الصداقة باعتبارها أفقا للعيش المشترك
فئة : مقالات
"يبدو أن الطبيعة لم تُجهزنا لأمر من الأُمور بأفضل مما جهزتنا للصحبة"
ميشيل دي مونتين
إن من دلائل تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وجوده في جماعات إنسانية، يتفاعل معها، ويسعى دوما للحفاظ على المشترك الذي يجمعه بها، ومن المؤكد أن هذه الحاجة للعيش معا، فرضتها الطبيعة منذ أن وجد الإنسان الأول، وارتبطت في العديد من المحطات بالدين؛ فكل المحاولات الأولى التي قام بها الإنسان الأول؛ لربط علاقات الصداقة كانت تهدف بالأساس إلى مواجهة قوى الطبيعة، لكن مع هذا التطور الذي شهدته البشرية -وهو مسار طويل- أضحى العيش المشترك حلاً وضرورة ملحة ليس فقط سدا منيعا لمواجهة مخاوف الطبيعة ومظهرا من مظاهر التدين (الدين الطوطمي مثلا...)، وإنما حلّاً لمواجهة الإنسان نفسه، في الوقت الذي اتسعت فيه هوة الخلاف بين بني الإنسان، إذ لا يزال الإنسان المعاصر، يرمي لبناء العيش المشترك لتفادي الحروب والدمار الذي تسببه النزاعات الإنسانية، والتي غالبا ما تنتهي بالمآسي، وهذا ما يهدد إنسانية الإنسان.
التعايشُ هو الحل الأمثل لتجاوز جملة من التصدعات التي تعيق مسألة التفاعل بين الناس، والتي تتبلور في غالب إلى صراعات
إننا اليوم في حاجة ماسة إلى صداقة ذات بُعد كوني تتجاوز الحدود بكل أشكالها، حتى نستطيع العيش المشترك بين بني البشر، وهذا طبعا لن يتحقق إلاً إذا غض كل منا الطرف عن الجزئيات التي تصرفنا عن الهدف الأسمى الذي يتلخص في السعادة الإنسانية، وهذا ما ينقلنا من التشتت إلى التوحد، ومن الأنا إلى النحن، فما الحاجة إلى الصداقة؟ وما دورها في تحقيق العيش المشترك؟
1: نحو صداقة كونية:
إن العالم اليوم في أمس الحاجة إلى بناء المشترك، لضمان الأمن والاستقرار في المجتمع؛ فالتعايشُ هو الحل الأمثل لتجاوز جملة من التصدعات التي تعيق مسألة التفاعل بين الناس، والتي تتبلور في غالب الأحيان إلى صراعات عويصة يصعب رصد تطوراتها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ الصراعات الدينية سواء من داخل الدين نفسه كالسجالات التي وقعت إبان العصور الوسطى ما بين الكنيسة الكاثوليكية والعلم، أو تلك الحروب التي نشبت بين المذاهب الدينية كالصراع بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية....، ولنا في التاريخ العديد من المشاهد والصور التي تظهر حجم الصراعات، وما أحدثته على المستوى الفردي والجماعي، وما أعقبها من تباعد وجداني بين الناس، ضاربا عرض الحائط كل دعوى المشترك الإنساني...
وإذا ما نظرنا إلى مسار تعايش الإنسان في المجتمع الإنساني، نجده غير بريء في مجمله، خاصة وأن العديد من العلاقات بين الإنسان قائمة على بعض أشكال المكر والخداع للوصول إلى مصالح معينة، بمعنى أن الإنسان "لن يعيش طويلا في مجتمع إذا لم يكن بعضهم خديعة بعضهم الآخر"[1]، وربما هذا ما دفع سارتر للقول بأن الآخر هو الجحيم، وبغض النظر عن إمكانية خلو الصداقة من الخديعة من عدمها، فإننا نجزم القول بأن الإنسان لا يقوى على العيش دون الآخرين، ولن يعمر طويلا دون اتخاذ الأصدقاء والأخلاء الأمر أشبه بالصداقات الدبلوماسية في سياسات الدول لما يجمع بينهم من مصالح تجعلهم يتجاوزون كل الاختلافات لبناء علاقاتهم السياسية، فحياتنا إذن رهينة بالصداقة مع الآخرين. فلا يمكن أن أعيش في منآى عن الآخر، وبهذا المعنى ترقى بنا الصداقة إلى درجة الوعي بذواتنا وبالعالم حولنا، أي: أنها تجعلني أتعقل ذاتي وأشعر بالأمن والسلم، وهذا مبلغ العيش المشترك...
منذ فجر التاريخ والإنسان في بحث مستمر عن تحقيق الذات ولو على حساب الآخر، إذ تسيطر عليه رغبة جامحة في السلطة والاستيلاء على حقوق الغير، حتى تأتى له الإدراك بأهمية الآخر، ودوره في صناعة المشترك، وأنه في حالة ما إذا انعدم هذا الوعي بقيمة المشترك هنا يستحيل تحقيق التسامح والتعايش مع الآخر الذي يختلف عنه، ومنه فالعيش المشترك بات من الحلول التي يتوجب تحقيقها في المجتمع المعاصر، للحيلولة دون اتساع هوة الصراع في أبعاده المختلفة الديني والفكري ...
تحذو الإنسان إذن رغبة في أن يكون ذاتا حرة، ومشيا على طرح كانط، فإن الإنسان يولد ذاتا متطلعة إلى الحرية، غير أن هاته الحرية، لا يمكن إطلاقها في واقع اجتماعي، لأن بناء المشترك الإنساني، يفرض علينا التخلي عن مجموعة من المُيولات والنُزوعات لأجل هذا المشترك، فصداقاتنا وعلاقتنا بالآخرين هي في الحقيقة تنازل منا عن أحب الأشياء إلينا، فكوني أرغب في أن أعيش متعايشا مع الأنا الذي ليس أنا، معنى ذلك أنني أؤمن إيمانا صادقا وراسخا في أنني أرى فيه حماية وجُنة، من كل مكروه قد يصيبني.
2: في الحاجة إلى الصداقة:
تشكل الصداقة إحدى أهم مظاهر الرقي في العلاقات الإنسانية، باعتبار الإنسان وحده القادر على ربط صداقات مع غيره من البشر، كما أنه هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يُحب، لدى؛ هو الوحيد الجدير بالصداقة، وإذا كانت السعادة تتمثل في الخير الأسمى للإنسان، بمعنى العيش الهنيء والحياة الناجحة، فإنها في نهاية المطاف تكون نتيجة لصداقة أساسها الفضيلة، بمعنى أنها تنعدم فيها أدنى شروط النفعية، وبالتالي يعم فيها "حب الخير للغير"، وطبعا لن يتحقق هذا المسعى -حب الخير للغير- في معزل عن الصداقة المؤسسة على الفضيلة، باعتبارها تجربة وممارسة؛ أي إنها تعاش، فالكائنات الإنسانية تشعر برغبة قوية في الانفتاح والتفاعل فيما بينها لتبادل الوشائج وذلك من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين، وفي نفس السياق، يرى أرسطو أن الصديق "هو من يعيش معك، والذي يتحد وإياك في الأذواق، والذي تسره مسراتك وتحزنه أحزانك"[2]، وبمقتضى هذا الحال، تتبوأ العلاقة مع الغير مكانة مهمة، باعتبارها أساس الوجود البشري.
إن الإنسان باعتباره كائنا اجتماعيا، فإن نزوعه نحو الصداقة وربط العلاقات مع الأقران يعد أمرا بديهيا، لإرضاء كيانه من جهة، وسد رغباته النفسية، والروحية، والاجتماعية من جهة ثانية. ومنه تعد الصداقة عنصرا جوهريا في تصور الخير الأسمى، وهي بذلك تسعى لبناء العيش المشترك بين الناس، بما هي توسط بين حدين متقابلين هما العطاء والتلقي، بعيدا عن الخلافات في شتى ضروبها، فالصداقة بمعنى آخر هي قبول واحتواء للاختلاف، وإن لم يتحصل لنا هذا الوعي والنضج المتمثلين في قبول الاختلاف، تندثر قيمة الصداقة، ويدب فيها الخواء، لأن هذا الأخير "يمثل أساس أقوى للصداقة" حسب تعبير كانط.
لن يتأتى لنا إدراك أهمية الصداقة إلا باعتبارها قيمة أخلاقية؛ فالصداقة تسعى لسد النقص الذي يعتري الإنسان، أثناء وجوده منعزلا عن الآخر. إنها بمثابة الكمال الروحي للإنسان. فحاجة الإنسان إلى الحب وإلى الصداقة هي حاجة ملحّة تتجاوز تلك الحاجات البسيطة المتعلقة بالمأكل والملبس، قيل لصوفي: "من الصديق؟ قال: من لم يجدك سواه، ولم يفقدك من هواه"[3]، فكلما أعرض الإنسان عن ربط علاقاته بالآخرين، إلا وأصبح -كما يشبه ذلك هوميروس- من دون عشيرة ومن دون قانون ومن دون قلب هو. وهنا نعيد السؤال الذي طرحه شوبنهاور، من أين تأتي الحاجة إلى المجتمع؟
قد نلمس هذا الاهتمام بموضوع الصداقة في الفلسفة والأدب منذ الإغريق إلى يومنا هذا، مع بعض التراجع منذ العصر الوسيط جراء عدة أسباب؛ منها تنامي النزعة الفردية، وحب التملك الذي شاع آنذاك، بالإضافة إلى الدين المسيحي الذي فيه ما فيه من الحث على التوجه إلى الله، خاصة مع التصوف المسيحي...
إن الإنسان المعاصر أحوج ما يكون إلى الصداقة، بالنظر لراهنية الوضع المعيش الذي يملؤه التنافر والصراع، والخوف من الآخر، وطبعا هذا كله يسهم في تعطيل دينامية العيش المشترك بين الناس؛ فالإنسان أحوج ما يكون إلى التوافق مع ذاك الأنا الذي ليس أنا، وهي صيرورة لتدبير الاختلاف من أجل بناء المشترك. تساءل شيشرون مرة "عمن يمكن أن يكونوا صدقانا وأخلاء، ثم يجيب بأن الصداقة تكون عادة بين الطيبين الأبرار، فإذا أنت استطعت أن تقنع نفسك، بأن لك صديقا فأنت قد تحسب نفسك رجلا طيبا أو امرأة طيبة، وليست الصداقة لهؤلاء الذين ليسوا طيبين"[4]، ومنه فالطيبون حسب شيشرون هم وحدهم من يتمتعون بخوض غمار تجربة الصداقة، وليست الصداقة إلا تعبيرا عن الطيبة والأخلاق العالية التي تسم بعض الناس. ولهذا هي ليست للعامة، وإنما لخاصة من الناس الطيبين.
لقد تشكل هذا الاهتمام الواسع بالصداقة من قبل الفلاسفة والأدباء، لما لها من تأثير على الطبيعة الإنسانية، ولما كانت السعادة إحدى الغايات الكبرى التي تهدف الصداقة إلى تحقيقها، فإن ذلك يعد ضرورة يقتضي العمل على تحقيقها لحاجة الإنسان إلى أن يحيا سعيدا، خاصة إذا استحضرنا الصداقة كقيمة أخلاقية من خلالها يمكن تحقيق النمو الإنساني، وبالتالي بناء المشترك الذي يحترم خصوصيات الإنسان في طابعها الكوني.
3: الصداقة والعيش المشترك:
الصداقة باعتبارها علاقة أُنطولوجية يطبعها الخُلود، فهي تحظى بالأهمية الكبرى لدى الإنسان، فتقدم المجتمع يقاس بمدى احترام أفراده لبعضهم البعض كما أن المجتمع السوي هو الذي يكون أهله على درجة عالية من التوافق والانسجام، وهذا يتطلب وعيا بشروط الصداقة التي تحترم إنسانية الإنسان بعيدا عن كل أشكال النفعية والمادية، فالناس الصالحون "لا يحتاجون إلى أصدقاء نافعين، بل هم في حاجة إلى أصدقاء صالحين، لأنهم بحاجة إلى رفقاء من نوع ما"[5].
لقد شاع القول الأرسطي الشهير بأن "الإنسان كائن اجتماعي"؛ بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في معزل عن الآخرين، يؤثر فيهم ويتأثر بهم، وطبعا هذا الأمر يمد جسور التواصل والحوار بين بني الإنسان، فهذا النزوع الذي يطبع السلوك الإنساني للعيش المشترك هو ما يعزز قابلية الإنسان، لأن يربط علاقات صداقة مع المحيطين به، لدى نجد الفلاسفة اليونانيين والهلنستيين يرون أن هناك ارتباطا بين الحياة الصالحة والسعادة، فبالأولى تتحقق الثانية، والاثنان يجتمعان في الصداقة، فالسعادة ليست بالمال ولا بالصحة ولا حتى المعرفة، إنما تتحقق بفضل الصداقة.
يرى أرسطو أن الصداقة تقوم في الأساس على "المساواة في المكانة الاجتماعية، حيث يتبادل الأصدقاء الخدمات ذاتها أو يتعاوضون مزية بأخرى، ويقرر أن الناس لا يصيرون أصدقاء عندما تتفاوت مراكزهم، وعندما تتسع المسافات بينهم، من جهة الفضيلة أو الثروة أو أي شيء آخر"[6]، كما أنه قد قسم الصداقة إلى صداقة نفعية، وصداقة المتعة، وصداقة الفضيلة.
إن الصداقة التي تكون مبنية على ما هو نفعي سرعان ما ينفذ إليها الزوال، لأنها صداقة عرضية، بمعنى أنها فقط لحظية عابرة، فضلا عن صداقة المتعة التي بدورها تختفي بانتهاء المتعة التي تحصل لدى الفرد، وهنا تتعزز الحاجة إلى صداقة الفضيلة، باعتبارها مؤسسة على الخير الأسمى، أضف إلى ذلك أنها بشكل عام تبقى في حاجة إلى المحبة، فهي -الصداقة- حسب تعبير أغسطين (عش المحبة)، وهذا ما يجعلها قيمة خلقية، لأنها في الأصل علاقة روحية تستمد قواها من الفضيلة كمصدر أساسي ومهم. وفي نفس السياق، نجد شيشرون في محاورة الصداقة يقول: "إنها الفضيلة، الفضيلة، أقول لك يا قايوس، وأنت يا كوينتس ما كيوس، هي التي تكسب الصداقة وتحفظها، لأنها مصدر القوة التي تجعلنا نتكيف مع الظروف، وهي الإخلاص والانسجام"[7].
انسجاما مع وجهة نظر شيشرون، يمكن اعتبار أن الصداقة تكون بين الطيبين الأبرار، فالذين يعترفون بوجود حاجة تدفعهم لربط علاقات الصداقة مع الآخرين، هم في الحقيقة أناس طيبون.
وعلاوة على ذلك، يمكن القول إن العيش المشترك بين الناس هو ستر لتلك العورة التي تكون عليها شخصية الإنسان قبل أن يخوض تجربة الصداقة. كما أننا بهذا العيش المشترك نتحدث عن المجتمع، ويحصل الرقي لدى هؤلاء الناس لمواجهة تكاليف الحياة في شتى أشكالها، وهنا تذوب الفوارق والاختلافات؛ فالصديق الحقيقي هو الذي يتقبلني بعيوبي...
لقد استطاع الإنسان منذ فجر التاريخ أن يعي ذاته ووجوده من خلال تفاعله مع المحيط، والاحتماء بالأصدقاء لمواجهة الأخطار التي تهدد حياتهم، لذا يعتبر كل الفلاسفة أن الصداقة هي مصدر مباشر للسعادة، فهي الشرط أساسي لتحقيق السعادة، ولا تتوقف الصداقة في الحدود الفردية، بل تتعدى ذلك إلى نشر قيم التسامح والخير وتحقيق الاحترام الاجتماعي، وعليه لا نستغرب لشيشرون الذي أنهى حواره حول الصداقة بالرجاء التالي "أرجوك أن تبني أساسا للفضيلة، التي لا يمكن للصداقة أن توجد من دونها، لأنه لا يوجد أيّ شيء أفضل من الصداقة في هذا العالم"[8].
يمكن النظر إلى الصداقة، باعتبارها نموذجا لحضور الآخر كمصدر إلزام وتلقين خارجي حسب إيمانويل ليفيناس، فالصداقة ليست منة من الذات "إنها استحقاق أو حاجة يولدها النقصان، حيث تستمد الذات من الآخر كل ما يتعذر عليها تحصيله بنفسها"[9]، إن هذا التكامل بين الأنا والآخر في علاقة الصداقة هو ما ينقلنا إلى التفكير في كل ما من شأنه أن يحقق العيش المشترك بين الناس، ويبعدنا من خطر الأنانيات المفرطة، التي لا تؤدي سوى للتنافر والصراع الذي يتهدد العالم من حولنا، وهذا ما يؤكد "وجاهة التعويل على الصداقة كمقصد إيتيقي يستعيد المساواة والتبادلية بين الأنا والآخر، ويقر الرغبة المشتركة في العيش معا"[10].
"إن اللقاء بالآخر هو ضرب من اللقاء مع "اللامتناهي" الذي يوجد في نفسي دون أن أمتلكه أو أن أعرفه، ولا يسعني إلا أن أتشوق إليه"[11] وبهذا الاعتبار نجزم جزم يقين أن الصداقة هي بمثابة المنبع الأساسي الذي يقوي العلاقات الاجتماعية، التي تقوم على قيم الحب والاحترام المتبادل بين شخصين أو أكثر، وهي بهذا المعنى تضمن للإنسان العيش المشترك، وهذا لا يحدث إلا إذا حصل نوع من التناغم والتوافق بين الأصدقاء، ومنه فالصداقة هي تلك السمة التي تطبع تقدم المجتمع، وتخلصه من القبح المستشري...
وبهذا المعنى، تصبح الصداقة "اتحاد بين شخصين يجري بناء على احترام ومحبة متبادلين، وبالتالي يمكن للفرد أن يرى فيها مثالا توحد فيه الإرادة الخيرة أخلاقيا بين الشخصين بالتعاطف والمحبة المشتركة...حتى إن الصداقة بين الناس هي واجبنا، باعتبارها أسمى شعور متبادل. وهذا ليس واجبا عاديا، بل واجب شريف يقرره العقل. ومع ذلك، تبقى الصداقة الكاملة مجرد فكرة، لكنها على رغم ذلك ضرورية، من الناحية العملية غير قابلة للتحقيق في أية محاولة نقوم بها"[12].
إن الصداقة باعتبارها علاقة إنسانية، فإنها تمثل أعلى درجات رقي الإنسان ووعيه بمدى حاجته للآخرين، لتبادل مشاعر الحب، وللتعاون بينهم، ومن هنا بدأ التفكير في بناء مشترك إنساني، بدل المساهمة في نشوب الحروب والصراعات الطائفية التي لن تزيد الإنسان سوى تفشي الأحقاد وزرع الفتنة، وبالتالي فالتواصل الذي حصل بين الإنسان هو في الحقيقة تأكيد على قيمة مبدأ العقل الذي استطاع في الأخير تغيير وجهة الإنسان من الصراع إلى التوافق والانسجام.
4: العيش المشترك مسعى إنساني:
إن مطلب العيش المشترك يعد غاية ملازمة للإنسان، ومسعى لا يمكن الاستغناء عنه لما له من أهمية بالغة، في تحقيق الأمن الاجتماعي، ومن هنا نكون مجبورين بالفطرة على اتخاذ الأصدقاء لسد النقص الذي يعترينا في الكون، فكل الدراسات القديمة تجمع على أن الإنسان الأول نشأ في الطبيعة في إطار عشائر وجماعات، متوافقين في اللغة والدين والقانون، لذا يكون من ضرب الخيال اعتبار مطلب العيش المشترك وليدا لما بعد الحروب والصراعات التي عرفها الإنسان القروسطوي.
يتطلب بناء المشترك من الأفراد التنازل عن النزوعات الشخصية، والأهواء الفردية، إلى ما هو شامل يجتمع حوله كافة الناس
لقد تحقق للإنسان مسعى التعايش ولو بشكل نسبي، إما في شكل معاهدات إقليمية أو دولية، فالإنسان في ماهيته قابل للتعايش، فحينما يُسأل الإنسان عمن يكون، فهو بذلك يضع نفسه أمام الآخرين، وبالتالي "كي ندخل في باحة التعايش علينا أن ننتقل من السؤال "ماذا" (الخاص بالأشياء) إلى السؤال "من" (الخاص بالكائن الذي من جنسنا)، هذا الخروج من شروط ظهور نمط مخصوص من الكينونة هو الذي يميز البشر، وهو ما يسميه هيدغر باسم "الوجود"، الأشياء من حولنا "تكون" لكنها لا "توجد" ولذلك تمة مشكلة "تعايش" بين الأشياء، وحدهم البشر قادرون على التعايش أي على "الوجود"، فـكل من يطمع في التحلي بماهية أو هوية تفصله عن بقية الإنسانية، هو غير قادر على أي تعايش....وبتعبير هيدغر: الآخرون ليسوا فقط يكونون أيضا، بل هم يوجدون معنا..."[13]
إن بناء المشترك يتطلب من الأفراد التنازل عن النزوعات الشخصية، والأهواء الفردية، إلى ما هو شامل يجتمع حوله كافة الناس، "يرى السيد لوبون، أن المكتسبات الفردية تضمحل في إطار الجمهور، وتزول معها الشخصية الخاصة لكل واحد من أفراده"[14]؛ أي إن الفرد يصير قابلا للآخر غير مكترث للاختلافات والفروق الشخصية، خاصة المتعلقة بالجانب الأخلاقي والثقافي، ومن هذا المنطلق يمكن قبول فكرة أن "المجتمع والأخلاق يذهبان ضد الطبيعة الإنسانية، فهما يفرضان قواعد الحياة المشتركة"[15]؛ ذلك أن ضرورة العيش المشترك تفرض التواضع على قواعد وقوانين تخدم الإنسان كوحدة، وليس كأفراد لهم خصائص مختلفة.
إن الحاجة إلى المشترك تبررها تنامي حِدّة الصراع بين أفراد المجتمع، فمتى وجد الإنسان يوجد الصراع، فحتى في الحالات التي نعتقد فيها أننا نعيش حالة من التوافق والعيش المشترك، يتشكل الصراع في برهة من الزمن، ويأتي في أشكال مغايرة تماما لما عهدناه في الماضي. ولأننا في عالم تغلب فيه المصالح الفردية، لا نستغرب للحالة التي أصبح عليها المجتمع من مظاهر التفكك والصراع، لكن وفي ظل هذا المشهد المشمئز نجد العديد من الأصوات التي تنادي بضرورة بناء حضارة موحدة، خاضعة لقانون أخلاقي كوني. ويعني هذا أن "المجتمعات والأمم المتباينة يمكن أن تشارك في حضارة عالمية واحدة بقدر سعة الانفتاح والتبادل مع سائر العالم، مع احتفاظها بثقافتها الخاصة"[16].
إن أول خطوة وجب القيام بها لإرساء معالم العيش المشترك، هي تعليم الناس ووعيهم بالحقوق والحريات التي يتشاركون فيها فضلا عن تنمية ملكة قبول الاختلاف، على اعتبار أن قبول الاختلاف يعد لبنة أساسية في صرح التعايش بين الإنسان.
من منّا من لا يحلم بعالم يعمه السّلم والأمن، خال من الصراعات والحروب، قابل لاحتواء كل الآراء والأفكار والعقائد وغيرها. إلا أن هذا الحلم يصعب تحقيقه في الواقع المعيش، فما دمنا نؤمن بثقافة المشترك الإنساني، الذي فيه من مظاهر التوحد والانصهار والتعايش بين بني البشر، فنحن في الطريق الصحيح، لأن العيش المشترك فيه من الشروط الكفيلة بخلق عالم يؤمن بإنسانية الإنسان ولا يتشبث بالاختلافات في الرؤى[17].
فحتى الحروب التي نشبت باسم الدين، قامت على أفكار لا أساس لها من الصحة، ذلك أن كل الديانات في روحها وعمقها تهدف إلى الجمع بين الناس لا التفريق بينهم، والقرآن الكريم في العديد من الآيات يكشف لنا عن هذه القيمة التي يحظى بها الإنسان، وأن الغاية المنوطة بالإنسان هي الانفتاح على بني جلدته، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[18]؛ فالأحرى بالإنسان، أن ينفتح على كل الناس، دون التنقيص من أحد، وإلا ستزداد حدة الصراع والكراهية.
إن غاية المشترك الإنساني هي تحصيل قدر كاف من التعارف والحيلولة دون وقوع الصراعات، وذلك بالبحث عن ما يشترك فيه عامة الناس، فما أحوجنا اليوم إلى فكر منفتح يمد جسور التواصل بين الناس.
خاتمة:
على الرغم من الوثبة الحضارية التي عرفتها الإنسانية، وما ساهمت فيه من تحولات عميقة رفعت من قيمة الإنسان، وجعلته سيدا على غيره من الكائنات الأخرى، خاصة في زمن الذكاء التقني، فتحقق له ما نشدهُ من حضارة وعِمارة، إلا أنه لم يفلح في تحقيق الأهداف الأخلاقية، باعتبارها الثوابت التي بها يتشكل البناء الإنساني الفعلي، فكان له أن يعْرِض عن أحقية الإنسان الآخر في ما يعتقدُ أنه صار ملكا له، وبدل التفكير في العيش المشترك، تنصل لكل الأواصر التي تربطه بالغير، مما أشعل فتيل الحرب في شتى أشكالها.
لقد ظل الإنسان السبيل، ولم يول الأهمية لما هو إنساني، فحدث أن تنامت الأحقاد وأضحى الإنسان يعيش في علاقاته نوعا من الغربة والوحدة، التي تدفع به، إما لإشهار السيف في وجه أخيه الإنسان، وإما عزمه على الانتحار في أحلك الحالات، هروبا من واقع يعرف العديد من أوجه الخلاف، وبالتالي تتبلور الحاجة إلى إعادة النظر في بعض القيم الأخلاقية التي تؤسس لحياة مشتركة كما هو الحال بالنسبة إلى الصداقة...
[1] الصداقة قيمة أخلاقية مركزية، ميشيل متياس، عالم المعرفة، 2017، ص264
[2] الحياة المشتركة، تزفيتان تودوروف، ترجمة منذر عياشي، المركز الثقافي العربي 1995، الطبعة الأولى، 2009، ص18
[3] الصداقة من منظور علم النفس، أسامة سعد أبو سريع، عالم المعرفة، 1993، ص14
[4] الصداقة والصديق، أبو حيان التوحيدي، To PDF: http: //www.al-mostafa.com
[5] مجلة الرسالة، العدد 649/من أدب الرومان، ربيع شاعر.
[6] الصداقة قيمة أخلاقية مركزية، ميشيل متياس، عالم المعرفة، 2017، ص102
[7] الصداقة من منظور علم النفس، أسامة سعد أبو سريع، عالم المعرفة، 1993، ص16
[8] الصداقة قيمة أخلاقية مركزية، ميشيل حنا متياس، عالم المعرفة، 2017، ص110
[9] نفسه، ص 115
[10] المسألة الإيتيقية من خلال كتاب بول ريكور عين الذات غيرا، سامي الغابري، دار الخليج، الطبعة 1، 2016، ص134
[11] نفسه، ص 134
[12] الهجرة إلى الإنسانية، فتحي المسكيني، منشورات ضفاف، دار الأمان الرباط، 2016، ص43
[13] الصداقة قيمة أخلاقية مركزية، ميشيل حنا متياس، عالم المعرفة، 2017، ص215
[14] الهجرة إلى الإنسانية، فتحي المسكيني، منشورات ضفاف، دار الأمان الرباط، 2016، ص ص 40-41
[15] علم النفس الجماهير وتحليل الأنا، سجموند فرويد، ترجمة جورج ترابيشي، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى، 2007، ص ص 27-28
[16] الحياة المشتركة، تزفيتان تودوروف، ترجمة د: منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، ص16
[17] صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، الطبعة 2، 1992، ص21
[18] سورة الحجرات، الآية: 13