الصراع على الدين في الصراع بين الدولة والمجتمع في تركيا
فئة : مقالات
"التحالفات تأتي وتذهب ولكنّ الاستبداد باقٍ، أو هكذا تبدو الأمور في تركيا".
Halil Karaveli
يبدو أنّ خلافاً حاداً يقترب من الصراع يدور بين الحكومة التركية بقيادة رجب طيب أردوغان وبين جماعة الخدمة الدعوية الاجتماعية برئاسة فتح الله غولن، وقد يكون ذلك نهاية لتحالف استطاع أن يغير تركيا، وأن يسقط قبل عقد من الزمان هيمنة الحرس القديم من اليمين "الكمالي" الذي حكم تركيا لأكثر من ثمانية عقود.
ربما يكون هذا الخلاف الذي يدور اليوم بين السياسي والاجتماعي مناسبة لفهم وتفسير أزمة الديمقراطية في تركيا، وربما في أنحاء واسعة من العالم، عندما لا تحتمل الدولة الديمقراطية استقلال المجتمعات وتأثيرها، وعندما يمتد تأثير المجتمعات إلى مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والقضائية، والحال أنّ أزمة الديمقراطية في تركيا هي في تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع أو في المصالحة بينهما.
ولكنّ الأزمة في تركيا (الأزمة بين الدولة والمجتمع أو بين الاجتماعي والسياسي) تستحضر الدين على نحو يزيد الصراع قوة وتماسكاً؛ فجماعة الخدمة بقيادة غولين تستند إلى التأثير الديني، وتحويل هذا التأييد الديني إلى تشكيلات اقتصادية واجتماعية وإعلامية، وتستقطب تأييد الملايين في تركيا، وحزب العدالة والتنمية يستحضر الدين أيضاً في استقطاب المؤيدين السياسيين والناخبين، ويتحول الصراع أو هكذا يبدو إلى صراع ديني.
تمثل جماعة "الخدمة" في تركيا برئاسة فتح الله غولين شبكة واسعة من العمل الدعوي والتشكل الاجتماعي والاقتصادي للمجتعات التي تحاول أن تنظم وتدير مواردها واحتياجاتها وخدماتها مستقلة عن الدولة، ويؤيدها عدد كبير من الأنصار و المتطوعين، وبالطبع فإنها ليست ظاهرة إسلامية فريدة، ولكنها الأكبر والأكثر تميزاً وتقدماً في العالم الإسلامي؛ فهي تدير شبكة واسعة من المدارس والجامعات (3 آلاف مدرسة وجامعة منتشرة في تركيا أساساً وفي 160 دولة أخرى)، كما تدير عدداً كبيراً من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية في تركيا وفي عشرات الدول الأخرى، وقد شهدت الجماعة مرحلة من الانتعاش والنمو الكبير في ظل الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، كما أنها واصلت نموها وتأثيرها الديني والاجتماعي في مرحلة حزب العدالة والتنمية.
ويحاول طرفا الصراع في تركيا تقديم الأزمة على نحو مختلف، وتبدو الأسباب المباشرة للخلاف غامضة ومعقدة، ولكن لأزمة ظهرت على السطح عندما انتقد أردوغان بقسوة حركة الخدمة واتهمها بالعمل مع جهات ودول أجنبية لأجل تقويض الدولة التركية، وقد ربطت هذه الحملة على غولين والخدمة بالانتقادات الإعلامية لأردوغان وبخاصة في أسلوب رده على الاحتجاجات والمظاهرات في ميدان تقسيم في صيف 2013 وبعمليات إحالة عدد من الوزراء والمقربين من أردوغان إلى التحقيق، وردّ أردوغان على ذلك بمهاجمة الحركة وعمليات نقل وفصل واسعة في قطاع القضاء والأمن والتعليم، وفي سلسلة من القوانين تزيد من هيمنة الحكومة على القضاء والإنترنت.
ومن الملفت أنّ الاتهام الذي وجّهه أردوغان إلى غولين وجماعته هو الاتهام نفسه الذي وُجّه إلى غولين عام 2000، واضطره إلى الخروج من تركيا والعيش في الولايات المتحدة، حيث ما يزال يعيش هناك حتى اليوم.
وحسب هاليل كارافالي (Halil Karavali)، في دراسته المنشورة في مجلة "فورن أفيرز" (9 شباط (فبراير) 2014)، فإن الأزمة بدأت في العام 2011، عندما استبعد أردوغان معظم أنصار "الخدمة" من قوائم الحزب للانتخابات العامة التي جرت في ذلك العام. ولم يعد أردوغان، كما يؤكد كارافالي، قادراً على تقاسم النفوذ والسلطة مع أحد، بمن في ذلك رفيقه عبد الله غول (رئيس الجمهورية)، والليبراليون الذين أيدوه من قبل.
وقد ردّت "الخدمة" على ذلك عندما استدعى أحد القضاة، الذي يعتقد أنه من ضمن التابعين للجماعة، قائد الاستخبارات التركية المقرب من أردوغان إلى التحقيق حول دوره في المفاوضات السرية مع حزب العمال الكردي. كما كتبت الصحافة المؤيدة للجماعة تعليقاً على الأزمة والاحتجاجات التي وقعت في ميدان "تقسيم"، بأنّ أردوغان يتحول إلى "فرعون". في المقابل، أعلنت الحكومة عن نيتها إيقاف المدارس التابعة للجماعة، وهي نوع من المدارس المتخصصة في مساعدة الطلبة على اجتياز امتحانات الثانوية العامة والتأهل للجامعة.
وأما مصادر جماعة الخدمة، فتؤكد على أنها تعمل في إطار قوانين وتقاليد المجتمع المدني، وأنها لا تتدخل في السياسة وإن كانت تؤثر فيها، وإذا كان بعض القضاة ورجال الشرطة من مؤيدي "الخدمة" فلا يعني ذلك وجوداً منظماً ومنسقاً للجماعة، فهم يعملون بصفتهم أفراداً ومواطنين.
ويبدو أنّ أردوغان الذي رسّخ نفوذه وتحوّل إلى قائد منفرد ومؤثر على البرلمان والحزب لم يعد يقبل بتقاسم النفوذ والتأثير مع أحد بمن في ذلك رفيقه عبد الله غول (رئيس الجمهورية) والليبراليون الذي أيدوه من قبل، وكذلك حلفاؤه من جماعة الخدمة (غولين).
ربما ينجح أردوغان في المدى القريب في الانفراد بالسلطة والتأثير، وقد يلحق الضرر والأذى بالأفراد والتيارات والمؤسسات التي يعتقد أنها تشاركه التأثير، ولكنه سوف يخسر حتماً في المدى المتوسط، وسوف تعصف به مخاصمته للجميع... ثم تعود دورة الديمقراطية من جديد، ولكن الأزمة سوف تظل ما دامت العلاقة بين المجتمعات والدول غير قادرة على القبول بمجالاتها وحدودها؛ فالدولة تدخل في صراع خاسر عندما تضيق بالإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمساجد والعمل المجتمعي، والحركة المجتمعية تعمل ضد نفسها عندما تمتد إلى الجيش والأمن والقضاء، مهما كانت النوايا حسنة وبغض النظر عن هدفها الإصلاحي؛ فالإصلاح الحقيقي هو في استقلال المجتمعات عن الدولة، وفي حماية المجتمعات والأفراد من الدولة، وتحديد دور الدولة وحدود تدخلها والمجالات التي لا يجوز أن يشاركها فيها أحد.
الجديد في الصراع اليوم بين الدولة والمجتمع في تركيا أنه يطرح من جديد موقع الدين ودوره في الدولة والسياسة، إذ يبدو واضحاً أنّ الدين هو المورد الأساسي للسياسي (أردوغان) والاجتماعي (غولين)، وربما يكون منطقياً وعادلاً أن يكون الدين من حق المجتمع وليس الدولة، ذلك أنها بما تملكه من سلطات ومؤسسات قوية وهائلة: البرلمان والقضاء والجيش والأمن والإعلام وإدارة الضرائب والموارد العامة لا تدع مجالاً للمجتمع ليحمي نفسه سوى أن يملك الولاية على الدين والثقافة وأن يشارك في الإعلام، وأن يملك ويدير مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية ليظل قادراً على التأثير على الحكومة والأسواق والتوازن معها، وفي المقابل فإنه يبدو منطقياً أيضاً أن تتجنّب منظمات المجتمع العمل المنظم في القضاء والأمن والجيش، لأنها بذلك تعطل الرابطة القانونية بين الدولة والمواطنين.
الدين في تركيا، كما هي الحال في العالم الإسلامي، ما زال موضوعاً للصراع لم يُحسم، والسلطة التي امتلكته وأدارته لصالحها قروناً طويلة أرادته في مرحلة الحداثة أن يكون محايداً، وهكذا فإن الدولة (الإسلامية) التاريخية والحديثة تطرّفت واستبدّت في توظيف الدين وفي تحييده أيضاً، وفي عودة الدين وابتعاثه مرة أخرى فإنّ الأحزاب السياسية المعارضة منها أو الحاكمة تعيد توظيفه في الصراع... وفي ذلك إضرار بالدين والسياسة والمجتمع.
والحل بطبيعة الحال في أن تتجنب الأحزاب السياسية استخدام الدين، حتى لو كانت أحزاباً سياسية للمتدينين، وأن يترك شأنه للمجتمعات، بما في ذلك إدارة وتمويل المساجد والمؤسسات الدينية وأوقافها... وحتى تصل القوى المتنافسة والمتصارعة إلى هذا التوافق، فإنها تهدر الموارد والإنسان.