الصين ومستقبل العالم

فئة :  مقالات

الصين ومستقبل العالم

الصين ومستقبل العالم

"من الخطأ الادعاء بأن الصين لاعبٌ آخر كبير. إنها اللاعب الأكبر في تاريخ البشرية"

لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة

"لا شيء أكثر زيفًا من الحكم على الصين بمعايير أوروبية"

لورد ماكارتني

الصين القوة الأكثر صعودًا

لا أحد يتوقع ما ستكون عليه الصين في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، في هذه اللحظة الزمنية التي تميزت بانهيار الاتحاد السوفياتي، كان العالم حينها معني بنقاش مفاده السؤال المحوري كيف سيكون مستقبل العالم الذي سار بيد القطب الواحد، بزعامة أمريكا وحلفائها من الغرب؟ فانهيار الاتحاد السوفياتي، ترتب عنه ظهور النظام الدولي الجديد، تحت الهيمنة الأمريكية، البعض حينها كان يرى أن نهاية الحزب الشيوعي السوفيتي، ستليها نهاية الحزب الشيوعي الصيني، نظرا للتقارب بين الحزبين في الإيديولوجيا وفي السياسات الاجتماعية والنقدية، دون مراعاة طبيعة الفرق الحاصل عمليا وسياسيا بين الحزبين، والبعض الآخر تنبأ بنهاية التاريخ.

فالنقاش في تلك الفترة من الزمن في العالم كان منصبًّا حول سؤال العولمة التي كان يرى فيها البعض أنها سياسة واستراتيجية إعلامية تصب في خدمة مصالح أمريكا وحلفائها؛ فأمريكا ستجعل من العولمة مدخلا لأمركة العالم. ليس هناك نقاش واسع في تلك الآونة حول مستقبل الصين، وأنها ستكون أكبر قطب سيستفيد من العولمة ومن تحرير التجارة العالمية، وقد تنبأ كل من دانييل بورشتاين وأرنيه دي كيزا، في كتاب "التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين" بما ستكون عليه الصين في العقود الثلاثة من القرن الواحد والعشرين، يقول: "وفي تقديرنا أن الصين مهيَّأة، إذا ما سارت الأمور رخاءً كما هي الآن، لكي تصبح حوالَي العَقْد الثالث من القرن الواحد والعشرين أكبرَ اقتصاد قومي في العالم... وسوف تكشف أكثر فأكثر عن نفسها كقوة عظمى في كل المجالات: الاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية، وفي الثقافة والتكنولوجيا"[1] هذا التوقع من المؤلف يعود إلى السنة التي ظهر فيها الكتاب 1998م، وهو توقع لم يكذبه الواقع وما عليه الصين اليوم كقوة عالمية، والأكثر من ذلك أن الصين تحولت إلى مصنع للعالم.

عاشت الصين الثورة الشيوعية الصينية (1945م/1950م) وقد حدَّدت العقيدة المادية عواطفها الأيديولوجية، وعاش الصينيون أسرى داخل رومانسية الخطاب المادي والحلم الذي اقترن بالثورة الثقافية بخلق مجتمع طوباوي جديد في الصين، مستثمرا روح المجتمع الصيني المكونة من نسيج ثقافي عميق مركب؛ فاليوم لا يمكن معرفة الصين إلا من خلال الفهم العميق للبنى التحتية للثقافة الصينية، فعلى الرغم من الحس المادي الذي تميزت به الثورة الشيوعية الصينية، وعلى الرغم أن مجتمع الصين أضحى الآن أكثر حداثةً وانفتاحًا، فلا يمكن تجاوز تلك البنى الثقافية العميقة التي ميزت الصين، وهذا وجه جعل الصين مفارقة لغيرها من التجارب في تجربتها في الانفتاح عن الحداثة عن غيرها.

وواقع الأمر يقول إن الصينيين قد طوروا "لأنفسهم إطارهم الاقتصادي السياسي الأساسي الجديد، الذي يعتمد على عناصر من رأسمالية السوق الحديثة ذات الأسلوب الغربي، ولكنه يجسد نبض الصين الممتد على مدى خمسة آلاف عام هي تاريخها الثقافي، ويعكس كذلك تراث خمسين عامًا من الشيوعية، ولا يزال يحتفظ بقوة كبرى لدولة نشطة قادرة على تغيير مسار الأحداث بقوة، وفرض خططها. وعلى الرغم من الزخارف الخارجية للتغريب، لم يتحول الصينيون لكي يكونوا صورة منا نحن الغربيين: سياسيًّا أو ثقافيًّا".[2]

العالم وعودة الحرب الباردة

"من يعرف العدو ويعرف نفسه. سوف تمتد حياته ليخوض مائة اشتباك. وإن من لا يعرف العدو ولكنه يعرف نفسه، قد ينتصر أحيانًا وينهزم أحيانًا أخرى. ومن لا يعرف نفسه ولا عدوه، سوف يمنى بالهزيمة دائمًا في كل اشتباك" صن تسو Sun Tzu

مفهوم الحرب الباردة مصطلح استخدم لوصف حالة الصراع والتوتر والتنافس التي كانت توجد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهم من فترة منتصف الأربعينيات حتى أوائل التسعينيات. تنتمي الصين على المستوى الجغرافي إلى الشرق، كما أنها قريبة من حيث الخط الأيديولوجي إلى المعسكر الشرقي، لكن في زمن الحرب الباردة، ما بين المعسكر الغربي والشرقي لم تكن الصين عنصرا في هذه المعادلة، بسبب الانقسام الصيني السوفيتي (1956/1966م) وكسر العلاقات السياسية بين جمهورية الصين الشعبية واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، بسبب الاختلافات العقائدية التي نشأت عن تفسيراتهم المختلفة وتطبيقاتهم العملية الماركسية اللينينية، كما تأثرت بالجغرافيا السياسية لكل منها خلال الحرب الباردة (1945م/1991م). بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الصراع الأيديولوجي، بقيت السلطة في بيد الحزب الشيوعي بالصين على المستوى السياسي، لكن على المستوى الاقتصادي تحولت الصين إلى بلد يعتمد الصناعة والتجارة الحرة، وبهذا تكون الصين قد ركبت بين طرفين متناقضين للبرالية الاقتصاد وبيروقراطية الحكم والسلطة التي بقيت بيد الحزب الشيوعي. فرئيس الحزب هو نفسه رئيس الدولة، هذا الاتجاه لا يبدو واضحا في مطلع التسعينيات، ولا أحد يعرف ما ستؤول إليه الأمور، مع العلم أن تاريخ الصين لا يمين إلى أن تتبنى الصين فكرة الصراع الأيديولوجي مع الغرب.

اليوم تشير العديد من الدراسات إلى أن العلاقات الأمريكية الصينية- في الوقت الراهن- هي علاقة حرب باردة أساسها التنافس الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، وليس التنافس الأيديولوجي كما كان الوضع في الحرب الباردة في القرن الماضي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وهذه مسألة واضحة بالنظر إلى مختلف المنتوجات الصينية التي غرت أوروبا وأمريكا، والعالم بأكمله، فحضور الصين في العالم اليوم حضور اقتصادي بامتياز، بمعزل عن الحضور السياسي والأيديولوجي؛ فالصين لا تهتم بمختلف المشاكل العالقة بين مختلف الدول، وإلى حدِّ الساعة لم تنخرط في مختلف الحروب في العالم، وهي على أتم الاستعداد لتنخرط في كل ما هو اقتصادي عن طريق السلم والدبلوماسية كما يبدو إلى حد الساعة. فمثلا لا يمكن تجاهل النفود الاقتصادي الصيني في إفريقيا، وهو نفود تجاري واقتصادي غير مدعوم بقواعد عسكرية، كما هو الشأن بالنسبة إلى أمريكا وحلفائها.

صعود الصين بوتيرة ثابتة وواضحة، وتنامي قوتها الشاملة يثير قلق ومخاوف الولايات المتحدة؛ المهيمنة على النظام الدولي الحالي. وقد أعلنت الصين أكثر من مرة عن عدم رضاها عن النظام الدولي الراهن الذي ترى أن العديد من قواعده وأسسه الجوهرية يحتاج إلى تغيير، بهدف إرساء أسس نظام عالمي جديد، وهناك من المحللين من يذهب بعيدا، ولا يستبعد وقوع حرب ما بين الصين وأمريكا، لكن هل الصين ستنجر إلى الحرب فعلا إن تضررت مصالحها؟

الثقافة الصينية

"لا شيء أكثر زيفًا من الحكم على الصين بمعايير أوروبية" لورد ماكارتني

هناك من يتصور الصين من الخارج دون أن يقرأها من الداخل، ويذهب ضحية تصور مفاده بأن الصين قطعت بالكامل مع تراثها، وأعطته بالظهر، وعندما نتحدث عن التراث الصيني فنحن نلامس تراثا يختلف عن تراث الغرب، ويختلف في الوقت ذاته عن تراث الشرق، ونقصد هنا التراث العربي الإسلامي، ففي الوقت الذي ارتبطت الفلسفة في الغرب بالإرث اليوناني عن طريق الإرث العربي، نجد الفلسفة في الصين ارتبطت بكبار الحكماء قديما في الصين، في الحكمة الكونفوشيوسية.

فالفكر الكونفوشي "حسب تفسيره الصحيح، يمكن أن شكِّل أساسًا لنظام اقتصادي يستهدف النمو والربح، ويحقق - كذلك - ملاءمة مهمة وواسعة مع القيم الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية، علاوة على هذا أنه خلق إمكاناتٍ لسياسةٍ استبداديةٍ يمكن تخفيف حدتها باقتصادات خيرة النوايا، وزعماء أقوياء، ونظم تراتبية هرمية غير رسمية تحدِّد المعايير المتفق عليها للأخلاق والسلوكيات العامة، دون قدرٍ كبيرٍ من المراقبة الديموقراطية. وإذا كانت الكونفوشية عادت ليس فقط على المستوى الرسمي، بل وأيضًا بين صفوف الملايين من العامة، فسبب ذلك أنها تهيئ للناس وسيلة للتلاؤم مع حالة التشوش الأخلاقي والتغير الاجتماعي السريع، وتتميز بأن شريعتها - وهي من ناحية عقيدة دينية، ومن ناحية ثانية قانون أخلاقي، ومن ثالثة طقس اجتماعي، وفلسفة سياسية - شريعة مرنة، يمكن أن يستشهد بها مفكرون ذوو مشارب ودوافع مختلفة."[3]

[1] دانييل بورشتاين وأرنيه دي كيزا، التنين الأكبر: الصين في القرن الواحد والعشرين، ترجمة شوقي جلال، مؤسسة هنداوي 2042م، ص.14

[2] نفسه، ص. 397

[3] نفسه، ص.367