الطوفي مجددًا للفكر الأصولي
فئة : مقالات
كانت للحنابلة إضافات مهمّة في علم أصول الفقه تجلت في ابن عقيل ونجم الدين الطوفي على وجه الخصوص. ونتوقف في هذا البحث الموجز عند فقيه عاش في القرن السابع وأوائل القرن الثامن، هو نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ)، وهو من كبار فقهاء المذهب الحنبلي في عصره وصاحب كتب كثيرة في مجالات معرفيّة متنوّعة كالتفسير والحديث والجدل، أمّا مؤلّفاته في أصول الفقه فأكثرها مختصرات وشروح مثل "مختصر الحاصل" لتاج الدين الآرموي (ت 656 هـ) و"مختصر المحصول" لفخر الدين الرازي، غير أنّ أهمّ ما وصلنا من الطوفي هو "شرح مختصر الروضة"[1].
وهذا الشرح المستفيض أنجزه صاحبه عام 678 هـ، وأبان فيه بعض الاستقلالية عن صاحب "الروضة"، ومن ذلك إسقاطه المقدّمة المنطقيّة بتعلّة أنّه ليس عارفًا بفنّ المنطق. ومهما يكن من أمر فهذا الكتاب مفيد للباحث في عصرنا لما فيه من الإضاءات على كثير من المصطلحات والمفاهيم الأصوليّة، بالإضافة إلى غناه بكثير من المعطيات فقهًا أو أدبًا أو كلامًا ولغةً وتجاوزه دراسة الأصول عامّة إلى محاولات تطبيقية في الفروع.
وقد عرف الطوفي بكثير من المواقف والآراء التي تشذّ عن السائد، ففي خصوص الأصل الأول من أصول التشريع وهو القرآن الكريم اختلف العلماء في الموقف من تواتر القراءات على مذاهب فبعض السنيين يخالفون مبدأً أساسيًّا في نظريّة ابن مجاهد معتبرين أن القراءات السبع متواترة عن القرّاء لا عن النبي، صلى الله عليه وسلم. ويعدّ الطوفي أحد الأصوليين المعروفين بهذا الرأي إذ يقول: "اعلم أنّي سلكت في هذه المسألة طريقة الأكثرين في نصرة أنّ القراءات متواترة، وعندي في ذلك نظر. والتحقيق أنّ القراءات متواترة عن الأئمّة السبعة. أمّا تواترها عن النبي إلى الأئمّة السبعة فهو محلّ نظر، فإنّ أسانيد الأئمّة السبعة بهذه القراءات السبعة إلى النبي موجودة في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، لم تستكمل شروط التواتر... وأبلغ من هذا أنّها في زمن النبي لم تتواتر بين الصحابة."[2] وهذا الموقف لا يحرج الطوفي لأنّه يميّز بين ماهية القرآن الكريم والقراءات لذلك فهو يؤمن بالإجماع على تواتر القرآن لكن تواتر القراءات أمر آخر.[3]
ونلمس البعد التجديدي في فكر الطوفي من خلال مباحث الإجماع فهو يعرّفه قائلاً: "ومعنى كونه [الإجماع] حجة قاطعة أن العمل يجب به مقدّمًا على باقي الأدلّة، الكتاب والسنّة والقياس، فيقدّم الإجماع على جميعها بحيث إذا أجمعت الأمّة على نفي أو إثبات في مسألة ودلّ نصّ الكتاب أو السنّة أو القياس أو جميع هذه الثلاثة على خلاف ذلك كلّه كان العمل بما أجمع عليه دون ما دلّ عليه باقي الأدلّة لدلالة الإجماع على نصّ قاطع ناسخ لتلك الأدلّة المخالفة له أو معارض لها راجح عليها."[4] يخالف الطوفي بهذا الرأي الترتيب التقليدي الذي سنّه الشافعي والذي يبدأ بالقرآن الكريم ويجعل الإجماع في المرتبة الثالثة. والواضح أن قصد الطوفي ليس الحط من مرتبة القرآن الكريم لذلك جعل موقفه مقترنًا بجانب العمل لا العلم، لإدراكه أن ما يهب النصوص المتأتية من القرآن الكريم أو من السنة مشروعية فعلية هو إجماع العلماء عليها فهمًا وتأويلاً وتنفيذًا.
ويُعَد موقف الطوفي هذا عنوان فريق من الأصوليين، المتكلمين بشكل خاص، آثر تغيير مركز الثقل في مصادر التشريع من النص إلى الاجتهاد، ومن المقدّس إلى البشري بتعلّة العصمة التي أسبغت على الإجماع فصار بها بمثابة الأصل المقدّس الذي لا يمكن معارضته أو نسخه لأنّه ليس له مثل. وبذلك ينشئ الأصوليون سلطتهم الخاصّة المغلّفة بالقداسة في شكل الإجماع المعصوم، ويخوّلون له نفوذًا غير محدود يجعله مقدّمًا على باقي الأدلّة، وهذا التقديم ليس إزاء كلّ دليل لوحده بل كذلك إزاء الأدلة الثلاثة مجتمعة، وهي القرآن والسنّة والقياس، مما يعني أنّ ما له التأثير الفعلي في الواقع ليس إلا الإجماع.
ولئن كان تيار من الأصوليين يؤسس حجية الإجماع على أخبار الآحاد فقد تفطن الأصوليون المنتمون إلى تيار المتكلمين خاصة إلى ضعف حجج إثبات الإجماع عن طريق هذا الصنف من الأخبار، فالتجأوا إلى حيلة التواتر المعنوي. يقول الشيرازي: "فإن قيل هذه أخبار آحاد فلا يجوز أن يثبت بها أصل من الأصول، والجواب أنّ هذه وإن كان نقلها نقل آحاد إلا أنّها تواتر من طريق المعنى لأنّها تعود مع اختلاف الألفاظ إلى معنى واحد وهو المصير إلى الإجماع وعصمة الأمة."[5]
وهذا ما دفعهم إلى تكثيف أعداد هذه الأحاديث تكثيفًا بلغ أوجه مع الرازي، فقد ذكر في كتابه "المحصول" ثمانية عشر حديثًا لإثبات حجية الإجماع، وابتغى من ذلك الوصول إلى فكرة أساسية هي اشتراك كلّ هذه الأحاديث في الدلالة على معنى واحد، وهو أنّ الأمّة بأسرها لا تتّفق على الخطأ،[6] لكن بعض العلماء انتبه إلى أنّ حيلة التواتر المعنوي لا يمكن أن تحجب حقيقة أنّ هذه الأحاديث تنتمي إلى صنف الآحاد.[7] وفضلاً عن ذلك فإنّ كثرة الأدلّة لا يمكن أن تنهض وحدها حجة على مشروعية أصل من أصول التشريع.
وقد أدرك نجم الدين الطوفي ضعف حجة الأصوليين المتمثلة في التواتر المعنوي لأحاديث إثبات الإجماع، فبين أن تشبيهها بالأخبار التي تذكر شجاعة علي وكرم حاتم غير مستقيم. ويقول: "وأمّا الثاني، وهو الاستدلال بالأخبار الدالة على عصمة الأمة، فيردّ عليه منع تواترها التواتر المعنوي بدعوى الفرق بينها وبين ما شُبّهت به من شجاعة علي وسخاء حاتم، وذلك لأنّا إذا عرضنا على عقولنا الأخبار المدعى أنّها تدلّ على عصمة الأمّة والأخبار الدالة على شجاعة علي وسخاء حاتم وجدناها، يعني العقول، لا تصدّق بالأول كتصديقها بالثاني، بل تصديقها بالثاني أقوى بكثير جدًا، ولو كانت متواترة لساوت أخبار علي وحاتم في قوة التصديق بها، لأنّ التواتر يفيد العلم كما سبق، والإدراك العلمي لا يتفاوت بالقوة والضعف... وإذا ثبت هذا، ووجدنا الفرق بين أخبار علي وحاتم، والأخبار المذكورة في عصمة الأمة، دلّ على أنّها ليست متواترة، لأنّ أخبار علي وحاتم متواترة وهذه الأخبار دونها في جزم العقل بموجبها، وما دون المتواتر لا يكون متواترًا."[8]
وهكذا يتجاوز الطوفي سلطة المذهب ولا يخضع إلا لسلطة العقل وقوانينه، مما جعل فكره ينأى عن المقاربة الثبوتية والسكونية للمسائل، وهذا ما تبدّى في الحجة الثانية التي قدّمها لدحض حجية الإجماع المستندة إلى الأحاديث. يقول: "سلّمنا أنّ الأخبار المذكورة متواترة، لكن الاستدلال بعمومها وهو، يعني العموم، ظني لا قاطع، فيحتمل أنّ المراد منها لا تجتمع أمّتي على ضلالة الكفر، ولا يلزم من ذلك عصمتها عن الخطأ في الاجتهاد، لأنّ الكفر أخصّ من الخطأ، ولا يلزم من انتفاء الأخصّ انتفاء الأعم."[9] ولئن كانت الحجة السابقة تركّز على السّند فإنّ هذه الحجّة تخصّ الدلالة، فمعنى الأحاديث محتمل غير يقيني، وبهذا يفتح الطوفي باب الاجتهاد فيها، ولا يلتزم بمعنى ثابت وحيد أراد الأصوليون تكريسه وهو عصمة الأمّة من الخطأ، وهكذا يلتقي مع رأي النظّام المعتزلي الذي يعدّ أوّل من أنكر استخدام الأحاديث في إثبات الإجماع.[10]
ولا يكتفي هذا الفقيه بهاتين الحجتين بل يضيف إليهما حجّة أخرى تنصّ على التناقض الداخلي للخطاب الأصولي، وذلك لأنّه يستدلّ بأحاديث يراها دالّة على عصمة الأمّة، والحال أنّ أحاديث أخرى تعارضها مثبتة انشقاق الأمّة وافتراقها إلى أكثر من سبعين فرقة. يقول: "وبتقدير صحّة هذه الأحاديث ودلالاتها على عصمة الأمّة فهي معارضة بما يناقضها ممّا حاله في الصحّة والشهرة مثل حالها."[11] من ذلك ما رواه أبو هريرة من قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: "تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتتفرّق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة."[12] وبناءً على هذا إذا كانت الأحاديث التي يحتجّ بها الأصوليون لإثبات الإجماع دالّةً على عصمة الأمّة فهذا الحديث يدلّ على خطأ أكثرها، وهو اثنتان وسبعون من ثلاث وسبعين فرقة في النار، بما أنّ فرقة واحدة هي الناجية، ومن يستحقّ النار، على حدّ عبارة الطوفي، لا يكون معصومًا بل لا يكون صالحًا فضلاً عن كونه غير معصوم[13].
[1]- الطوفي، شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1987
[2]- الطوفي، شرح مختصر الروضة 2/23-24. وانظر موقف الطوفي نفسه لدى الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 1/319 وأبو شامة المقدسي، المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، بيروت، 1975، ص 178
[3]- يقول الطوفي: "واعلم أنّ بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات ظنّا منه أنّ ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن، وليس ذلك بلازم لما ذكرناه أوّل المسألة من الفرق بين ماهية القرآن والقراءات والإجماع على تواتر القرآن"، المصدر المذكور، 2/23-24
[4]- الطوفي، شرح مختصر الروضة، 3/29-30
[5]- الشيرازي، شرح اللمع، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1988، 2/679
[6]- يقول الرازي: "وهذه الأخبار كلّها مشتركة في الدلالة على معنى واحد وهو أنّ الأمّة بأسرها لا تتفق على الخطأ، وإذا اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة على شيء واحد ثم إنّ كلّ واحد من تلك الأخبار يرويه جمع كثير صار ذلك المعنى مرويا بالتواتر من جهة المعنى". المحصول، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1988، 2 /37-39
[7]- يقول تاج الدين السبكي (ت 731 هـ) بعد ذكر طرق حديث لا تجتمع أمتي على ضلالة ورواته: "أمّا الحديث فلا شكّ أنّه اليوم غير متواتر، بل لا يصحّ أعني لم يصح منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ، ولكني أعتقد صحة القدر المشترك من كل طرقه، والأغلب على الظن أنه عدم اجتماعها على الخطأ" وأقول: مع ذلك جاز أن يكون متواترًا في سالف الزمان ثم انقلب آحادًا"، الحاجب على ابن الحاجب، مخطوط في الأزهر، ورقة 176ب، نقلاً عن جعفر السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه ص 155، وهو بالانترنت على الموقع www.rafed.net.
[8]- الطوفي، شرح مختصر الروضة، 3/22-23
[9]- المصدر نفسه، 3/23
[10]- يقول الغزالي: "إن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام"، المستصفى، ترتيب وضبط محمد عبد السلام عبد الشافي، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1993، ص 140
[11]- الطوفي، شرح مختصر الروضة، 3/24
[12]- هذا الحديث رواه أبو داود، رقم 4596 وابن ماجة رقم 3991 والترمذي رقم 2640
[13]- الطوفي، المصدر المذكور، 3/24