتفاق عليها، وأما الثاني فيتجه إلى أن هذه العلاقة تنبع من تجارب تعبر عن الواقع المعيش. وتتوطد الديمقراطية عند هابرماس كلما ارتبطت بالفضاء العمومي، وهو الميدان الذي يجتمع فيه المواطنون لتبادل الآراء والإدلاء بالمواقف ومناقشة ونقد القضايا السياسية، فهذا المجال العام لم يكن جزءا من المجتمع المدني فحسب، بل وسيطا بين هذا المجتمع والدولة، يتحقق بموجبه التواصل الفعال. أما إذا تدخلت السلطة لقمع تواصل المواطنين بوسائل أيديولوجية تجعل الاتفاق بينهم اتفاقا مزيفا لا يستكن إلى شرعية عقلانية، وهو ما يسميه بالتواصل المشوه، وقد أدى هذا النوع من التواصل إلى اضمحلال المجال العام وتلاشي الرأي وتبديد المواقف، ومن ثمة تغييب الحوار وحجب سبل المناقشة.

إذن، فالديمقراطية عند هابرماس هي التي تقوم على التشاور والتحاور والمناقشة والتواصل والتفاعل من أجل صياغة آراء تحوز اتفاق الجميع مع تلافي كل شكل من أشكال الصراع والنزاع، ويتأسس كل هذا بدوره على أسس صلدة قوامها المحافظة على القيم الثقافية والأخلاقية.

ونجد أن الديمقراطية التشاورية تضارع مفهوم الشورى في الإسلام، لكنها ظلت من اللامفكر فيه في الفكر العربي المعاصر؛ أي إنها لم تؤصل كما تم تأصيل مفهوم الشوراقراطية أو مفهوم الديمقراطية، لاسيما أنه مفهوم يفرض نفسه اليوم بشكل كبير في البيئات التي تعيش على وقع الصراعات والفوارق، ولا نستثني البيئة العربية من هذه البيئات، فبات من الضروري من هذا الجانب منح أكبر قدر من الحرية للمواطنين للمشاركة السياسية الفعالة في إبداع مواقف وآراء قد تنجم عنها خطط واستراتيجيات تنتفع منها الدولة، وهذه دعوة إلى عدم احتكار سلطة القرار من طرف فئة معينة، بل إن السلطة يجب أن تكون محط تداول، وإلا ستكون الفوضى هي مصير كل دولة قائمة على التسلط والاحتكار والقمع، والتاريخ يشهد أن الحكومات التي همشت المواطنين قد أفلت واندحرت واضمحلت، وهذه حتمية تاريخية لا مناص لكل حكومة ظالمة منها.

وفي الديمقراطية التشاورية نميز بين مفهومين: مفهوم الديمقراطية الذي نحتفظ بتعريفه الذائع: "حكم الشعب نفسه بنفسه"، ومفهوم التشاور الذي يعني التواصل والتفاعل والتداول بين المواطنين في إطار فضاء عمومي يسوده مناخ من التوافق والحوار العقلاني من أجل اقتراح خطط أو نقد سياسة أو الإدلاء برأي، إلا أن هذا التشاور لا يكون إلا من خلال التشارك، والتشارك لا يكون بالتعارك، بل يتحقق بنسج علاقات مع الآخرين بمحيد عن الفوارق والاختلافات الدينية والطبقية... كما أن التشاور والتشارك لا يكونان إلا بالتحرر من الربقة المفروضة من الداخل ومن الخارج، كالعداوات والحزازات داخليا، وكالقمع والتشنيع والتعيير والأدلجة والتضليل والتزييف خارجيا؛ أي من سلطة تفرض رقابتها من الخارج، فتتلصص من حقوق المواطنين وتتجسس على خصوصياتهم الفكرية والثقافية التي من المفروض أن تذاع في الفضاء العمومي، وهنا نكتشف ديمقراطية جديدة هي التي يسميها آلان تورين بالديموقراطية التحررية؛ إذ يقول في ذلك: "لم نعد نريد ديمقراطية تشاركية، ولم يعد بوسعنا أن نكتفي بديمقراطية تشاورية. إننا بحاجة إلى ديمقراطية تحررية"[5]، وهي نظام يسعى إلى تعزيز دور المواطن في السياسة وتمتين وظيفته الاجتماعية، بيد أنه قبل ذلك، لكي تتحقق هذه الديمقراطية في الوطن العربي وجب أولا وقبل كل شيء أن يكون لدى المواطنين ثقة كبيرة في أنفسهم وقدراتهم على التحرر، فهي لا يمكن أن تنجح مع مواطن مهدور وهش ورخو يستسلم للعبودية وينصاع لها، لذلك يقول برهان غليون أن "الديمقراطية تطرق باب المجتمعات العربية، وهي في حالة من الخراب الشامل الذي يمس معنويات سكانها وإيمانهم بأنفسهم وثقتهم بقدراتهم، كما يمس مؤسساتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية والعسكرية وأنماط السلوك والعمل والتفكير والمعرفة التي تسود فيها".[6]

[1] داريوش شايغان، النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا، دار الساقي، لندن، 1991، ص 39

[2] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2006، ص 92

[3] د. محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1997، ص 71

[4] أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورغن هابرماس. الأخلاق والتواصل، دار التنوير، بيروت، 2012، ص 188

[5] آلان تورين، ما هي الديموقراطية، حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية، ترجمة: حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت، ط 3، 2016، ص 17

[6] برهان غليون، بيان من أجل الديموقراطية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 5، 2006، ص 11