الصلاة في سوسيولوجيا الصلاة لمارسيل موس ترجمة: محمد الحاج سالم
فئة : قراءات في كتب
الصلاة في سوسيولوجيا الصلاة لمارسيل موس
ترجمة: محمد الحاج سالم
الصلاة. في سوسيولوجيا الصلاة، مارسيل موس، ترجمة وتحقيق: محمد الحاج سالم، دار الكتاب الجديد، لبنان، ط.1، 2017م.
مارسيل موس (1872م/ 1950م) عالم اجتماع فرنسي، وابن أخت الفيلسوف إميل دوركايم، يُعرف بشكل أفضل بتحليلاته لمواضيع مثل السحر، والتضحية، وتبادل الهدايا في ثقافات مختلفة حول العالم.
يرى مترجم الكتاب الدكتور محمد الحاج سالم بأن سنة 1909م تمثل "تاريخًا مهمًّا في تاريخ الدراسات حول الصلاة؛ ففيها نشر عالم الاجتماع والأنّاس الفرنسي مارسيل مُوس هذا الكتاب، وهو جزء من أطروحة غير مكتملة لسوء الحظ سحبها المؤلّف من المطبعة قبل أن يكتب لها الظهور إلى الناس إلاّ في نُسخ قليلة محدودة بقيت حبيسة الأوساط العلميّة آنذاك. [ويضيف محمد سالم] إنّه كتاب ذو طموح كبير؛ إذ طرح صاحبه على نفسه ملء الفراغ الذي تركته التوصيفات العالمة، ولكن «المتشظّية والمتفرّقة والعَرَضيّة» عند علماء اللغة وتاريخ الأديان بخصوص مسألة الصلاة، والقطع مع التصورّات الروحانيّة والذاتيّة اللاهوتيّة أو الفلسفيّة، بهدف تأسيس نظريّة موضوعيّة للصلاة متوافقة مع الرؤية الإناسيّة عند المدرسة الفرنسيّة في علم الاجتماع. وللأسف الشديد، فقد ظلّ هذا المشروع الكبير مجرّد برنامج لم يُكتب له أن يرى النور، فلم يكتمل لا على يديْ مُوسّ ولا على يديْ أيّ عالم اجتماع أو إناسة من بعده، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّه ظلّ مهجوراً؛ إذ بقي يظهر وبكلّ حيويّة كلّما نشأت منهجيّة عامّة كبرى جديدة."[1]
الكتاب يضم حزمة من المواضيع والعناوين التي تحفر من زاوية علم الاجتماع، بهدف الاقتراب من معرفة وفهم الصلاة في علاقتها بالفرد والمجتمع، مع العلم أن جل الأديان إن لم نقل كلها تضم طقس وموضوع وشعيرة الصلاة. نذكر من بين المواضيع العناوين التي ضمّها الكتاب: في موضوع الدراسة والمنهج تاريخية. الصلاة ظاهرة اجتماعية. الصلاة ومنهج دراستها. التعريف الإجرائي (الطقس - الصلاة)، هل توجد صلاة في أستراليا؟ بدايات الصلاة.
الصلاة: الشكل والمعنى
يعطي مُوسّ تعريفاً أوليّاً للصّلاة يستند إلى أربعة عناصر؛ "فهي في المقام الأوّل فِعْلٌ… ينطوي دائمًا على جهد، وعلى صرف طاقة جسديّة ومعنويّة في سبيل إحداث مفاعيل معيّنة… أضف إلى ذلك أنّها فعل تقليدي بوصفها جزءاً من طقس…كما أنّها تتّسم أيضاً بفعاليّة كامنة فيها…؛ لأنّها هي التي تَحُثُّ الإله على التدخّل في اتّجاه معيّن.. وأخيراً، فإنّ فعاليّتها هي نفسُها فعاليّة الطقوس الدينيّة؛ لأنّها تتوجّه إلى قُوىً دينيّة".[2]
كما أشرنا سابقا إن الصلاة حاضرة في مختلف الأديان بشكل كبير وبين وظاهر، فاتساع ديانة من الديانات وإقبال الناس عليها؛ فذلك يعني اتساع للصلاة التي يحث عليها ذلك الدين، كما أن تجدد الدين يقتضي تجدد الصلاة، فأي حالة من حالات تجدد الدين وتحوله من مستوى من الفهم والإدراك وتصور العالم، قد يحضر بشكل جلي في الصلاة، وبهذا المعنى فالصلاة ظاهرة مركزية؛ بمعنى أنها واحدة من أفضل العلامات الدالة على مدى تقدم أحد الأديان[3]، فما تحرزه الصلاة من تقدم هو جزء منه تقدم للدين.[4] وهذه مسألة في غاية الأهمية بالنظر لموضوع الصلاة من جهة العائد الاجتماعي الذي يكون من ورائها، وهو عائد ينطلق من الشعور النفسي الذي تبعثه في النفس، بالإحساس بالمسؤولية الأخلاقية وبيقظة الضمير وحس المسؤولية الفرد في المجتمع، وإن غاب هذا المعطى الجواني في الصلاة فلا يتبقى منها إلا المعطى البراني؛ إذ تتحول إلى "محض صلوات روحانية وإلى موضوع تلاوة بسيطة لا أثر للشخص فيها، منحدرة إلى مستوى طقس رتيب تتحرك فيه الشفاه آليا كما تتحرك أعضاء الجسم لا إراديا. ولعل أبلغ الأمثلة عن هذا الانحدار، تلك الصلوات المكرورة باستمرار، في لغة غير مفهومة وصيغ فاقدة لكل إحساس، وكلمات مبهمة غامضة المعاني، بل إن الأمر قد يصل إلى أكثر من ذلك؛ إذ تتلى الصلاة الأكثر روحانية في بعض الحالات لتغدوا مجرد شيء مادي. [...] هي بحق صلوات مشيئة، بل إن الصلاة في الأديان التي انفكت عقيدتها عن كل صنمية، غدت هي ذاتها صنما".[5]
هذا المعطى المنهجي الذي قال به ما رسيل موس في رأيه لجانب من جوانب موضوع الصلاة، وهو معطى يميز بين الجانب الشكلي والجانب المعنوي، الجانب الذي يحضر معه التطبيق والفعل من جهة حركات الجسد...والجانب الباطني الذي يجعل من المصلي في استجابة عملية لمقاصد وتوجيهاتها في طبيعة ما ينبغي أن تكون عليه علاقته مع أخيه الإنسان ومع مختلف الكائنات. بالإمكان استثمارها في دراسة الصلاة في المحيط الاجتماعي في العالم الإسلامي، الذي تحضر فيه الصلاة بشكل يتصف بالإقبال على المساجد ودور العبادة خاصة يوم الجمعة وأيام رمضان...فالسؤال هل هو إقبال على مستوى الشكل والطقوس؟ أم إنه إقبال يحضر معه تجاوز حالة الشكل إلى الغايات والمقاصد من الصلاة؟ ولا شك أن هذا وذاك يحضران معا، ولكن الدراسة الاجتماعية هي التي تدرس لنا الموضوع لتخلص في الأخير إلى استنتاج مفاده أن موضوع الصلاة بقدر أكبر وبنسبة معينة يدور بنسبة أكبر في دائرة الشكل والطقوس. أو استنتاج مفاده أن الصلاة تدور بقدر أكبر دائرة تجاوز الطقوس والشكل إلى الغايات والمقاصد بنسبة معية، وهو أمر يجعلنا نفهم ما هي طبيعة العائد الاجتماعي ما بين كلتا الحالتين، والعائد الاجتماعي بما تحققه الصلاة من قيمة التواصل الاجتماعي والتكافل بين المجتمع والرقي...
الصلاة ظاهرة اجتماعية
يرى مارسيل موس، أن نظريات أهل اللاهوت وأهل الفلاسفة، قد ضاعوا في معرفة الصلاة، فقد صاغ علماء الدين الكثير من النظريات حول الصلاة "وسعوا لمعرفة لماذا يصلون؟ ولماذا يقيمون تلك الصلوات في هذه أو تلك من المناسبات، واضطروا لتصنيف صلواتهم وشرحها، وقد كانت شروحاتهم ومناقشاتهم وتصنيفاتهم، في غاية الأهمية؛ لأنهم كانوا في بعض الأحيان [...] مطلعين على أدق معاني ما يمارسون من طقوس"[6] والمشكلة هنا "مهما كان وضوح وعيهم الديني، فإن ما يعرضونه عن تجاربهم أبعد ما يكون عن العلمية. فهم ينطقون مما تلقوه من معتقدات إيجابية في دينهم الممارس".[7] في هذا السياق، لا ينبغي نسيان أن علم اللاهوت يهدف إلى غاية أولية مفادها، أن يكون خادما للشعائر، فمحاولة تنظيم الصلاة وفهم دقائقها...كل ذلك بهدف نشرها والتحكم في استخداماتها.[8]
أما الفلاسفة، فقد حاولوا تقديم تفسير عقلاني للصلاة مفاده تحديد الأسباب الإنسانية من وراء الصلاة، فقد ارتأوا وجود طريقة وحيدة ازدهرت بها ومن خلالها المشاعر الدينية في جميع أنحاء الأرض من خلال الصلاة، فالصلاة مجرد تعبير عن حالة ذهنية مشتركة عند جميع البشر.
يرى مارسيل موس أن "الصلاة في المقام الأول هي ظاهرة اجتماعية؛ لأن الطابع الاجتماعي للدين أمر مبرهن عليه بما فيه الكفاية. فالدين نظام عضوي من المفاهيم والممارسات الجماعية المتعلقة بالكائنات المقدسة التي يعترف بها، والصلاة وإن كانت فردية وحرة يختار المؤمن شروطها وتوقيتها كما يروق له، إلا أن ما يتلفظ به المصلي لا يعدو عبارات مكرسة، وهو لا يتكلم خلال صلاته إلا عن الأشياء المقدسة؛ أي الأشياء الاجتماعية."[9] الصلاة إذن "ليست فيض روح أو صرخة شعور فحسب، بل هي جزء من دين، ونسمع فيها تردد صدى سلسلة ضخمة من الصيغ، غنها قطعة من الأدب، ونتاج جهود مراكمة من قبل أجيال من البشر".[10]
ومن بين ما يدل أن الصلاة في جوهرها ظاهرة اجتماعية، أنه توجد أديان لا تقام فيها الصلاة إلا من طرف الجماعة أو من طرف السلطة الكهنوتية.[11] ولكن حين نقول إن الصلاة ظاهرة اجتماعية، فنحن لا نعني أنها ليست ظاهرة فردية على كافة الصُّعُد، فمثل هذا التأويل لأطروحتنا سيكون من باب الفهم الخاطئ، فنحن لا نعتقد أن المجتمع والدين والصلاة أشياء خارقة يمكن تصورها دون وجود الأفراد الذين يعيشونها. ولكننا نعتقد أن الصلاة، رغم تحققها في ذهن الفرد، فإن لها بالخصوص وجودا اجتماعيا خارج الفرد، أي داخل الدائرة الطقسية والتعاقد الديني.[12]
[1] الصلاة؛ في سوسيولوجيا الصلاة، مارسيل موس، ترجمة وتحقيق: محمد الحاج سالم، دار الكتاب الجديد، لبنان، ط.1، 2017م، ص.7
[2] نفسه، ص.8
[3] نفسه، ص. 20
[4] نفسه، ص.21
[5] نفسه، ص.27
[6] نفسه، ص. 34
[7] نفسه، ص. 36
[8] نفسه، ص. 37
[9] نفسه، ص.44
[10] نفسه، 43-44
[11] نفسه، ص.46
[12] نفسه، 52-53