العالم: الصورة والانعكاس
فئة : مقالات
العالم: الصورة والانعكاس
من خلال المنطلقات الفكريّة والاستعدادات النفسيّة والمحيط الاجتماعي، يستطيع كل امرئ أن يمتلك رؤية للعالم، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، وعادة ما يجنح إلى تفسير ما يتجسد له أمام عينيه بحكم الفطرة وبدافع الاكتشاف، وقد لا تأتي هذه التصورات عن الشيء مطابقة لحقيقته وعاكسة لمنطقه، لكنّها تقدّم نظرة ما وتحاول إيجاد نوع من الترابط بين الواقع وبين الحاجة النفسيّة للتفسير، أو ما بين صورة الواقع والصورة الذهنية.
وتتشكّل مراحل تكوّن الرؤية عن العالم عبر ترسّبات متعدّدة في البيت والمدرسة والمجتمع وعن طريق القراءة، في تركيبة معقّدة تنتج مختلف الإيحاءات التي تتكاثف قطرة قطرة عن امتصاص الفضاء الخارجي، حتّى يصير منها ضغط يولد صوراً من الوعي، تعبّر عن حالة من الإشباع الفكري تفيض عند الحاجة.
لكن هذه الحالة من الإشباع الفكري غير صلبة ولا مستقرّة، بل إنّها تتعرض دوما لسيرورة من الاختلافات كما لا تتوقف عن عمليّات التطعيم والتركيب، نظراً لوفرة المؤثّرات الخارجية التي تسهم في رفد الذاكرة الفرديّة والجمعيّة، ولعلّ زحف العولمة على كل البقاع، بل إنّ انسلالها إلى الأدمغة يجعل منها فاعلاً مباشراً في ترميم الأفكار وإعادة تنسيقها وفق إملاءاتها.
وتتمثّل خطورة التفكير في العالم، من حيث كونها تفكيرا في المشترك البشري، حيث تتزاحم في رؤية هذا العالم شبكات من التصوّرات والمواقف المتعارضة والمتكاملة، تعبّر عن وجود جملة من الحساسيّات التي تنظر إلى العالم من زاوية أحاديّة، ومن هنا تتشابك هذه التصوّرات وتطفو أحيانا في صيغ عدوانيّة تتّخذ العنف وسيلة لحسمها.
ولابدّ أن تسلك هذه المواقف المتعدّدة، إن أرادت التعايش السلمي، مبدأ التفكير في الواحد في إطار الكل؛ أي أن لا يلغي وجودي وجود الآخر؛ فوجود الذات لا يستقيم على حال ما لم يقع وجود الآخرين موقع الأنا في التفكير.
ومادام العالم لا يتأسس إحساسه إلاّ على بقعة جغرافية، فإنّ للأرض قيمة رمزيّة في تشكيل المخيال الاجتماعي والسياسي تجاه هذا العالم، وبالنسبة إلى فقهائنا الأقدمين؛ فقد مثّل مفهوم الأرض وأبعادها الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة نقطة خلاف واسعة بينهم، انعكست صورتها على الموقف من إقامة المسلم بين غيره من أهل الكتاب وغيرهم ممّن تكون لهم السيادة الفعليّة على أرض الإقامة، وانعكست كذلك على رؤية المسلمين للعالم والآخر، وتولّد عنه نوع من التخمة في التوجّس لدى فئات عريضة من الحركات الدينيّة تجاه عموم المخالفين، وانغرز هذا الفهم المسكون بسيكولوجيّة الخوف في بنية الفقه المعاصر الذي يراوح بين الانكماش مع القطيعة، وبين الانفتاح مع الحذر.
وقد أولى الفقهاء قديماً هذه القضيّة اهتماماً بالغاً نظراً لعوامل عدّة، كان أبرزها غياب نظام سياسي بالمعنى الحديث يحمي الدول والجماعات والأرض، فتثار الكثير من القلاقل والحروب والويلات التي تندلع بين القوى السياسيّة والقبليّة والإقليميّة، ممّا حدا بهؤلاء الفقهاء إلى التفكير في إيجاد أفكار مانعة من تدخّل الأجنبي في الحوزة الترابيّة للدولة الإسلاميّة.
وكان أن أنشأوا نظاماً استراتيجيا في الفقه والسياسة، فأسّسوا لمفهوم تقسيم الأرض عبر تشطيرها إلى أرض الإسلام في مقابل أرض الكفر، للدلالة على تسطير الحدود الجغرافيّة التي تدخل في حماية المسلمين ويسري عليها قانونهم وشريعتهم، قبالة أرض الكفر التي تنطبق عليها مجموعة من الأحكام الفقهيّة والعقديّة التي تدخل تحت مقياس الولاء والبراء، وتحكمها علاقات محدّدة اجتماعيّا وسياسيّا وعقديّا، صارت ثقافة وقانونا يؤطّران ما يمكن تسميته بالعلاقات الدوليّة حينئذ.
وتأثّراً بالعرف التاريخي السائد في عصرهم حول التقسيم الدولي للعالم إلى عالم الكفر وعالم الإيمان، أو ما درجوا على تقسيمه بين دار الإسلام ودار الحرب، لم يأخذ أكثر فقهائنا عالميّة الإسلام بعين الاعتبار في تنظيرهم الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم، بل عبّروا عن نوع من الانطواء على الذات لا يتناسب مع حماسة الرسالة الخاتمة والأمّة الشاهدة، فضاقت بذلك نظرتهم إلى الموضوع وابتعدوا عن المفهوم القرآني للجغرافيا الذي يورث الأرض لعباد الله الصالحين، ويستخلف الإنسان فيها ويمنحه أسباب العمران والتسخير.
وهذا كله مفهوم في سياق تاريخي معيّن، ناشئ عن نفسيّة الخوف وانتشار الحروب والمكائد السياسيّة، في وقت لا وجود فيه لقانون دولي يحمي ويؤطّر العلاقات بين الدول والشعوب، وكان منطق القوّة هو الغالب على العلاقة بين الإمبراطوريّات القديمة بما فيها الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وكانت كلّ منها تعتبر أرض الأخرى دار حرب وسلب يجوز غزوها ونهبها وضمّها كلّيّا أو جزئيّا إلى الدولة الغالبة، إذ من طبيعة الإمبراطوريّات أنّها لا تعرف حدودا إلاّ حيث تتعسّر على جيوشها مواصلة الزحف والانتشار، ولم تكن بذلك فكرة الحدود وترسيم مناطق النفوذ الأرضي والجوّي والبحري جليّة ومنضبطة لأحكام قانونيّة أو عرفيّة واضحة، مما فسح المجال لمنطق الشوكة والغلبة ليطغى على علاقات الجوار وسلطة المجال، فتلبّس الفقه السياسي بمحاذير الانفتاح والتواصل الإيجابي والتعاون في شأن قضايا المشترك الإنساني، مع أنّ القرآن خطابه موصول التماس مع كافة الناس باختلاف معتقداتهم وألوانهم ولغاتهم.
ثم إنّه لم يعتد المسلمون في تاريخهم بعد عصر الرسالة على اللجوء إلى بلاد غير إسلاميّة طلبا لحقّ مهدر أو هربا من ظلم نازل، بل كانت بلاد الإسلام في الغالب أرض عزّ ومنعة، ولم تكن تفصل بينها حدود سياسيّة مانعة، فكلّما ضاقت بمسلم أرض أو انسدت في وجهه سبيل، تحوّل إلى ناحية أخرى من الإمبراطورية الإسلاميّة الفسيحة دون أن يحسّ بغربة أو تعتريه مذلّة.
ولم تكن فكرة المواطنة بصيغتها الحاليّة موجودة في العالم الذي عاش فيه فقهاؤنا الأقدمون، وإنّما كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحضارة معيّنة، أو الانتماء السياسي إلى إمبراطوريّة محدّدة يعتمد المعيار العقائدي، ويتعامل مع المخالفين في المعتقد بشيء من التحفظ، مع اختلاف في درجة التسامح بدءا بالذمّة الإسلاميّة وانتهاء بمحاكم التفتيش الإسبانيّة.
ولم تكن الإقامة في بلد غير البلد الأصلي تكسب حق المواطنة بناءً على معايير ثابتة، مثل الميلاد في البلد المضيف أو أمد الإقامة أو الزواج، وإنّما كان الوافد يتحول تلقائياّ إلى مواطن إذا كان يشارك أهل البلد معتقدهم وثقافتهم، أو يظلّ غريبا مهما استقر به المقام إذا كان مخالفاً لهم في ذلك، ولو حصل على بعض المكتسبات والحقوق في مقابل أداء بعض الواجبات، التي ترسّخ في النهاية فكرة المواطنة الناقصة أو المواطن من الدرجة الثانية، تمييزاً بينه وبين المواطن الكامل الحقوق الذي يندمج كلّيّا في كيان الدولة والمجتمع.
ولم يكن العالم القديم يعرف شيئاً اسمه القانون الدولي أو العلاقات الدبلوماسيّة، اللذان يحتّمان على كل دولة حماية رعايا الدول الأخرى المقيمين على أراضيها، ومعاملتهم معاملة الرعايا الأصليين نفسها، إلاّ في بعض الأمور الخاصة التي تقتضي حقوق المواطنة التمييز فيها، كالترشح مثلا للمناصب العليا والتي لها علاقة بأسرار الدولة والنظام العام، ولو أنّ بعض الدول المتقدّمة ديمقراطيّا، والتي لها طابع علماني استطاعت أن تتخلّص في الغالب من هذا الأمر، بناء على مبادئ حاسمة تتعلّق بالمساواة في الحقوق ونفي الميز بين المواطنين، والإسهام في دمج الكفاءات والخبرات مهما كان أصلها اللغوي أو العرقي أو الفكري.
ولم يعش فقهاؤنا الوحدة الأرضية التي نعيشها اليوم في شكل قرية صغيرة، حيث تتداخل الثقافات وتعيش الأمم في مكان واحد، وإنّما عاشوا في عالم من جزر منفصلة لا تعايش بينها ولا تفاهم، لقلّة الأمان والثقة وصعوبة المسالك وشحّ المواصلات والتواصل.
فكان فقه الحرب طاغياً بحكم مقتضيات الواقع يوم ذاك، وانكفأت كل سلطة سياسيّة أو اجتماعيّة على نفسها، وبلغ الاحتكام لآصرة الثقافي والاجتماعي والسياسي ذروته في غياب أفكار جمعيّة ومشتركة يلتئم من خلالها الوجود البشري، وتلجأ إليها الأمم عند الاختلاف والصراع فيما بينها.
وكان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبّرون بفتاواهم عن نوع من المقاومة وردّة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا، وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج كتاب ابن تيمية "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم" ورسالة أبي العباس الونشريسي المسمّاة "أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى، ولم يهاجر وما يترتّب عليه من العقوبات والزواجر"، وفتاوى علماء المغرب الكبير في صدر القرن الماضي بتحريم حمل الجنسيّة الفرنسيّة، ردّاً على الاحتلال الفرنسي لدول الغرب الإسلامي قرابة نصف قرن أو يزيد.
فهذه الكتب والفتاوى جزء من ثقافة الصراع التي لا نحتاجها اليوم، ولذلك فليس بالضرورة أن ننفعل مع الآخرين بمنطق الصراع والخوف أو حتّى عقدة الاستعمار، لأنّ الزمن لا يمكن أن يتوقّف عند نقطة قارّة من التاريخ، بل لابد أن نسعى إلى إنتاج أجواء جديدة يطبعها السلم والحوار والتعاون على أساس المصلحة المشتركة والتعايش المثمر، دون الانسلاخ من الذات أو التهاون في المبادئ والمساومة على الهويّة، فتاريخ البشريّة كلّه تاريخ مدّ وجزر في العلاقات، وتكريس لجدليّة الخير والشرّ ولمنطق التداول بين الناس.
وكلّها أدبيات تعكس الإسلام بصورة ضيّقة جدّا تنفّر الناس، أو تقدّم الإسلام بصورة ساذجة تدّعي حلّ مشكلات العالم بعصا سحريّة، أو تعكس الإسلام على أنّه مجموعة من القيود التي تكبّل الحياة من غير سبب ولا هدف، بل إنّ وضع المسلمين بالغرب تحكمه أحكام ظرفيّة وعرفيّة ومذهبيّة، ولا تنظر إلى الوجود المسلم خارج أرضه بوصفه قيمة مضافة وإيجابيّة يمكن أن تستدرّ منها المكاسب الإنسانيّة والمصالح الشرعيّة، بقدر ما جثمت على كاهله أحكام الفتنة والابتلاء والكراهة والتحذير، إن لم توجد فتاوى تحرّم أصلاً الهجرة إلى هذه الأماكن والإقامة فيها لأسباب فقهيّة وسياسيّة، وهي في المحصّلة اجتهادات لا ترقى إلى حجم التحدّيات والتطوّرات النوعيّة التي يعيشها العالم وحال المسلمين بالخصوص، كما ينبغي أن ندرك النسبيّة المكانيّة والزمانيّة للتطبيقات التي أنتجها ذلك الانتماء الثقافي.
مما يستدعي تضافر الاجتهاد وتقليب النظر وتوسيع آفاق البحث والتقصّي في وضع لا يمتّ بصلة بأوضاع المسلمين قديما، في إطار عالميّة الإسلام وشمول رحمته للخلق أجمعين، يعتزّ فيه المسلم بانتمائه الثقافي ويمدّ جسور التعارف مع الآخر، لا ليتماهى معه، بل ليعمّق التفاهم الذي يمكّن من بناء صيغ تعايش سلمي يحفظ الخصوصيّات الثقافيّة، بالقدر الذي يحدّد القواسم المشتركة بينه وبين مخالفيه.
ثم يهتمّ أوّلا وقبل كلّ شيء بالبناء الثقافي والتشكيل العقلي والعاطفي المتّصف بالتوازن الذي يبغيه الإسلام، ونشاطه السياسي نشاط تمكين لذوي القربى المسلمين من جهة، ومشاركة صادقة لدعم أي حق للعموم من الفقراء والمستضعفين من غير المسلمين وإقراره، حيث إنّ الناظم الذي يوجّه حركتهم هو إقامة العدل والإنصاف وإرساء نظم الرحمة والتآلف العالمي.
أمّا دعوته إلى الإسلام، فهي أبعد ما تكون عن الرغبة في تغيير القشور والمظاهر وفي تكثير الأعداد والأتباع، بل هي بالأصالة تسعى نحو تحقيق البلاغ المبين الذي تستبين فيه سبيل المؤمنين، وتتميّز فيه مسالك الفجور والإفساد في الأرض، حتى يكون فيها الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. أمّا الحدود الجغرافية في حسّه، فما هي إلاّ خطوط باهتة تخترقها الأفكار المشتركة والإحساس بآلام إنسان العالم أجمع وأزماته المتشابهة.
وأحسب أنّه آن الأوان أن ندرك الترابط العالمي اليوم وأنّ عافية أية مجموعة في أيّ قطر هي عافية للمجموع، وأنّ الأقلّيّات المسلمة الموجودة في غير بلاد المسلمين لها أهمّيّة إستراتيجيّة، فإنّ تمكّن المسلمين في الأقاصي يقويهم في وجودهم وعطائهم، وإنّ فهم المسلمين في بلاد المسلمين لأوضاع مسلمي الغرب يسهم في فعاليّة هذه المجموعات، لأنّها لا تفتأ تستقبل أفواج هجرات جديدة تؤثّر انعكاساتها ومواقفها المسبقة في المسيرة العامة.
وبذلك، فإنّ مسلماً ينتمي إلى أمّة ضاربة الجذور في التاريخ، ليأبى أن يحصر نفسه أو أن يجعل سياساته تسجنه في بوتقة أقلّيّة تربح بعض المكاسب المحلّيّة، على حساب منبع تماسكها الزاخر الممتدّ عبر المكان والزمان، وإنّه ليأبى أن يكون أقلّ من أمّة الرحمة للعالمين.
وهذا الاتجاه ينحو نحو بلورة أفكار مدرسة إنسانية في النظرة إلى ما يسمى اليوم بـالآخر من خلال وحدة الأصل الإنساني، وكرامة الإنسان (مطلق الإنسان)، ووحدة الدين (أي العقيدة)، وسنّة التنوع، ورفض الإسلام كلَّ أنواع التمييز، حتى التمييز بسبب الدين، ومفاهيم المواطنة والولاء الاجتماعي، ثم تبنّي مفاهيم عالميّة في العلاقة مع الآخر سيّما المساواة والحرّيّات الشخصيّة والموضوعيّة وعدم التحيّز، وعدم مناقضة المرجعيّة الدوليّة في تدبير الاختلاف البشري.
فالمرجعيّة الدوليّة إلى جانب المرجعيّة الشرعيّة تشكّلان المرجعيّة المطلقة، ورغم أنّها منتوجات بشريّة، إلاّ أنّها في الصفة نفسها مع الشريعة، والكتابات الفقهيّة بدورها ما هي إلاّ اجتهادات بشريّة ليس لها إلزام شرعي، فضلاً عن أنّ هذه الاجتهادات كانت استجابة لظروف زمانيّة ومكانيّة مختلفة عن ظروفنا الحاليّة، لذلك فإنّنا بحاجة إلى اجتهادات جديدة تراعي ظروفنا وتعالج مستجدّات الأمور.
ويتّضح أنّه لا تعارض بين الاتجاه الدولي والرؤية الإسلاميّة بل إنّهما يتكاملان، إذ تقدّم الرؤية الإسلاميّة الأساس النظري والمبادئ العمليّة التي تشكّل المادة التي تترجمها المواثيق الدوليّة إلى التزامات قانونيّة، وتنشئ لمراقبة تطبيقها الآليّات الضروريّة.
والخلاصة أنّ انضباط الحياة الدوليّة لقواعد وأعراف، صار معها مفهوم الأرض أكثر مرونة وصلابة في الآن ذاته، فهو مرن من حيث هناك انفتاح سياسي واجتماعي، ثم وجود حركة انسيابيّة للهجرة من وإلى أرض المسلمين، وهو كذلك مفهوم صلب من حيث ترسيم الحدود الجغرافيّة لكل بلد، حتّى بين الدول الإسلاميّة هناك سياسة حدوديّة تقتضي الحصول على جواز سفر للعبور إلى أرض دولة إسلاميّة أخرى، كما أنّ وجود أوفاق دوليّة ومؤسّسات كونيةّ تحمي الحقوق السياسيّة والسياديّة لكل بلد على حدة، أمر يجعل من الأرض كياناً سياسيّا مستقلا ويملك قراره الداخلي والخارجي.
فما نحتاجه اليوم هو فقه التعايش في واقع مختلف كمّا وكيفاً، وبفضل انفجار المعرفة ووفرة وسائل الاتصال والمواصلات وقوّة التكنولوجيا، لم يعد بالإمكان أن ينغلق العالم على نفسه إلى أمم متشظّية وقرى بعيدة الانفعال والتفاعل، فلابدّ من اختلاط الناس واختلاط التجارب والمصالح أخذاً بسنّة التنوّع والتعدّد والاختلاف.
إذا تقرر كل هذا، فهل ما يزال المفهوم القديم للأرض إذن فاعلاً في مدى تقسيم المعمورة إلى دار إسلام ودار حرب، وهل تطوّر العلاقات الدوليّة وتطور أنماط المعاملات الاقتصاديّة والتجاريّة والسياسيّة أسباب قد تساهم في تجديد مفهوم الأرض، وإعطائه روحاً جديدة تنبعث من منطق الواقع ومن فهم جديد للنص الديني نفسه من زاوية الإيمان الرحب؟