الطاعون والمرأة المصرية في المجال العام: بين الماضي والحاضر


فئة :  مقالات

الطاعون والمرأة المصرية في المجال العام: بين الماضي والحاضر

تقديم:

مع تفشي جائحة كوفيد 19، اتجه الكثير من الباحثين والمختصين في مجالات عدة: من بينها علم النفس والاجتماع والفلسفة لدراسة ما قد تخلفه تلك الجائحة من آثار سلبية وجوانب إيجابية على علاقات الأفراد والمجتمعات. ورغم أن تاريخ البشرية حافل بعدد كبير من الكتب والأبحاث التي وثَّقت تاريخ الأوبئة والطواعين، وما سبَّبته من معاناة للإنسان، وهلاك قرى ومدن بأكملها على مدى تاريخ البشرية، والتي تطرق الكثير منها لما خلَّفته تلك الطواعين والأوبئة من آثار سياسية ديموغرافية واقتصادية، إلا أن القليل منها بحث فيما تركته تلك الطواعين من آثار على نمط الحياة الاجتماعية في كثير من تلك المجتمعات. وفي هذه الصفحات، سأناقش بعض الآثار الاجتماعية لثلاثة من أشهر الأوبئة التي مرَّ بها المجتمع المصري قبل وباء كوفيد 19 المتفشي حاليًا، والتي كان لها أثر كبير على وضع المرأة المصرية في المجال العام، وتغيير عاداتها وسلوكها، وهي: الفناء الكبير، والذي وصل ذروة نشاطه عام 1437، والطاعون الذي ضرب مصر لمرات متكررة أثناء حكم محمد علي باشا، والذي بدأ عام 1813، والإنفلونزا الإسبانية التي وصلت مصر عام 1918.

نبذة حول وضع المرأة المصرية في ثقافة مصر القديمة:

لم تشهد الحضارة المصرية القديمة التي استمرت لآلاف السنين (من حوالي 3100 قبل الميلاد إلى الغزو اليوناني عام 333) عددًا كبيرًا من الأوبئة والطواعين القديمة، ويرجع ذلك إلى التقدم الهائل في المجال الطبي، والاهتمام الشديد بالنظافة الجسدية، وكذلك وبصفة خاصة بسبب انعزالها عمن حولها من حضارات ومجتمعات تختلف عن الممارسات والثقافة المصرية لفترة قاربت 1500 عام، قبل أن يدخلها المحتلون، قادمين من شبه جزيرة سيناء خلال فترة من الضعف السياسي والاقتصادي أثناء نهاية حكم الدولة الوسطى، وحكم الجزء الشمالي من مصر لقرابة قرن من الزمان. ومع ذلك، فقد استمرت الحضارة والثقافة المصرية في مواصلة تفوقها، حتى وصلت أوج مجدها خلال حكم المملكة الحديثة (1550 ق.م - 1077 ق.م)، قبل أن تبدأ الممارسات والاعتقادات، بل والقوانين واللغة المصرية القديمة في الاختفاء شيئا فشيئا مع دخول القائد المقدوني إسكندر الأكبر في عام 332 قبل الميلاد، وسيطرة الحكم الروماني ومَنْ لحقوا بهم من محتلين.

حظيت المرأة المصرية في المجتمع المصري القديم بمكانة مميزة في الثقافة الشعبية المصرية والقوانين التي تساوي بين الجنسين في الحقوق والواجبات إلى درجة كبيرة

يصف المؤرخ اليوناني هيرودوت (حوالي 484 ق.م - 425 ق. م) تميزَ مصر وثقافةَ شعبها قبل الاحتلال اليوناني بقرن من الزمان بأنها: «تمتلك الكثير من العجائب: ولا يوجد أي [بلد آخر] به كل هذا مما يستعصي علي الوصف، فليس مناخها فقط الذي يختلف عن بقية العالم، بل ونهرها الذي يتميز عن كل أنهار العالم، وحتى شعبها كذلك يختلفون في معظم عاداتهم وسلوكهم عن سواهم من الجنس البشري»، وهنا يستغرب كيف أن النساء في مصر تخرج للتسوق، بينما يبقي الرجال ينسجون الأقمشة في بيوتهم. أما ما وجده هيرودوت أكثر غرابة، فهو أن المصريين إذا أرادوا تناول طعامهم قاموا بذلك خارج البيوت، أما إذا أرادوا التبول دخلوا إلى بيوتهم[1].

وقد حظيت المرأة المصرية في المجتمع المصري القديم بمكانة مميزة في الثقافة الشعبية المصرية والقوانين التي تساوي بين الجنسين في الحقوق والواجبات إلى درجة كبيرة: إذ يرى علماء المصريات والأثريون بعدم وجود دليل على أن الثقافة المصرية كانت ثقافة كارهة للنساء، أو ميَّزت بين الجنسين في الحقوق: ففي دراسة أُجريت مؤخرًا حول وضع النساء في مصر القديمة، يؤكد عالم المصريات جان فيركوتر (Jean Vercoutter) بأنه: «لا شك في أن المصريين لم يكن لديهم أي تحيُّز ضدَّ النساء، متحدثًا هنا عن فترة حكم المملكة الوسطى (2060-1785) فلم يكن الرجل يعتبر نفسه في مرتبة أعلى فقط لكونه رجلًا»، وهو ما يؤكده ادعاء عالم المصريات سي جي اير (C.J.Eyre) بقول رمسيس الثالث بأن: «المرأة المصرية يمكنها أن تذهب حيثما تشاء دون التعرض للتحرش على الطرقات»: فلم تكن المرأة في مصر ممنوعة من الاختلاط أو الخروج للفضاء العام، على عكس غيرها من النساء في الحضارات المجاورة، والتي استطاعت أن تهيمن على الثقافة المصرية في الفترات التالية. وهنا سأشير باختصار لحضارة ما بين النهريين: فقد كانت من أهم الحضارات وأكثرهم تأثيرًا على ما حولها من حضارات في شرق المتوسط وغربه.[2]

تُعَدُّ الحضارات التي نشأت مبكرًا على ضفاف نهري دجلة والفرات ما بين (3500 أو 3000) قبل الميلاد، من أهم وأقدم الحضارات التي عرفتها الحضارات الإنسانية، فكانت أول الحضارات التي عُرفت فيها الكتابة، وتطورت فيها الفنون وعرفت القانون، إلا أنها كانت من أكثر الحضارات التي عانت فيها المرأة من التمييز والظلم: فعلى امتداد تاريخ تلك الحضارات، ورغم أن الزواج كان أحاديًّا بين عامة الشعب، على خلاف الطبقة الحاكمة التي اتخذت لنفسها (حريمًا) اختلف عدد النساء به، إلا أن النساء بصفة عامة عانوا تمييزًا واضحًا ظهر في إجبارهن بالقانون على ارتداء ملابس تحجب ظهورهن تمامًا، إذ اعتبرت النساء ملكًا لآبائهن على أن يتم انتقال ملكيتهن للأزواج والأبناء من الذكور بعد وفاة الزوج. وبالتالي وللمحافظة على ممتلكات «الرجال»، منع على الرجال الغرباء رؤية نساء غيرهم، بينما منع القانون نفسه النساء من العبيد والغانيات من غطاء وجوههن، كما دخل كذلك نظام «الحريم» أو «عزل نساء الطبقة العليا والنبلاء» إلى الثقافة في تلك المنطقة، حتى وصل أوجه في فترة حكم الإمبراطورية الساسانية (224-651 م). فحريم الحاكم الآشوري في القرن الثاني عشر الذي تكون من أربعين امرأة، وصل عدد النساء فيه حوالي اثنتي عشرة ألف امرأة خلال حكم الإمبراطور الساساني خسرو الأول (531-79م).[3]

تواجد المرأة في السوق قد تجاوز أحيانًا تواجد الرجال، وأنهن كنَّ قادرات على التحدث مع الرجال عن قرب

المرأة المصرية في العصر الإسلامي الوسيط والحريم:

دخلت ثقافة الحريم والفصل بين الجنسين الثقافة المصرية، كغيرها من البلدان من حولها التي تأثرت بحضارة بلاد الرافدين حتى قبل دخول الإسلام، ورغم أنه لا يوجد نصٌّ في القرآن يفرض غطاء الوجه للمرأة، ويمنع الاختلاط بين الجنسين، ورغم أن الثقافة الإسلامية لم تطبق تلك العادات في فتراتها الأولى، إلا أن المجتمعات الإسلامية الشرق أوسطية خصوصًا، بدأت منذ القرن الثامن الميلادي في إعطاء كل السلطة السياسية والدينية للرجال، تلك السلطة التي فرضت قيودًا مشددة على وضع المرأة في المجتمعات المسلمة، بل واستخدمت تفسيراتٍ دينيةً أكثر تشددًا: لتبرر تلك القيود على النساء. ولم تكن مصر استثناءً في ذلك، رغم أن الكتب التاريخية والوثائق تؤكد أنه كانت هناك محاولات عدة من جانب المرأة المصرية لتحدي تلك السلطة الذكورية عليهن.

فقد استمرت النساء من عامة الشعب، بل ونساء الطبقات الثرية كذلك في الظهور في المجال العام، سواء كان ذلك في الخروج للعمل في الأسواق أو للترويح عن أنفسهن، الأمر الذي كان كثيرًا ما يثير غضب بعض الحكام ورجال الدين، فيتم حظر خروج النساء من منازلهن كما حدث مثلًا، في حوالي عام 1000، حيث أمر حاكم مصر الحاكم بأمر الله بمنع صناعة الأحذية للنساء، ومنعهن من مغادرة منازلهن مطلقًا، مدّعيًا أن هدفه هو تطبيق «الإسلام الحقيقي».[4] إلا أنه -على ما يبدو- لم يكن المرسوم قادرًا على الصمود طويلًا دون خرق لفترات تالية، كما تشير كتابات لمؤرخين مثل المؤرخ المغربي ابن الحاج (1250-1336)، والذي عاش في مصر فترة حكم السلطان المملوكي الناصر قلاوون، وكانت فترة من القوة السياسية والازدهار الاقتصادي، فكثر البيع والشراء وازدحمت الأسواق بالناس. يوثِّق ابن الحاج الحياة اليومية في القاهرة خلال الأسبوع، مؤكداً أن تواجد المرأة في السوق قد تجاوز أحيانًا تواجد الرجال، وأنهن كنَّ قادرات على التحدث مع الرجال عن قرب، وخاصة يوم الخميس: لأنه عطلة نهاية الأسبوع.

وبحسب ابن الحاج[5]، فقد تمَّ تقسيم وقت النساء في المجال العام إلى زيارة الأضرحة والمقابر، وحضور الجنائز، والذهاب إلى الحمام، أو التسوق لشراء الحلي والعطور للنساء الثريات، هذا خلاف يوم الخميس والمناسبات والأعياد الدينية، حين كانت تخرج فيها النساء متزينات وكثيًرا ما كشفن عن وجوههن، ما تسبب في سخط رجال الدين الذين دعوا الحكام والسلاطين لمنع النساء من الخروج للشارع، وهو ما تكرر عدة مرات، فقد كنّ يمنعن من زيارة المقابر والأضرحة، أو الخروج كما حدث في عام 1255 بأمر من الملك بمنع النساء من الخروج سوى للحمام. وفي عام 1374 حين منعت النساء من الركوب مع الرجال أو الخروج للتنزه في الأعياد أو زيارة الأضرحة والمقابر، حتى تم منعهن من الخروج إلى الشارع مطلقًا، إلا إذا كان عذرهن الوحيد الموت بأمر من السلطان، وإلا تعرضن للضرب والسجن. ورغم أن البلاد كانت تمر بفترة من الاضطرابات والفتن والتقاتل على السلطة السياسية، تسببت في انتشار الفوضى في البلاد، بالإضافة إلى الأوبئة والطاعون الذي تسبب في انتشار الغلاء والسلب والنهب وتفشي التسول، ما عدا عدد من رجال الدين الذين زعموا أن خروج النساء واختلاطهن يعد المسبب لما مرّ بالبلاد من اضطرابات وخصوصًا الطاعون، أو الوباء الكبير -كما أطلق عليه ابن بطوطة- الذي انتشر في مصر كغيرها من البلاد، وقضى على عدد كبير من السكان.

وقد كان الطاعون الذي أصاب مدينة الإسكندرية عام 1348، ثم انتقل إلى معظم المحافظات، سببًا لفترات من قمع النساء في البلاد، مما كان له الأثر الكبير على النساء وخصوصًا الفقيرات العاملات كالأرامل والمطلقات، واللاتي اكتسبن قوتهن من المهن البسيطة التي كانت تناسب النساء في السوق، كعجن الدقيق وغسيل الملابس وخياطتها وتطريزها أو عملهن في تنظيف المنازل للأغنياء، وكذلك كسدت البضائع بسبب غياب النساء عن الأسواق. يقول المقريزي في منع النساء من الخروج عام 1437 "وأخذ والي القاهرة وبعض الحجاب في تتبع الطرقات وضرب من وجدوا من النساء، وتشددوا في الردع والتهديد، فلم تر امرأة في شيء من الطرقات، فنزل بعده من الأرامل وربات الصنائع ومن لا قيم لها يقوم بشأنها.."[6]. كما أن الطاعون نفسه كان أحد عوامل تغيير عادات النساء وسلوكهن الاجتماعي، على أثر ما خلَّفَة الطاعون من وفيات تجاوز عددها الآلاف، تكدست جثثهم في الشوارع، فقد وصلهم عددهم لـ 900,000 ألف في القاهرة وحدها على مدى شهرين، في حين أن دراسات تفترض أن ما خلَّفَه الطاعون في ذلك الوقت بـ 450,000 تقديرًا مع عدد سكانها في ذلك الوقت...[7] التزم النساء والرجال على السواء بالصلاة، وترك مظاهر البهرجة والشهوانية المفرطة وانتشرت ظاهرة التصوف ولبس الخشن من الملابس: لإحساسهم بقربهم من الموت ما حوَّل أعيادهم لما يشبه «المأتم»، ما أسماه الكاتب بلقاسم الطبابي «الموت الرمزي» في كتابه «الموت في مصر والشام: الجزء الأول: النكبات ديموغرافية في العهد المملوكي (1250 : 1517)». يكتب الطبابي: «أقبل عيد الأضحى فكان «أشبه بالمأتم» لما طَرَقَ الخلقَ من الحزن والكآبة، وتُصوِّر المصادرُ الأجواءَ النفسيةَ التي سادت السلطنة خلال الطاعون العام، إذ كانت أشبه بأجواء الرحيل، الذي لا لقاء بعده. فالاستعدادات حثيثة من قِبل الجميع لمغادرة الدنيا الزائفة ... وتشمل الجميع موجة عاتية من «التقوى»، والإقبال على العبادة والتوبة والانصياع لتعاليم الشريعة، أليس الطاعون قصاصًا إلهيًّا عادلًا».[8]

كان الطاعون الذي أصاب مدينة الإسكندرية عام 1348، ثم انتقل إلى معظم المحافظات، سببًا لفترات من قمع النساء في البلاد

وكان مثل هذا الحظر على خروج النساء للشارع يتكرر من وقت لآخر، ويتمُّ التخلي عنه بعد فترة سواء بسبب تغيير سياسة الحكام وخضوعهم لما تقضيه شِئون الحياة اليومية وحاجات الفئات البسيطة، أو بتحدٍّ من قبل النساء من الطبقات الثرية وخروجهن على السلطة، كما استمر النساء في مصر بصفة عامة باتباع غطاء الوجه، بينما استمرت المرأة المصرية البسيطة في العمل لتدبير شئون نفسها، وكسب قوت أبنائها وذويها في الفضاء العام حتى القرن التاسع عشر، حين تمَّ الالتقاء بالثقافة الغربية التي جاءت بقيم الحداثة التي عارضت بشدة نظام الحريم وبقاء النساء في الفضاء الخاص وعزلهنَّ، وكذلك غطاء وجوههنَّ في المجال العام.

الطاعون والمرأة المصرية الحديثة:

كان التقاء الثقافة المصرية بقيم الثقافة الغربية الحديثة خلال الحملة الفرنسية على مصر في عام (1798) بمثابة صدمة حضارية هزت أرجاء المجتمع المصري، نتجت عنها تغييرات كبيرة فيما يتعلق بجوانب مثل العمارة والزراعة والتعليم وحتى ذوق ترتيب المنزل، بينما بقي هيكل الأسرة والعلاقات بين الجنسين في خارج المنزل، وكذلك اللباس اليومي كما هو دون تغيير ملحوظ. فقد كان هدف محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة (والذي تمت توليته من قبل طبقة العلماء حاكما لمصر عام 1805 بعد طرد القوات الفرنسية من مصر وفراغ السلطة السياسية) هو بناء دولة حديثة تضاهي الدول الأوروبية في جميع المجالات التي تخدم الجيش خصوصًا، ولذا اهتم بالتعليم والاقتصاد والزراعة، إذ تمَّ تأسيس اثنتي عشرة مدرسة للتعليم العالي بين عامي (1816 و1839)، وإرسال أكثر من 300 طالب إلى أوروبا لدراسة العلوم واللغات والأدب والفنون الحديثة بين عامي (1809-1847). وعلاوة على ذلك، شهدت مصر حركة واسعة للترجمة لعدد كبير من الكتب في جميع مجالات العلوم والفنون إلى اللغة العربية والتركية.

كان هدف محمد علي الأساسي هو توفير الاحتياجات لجيش قوي: لحماية البلاد من أيّ عدوان من الخارج، وليس تحقيق قيم الحداثة الداعمة للديمقراطية، وتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع. فلم يكن هناك اهتمام بمشاركة المرأة في المجتمع أو تحسين وضعها الاجتماعي، عدا الفتيات من الطبقات الحاكمة والأثرياء واللائي كن تتلقين التعليم الأوروبي والعربي في المنازل بواسطة معلمين أوروبيين: مثل الأميرة نازلي فاضل، والتي قامت بإنشاء أول صالون فكري مصري، والشاعرة المرموقة عائشة تيمور (1840/1902)، ولكن سيأتي التغيير ليشمل فتيات مصر من الفئات المختلفة للمجتمع مع تفشي الطاعون الذي ضرب البلاد عام 1813.

تفشى الطاعون بصفة خاصة في المناطق التي تقع على شواطئ الإسكندرية ورشيد ودمياط، ثم امتدَّ إلى القاهرة، ليُخَلِّفَ عددًا كبيرًا من الوفيات، تصدى محمد علي للطاعون بشتى الطرق، فقد دعا المشايخ للحضور للمساجد لقراءة القرآن، كما أقام المحاجر الصحية، وفرض سياجات صحية على المناطق المنكوبة، وأمر بتنظيف البيوت والمحال والأماكن العامة، إلا أن أهم ما يمكن ذكره هنا -مما يخص وضع المرأة المصرية- هو أن المرأة المصرية أصبحت لأول مرة ممارسة للطب، فقامت بمعالجة النساء والأطفال في المنازل والمستشفيات ومناطق الحجر الصحي، ولأول مرة أصبحت تتلقى راتبًا حكوميًّا، في تلك الفترة التي أقيمت فيها مراكز للحجر الصحي في الموانئ ما بين عام (1830 و1840)، وحسب ليلى أحمد (1992)، فقد أثبتت الحكيمات كفاءتهن في تطعيم الأطفال، ومعالجة المصابات بالطاعون، وتحري أسباب الوفاة، وكان لهذا صدى كبير في أهمية تعليم الإناث في المجتمع، حتى وإن ظلَّت تلك الفكرة دون تطبيق عملي حتى سبعينيات القرن التاسع عشر مع تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر.

الطاعون وزي النساء في المجال العام:

كان الخديوي إسماعيل أول أحفاد محمد على باشا الذي أولى اهتمامًا كبيرًا بالتعليم كأساس لكل تقدم، فقام بإنشاء لجنه تعليمية مباشرةً بعد توليه الحكم، وهي التي أوصت بإتاحة التعليم لكل المصريين بمن فيهم الإناث، وتطوير الكتاتيب لتدخل النظام التعليمي في الدولة، وكان من بين أعضاء تلك اللجنة علي باشا مبارك (1824-1893)، والذي دعم تعليم الفتيات وعملهن، حتى وإن كانت مهمتهن الأولي هي رعاية شئون منازلهن، في عام «1873 أنشأت الدولة أول مدرسة ابتدائية للفتيات، وفي عام (1874) أنشأت مدرسة ثانوية، وقد بلغ عدد كل الحضور من الفتيات في المدرسة الابتدائية (890) فتاة من أصل (5362) في العام التالي، ورغم أن الخديوي إسماعيل كان بصدد تأسيس العديد من المدارس: لتمكين الفتيات من اكتساب المعرفة والتعليم، إلا أن مشروعه التعليمي لم يكتمل، وخصوصًا بسبب تزايد الديون في عهده، والتي أنفقت على الكثير من المشاريع المعمارية والقصور، منتهيةً بإجباره على التنازل عن العرش في عام 1879».

المرأة المصرية أصبحت لأول مرة ممارسة للطب، فقامت بمعالجة النساء والأطفال في المنازل والمستشفيات ومناطق الحجر الصحي

ولكن النقاشات حول تعليم المرأة وعملها والقوانين الخاصة بتحسين وضعها في المجال العام ستستمر مع بزوغ نخبة الطبقات العليا والطبقات المتوسطة العليا، والتي درست في مدارس أوروبية في الغرب، وتأثرت بقيم الحداثة الأوروبية، أو مَنْ درسوا في مصر على أيدي أوروبيين. وكان أولها صالون الأميرة نازلي في عام 1890، وكان أهم مرتادي هذا الصالون (الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين). وتُعَدُّ تلك الشخصيات الثلاث هي مَنْ قادت حركة التحرير في المجتمع المصري على المستويات الدينية والفكرية والقومية. ليتبعه بعد ذلك، صدور العديد من الكتابات والمقالات للعديد من المفكرين والقادة تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة في المجال العام وغيره، وركزت تلك الدعوات بشكل أساسي على التخلي عن ارتداء الحجاب «البرقع» كرمز لتخلف المرأة وتدهور أوضاعها في عدد من المجلات النسائية (خاصة عام 1896)، ولكن كان لكتابي قاسم أمين الأثر الأكبر في ذلك، فبعد نشر كتابه الأول (تحرير المرأة) 1899، نُشرت العديد من الكتب والمقالات العربية بين مؤيد ومعارض له، من بينها مقالات للزعيم الوطني مصطفى كامل الذي نشر عددًا من المقالات في صحيفة (اللواء) تهاجم آراء قاسم في التخلي عن الحجاب واعتباره موالاة للغرب، الأمر الذي دفع قاسم أمين للرد على منتقديه في كتاب «المرأة الجديدة» عام (1900). وكان قاسم أمين يدعو إلى اتباع برنامج يتضمن تحرير المرأة بالتخلي عن "البرقع" الذي يحجبها عن المشاركة الفعالة في المجتمع، مؤكدًا أن تلك العادات من عزل النساء وارتداء البرقع كانت عادات أُخذت عن الثقافات الأخرى، وليست اتباعًا للدين الإسلامي.

ثم صدرت بعدها عدة مجلات تدعم رأي قاسم أمين بطريقة قوية ومنها مجلة «السفور» في عام (1915): التي دعت النساء إلى خلع البرقع بطريقة مباشرة، والترويج لأشهر الأزياء والتصميمات الغربية، وكذلك أحدث تسريحات الشعر. وكانت السيدة هدى شعراوي أول امرأة مصرية مسلمة تخلع البرقع، في محطة قطار مصر عند عودتها من مؤتمر المرأة الدولي بروما في عام (1923)، ما كان بمثابة رمز لانتهاء نظام الحريم في مصر، ورغم أن فعل هدى شعراوي الثوري كان مثل آراء أمين يُعبر عن مشكلة تخصُّ الشريحة الثرية من المجتمع المصري بالدرجة الأولى، ورغم أن فعل هدى شعراوي قد لقي معارضة في بداية الأمر، ليس فقط من المتدينين والمتدينات، ممن درسوا في مدارس دينية، والفئات البسيطة من المجتمع المصري، ولكن أيضًا بين القوميين أمثال (طلعت حرب، ومصطفي كامل)، الذين رأوا في التخلي عن الزي التقليدي للمرأة في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت هزيمةً ثقافيةً أمامَ الْمُسْتَعْمِرِ، ولكن مع ذلك أخذ الزيُّ المصري التقليدي في الاختفاء تدريجيًّا، ليحل محله زيٌّ واحدٌ فقط هو اللباس الأوروبي، بينما يحلّ الزي المصري الوطني (البلدي) في مرتبة متدنية، وخصوصًا مع تبني الحكام المصريين والنخبة للزي الأوروبي، والتخلي عن الأزياء المصرية في اللقاءات الرسمية والمدارس وأماكن العمل.[9]

كان يُنظر للسيدة هدى شعراوي ومَنْ أيدها من قِبل فئة واسعة من المجتمع «بالانحلال» بسبب تخليهن عن ارتداء «البرقع»، ومن ثَمَّ تبني الزيِّ الأوروبي، إلا أن هذا الرفض لم يصمد طويلًا، وخصوصًا بعدما سعت الشعراوي لتحقيقه من منجزات تخصُّ واقع المرأة المصرية في المجتمع، فقد كان لشعراوي دور كبير في تغيير القوانين التي تخصُّ زواج المرأة، إذ ساعدت في وضع قوانين ترفع سن الفتيات لـ 16 عامًا والشباب لـ 18 عامًا في عام (1921)، وكذلك قوانين تحول دون سلطة الرجل المطلقة في الطلاق من طرف واحد، ودعمت شعراوي تعليم الفتيات، فقد ساعدت في تخصيص قاعات لتعليم الفتيات في عام (1908)، كما أنها أنشأت جمعية لرعاية الأطفال في عام (1907)، وفي عام (1923)، وقامت بإنشاء «الاتحاد النسائي المصري»، وكانت رئيسًا له، ومن خلاله تقدمت بعريضة تطالب بتعديل قانون الانتخاب، بما يضمن مشاركة النساء في الحقوق الانتخابية.

إلى جانب هدى شعراوي، كان هناك صوت نسوي لا يقل أهمية في النقاشات حول دور المرأة المصرية وشكل زيِّها في المجال العام والخاص، وهي الأديبة والنسوية ملك حفني ناصف أو «باحثة البادية» (1886-1918) كما يُطلق عليها، وهي أول مَنْ مَثَّلَ المرأة المصرية في المؤتمر المصري الأول الذي عقد عام (1911): لبحث طرائق ووسائل إصلاح المرأة. تلقت ناصف تعليمها في المدارس الأجنبية، ثم التحقت بالمدرسة السنيَّة، حيث حصلت منها على الشهادة الابتدائية عام (1900م)، ثم انتقلت إلى قسم المعلمات بالمدرسة نفسها، وبعد تسلمها للدبلوم عام (1905م) عملت في القسم نفسه بالمدرسة نفسها، وتزوجت في عام (1907م) من أحد أعيان الفيوم، وفي «بادية الفيوم» تعرفت على الحياة المتدنية، وكذلك العادات والسلوك التي تعيشها فئة كبيرة من النساء، ومن ثَمَّ وجهت نشاطها إلى الدعوة لإصلاح وتحرير المرأة بما لا يتعارض مع الدين أو التقاليد، فدعت لقوانين تمنع تعدد الزوجات، وتطالب بتعليمهنَّ: ليتمكنَّ من اختيارات تناسبهنَّ، وقامت كذلك بتأسيس «اتحاد النساء التهذيبي»: لتدعو وتوجه النساء لما فيها صلاحهنَّ وتدبير شئونهنَّ. وقد ضمَّ هذا الاتحاد الكثير من السيدات المصريات والعربيات وبعض الأجنبيات، كما قامت كذلك بتأسيس جمعية لإغاثة المتضررين والمصابين، والذي بات يُعرف حتى يومنا هذا باسم «الهلال الأحمر»، كما أنها أعدت مدرسة لتعليم الفتيات مهنة التمريض في بيتها وتركت لنا ناصف كتابًا بعنوان «النسائيات» يضم مجموعة من مقالاتها، حول شئون المرأة فيما يخص الزواج والطلاق والحجاب والتعليم والعمل وكذلك مجموعة شعرية، ومقالات عدة.

على الرغم من أن كتابات ناصف دعت لوضع قوانين ترفض تعدد الزوجات، وتطالب بتحسين وضع النساء، من خلال التعليم والسماح لهنَّ بالعمل، إلا أنها خالفت السيدة هدى شعراوي وقاسم أمين في التركيز على أهمية تبني الأزياء الأوروبية كضامن لتحسين أوضاعهنَّ، واعتبرته تحسينًا مظهريًّا فقط، وتقليدًا أعمى للحداثة الغربية دون مراعاة الخلفية التاريخية والثقافية في المجتمعات غير الغربية، وبالنسبة إلى ناصف لم يكن الحجاب والزي المصري جزءًا من تقاليد الماضي الثقافي للمرأة فحسب، بل كان أيضًا يحمي النساء من التعرض لما اعتبرته تدنيا لسلوك الرجل. تقول: "وطريقة العرب على عهد النبي (ص) وما بعده في أمور الخطبة والزواج طريقة معقولة، إذ لم يكن الحجاب حينذاك كما هو الآن، وإني لأجاهر بأن حجابنا مقلوب ونظام اجتماعنا فاسد أشد الفساد، لا يصلح لأن تتبعه أمة متمدنة...أليس عجبًا أن نرى نساءنا وفتياتنا يتهتكن كل يوم في عرض الشوارع، ويملأن حوانيت الباعة ...عاريات الصدور متبرجات أمام مصور (الفوتوغراف) وإذا طلب خاطب مستنير من أب الفتاة أن يسمح له برؤيتها والتكلم معها وأبوها يراقبهما عد ذلك أمرًا إدا. هذا رجل وذاك مثله! والأول تكلمه بلا مراقبة، وإنما بعلم من أهلها وترخيص، والآخر يريد أن يكلمها ً أيضا ولكن مع مراقبة أبيها وغرضه شريف، وهو معرفة كنه التي سيتزوج بها ويجعلها شريكة حياته ومربية ولده، فما السبب في منح الأول ومنع الثاني؟ اللهم إن هو إلا الجهل والعادة وحب القديم حتى ولو كان مضرًا".[10] فبالنسبة إلى ناصف، فالحل لا يكمن بالضرورة في تغيير الثياب، بل في تحسين سلوك كل من الرجل والمرأة وتربيتهم تربية فيها المنفعة للأسرة والمجتمع.

علاوةً على ذلك، وردّا على الادعاء بأن الزي المصري كان زيًّا «تقليديًّا» قبيحًا مقارنةً بالزي الأوروبي الأنيق، فإن ناصف كانت ترى «الأنماط الشرقية من اللباس أخف وأقل تكلفةً، وأكثر ملاءمة لطقسنا الحار من اللباس الغربي»[11]، فعلى عكس النمط الغربي للباس الذي يتكون من «مجموعة من القطع المعقدة المتعددة التي يصعب ارتداؤها وإزالتها». فهذا الوقت الضائع في ربط وفكِّ هذه الملابس كان يمكن الاستفادة منه بشكل أفضل لأنشطة مفيدة أخرى[12]. وتوقف قلم ناصف وصوتها في وقت مبكر، حيث لاقت حتفها عام 1918م، عن عمر اثنين وثلاثين عامًا، على أثر إصابتها بالإنفلونزا الإسبانية، والتي احتاجت العالم في العام نفسه مخلفةً وراءها تلث سكان العالم من الوفيات.

وعلى الرغم من أنه لا يمكن تفسير ظاهرة ما على ضوء سبب واحد فقط، إذ إن انتشار أو اندثار تقليد أو عادة ما تتداخل مسبباته بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلا أنه يمكن القول بأن وفاة ناصف وغياب صوتها قد كان له أثر كبير في هيمنة الزي الأوروبي في مصر بل والعالم العربي حتى يومنا هذا. فقد أصبح الزي الأوروبي الزي الرسمي في المدارس وأماكن العمل الحكومية، ليترك الزي الوطني للنساء والرجال في المناطق الريفية ما يعرف بـ «الجلابية» لمنزلة أدنى، مضيفا بعدًا جديدًا للزي المصري قبل الاستعمار. تقول منى أباظة في مقالها "Shifting Landscapes of Fashion in Contemporary Egypt":

«في مصر كما في غيرها من العديد من البلدان وقبل خمسين عامًا من الآن، كان من السهل جدًّا تحديد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص فقط من خلال زيِّه الخارجي، حيث كان بالإمكان تمييز غير المتعلمين من خلال ارتدائهم «للجلباب»، والذي كان يرتديه كل من الرجال والنساء على السواء، ... أبناء تلك الأسر من الفلاحين، والذين تلقوا بعض التعليم سيميلون إلى ارتداء، إما القمصان والسراويل أو الجينز للذكور، أو شكل ما من «الأزياء الإسلامية والحجاب»، كان قد بدأ تبنيه في الحضر، سواء كانوا في القرية أو المدينة»[13]. وجدير بالذكر في هذا السياق، أنه في عام (2015) قد تَمَّت إحالة أحد المدراء وطاقم هيئة التدريس في إحدى المدارس الابتدائية بمحافظة الشرقية من قبل المحافظ رضا عبد السلام، والذي كان في زيارة مفاجئة للمحافظة، بسبب ارتدائهم للجلابية أو ما أسماه المحافظ «الملابس غير المناسبة» أثناء قيامهم بوظيفتهم الحكومية.[14]

كان قاسم أمين يدعو إلى اتباع برنامج يتضمن تحرير المرأة بالتخلي عن "البرقع" الذي يحجبها عن المشاركة الفعالة في المجتمع

كوفيد 19 والمرأة: الفضاء العام في منزلك

يأتي تفشي وباء كوفيد 19 أخيرًا مع مرور مصر بفترة مخاض في اتجاه تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، فلم يمضِ على ثورة 25 يناير (2011) العقد بعد، وعلى مدى الأعوام التسع السابقة، كانت هناك العديد من المطالبات بتحسين وضع المرأة المصرية الاجتماعي والاقتصادي، تبلور بعضها في دستور (2014) في تغييرات في القانون الذي يخصُّ الزواج والطلاق، وكذلك اتجاه حكومي يدعم المرأة المعيلة والفقيرة من خلال عدد من المبادرات والبرامج: لتمويل مشاريع صغرى تحول المرأة من مستهلك أو مقترض إلى منتج، وحيث إنه لا توجد بعدُ إحصائيات ترصد حجم تأثير جائحة كوفيد 19على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمرأة المصرية، أو تشريعات قانونية تتمخض عن هذه الأزمة تخصَّ المرأة، فسأتطرق هنا بإيجاز لبعض المؤشرات والإحصائيات التي ظهرت مؤخرًا، من حيث مستويات الأمية والتعليم والبطالة والنظرة الثقافية للمرأة في المجال العام، وما قد يترتب على وضع المرأة الاجتماعي من الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل.

لا أحد يمكنه إنكار أن المرأة المصرية قد تمكنت على مدى عقود من تحقيق الكثير من المكاسب التي مكنتها من (التعليم، والعمل، وشغل وظائف هامة في الدولة) تمثلت أخيرًا على سبيل المثال لا الحصر في تعيين امرأة محافظًا، وأخرى مستشارًا للأمن القومي لرئيس الجمهورية، وثالثة نائبةً لمحافظ البنك المركزي، ورابعة قاضيةً تتولى رئاسة محكمة في مصر، وبالإضافة إلى زيادة نسبة النساء كوزيرات إلى 20٪، كذلك يقوم المجلس القومي للمرأة بالعديد من الجهود: لتمكين المرأة وتحسين وضعها الاجتماعي من خلال العديد من المبادرات، ومنها على سبيل المثال: «حملة التاء المربوطة التي تدعم الفتيات، وقد وصل عدد متابعيها إلي أكثر من 100 مليون و900 ألف متابع ومشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي حتى شهر سبتمبر 2018»، وكذلك عدد من المبادرات مثل مشروع «مستورة»، وهو مشروع يسعى لتمويل مشاريع بمبلغ يتراوح بين 5000 و20000 جنيه مصري: لإقامة مشاريع صغيرة إلى مشاريع متناهية الصغر يعمل بها نساء بين الـ 21 والـ 60 عامًا. يهدف المشروع لتحويل المرأة إلى عامل منتج بدلًا من الاقتراض، وكذلك مشروع «مصر بلا غارمين أو غارمات»، والذي يسعى لمناقشة قانون يمنع حبس النساء المعيلات اللاتي لا يستطعن سداد ديونهن في مقابل القيام بخدمة مجتمعية.

وبالنسبة إلى ناصف لم يكن الحجاب والزي المصري جزءًا من تقاليد الماضي الثقافي للمرأة فحسب، بل كان أيضًا يحمي النساء من التعرض لما اعتبرته تدنيا لسلوك الرجل



ولكن بعيدًا عن التوصيات الحكومية والتوجه الرسمي لإتاحة الفرص لتمكين المرأة في المجال العام والخاص، إلا أن هناك الكثير من العوائق التي لا زالت تعيق تنفيذ هذا التوجه وتحقيق المساواة بين الجنسين في المجال العام، وأهمها انتشار الفقر، ونقص الخدمات، والثقافة الذكورية الراسخة التي ترسخها قنوات الـتأثير في المجتمع من إعلام ومناهج تعلمية لدور المرأة النمطي، وتفضيل الذكور على الإناث في التعليم، وخصوصًا بين الطبقات البسيطة والمناطق الريفية. ففي دراسة أعدتها الدكتورة هويدا عدلي أستاذ العلوم السياسية (المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية)، بعنوان «المشاركة السياسية للمرأة» أصدرت من قِبل مؤسسة فريدريش إيبرت (مكتب مصر) في عام 2017. ناقشت الدكتورة مروة نظير، دور المكون الثقافي في الـتأثير على مشاركة المرأة المصرية في الفضاء العام، فكتبت: «نجد المناهج الدراسية في المراحل الابتدائية كلها تجمع على صورة واحدة للمرأة، باعتبارها الفتاة المطيعة، الأم، الزوجة، الممرضة، الفلاحة، الشهيدة في سبيل الوطن. وذلك كله يقدم المرأة بوصفها نموذجًا للعطاء اللامحدود والتضحية والتفاني، لا مواطنة تملك استقلاليتها التامة ومشاريعها الخاصة، ومن ثَمَّ ينعكس هذا التنميط للمرأة على التعليم والعمل ... أما الصورة الغالبة في القصص والروايات، فيجرى التلميح دومًا إلى أن خروجها إلى العمل ناجم عن العوز الاقتصادي فقط. في ظل تلك العوامل تجد المرأة المصرية أسيرة ثقافة جامدة تنظر إليها على أنها موضوع أكثر من كونها ذات إنسانية فاعلة، وتضع على جسدها وعلى حركتها قيودًا تجعل تفاعلاتها مُقيَّدة، وتعرضها لصور من القسوة والعنف والإهمال، حيث تحل المرأة ثانيًا في معظم الأحيان، وتنتشر هذه الثقافة وتتجذر في المجتمع بشكل عام، وفى المجتمعات الريفية والمجتمعات الحضرية المكتظة بالمهاجرين من الريف على وجه الخصوص. إن الثقافة تحدد أدوار الذكورة والأنوثة على نحو صارم، ومن ثَمَّ فإنها تضع إطارًا يتحرك فيه كل من الرجل والمرأة، ويكون الخروج عليه ضربًا من الانحراف أو العيب، ورغم دخول الحداثة بتجلياتها المختلفة، إلا أن الأطر الثقافية لا تزال تحدد الأدوار الخاصة بالذكور والإناث، وتعمق صور التمييز بينهما، ... فقد تشارك المرأة في الحياة العامة، ولكن لا يمنحها ذلك استقلالًا ومساواةً مع الرجل»[15]

وتوافقًا مع ما قامت به بلدان العالم من إجراءات احترازية للحدِّ من انتشار فيروس كوفيد 19، فقد قامت مصر كذلك بإغلاق المدارس والجامعات، وتحديد ساعات العمل بالمطاعم والمقاهي، والشواطئ، وتعليق الطيران، وقد أصدرت هيئة الأمم المتحدة تقريرًا مؤخرًا تُثني فيه على جهود المركز القومي للمرأة لالتزامه بخطة تراعي الجنسين في تعامله مع خطر فيروس كوفيد 19 وقوانين الحظر المنزلي. فكما جاء على موقع الأمم المتحدة، قام رئيس الوزراء بإصدار قرار لتخفيض عدد العاملين في القطاع العام، وقد تضمن المرسوم تدابير حماية للمرأة منها: منح الموظفات الحوامل والأمهات العاملات الذين تقلُّ أعمار أطفالهن عن 12 سنة إجازة استثنائية طوال فترة تنفيذ المرسوم، كما تمَّ الإعلان عن الخط الساخن للمجلس الوطني للمرأة لتلقي أية شكاوى من العاملات في القطاع العام، ممن قد تواجههن أي تحديات فيما يتعلق بقرار رئيس الوزراء.

ولكن من جهة أخرى، لم تأخذ تلك القرارات في الحسبان قطاعًا كبيرًا من المصريين من النساء والرجال يعملون خارج القطاع الرسمي للدولة، فماذا لو توقفت النساء عن العمل لكسب رزقهن اليومي من بيع وشراء وعمل في الحقول دون ضمان اجتماعي؟

هناك تقاريرَ أهمّهُا ما نُشر على موقع الهيئة العامة للاستعلامات في شهر أبريل، والذي يرى أن انتشار فيروس كوفيد 19 المستجد يُعَدُّ مهددًا لمشاركة المرأة في الأنشطة الاقتصادية، خاصة في القطاعات غير الرسمية، مما قد يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الجنسين في المستوى الاقتصادي، إذ إن مصر بها «18.1% من النساء من المعيلات، وأن 40.9% من إجمالي العمالة غير الزراعية للإناث يعملن في وظائف غير رسمية، و33.9% من عمالة الإناث في أعمال هشة، كما أن 6.7% يعملْنَ في قطاع الصناعات، و36.4% من الإناث يعملن في الزراعة، و56.8% يعملْنَ في القطاع الخدمي، وتُمثل المرأة المصرية 70% من القوى العاملة في قطاع الرعاية مدفوعة الأجر خاصة كمعلمات وأخصائيات صحيات واجتماعيات، علاوة على ذلك يمثل قطاع الرعاية المدفوعة في مصر حوالى 28-31% من إجمالي عمالة الإناث، وتزداد احتمالات عمل النساء في قطاع الرعاية المدفوعة بأربع مرات أكثر من الرجال». كما يتابع التقرير بالإشارة عما قد تتعرض له النساء في مصر بسبب عدم قدرتهن على الوصول للمستشفيات والمراكز الصحية: لتلقي الرعاية الصحية اللازمة لهن في فترات الحمل وقبله، لاستخدام وسائل الحماية لتنظيم الأسرة، كما جاء على موقع الهيئة العامة للاستعلامات بأنه «قد تحد الخدمات الصحية المكتظة من الوصول إلى خدمات تنظيم الأسرة ووسائل تنظيم الحمل، مما قد يؤدى إلى ارتفاع معدلات الخصوبة وتأثير اجتماعي واقتصادي على الأفراد والأسر والمجتمعات، ومن المتوقع أن يؤثر فيروس كوفيد 19 المستجد على مختلف القطاعات، بما في ذلك القطاع الصحي مع انقطاع وصول النساء إلى خدمات وسلع رعاية الصحة الإنجابية».[16]

خاتمة:

حاولت في هذه الصفحات، أن أُعيد قراءة الآثار التي تركتها لحظات فاصلة في تاريخ المجتمع المصري على وضع المرأة المصرية وتواجدها في المجال العام، على ضوء ما مرَّ به المجتمع من طواعين، وهي طاعون «الفناء الكبير» الذي كان سببا ليس فقط في قمع النساء، بل وتغيير نمط حياتهن وطقوسهن وسلوكهن لفترات طويلة تالية، ثم انتقلت إلى الحدث عن عودة حضور النساء للمجال العام بسبب الطاعون الذي ضرب مصر في عهد محمد على باشا، الذي سيشرع في الاهتمام بتعليم المرأة، لتكون هذه أول شرارات الاهتمام بالنساء وأهميتهن في تقدم المجتمع ككل، وفاتحة حركة نسوية قوية في القرن التالي، وسيكون لتلك الحركة النسوية الناشئة الفضل في إدخال قوانين وتشريعات كان لها بالغ الأثر في تحسين وضع المرأة المصرية، حتى وإن تلتها فترات من الخفوت والارتداد بفعل ظروف اقتصادية وسياسية، ثم اختتمت المقال بنظرة على ما قد يخلفه تفشي فيروس كوفيد 19 المستجد من أثر على وضع المرأة وخصوصًا نساء الطبقات الفقيرة في ظل انتشار نسب كبيرة من الأمية والفقر بين تلك الفئات في مصر من خلال البيانات والأرقام التي نشرتها المؤسسات الرسمية.

[1] Tignore, Robert. Egypt: A Short History: Princeton University Press. 2011. p.6

[2] Ahmed, Leila. Women and Gender in Islam: Historical Rootes of A Modern Debate.Yale University Press. 199. p32-33

[3]نفس المرجع السابق

[4] نفس المرجع ص 19

[5] ابن الحاج أبو عبدالله بن العبدري، المدخل إلى الشرع الشريف على المذاهب، ج 2. دار الكتاب العربي. بيروت. ط 2. 1948

[6] المقريزي. تقي الدين أحمد بن على. السلوك لمعرفة دول الملوك. ج 1. تحقيق محمد زيادة. مطبعة لجنة التأليف والترجمة. القاهرة. 1941.1970. ص 1032

[7] بلقاسم الطلباني، الموت في مصر والشام. الجزء الأول، النكبات الديمغرافية في العهد المملوكي 1250-1517. تونس. الدار التونسية للكتاب. 2014. ص XV

[8] الطلباني، ص 191

[9] Ahmed 1992, Abaza, Mona. „Shifting Landscapes of Fashion in Contemporary Egypt“. Fashion Theory: The Journal of Dress, Body & Culture. 11. 2007

[10] حفني، ناصف. النسائيات. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. القاهرة. 2014. ص 27

[11] ناصف. ص 51

[12] ناصف. ص 133

[13] Abaza P. 287

[14] Egyptian Street. „Egypt Ministry Spokesperson Denies Child Hijab Ban Despite Education Minister’s Comments“. August 16, 2015

[15] نظير، مروة، عدلي، هويدا. المشاركة السياسية للمرأة. عدلي، هويدا. القاهرة. برنت رايت للدعاية والإعلان. 2017. ص ص 105، 106

[16]العبد، ليلي، "الأرقام. كيف أثر فيروس الكورونا على نشاط المرأة المصرية؟". النبأ الوطني. 18أبريل. 2020

https://www.elnabaa.net/821139