الضيافة... جدل الذات والآخر: مقاربة أنثروبولوجية ثقافية
فئة : مقالات
الضيافة... جدل الذات والآخر:
مقاربة أنثروبولوجية ثقافية[1]
إن الحديث عن "الضيافة" من وجهة الأنثروبولوجيا العامة، يعني أن نتحدث عنها كما يراها مجتمع "ما" أو جماعة "ما"؛ أي من وجهة نظر هذه الجماعة في زمانٍ ومكانٍ محدَّدَيْن، ويتطلب ذلك – بطبيعة الحال- معايشة هذا المجتمع عن كثب، والبحث عن الدلالات المختلفة لكل حدث، وتبيان علاقته بحدث "الضيافة" نفسه.
ولكن الضيافة في المنظور العربي أكبر من مجرد سلوك؛ لقد غدت مفهومًا قيميًّا يتشكّل به نسقٌ اجتماعيّ مركب؛ وجد تجلياته الخصبة في النصوص الأدبية والمعتقدات الدينية، بما يعني أن دراسة "الضيافة" ظاهرة ثقافية عامة، ولعلّ الأدق هو مقاربتها من وجهة "الأنثروبولوجيا الثقافية" التي تُعْنى بـ"فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها، كما تهدف إلى دراسة عمليات التغيير الثقافي والتمازج الثقافي، وتحديد الخصائص المتشابهة بين الثقافات، وتُفسِّر بالتالي المراحل التطورية في مجتمع معين".([2])
وشأن أي ظاهرة اجتماعية، يمكننا أن نتحدث عن بيئة خاصة فرضت على العربي أن تحتلّ الضيافة- مفهومًا وممارسة- سلّم القيم لديه؛ فالصحراء مفازة واسعة، لا يستقر فيها الإنسان إلا قليلا، وحاجة السائر فيها إلى العون أمر مقرر، والمُقْري اليوم مَقْرِىٌّ غدًا. وهذا يعني أننا إزاء سلوك فيه شيء من تبادل المنافع، وضرورة الوجود في هذا الفضاء الصحراوي، ولكنه – أي السلوك- لم يتوقف عند هذا المستوى؛ فقد نما مع العربي حتى غدا منظومة قيمية حاكمة يصعب التنازل عنها أو التهاون فيها، وعلى هذا غدت "الضيافة" قيمة مركزية بها يُمْتدح الرجل ويعلو ذكْرُه بين الناس، وبالتقصير فيها - فضلًا عن التخلي عنها - تلحقه مذمَّة الدَّهر.
- من البَدهيّ، والحال كذلك، أن تحتلّ الضيافة مفهومًا وممارسة مكانة مميزة في النصوص الأدبية والدينية، وهذا يعني تجذرها في حياة المجتمع وفي تصوره للعلاقة بين أفراده، وتحولها إلى نصّ جماليّ أو نص اعتقادي لا يؤكد فقط حاجة المجتمع لها، وإنما يؤكد قدرتها على تشكيل أفقه الجمالي الذي به يتمثل العالم ويتصوره ويشكّله، ويؤكد صلة المفهوم (الضيافة) بما وراء العالم نفسه.
فـ"الضيافة" استقبال للضيف وإكرامه معًا، والكرم - كما هو مقرر- بنية كبرى في النصوص الشعرية، حيث يصح القول: إنّ كل نص مدحيّ لا يمكنه إلا أن يتحدث عن كرم الممدوح، ولا يمكن لصورة الممدوح أن تكتمل إلا بالكرم وما يحفّ به من دلالات وأخيلة، لها امتدادها الميثولوجي الذي يجعلها "أصلًا"، ولها في الوقت نفسه وظيفتها التداولية التي ترتبط مباشرة بالواقع المعيش. ولعلّ هذا الارتباط بين الكرم والضيافة جعل "أبا تمام" يقرنهما معًا في أولّ مصنف شعري انتظمت فيه النصوص على أساس موضوعاتي.([3])
لقد كان الكرم بشكل عام سبيل تفاعل الإنسان مع الإنسان؛ فالكرم أو العطاء شكل من أشكال التلاقي، وأحد تجليات الرغبة في الاستمرار، التي ينشد من خلالها "المانح" دوام الذكر. ولذا كان العطاء دائمًا في انتظار السائلين طالبي الرّفد، يسعى إليه الطرفان، ولا حد للعطاء أو الكرم؛ وهذا ما يؤشر له بيت زهير الشهير:
تَـرَاه إِذَا مَـا جِئْتَـهُ مُتَهَلِّـلاً ** كَـأَنَّكَ تُعْطِيـهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِـلُه([4])
يرسّخ "زُهَيْرٍ" صورةً للعطاء تؤكد هذا الجدل الفريد بين السائل والمسؤول في "بنية" الكرم؛ فهي صورة لا تكشف عن حاجة السائل قدر ما تكشف عن حاجة المسؤول إلى السائل؛ فالذات التي تعطي تأخذ في الوقت الذي تعطي فيه، وكذلك الآخر الذي يأخذ؛ فالكرم - في جوهره - فعل يجابه العدم؛ وهو يجاوز فكرة السَّفه التي أخذت – في غير موضع- على السلوك العربي؛ فالممدوح لا يُعطي شيئًا، مهما أعطى، ومهما بالغ وأسرف في العطاء؛ لأن الغاية أكبر من العطية ومما يُعْطَى؛ ولذلك تجلت صورة الكرم في أعلى منازلها بذلا وعطاءً، وكان على الممدوح أن يعطي الكثير؛ فالهدف هو جلب الحمد وتجنب الذم:
فأوْسَعني حَمْدًا وَأَوْسَعته قِرَىً ** وأرْخِصْ بِحَمْدٍ كانَ كَاسِبُهُ الأكلُ([5])
*وفي هذا السياق، يقابلنا مفهوم "الاستجارة"، وهو يرتبط أيضا بفكرة الكرم، ولعله أرقى منازلها بذلا وعطاء، حيث يرتبط بسياق المنازعات الفردية والقبلية، وفيه يستجيب أحد الناس لإغاثة الملهوف أو الضعيف وإجارته وتأمينه، فـ "الاستجارة" لا تقتصر على مجرد تقديم الطعام والشراب، وإنما تتسع طبقَا لشكل العلاقات القبلية والفردية لتشمل توفير الأمن والحماية؛ وقد يضطر المجير إلى الدخول في قتال خصوم المستجير به، وهنا تبدو العلاقة داخله ضمن الجدل بين الذات والآخر، فالقتال من أجل المستجير يأتي في سياق الرغبة في بناء الذات الاجتماعية وخشيتها من أن تُتَّهم بالتفريط، ولهذا كانت نماذج الاستجارة ترتبط دائمًا بالرجال ذوي النفوذ والقدرة، وكانت من هذه الزاوية ذات دلالة على علوّ الذات وقدرتها على إظهار منعتها إذ تمنع الضعيف والمستجير.
والملاحظ أن هذا المفهوم قد أقرّه الإسلام في سياق صراعه مع المشركين، حيث يقول تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]
تؤشر الآية لنوع من تطور المفهوم، أو لنقل إن القرآن أقر مفهوم "الاستجارة" القديم، واعتبره من القيم الإنسانية الرفيعة، وحاول الاستفادة منه بإقراره أولا ثم بتوظيفه ثانيا؛ وذلك بأن شجّع المسلمين على الاستفادة من هذا السلوك وإسماع المستجير كلام الله، رغبة في هدايته إلى الإسلام. ومن المهم أن نؤكد أن الإسلام لم يجعل إسلام المستجير شرطًا، وإنما حاول فقط توظيف المفهوم أو هذا السلوك العربي، وإلا فللمستجير أن يبقى على شركه، وله الأمن والحماية.
وبالتأكيد سوف يتطور هذا المفهوم، ليغدو فكرة أممية ترتبط بما نعرفه حديثًا بـ "حق اللجوء"، حين يأوي المستضعفون في دولة ما إلى دولة أخرى أكثر أمنًا، وذلك طبقا للقوانين التي تنظم ذلك.
- وإذا كان الكرم بنية كلية جامعة، فإن "الضيافة" مفهوم أخصّ داخل هذه البنية، وامتداح الإنسان بالكرم يقتضي ضرورة امتداح الضيافة. ولكن الضيافة أكبر من مجرد فعل، وأكثر من مجرد ثيمة ضمن بنية الكرم، الضيافة فضاء واسع، يضم سرديات الأمثال ومحايثة الكناية لتداولية اللغة، حيث تغدو اللغة باب الضيافة للتجسّد والتحقق والتمثل.
لقد تطورت الضيافة - في هذا التصور - فغدت عالما سميوطيقيًا مركبًا، يضم وحدات متفاعلة مثل: (الصحراء، التيه، النار، المكان المرتفع، الكلب، الطارق، النباح، الناقة، الكبش، ثغاء الرواحل، الذبح، القدور، ...).
وبلا شك لا يمكننا أن نتجاهل المكونات الميثولوجية ودلالتها في مفهوم الضيافة؛ كالعلاقة بين إراقة دماء الذبيحة والاحتفاء بالقادم الغريب؛ فالذَّبح هنا صون للحياة، حياة الضيف الطارق وصون لكرامة المضيف في الوقت نفسه، فالذبح حياة وتطهّر من الشح والبخل. ففي الضيافة يُهلك الشاعر القديم الحيوانات المستأنسة؛ حيث يخوض معها تجربة وجودية تتعلق بذاته الاجتماعية التي يجب أن تصان عن العيب والزلل، يمكننا إذن أن نتوقف إزاء الوحدات المركزية التي تشكل علامات هذا المشهد، وذلك على النحو التالي:
- استنباح الكلب ورؤية النار:
الكلب والنار هما المؤشران البارزان على الضيافة: القدرة عليها والاستعداد لها؛ ولذا فقد رصدت النصوص حركات الكلب ودلالتها وعلاقتها بهذه الفكرة امتداحًا، وبنقيضها (أي البخل) هجاءً، فنباح الكلب مما يمتدح به الإنسان، وكذلك قوة النار، وحين تتوقف الكلاب عن النباح نجد الضيف أو الطارق الذي ضلّ طريقه في الصحراء يستنفر كلاب المقري فيقلد صوتها نباحًا، وحين تجاوبه الكلاب يهتدي سبيله إلى ضيفه:
ومُستنبحٍ قالَ الصَّدَى مِثْلَ صَوْتهِ ** حَضَأْتُ لَه نارًا لهَا حَطَبٌ جَزْلُ([6])
لقد غدا صوت الكلب علامة دالة، يلتقي على دلالتها طرفا الضيافة، ولذلك سنجد الفعل "نبح" تحديدًا يكثر تردده في مشهد الضيافة:
ومُسْتَنْبِحٍ باتَ الصَّدى يَسْتَتِيهُهُ ** إلِى كُلِّ صَوْتٍ فَهْوَ فِي الرَّحْل جَانِحُ([7])
وكل استنباح يقتضي ردّا، أو تفاعلا من الكلب الذي يقوم بدور الوسيط في هذه العملية، وهو وسيط يعي تمامًا طبيعة عمله ويقوم بمقتضياتها، يقول ابن هَرْمة:
فَجَاوَبَهُ مُسْتَسْمِعُ الصَّوْتِ لِلْقِرَى ** له عند إتْيَانِ المُهِبِّينَ مَطْعَمُ
يكادُ إذَا مَا أَبْصَرَ الضَّيْفَ مُقْبِلًا ** يُكَلِّمُهُ مِنْ حُبِّه وَهْوَ أَعْجَمُ([8])
ولا تغفل النصوص طبيعة العلاقة الدقيقة بين الكلب والقادم، فقد رصدتها من مختلف الزوايا الممكنة؛ فإذا كان النص السابق يحاول اكتناه شعور الكلب بهذا الضيف، ومبلغ ترحيبه به حتى كاد أن يكلمه من حبه له رغم عُجمته، فقد اقتربت نصوص أخرى من الكلب، باعتباره إشارة على فكرة الكرم من زاوية أخرى، فقد يتوقف الكلب عن النباح، ليس لبخل صاحبه، وإنما لكثرة الضيوف واستمرار الوفود على منزل صاحبه؛ فهو -أي الكلب- لم يعد يشعر بالغربة معهم؛ وهذا المعنى تداوله الشعراء كثيرًا في امتداح الكرماء، ومن ذلك قول نصيب:
وكلبك آنس بالزائرين ** من الأم بالابنة الزائرة
فأُنْس الكلب بالزائرين نتيجة معرفته بهم واعتياده عليهم، وعدم نباحه خروج على مقتضى طبيعته، ومثله الكناية المعروفة "جبان الكلب" التي تخرج الكلب عن طبيعته وتؤكد جبنه، رغم أن الحراسة والصيد هما وظيفته الأساسية وهذا يتطلب شجاعته واستمرار نباحه. ومن ذلك قول حسان بن ثابت:
يُغشوْن، حتى ما تهرُّ كلابُهمْ ** لا يسألونَ عن السواد المقبل([9])
فالمدح هنا يرتكز على هذه الكناية التي مرجعها القيمي "ذم البخل"؛ فنباح الكلب في الضيوف دليل على عدم اعتياده رؤيتهم، وأن المشهد بالنسبة له غير مألوف، ومن ثم كان عدم النباح دليلا على الكرم.
- النار:
للنار حضور مميز في البنية العقدية قبلَ الإسلام وَبَعْدَه؛ ولها أيضا الحضور ذاته في الفكر الإنساني عامة؛ فهي أحد العناصر الأربعة الأساسية في التصور القديم للكون والحياة، وحولها تاريخ طويل من الخبرات الإنسانية التي جعلتها معبودًا مرهوبًا حينًا، وأحد القوى التي اعتمد عليها الإنسان في تلبية احتياجاته الأساسية حينًا آخر. وما بين قداسة الاعتقاد وسطوة القوة كانت النار أحد العناصر المهمة المشكلة للثقافة الإنسانية، ومن ثم، فقد غدت واحدة من الصور النمطية الأساسية.([10])
ولهذا كان حضور النار مميزا، وكانت العناية بها ضمن سياق تداولي محدّد هو سياق الضيافة أكبر من مجرد إشارة؛ فالنار دائمًا ما توقد فوق ربوة عالية، وهي دائما قوية شديدة "حَضَأْتُ لَه نارًا لهَا حَطَبٌ جَزْلُ" وقد تدقق بعض النصوص فيها وتبالغ في وصف مواد إيقادها كالقطر والمندل والغار، وذلك فيما يقول الألوسي، ليهتدي العميان إلى رائحتها الزكية، يقول عدي بن زيد:
رب نار بت أرمقها ** تَقْضِمُ الهنديَّ والغارا
ولهذا احتلت النار مركز الصورة أيضا في رثاء الموتى، فالكريم المضياف يشبه بالنار المشتعلة، "كأنَّه عَلَمٌ في رأسه نار". الكريم رمز الخير والعطاء، تماما كما كانت النار في التصور الميثولوجي؛ ترمز لآلهة الخير التي يجب استرضاؤها ومعاونتها على قوى الشر.([11])
ونظرا لمكانة النار، فقد تبدو في بعض الأحيان موضعا للمديح بها باعتبارها علامة أكرم من نباح الكلب، فالنار لا تكون إلا على مكان مرتفع، وهذا بحد ذاته يؤشر لرفعة مقام مشعلها وكرمه، وهذا ما انتبه إليه كعب الأشقري، حيث يقول:
رفعوا الوقود على الجبال ترفعًا ** أن يُسْتدلّ عليهم بنباحِ
ومثله قول ابن مطرود:
أوقدَ النَّارَ بالفضا حينَ لَمْ يرْ ** ضَ نُبَاحَ الكلابِ للأضيافِ([12])
وتبدو النار أيضا، موضوعا لفضائل الأقوال السيارة؛ فقد قال الأصمعي لبعض الأعراب: "ما تعرفون من مكارم الأخلاق؟ قال: تضيء نارنا للضيف ولا تنبح كلابنا، ونقريه وجوهنا قبل طعامنا" وقيل لأعرابي ممن أنت؟ قال: ممن يهتدي برأيه الصحب، ويستدل بناره الركب. وقال آخر: لهم نار وارية الزناد، قديمة الولاد، تضيء لها البلاد ويحيى بها العباد. (محاضرات الأدباء ص 657)
- الناقة:
تعدّ الناقة أحد علامات الشعر الجاهلي؛ فهي الحيوان المأنوس الذي يشكل جانبًا من وجود الشاعر، ولكنها لا تخضع لمأساوية تجربته، كما نجد مع الحيوانات غير المستأنسة، "أي أن ما هو جزء من وجود الشاعر المعرض للتفتيت والانهيار والتغير والمأساة والفجيعة يبرز دائما في دور مضاد لوجود الشاعر، فهو سبيل الحياة والانفلات من المأساة والفجيعة، هو رمز الصلابة والمنعة والقدرة على تحقيق الذات والانتصار على الموت".([13])
وعلى الرغم من أن الناقة سبيل نجاة الشاعر، إلا أنه يضطر إلى ذبحها حين يطرق بابه طارق، فتقويض بنيان الناقة ليس سهلا، ولا يكون إلا إحياء لبنيان آخر، هو بنيان الطارق أولا، والمضيف ثانيا. يقول ابن هرمة:
ويدل ضيفي في الظلام على القرى ** إشرافُ ناري أو نباح كلابي
حتى إذا واجهته وعرفته ** فديته ببصابص الأذناب
فالحرص على كرم الذبيحة يمكن رده إلى هذا الجدل بين الذات والآخر، وليس أكرم من الناقة في هذه البيئة، يقول شاعر آخر:
وقُمْتُ مُسْتَنبْطًا سَيْفيِ وأَعْرَضَ لِي ** مِثْلَ المُجَادِلِ كَـوْمٌ بَرَّكَتْ عُصَبَا
فَصَادَفَ السَّيْفُ مِنْهَا سَاقٌ مُتْلِيَةٍ ** جَلْسٍ فَصَادَفَ مِنْه سَاقُهَا أعْطَبَا
زَيَّافَةٍ بِنْتُ زَيَّافٍ مُذَكِّرَةٍ ** لمّا نَعَوْهَا لِرَاعي سَرْحِنَا انْتَحَبَا([14])
هذا التصور للناقة لا يمكن فهمه إلا في ضياء الحرص على تجنب المذمة، التي تشكل "التابو" المحرم الذي يجب اتقاؤه، وحين تغدو المذمة لغة تتحول إلى فعل حقيقي؛ حيث يصبح النص الهجائي - (بنية هدم) - سلطة بها يتقوض مجد مؤثل، ويتحاشاها أفذاذ الرجال.
ولا تتوقف عناية العرب بالضيافة عند هذا القدر، وإنما نجدهم يحرصون على ذكر أواني الطهي وأشكاله، ويؤكدون ضخامتها واتساعها بما يؤكد عنايتهم بضيفهم ومقدار عطائهم، ومن ذلك قول حسان بن ثابت:
رأيت قدورَ الصَّاد حول بيوتنا ** قنابلُ دهمًا في المباءة صيما([15])
ومنه قول زياد الأعجم:
وقدرٍ كجوف الليل أحشمت غليها ** ترى الفيل فيها طافيا لم يفْصَل
لو أن بني حواء حول رمادها ** لما كان منهم واحد غيرُ مصطلِ
ويصفون غليان القدر، كما في قول دعبل:
وباتت قدورنا طربًا تغني ** علانية بأعضاء الجزورِ
داخل مفهوم الضيافة يتأكد جدل طرفي التضايف: الأنا والآخر، فالآخر الضيف يتحول إلى صاحب حق، أو إلى سيد مخدوم، ويتحول "المضيف" إلى خادم، ولأن الأمر غدا عالما بذاته، نجد الحرص الشديد على البذل والعطاء، والسعي إلى الضيف قبل أن يسأل أو يطلب الضيافة، والالتزام بآداب الضيافة. كما يؤكد الشاعر:
وإنا لمشاؤونَ بيْنَ رِحَالنا ** إلى الضَّيْف منا لاحفٌ ومُنيمُ
فذُو الْحِلْم منَّا جاهلٌ دون ضيْفِهِ ** وذو الجَهْلِ منَّا عن أَذَاهُ حَلِيمُ([16])
ومن الدلالات الدقيقة – فيما يتعلق بآداب الضيافة وحسن الاستقبال- ألا يُسْأل الضيف عن اسمه أو وجهته، يقول ابن علقمة:
ولا تسأل الأضياف: من هم؟ فإنهم ** هم الناس من معروف وجه ومنكرِ([17])
كما يجب أن يظهر المضيف سروره بضيفه، يقول دعبل:
ما زلت بالترحيب حتى خلتني ** ضيفًا له، والضيفُ ربّ المنزل
ومنه قول الشاعر:
أحدثه إنَّ الحديث من القرى ** وتعلم نفسي أنه سوف يهجع([18])
وعلى الرغم من اعتداد العربي بذاته، وأنفته من كل ما قد يشتم منه رائحة العبودية، إلا أنه لا يأنف من أن يخدم ضيفه، بل أكثر من ذلك: أن يكون عبده ما دام عنده، كما في قول الشاعر:
وإني لعبد الضيف مادام نازلا ** ولا فيّ إلا تلك من شيمة العبد
فوعي الذات بنفسها في فعل الضيافة جزء من وعيها بالآخر، فغياب الذات نتيجة لحضور الآخر، هذا الحضور الذي بمقتضاه تتراجع الذات إلى الخلف، وتتحلى بالحلم حتى وإن جهل الضيف، ولكن هذا الغياب يؤسّس من زاوية أخرى لحضور الذات ووعيها الشديد بفعل الضيافة والتزامها بما يوجبه عليها، لنقل بوضوح أكبر: إن مبالغة الذات في الغياب نتيجة وعي شديد بمقتضيات حضورها.
- ومع الإسلام، سوف يتأكّد مفهوم الضيافة ويأخذ بعدًا عقديا، كما في قوله تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".{الإنسان: 8}.. لقد غدا إكرام الضيف من الإيمان لقوله (ص) "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" (أخرجه البخاري في الأدب المفرد) ثم تراه يؤكد الآداب ذاتها التي أكدها العربي قبل ذلك، ويضيف عليها، كآداب القدوم وآداب المغادرة، فمن القدوم الاستئذان عند الدخول، وعن أبي هريرة أن النبي قال: "إن من السنة أن يمشي الرجل مع ضيفه إلى باب الدار".
وهذه المعاني سوف نجدها في أقوال البلغاء والفصحاء بعد ذلك، فمثلا يقول أبو الليث السمرقندي: "على الضيف أربعة أشياء؛ أولها: أن يجلس حيث يُجلس( أي يجلسه مضيفه) وثانيها: أن يرضى إذا جاد لها صحاب الدار بموجوده، وثالثها: ألا يقوم إلا بإذن ربّ البيت، ورابعها: أن يدعو له إذا خرج". وقريب من هذا ما نجده عند ابن الجوزي؛ فقد أشار إلى هذه الآداب بقوله: "ومن آداب الزائر ألا يقترح طعاما بعينه، وإن خيّر بين طعامين اختار الأيسر، إلا أن يعلم أن مضيفه يُسر بذلك".([19])
- فالضيافة في بنية الثقافة العربية ممارسة عقدية راسخة، فهي قيمة أصيلة عرفها العربي قبل الإسلام، وجاء الإسلام ليؤكدها وينتقل بها من فضاء الضرورة البيئية إلى فضاء الواجب العقدي والالتزام الإنساني معًا...بالتأكيد سوف تغدو الضيافة مع تطور العصور وتغيرها مؤسسات قائمة، منها بيت المال الذي يجعل أحد مصارفه للسائلين وأبناء السبيل، وهو ما سوف يتأكد مع مؤسسات العمل المدني والجمعيات الخيرية فيما بعد.
المصادر والمراجع:
- أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، ج، (2)، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
- أبو تمام: ديوان الحماسة، برواية أبي منصور موهوب ابن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، شرحه وعلق عليه: أحمد حسن بسج، ط. (1)، دار الكتب العلمية – لبنان 1998م.
- أحمد أمين: فجر الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997
- أمين عبد الله الشقاوي، الفتاوى الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، (5- 344)، "من آداب الضيافة واستقبال الضيوف والزوار" شبكة الألوكة رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/107678
- ديوان زهير بن أبي سلمى: صنعه الأعلم الشنتمري، تحقيق: فخر الدين قباوة، ط(1) دار الكتب العلمية، بيروت 1992
- عيسى الشماس: مدخل إلى علم الإنسان: الأنثروبولوجيا، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2004
- كمال أبو ديب: الرؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986
- محمد عبد الباسط عيد، بلاغة الخطاب قراءة في شعرية المديح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015
[1] - ذوات العدد43
[2] - د. عيسى الشماس: مدخل إلى علم الإنسان: الأنثروبولوجيا، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2004م، ص. 95
[3] - أبو تمام: ديوان الحماسة، برواية أبي منصور موهوب ابن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، شرحه وعلق عليه: أحمد حسن بسج، ط. (1) دار الكتب العلمية – لبنان 1998م. ص. 319
[4]- ديوان زهير بن أبي سلمى: صنعه الأعلم الشنتمري، تحقيق: فخر الدين قباوة، ط(1) دار الكتب العلمية، بيروت 1992م، ص. 57
[5] - ديوان الحماسة: حماسية رقم 690
[6] - السابق: حماسية رقم 690.. مستنبح: من النباح، وهو تقليد صوت الكلب.. حضأ النار: أوقدها بغليظ الحطب.
[7] - نفسه: حماسية 688.. الجانح: المائل. يستتيهه: من الفعل تاه يتيه.
[8] - نفسه: حماسية رقم: 697 أراد بقوله فجاوبه مستسمع الصوت: أنه جاوبه كلب. والمهبون: الموقظون له ولأهله وهم الأضياف وإنما كان له معهم مطعم لأنه ينحر لهم ما يصيب منه.
[9] - أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، ج(2) منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ص. 649
[10] - انظر كتابنا: بلاغة الخطاب قراءة في شعرية المديح، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015م
[11] - انظر: أحمد أمين: فجر الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م، ص، 99
[12] - محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، سابق، ص، 656
[13] - كمال أبو ديب: الرؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م، ص. 339
[14] - ديوان الحماسة: حماسية رقم 689 للشاعر الأموي: "مرة بن محكان". مستبطن: متخذا السيف كأنه بطانة له. المجادل: جمع "مجدل" وهو القصر. والمقصود: أن جسمها كمل وسمن. كوم: جمع "كوماء" وهي الناقة العظيمة السنام. المتلية: أي التي لها ولدي يتلوها . الجلي: المكان الصلب المرتفع. الزيافة: التي تتبختر في مشيتها. والمقصود من هذا الوصف أن الناقة كريمة العرق والجوهر. والمذكرة: التي تشبه الذكورة في خلقتها. وقوله: لما نعوها، الفاعلون (يقصد الناس) أي بما ذكر الناس ما جرى عليها لراعي سرحنا (قطيعنا)، أي راعي مالنا السارحة انتحب الراعي حزنا.
[15] - محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، مصدر سابق، ص، 655. الصاد: النحاس. القنابل: العظيم الرأس. دهمًا: سودا. المباءة: المنزل.
[16] - ديوان الحماسة حماسية رقم 695.. اللاحف: من يلبسه اللحاف، والمنيم من يحدثه حتى ينام
[17] - محاضرات الأدباء، سابق، ص 648
[18] - ابن قتيبة: عيون الأخبار (م 9) ص 240 والمقصود بالغزال المقنع: امرأته أو محبوبته.
[19] - الفتاوى الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، (5- 344) نقلا عن د. أمين عبد الله الشقاوي، "من آداب الضيافة واستقبال الضيوف والزوار" شبكة الألوكة رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/107678
