الصراطات المستقيمة: الصواب في التعدديّة الدينيّة
فئة : قراءات في كتب
الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية
عبد الكريم سروش، ترجمة أحمد القباني، بيروت: دار الانتشار العربي، 327 صفحة 2009
تقوم فكرة الكتاب على التعدديّة الدينيّة، وضرورة نشرها وترسيخها، باعتبارها ضروريّة للتقدّم والاقتراب من الصواب، ولأنها حقيقة واقعة تعكس تعدّد التجارب والأفهام للنصوص الدينية، أو كما يقول سروش حقيقة واحدة ومحاولات كثيرة لمعرفتها وإدراكها؛ فالمعرفة والصواب نسبيان.
يعمل عبد الكريم سروش أستاذاً للعلوم والفلسفة بجامعة طهران، وقد تخرج في جامعة لندن في الكيمياء، ولكنه جمع مع تخصصه العلمي دراسات واسعة في الفلسفة والدين.
يقول سروش إنّ فكرة التعددية قديمة في الفكر البشري وموجودة في الفكر الإسلامي، وتقوم أطروحته للتعددية على فكرتين : التعدد في الأفهام بالنسبة للمتون الدينية، والتنوع في التفسير والتجارب الدينية؛ فالنصّ صامت، ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها من خلال الاستعانة بأفكارنا وتجاربنا وافتراضاتنا وتوقعاتنا المسبقة، والأسئلة التي تدور في أذهاننا، ولا يوجد بطبيعة الحال تفسير من غير أسئلة وتوقعات وفرضيات مسبقة، وهذه الفرضيات مستوحاة من خارج الدين،... والفضاء المعرفي خارج الدين متدفق ومتراكم ومتغير... ولهذا ستكون التفسيرات متنوعة ومتغيرة، ... والحال، أنه لا يوجد دين من غير تفاسير.
لقد ختمت النبوّة ولكن لم تختم التفاسير، هذا مقتضى الدين ومقتضى البشرية، ولا يوجد تفسير رسمي واحد للدين؛ ففي المعرفة الدينية كما هو الحال في سائر المعارف البشرية لا يكون قول أحد حجة تعبدية على شخص آخر، ولا يوجد أيّ فهم مقدّس وخارج حدود النقد، يصدق هذا الكلام في الكيمياء مثلاً كما يصدق في الفقه والتفسير.
ويشير سروش إلى مقالة كتبها "جون هيك" بعنوان هل يعبد المسلمون والمسيحيون واليهود ديناً واحداً؟ ويقول فيها إنّ التعددية الدينية مردّها إلى تراكم المعارف والحقائق، والمعروف عن "هيك" أنه أستاذ فلسفة الدين ويؤمن بالتعددية الدينية، وتحمّل لأجل ذلك نقداً مسيحياً، ويقول الفيلسوف البريطاني والتر أستيس في كتابه "التصوف والفلسفة" إنّ البوذيين كونهم يفتقدون نظريات في دائرة الألوهية ولا يعبدون الله ظاهراً، بل يعبدون الأوثان، إلا أنهم يعيشون التجربة الإلهية في قلوبهم؛ أي ليس لهم نظرية عن الله، لكنهم يمتلكون تجربة عن الله.
ويستحضر شروس من التجربة الصوفية التي استوعبها تأملات في المسألة، يقول جلال الدين الرومي في ديوانه "المثنوي: "من خلال المنظر يا عقل الموجود يختلف المؤمن والمجوسي واليهود"؛ بمعنى أنّ الاختلاف بين هذه الأديان هو اختلاف في الرؤية والمنظر وليس اختلافاً في دائرة الحق والباطل.
ويبيّن جلال الدين الرومي، أنه كلما ارتقينا في عالم التنزيه نبتلي بشوائب التشبيه، لأننا نستوحي من قوالبنا الذهنية لوصف الله تعالى، وننظر إلى الذات المقدسة من خلال رؤية خاصة لا تنفك عن وجودنا، فلا يوجد إنسان متحرر من التشبيه يمكن أن يدرك الذات المقدسة إدراكاً كاملاً وكما هي بتجريد تام للذهن من جميع العوارض والصفات البشرية.
ويقول شروس، إنّ أول من غرس بذور التعدديّة في العالم هو الله تعالى الذي أرسل رسلاً وأنبياء مختلفين، وتجلى لكلّ واحد منهم بمظهر خاص، وبعث كلّ واحد منهم إلى مجتمع خاص ورسم تفسيراً للحقيقة المطلقة في ذهن كلّ واحد منهم يختلف عن الآخر، وتعدّد التفاسير يمثل في الواقع وجوهاً متعددة للحقيقة؛ فالحقيقة لا تتمثل في مظهر واحد، ولا تتمتّع بوجوه متعددة فحسب، بل إنّ رؤية الناظرين لهذه الحقيقة بمناظر متعددة له دخل بتنوع التفاسير لها، ويشير المولوي (جلال الدين الرومي) إلى هذا المعنى بقوله: "أنت لست واحداً أيها الرفيق، بل دوامات وبحر عميق".
ويخلص سروش إلى أنّ التعددية هي الإذعان لرحمة الله الواسعة، والاعتراف بنجاح الأنبياء في مهمتهم الرسالية، وضعف كيد الشيطان، ورؤية رحمة الله الواسعة منبسطة في جميع أرجاء الوجود، ويرى في قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" أنّ عدم الخلوص في أمور العالم لا يمكن إنكاره، فلا شيء في هذا العالم يعكس حالة الخلوص في نفسه، فلا يوجد حق صريح وباطل صريح، ومثل هذا الدين لا يمكن ولا يصح تحميله أكثر من اللازم، ولا يصح انتزاع وعود كثيرة من نصوصه، ولا يمكن خلق سلوكيات كثيرة بالاستناد إليه، ولا طريق أمامنا سوى قبول الكثرة.
والقيم بطبيعتها متقاطعة، العدل والحرية على سبيل المثال، ويصل الأفراد والمجتمعات في نهاية المطاف إلى الاختيار، وهذا الاختيار لا يقوم على دليل وبرهان، بل على علة وسبب، وما دامت العلل والأسباب باقية، وما دام التعارض مستمراً؛ فالتمييز بدوره باق أيضاً ومستمر.
عندما نرى مجتمعنا يتقبّل التعدديّة ببطء، ولا يتفاعل معها بسرعة؛ فإنّ ذلك بسبب ضعف التيار الفلسفي وبخاصة الكلامي بين المسلمين، والبعض يتصّور أنّ رواج البحوث الكلامية يؤدي إلى ضعف عقيدة العامة، ولا يتصور أنّ عقائد العامة لم تؤخذ من هذه البحوث الكلامية لتؤدي إلى ضعفها وذبولها، إنّ التجربة السوفيتية تكفي لفضح مقولة الوحدة الثقافية والسياسية بين أفراد الشعب.
ثنائية الوحي وتفسير الوحي:
يقول سروش إنّ المعرفة الدينية هي السعي لفهم الشريعة، وهذا الفهم يبنى على افتراضات مسبقة، ويستلزم تأطير الأفهام الجزئية في قوالب مفاهيم ومقولات عامة، وفهم الدين غير مستثنى من هذه القاعدة، فإنّ فهم الدين مسبوق ببعض الافتراضات والمبادئ التصورية والتصديقية، وهي تعتبر من الشروط اللازمة لفهم الدين وتفسير نصوصه ومتونه، هذه التصورات ليست مقدسة أو فوق مستوى النقد، ويمكننا أن نضعها على مشرحة النقد، وتعديلها، ولكنْ هناك أمران لا شك فيهما : وجود هذه التصورات قطعي وغير قابل للاجتناب، وهي مستقلة عن عالم التجربة، وتفرض تأثيراتها على نتائج التحقيق والدراسة.
الدين بذاته صامت، وبما أنّ تفسير النص جمعي وقائم بمجموعة من المتخصصين؛ فهو موجود وسيّال ومتحوّل ومستقل من فرد إلى آخر من المفسرين، ويشمل الصحيح والسقيم، ويتضمن بعض الأفكار والتصورات المشكوك فيها، ومن وجهة نظر تكاملية، فإنّ الموارد السقيمة فيه مهمة بقدر أهمية الموارد الصحيحة؛ فالمعرفة الدينية فرع من المعرفة العامة لا أكثر ولا أقل...
ويلخّص سروش فكرته في مبادئ ستة: الدين (الوحي) صامت، وعلم الدين أو المعرفة الدينية نسبية تابعة للافتراضات المسبقة، وعلم الدين عصري لأنّ الافتراضات عصرية، والدين الإلهي صادق ويخلو من التناقضات ولكن علم الدين لا يكون كذلك بالضرورة، والدين قد يكون كاملاً أو شاملاً، وليس كذلك علم الدين، والدين إلهي ولكن تفسير الدين بشري ودنيوي تماماً.
التفسير على سبيل المثال لا يمكن أن يكون إلا معبّراً عن رؤية وخبرات المفسر ومواقفه من جملة من القضايا،... إنّ جميع القضايا الدينية يتوقف فهمها على الأفكار والآراء المستوحاة من خارج دائرة الدين، والمفسرون سعوا بصدق طوال التاريخ الإسلامي لتطهير تفسير القرآن الكريم من مداخلات الأفكار الخارجية ولكن سعيهم هذا أفضى إلى نتيجة مهمة، وهي أنّ حضور هذه الأفكار في أجواء العمل التفسيري لا يمكن اجتنابه، سواء على مستوى العمل أو على مستوى النظر والمعرفة، وببيان آخر إنّ عدم إمكان تجنبه في مقام العمل نتيجة لعدم إمكان تجنبه في مقام المعرفة والنظر.
وفي النظر إلى القرآن الكريم، فإنّ حضور المتشابهات في أجواء القرآن الكريم هو المقتضى الطبيعي لفهم النص وناشئ من أرضية التفسير؛ أي أنّ النص غير المفسر لا يوجد فيه محكم ومتشابه، حيث تولّد المحكم والمتشابه من خلال عملية التفسير، والقرآن الكريم لا يمنحنا رؤية واضحة لمعرفة معاني المتشابهات وكيفية اكتشاف المراد منها وتمييزها عن سائر الآيات الكريمة، إنّ تاريخ الإسلام يشير بوضوح إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ جميع آيات القرآن تقع في مظانّ الآيات المتشابهة، وهذا الأمر يعدّ قرينة ومؤيداً لدعوى أنّ وجود المتشابهات ناشئ عن ماهية التفسير، وكذلك نوع الافتراضات التي تجول في ذهن المفسر.
ونجد اليوم سجالات واسعة بين المثقفين والمفكرين حول مسائل الطبّ والسياسة والاقتصاد في الإسلام، ومن النادر أن نجد طرحاً لهذه المسائل في ضوء توقعاتنا من الدين، وهي مسائل لا يمكن حلها والبتّ فيها بالرجوع إلى القرآن والسنة، بل ينبغي تفسير الكتاب والسنة في ضوء هذه التوقعات.
إنّ الاجتهاد الواقعي في الفقه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد استيعاب الفلسفة والعلوم والمعطيات خارج الدين، الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع،... فهذه الأمور والعلوم هي التي تصبغ توقعات الأفراد في ذلك العصر.
والإحياء الديني في عصرنا الحاضر لا يمكنه أن ينال النجاح والتوفيق إلا بالانفتاح على العلوم الجديدة والتحولات الفكرية المعاصرة في المجالات المختلفة، أو يتفاعل معها من موقع المحاسبة والوعي، ولا يمكن إجراء تغيير إصلاحي من غير معرفة الدين والأفكار البشرية من خارج الدين، ومواجهة الركود الديني تأتي من الفهم والمعرفة خارج الدين، والفكر المتخلف والفهم الماضوي للمسلمين عن النصوص المقدسة هو نتيجة حصيلة التخلف في دائرة الحضارة والثقافة الاجتماعية المعاصرة.
والحجر الأساس في هذه المقاربة أنّ الدين وحي إلهي، ولكنّ المعرفة الدينية بشرية، فالتفسير هو ظنّي متغير، يحتمل الخطأ والصواب والهوى والتسامح.