العرب والإسلام في مرايا الاستشراق: التجدّد في القديم
فئة : قراءات في كتب
على المستوى العام، ليس ثمة جديد يحمله كتاب (العرب والإسلام في مرايا الاستشراق (1) ) لـ "بنسالم حميش"؛ فهو لا يعدو أن يكون بمثابة إعادة كتابة ما تردّد كثيراً على ألسنة المثقفين ـ سلباً أو إيجاباً- حول الاستشراق والمستشرقين. أما على المستوى الخاص، فالجديد في هذا الكتاب هو إضافة كتاب جديد إلى قائمة قصيرة من كتب تناولت الظاهرة الاستشراقية باللغة العربية، وإن كانت هناك روايات كثيرة تقول إن عدد الكتب التي كتبت بلغات أخرى عن الاستشراق تجاوزت 60 ألف كتاب، إلا أن ما يعرفه الإنسان العربي عن الاستشراق مُستقى من عدّة كتب ليس إلا.
يستطرد الكاتب في سرد الأسباب المُوجبة لضرورة الاهتمام بالدراسات الاستشراقية، ولكنه يُركِّز على موضوعة (الذات) و(الآخر)، بصفتها نقطة حاسمة في هذا الشأن. فـ "على صعيد نظري عام، يمكن القول إن موضوعة (أو تيمة) الآخر احتلت في تاريخ الفكر كما هو في العلوم الإنسانية- وما تزال ـ مكانة مبرزة نظراً لارتباطها الجدلي بموضوعات أساسية ملازمة: الأنا / الذات/ الهوية / المرآة والصورة / السلوك/ العلاقة...إلخ". وفي السياق النظري نفسه، لنا أن نضيف أن دراسة الخطابات الاستشراقية يكفيها تبريراً أن تستمد مشروعيتها من كون الذات ـ أية ذات ثقافية- لا توجد وتحيا في مجال نظرها أو وعيها بذاتها فحسب، وإنما أيضاً في أفق نظر الآخر ووعيه وما ينصبه من زوايا معرفية؛ فكلنا نحمل صوراً عن غيرنا".
و"تبعاً للسياق النظري المذكورـ يستطرد الكاتب- يتبدى الاستشراق بامتياز كنشاط بحثي ومعرفي حول الآخر (العالم العربي والإسلامي)".
وهكذا أخذ الاستشراق طابعاً تطورياً؛ فالصور الأولى للشرق في ذهن الغربي تشكلت إبَّان الحملات الصليبية، وبالتقادم أخذت هذه الصور تتطور، حتى ظهر نبي الإسلام في "الكوميديا الإلهية" لـ "دانتي"، لا سيما في فصل الجحيم.
وإبَّان القرن السادس عشر، أخذ طابع اللامبالاة تجاه الإسلام والشرق عموماً ينطبع تباعاً في الذهنية الغربية، لكن هذا لم يستمر في القرن الذي تلاه، ولم يعد الاهتمام بالشرق مقتصراً على الأعمال الأدبية وحدها، إنما تعداه إلى المشاريع المعرفية المتخصصة، فقد هدت تلك اللحظة التاريخية ولادة للكراسي الاستشراقية في الجامعات الغربية.
وفي عصر الأنوار، ظهرت محاولات لردّ الاعتبار للإسلام ودراسته دراسةً موضوعية، بعيداً عن أيّ تعصب مذهبي عدواني. وفي القرن التاسع عشر (وهو قرن الاستشراق بحسب بنسالم حميش) زاد الاهتمام الرومانسي بالشرق، فقد صار الاهتمام بـ عالم آخر ذي إغراءات جمالية ومعرفية سمة عامة لدى المبدعين الغربيين.
وفي القرن العشرين بقي الاستشراق عامةً مُتأثراً بالمركزية الأوروبية المبنية على مركزية أوروبا، وتهميش ما هو غير ذلك. إلا أنَّ عوامل عدّة أسهمت ـ بحسب بنسالم حميش- في زعزعة الأسس الاستشراقية، منها:
1-الحربان العالميتان؛ الأولى والثانية، إذ ضعفت ثقة الإنسان الغربي بتفوقه الحضاري.
2-نمو حركات التحرّر الوطني ونجاحها ضد المد الاستعماري.
3-تطور العلوم الاجتماعية، فثمة قضايا يجب دراستها ضمن بيئتها الاجتماعية بما يعني إلغاء الأحكام المسبقة.
وبذلك، يكون الكاتب قد سلَّطَ الضوء على السياق الاستشراقي وتنامي سرديته الانبنائية، إلا أنَّ استكمال وضوح تام لهذه السردية، تطلّب منه أن يكشف عن العلاقة الوثيقة بين جلّ المستشرقين والجهاز الاستعماري، ودور ذلك في التمهيد لاستعمار البلدان التي درسوا حالاتها، إذ لم تكن أهدافهم العلمية أو البحثية بمعزل ـ بطريقة أو بأخرى- عن شبكة استعمارية كبيرة عملت على استقطاب الكل؛ فقد كان ثمة شعور سائد بضرورة نقل الشرق من عصور الظلام إلى عصر الأنوار الغربي، بهدف تسهيل تجارته وبسط سيطرته على أكبر مساحة جغرافية، بما تحويه من أيد عاملة وأسواق تجارية ومساحات زراعية. لذا، جاء الفصل الثاني والموسوم بـ (المستشرقون والعقد الاجتماعي) للكشف عن تلك العلاقة.
وفي فصل تالٍ، يعود الكاتب للحديث عن الاستشراق التقليدي، وقد حظيت الإسلاميات بنصيب الأسد من هذا الاستشراق للعديد من العوامل، أبرزها:
1-"الشعور بالضيق والتذمر لدى فئات من المستشرقين إزاء ما تعرفه مجتمعاتهم الأصلية من اكتساحات إلحادية وعلمانية منذ عصر الأنوار والثورة الفرنسية، فكان الشرق، كمهد للديانات التوحيدية، قد تبدى لهم كأحسن رقعة يمكنهم السفر إليها والاهتمام بها، للحفاظ على وعيهم الديني متوقداً معبأ من جهة، ومن جهة أخرى لإظهار الإسلام كدين تمكن أكثر من سواه، بفضل تاريخيته وتوفيقه بين المادي والروحي، من خلق مدينة إسلامية بكل مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية".
2-السعي إلى محاورة الإسلام من موقع المحورية المسيحية، وذلك قصد ترويضه واحتوائه؛ أي رده في آخر التحليل إلى دين المسيح كما يرد الفرع إلى الأصل".
3-معاداة الإسلام على اعتبار أنه دين تلفيقي قام وانتشر بالغزو وحد السيف، وتميز أكثر من سواه من الأديان بالروح الرجعية المتحجرة، المعارضة إما لروح المسيحية، وإما للعلم والتقدم".
وقد انخرط جيل كامل من المستشرقين تحت هذه الفئات، وانطلقت حملة كبيرة لدراسة الإسلام ومقاربته من زوايا مختلفة، تبعاً للهدف المنشود من دراسة الشرق والمرجعية التي ينتمي إليها المستشرق أساساً. وفي هذا الإطار يعمل "بنسالم حميش" على إيراد ما يُشبه (البيبلو غرافيا) لمجموعة من المستشرقين؛ كُلٌّ حسب انتمائه.
وعلى الطرف الآخر، يعمل الكاتب على استجلاء جملة من المواقف للمثقفين العرب من القضية الاستشراقية، ومثلما قسَّم من قبل الأطر الاستشراقية والانتماءات التي صبغت النتاجات الفكرية للمستشرقين حسب ميولهم المبدئية، فقد قسّم ميولات المثقفين العرب كذلك إلى عدّة أقسام، وقد جاءت على النحو التالي:
1-مواقف الرفض المتشنج، وقد اتسمت هذه المواقف بالرفض الكامل وتحميل الاستشراق خطيئة تشويه الإسلام.
2-مواقف التحليل النقدي، وقد اتسمت هذه المواقف بجديتها وحصافتها وبصدورها عن مثقفين باحثين لهم ما لهم من العلم وسعة الفكر ما يجعلهم، ولو بنوعٍ من التفاوت، مؤهلين لأن يكونوا محللين ومحاورين يمكن الوثوق بهم.
وبالتقادم، يُعاود الكاتب طرح فكرة أهمية البحث في حقل الدراسات الاستشراقية، وأهمية ذلك في خلق رؤية واضحة للعلاقة الجدلية التي تربط الذات بالآخر.