العقلانيَّــــة التواصليَّــــة ومُستقبل الطّبيعـــة الإنسانيـــة
فئة : مقالات
مُفتتح:
تتوخّى هذه الدراسة الموسُومة بــ "العقلانيَّة التواصليَّة ومُستقبل الطبيعة الإنسانية"La Rationalité communicationnelle et l'avenir de la nature humaine، الوقوف عند التحديات الراهنة التي تُواجه البشريَّة عقب الثورة التقنو-علميَّة خاصة في ميادين الطب والبيولوجيا، وما طرحته هذه التحديات من تساؤلاتٍ أخلاقيَّة وقانونيَّة واجتماعية حول قضايا تحسين النسل، والولادة المـُبرمجة، والاستنساخ، والعبث بالتركيبة الجينية للإنسان بعد التمكّن من فك شفرة الجينوم البشري، والكرامة الإنسانية، وقُدسيَّة الحياة ...إلخ، هنا يكون العقل الإنساني أمام تحدٍّ كبيرٍ للغاية، تحدٍّ لا نُجانبُ الصواب، إنْ قُلنا أنه من نتاجِ هذا العقل نفسه؛ في رغبته الجامحة للتطور والتقدم أكثر وفضوله الدائب في الكشفِ والمعرفة، وقد زادت حدّةُ هذا التحدي بعد الجدل الذي ما انكفت تُثيرهُ مسألة التقنيَّة الوراثية، خصوصاً وأنَّ المسألة تتعلقُ أساساً بالوجود الإنساني ورؤيته إلى ماضيه من جهة، وما يُهدِّدُ حاضره ومُستقبله من جهةٍ أخرى.
ومن ثمَّة، فإنَّ السُؤال الأساسي الذي نمتحنه في هذه الدراسة، يتعلق بمدى قدرة العقلانية التواصليَّة -التي يطرحها الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" Jürgen Habermas، ويُدافع عنها في مشروعه الفلسفي- في مُجاوزة هذه التحديات والتجاوزات، وبمقتضى ذلك يُمكننا صياغته على النحو الآتي: أيُّ دورٍ للعقلانيَّة التواصليَّة في تقديم إجابة عن التحديات الأخلاقيَّة الراهنة التي تُواجه البشريَّة؟ وهل ستتمكّن العقلانيَّة التواصلية من مُجاوزة هذه التحديات؟
إن نقد "هابرماس" للتقنية الوراثيَّة يندرج ضمن عدائه ونقده الشديد للفلسفة العلمويَّة والوضعيَّة
أولا: العقلانيَّة (التواصلية) في مواجهة تحدي التقنية الوراثية
يُدرك المشتغلون على المتن الفكري والفلسفي لفيلسوف التواصليَّة "يورغن هابرماس" امتعاضهُ واستياؤهُ الشديد من التطورات التقنو-علمية الحاصلة في مجال الطب والبيولوجيا؛ ففي كتابه العُمدة "مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة" «L’avenir de la nature humaine» (2001)، يُعبر هذا الفيلسوف عن هاجسه القلق من هذه التطورات التقنيَّة، التي تعبث بشكلٍ مُباشرٍ بالمادة الوراثيَّة الإنسانيَّة وتُهدد استقرارها، وما يطرحه ذلك من أسئلة معياريَّة/ أخلاقيَّة تتعلق بوجودنا الطبيعي/اللغوي/الاجتماعي وقدسيَّة الحياة الإنسانيَّة والكرامة الإنسانيَّة ..إلخ، إذ يتساءل ههنا: ما مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة في ضوء التطورات الرهيبة للتقنيات البيولوجية، خاصة ونحنُ في مجتمعاتٍ ليبيراليَّة يتمتعُ مواطنوها بكامل الحرية والمساواة في صناعة ما يريدون؟ وأيُّ دورٍ للعقلانيَّة التواصليَّة ينبغي أن تُؤديه في خضم ما يحدثُ من أحداث؟ إن المسألة المؤرقة في ذهن "هابرماس" القلق ههنا تتمثَّل حوَّل "السؤال عمَّا إذا كان بالإمكان التأسيس بالعقل لحماية كمال إرث جيني لا تلاعب فيه؟"[1].
إنَّ الحديث عن التقنيَّة الوراثيَّة هو حديث عن مسائل بلغت حدَّ التشابك والصعوبة من قبيل: التدخل الوراثي والجيني، والاستنساخ، والمـُتاجرة بالأعضاء البشرية، وتحسين النسل، والتلقيح الاصطناعي، ومزج الاصطناعي بالطبيعي ..إلخ، وقد مثَّل ذلك مصدر خوفٍ لدى "هابرماس" إذ يقول: "أما تطوّر التقنيات البيولوجية، فيظهر دينامية تهدد بضياع سيرورة التوضيح المعيارية داخل الإطار العام"[2]. ومن ثمة، فلا غرابة أن يتخذ "هابرماس" موقفاً نقدياً من هذه التقنيات، لأنها في أعينه تجعلنا "أمام تحدٍّ شديد التناقض"[3].
هناك ملاحظة على درجةٍ كبيرةٍ منَّ الأهمية يُستحسنُ الإشارة إليها، وهي أن نقد "هابرماس" للتقنية الوراثيَّة يندرج ضمن عدائه ونقده الشديد للفلسفة العلمويَّة scientismeوالوضعيَّة positivisme، وهي الفلسفات التي يُحمِّلُها "هابرماس" إلى ما آلت إليه العقلانيَّة، التي انتهت إلى ما يُسمى بـ "العقلانيَّة الأداتيَّة" la rationalité instrumentale، وهي "نمط منّ المعرفة تقوم بتوظيف وتوجيه العقل نحو الملاحظة والتجريب والتكميم الحسابيّ والرياضيّ، (...)، ولهذا كانت العقلانيَّة الأداتيَّة نتيجة حتميَّة لفكرة الصراع من أجل السيطرة على الطبيعة"[4].
لقد خلصت هذه العقلانيَّة إلى نزعةٍ حسابيَّة تشييئيَّة في نظرتها للطبيعة وللإنسان وللمجتمع، بل إنَّ ما يزيدُ من خطورة هذه النزعة في إقامتها عقد تحالفٍ مع الأطروحة الليبيراليَّة، التي ترى أنَّ كلَّ فرد له الحق في التمتُع بالحرية المطلقة في التصرف في ذاته وجسده وحياته بشكلٍ خاص بعيداً عن أية وصاية مهما كانت، إذّ يُعلق "هابرماس" عن هذا التحالف بقوله: "إن العلم والتقنية قد تحالفا طبيعياً حتى الآن مع فكرة الليبيراليَّة التي تعتبر أن لجميع المواطنين الحق بالفرص نفسها من أجل تكييف حياتهم بشكلٍ مستقلٍ"[5]. وبذلك، غدتْ العقلانيَّة الأداتيَّة إلى عقلانيَّة سيطرة، وإلى خطرٍ مُهدّدٍ لاستقرارنا ومهدد لوضعنا الطبيعي، إذ يقول فيلسوفنا في هذا الصدّد: "إنَّ عقلانية السيطرة تحوَّلت الآن إلى خطرٍ اجتماعي يُهدِّدُ الحياة"[6].
ولئِّن قُدر لهذه العقلانيَّة (الأداتيَّة) أن تغدو عقلانيَّة غائيَّة وسيطرة وهيمنة، لجهة أنَّ هذه العقلانيَّة التقنيَّة التي عُوِّل عليها سابقاً لفك "السحر من العالم" «le désenchantement» وتحرير الإنسان من مخاوفه وهواجسه، قد انتهت إلى نمطٍ من السيطرة، ومن ثمَّة انقلبت "إلى قيد على التحرير وتحوّل الانسان إلى أداة"[7].
فلا غرابة منَّ أن يعمل هذا الفيلسوف على نقدِها ومُجاوزتها، نحو أنموذجٍ جديد يُسهم في تعديل مسار العقلانيَّة ويُعيدها إلى طريق الصواب، خصوصاً وأنه آن الأوان لمواجهة هذه العقلانيَّة التقنيَّة، واقتضتْ الضرورة البحث عن مخرجٍ لأزمتها وضيقِ أُفقها، وهو الهاجس الأساسي الذي يثوي داخل جلِّ مصنفاته، خصوصاً "الخطاب الفلسفي للحداثة" و"نظرية الفعل التواصلي"، في ضرورة إحداث تغيّرات على مستوى نماذج التفكير والفهم، وبالتالي الانتقال إلى عقلانيَّة جديدةٍ، هي العقلانيَّة التواصليَّة la Rationalité communicationnelle التي يُدافع عنها هذا الفيلسوف، أي الانتقال من أنموذج الفعل الموجه نحو هدفٍ أو غايَّة un modèle de l'agir dirigé vers un objectif، إلى أنموذج الفعل التواصلي modèle de l’agir communicationnel، وهو نفس الحراك الفلسفيّ الذّي صرح به فيلسوفنا في أكثر من مَوضعٍ ومُناسبةٍ في متنه الفكري والفلسفي، ويمكن القوّل، إنَّ هذا الانتقال "من-إلى"، يندرج في الاستراتيجيَّة التي يتبعها فيلسوف التواصليَّة في محاولته لإعادة بناء المفهوم الحديث للعقلانيَّة reconstruire le concept moderne de rationalité، حيثُ تُصبحُ لائقةً في تقديم فهم للعالم[8].
في ذاتِ السياق، يُرجع "هابرماس" السبب الأساسي في شيوع هذه التقنيات والإقبال المتزايد عليها من طرف الجمهور، نظراً لمـا تطرحه من آمالٍ ووعود وبشائر، حول مزيدٍ من الرفاهيَّة، وقُدرةٍ في الإنتاجيَّة، وتحكمٍ في الطبيعة، والتمتع بالصحة الجيدة، إنَّ هذه التقنيات قد أيقظت الحلم/الوهم/ الهوّس الإنساني القديم، وفضوله الدائب في إيجاد سُبل إطالة الحياة وجعلها أبديَّة، ولذلك يرى "هابرماس" أن العقلانيَّة تخضعُ لتحدٍّ قديمٍ/ جديدٍ هو نزع السحر عن العالم، لأنَّ ما تقوم به التقنيَّة الوراثيَّة من وعودٍ خرافيَّة قد أعاد السحر إلى العالم، وعلاوةً على ذلك، فهناك حسابات سياسيَّة وإيديولوجيَّة تقبعُ خلف استمرار ودعم تطبيقات التقنيَّة الوراثيَّة، فـ "بقدر ما تتوسّع التقنية وتصبح رفاهية لتجعل الطبيعة بمتناول يدنا بقدر ذلك يرتبط بها وعود اقتصادية - نمو الإنتاجية، وزيادة الرفاهية والمنظور السياسي الأكثر حرية في التصرف لجهة أنها أخذت قرارات فردية"[9].
وتبعاً لذلك، يُمكن القول، إنَّ في نقد "هابرماس" للتقنيَّة الوراثيَّة له ما يُبرره أخلاقيا وأنطولوجياً، ولئن هو لا يجدُ ضرراً في التوسّل بهذه التقنيات من أجل القضاء على المرض وإعادة الصحة إلى الجسد البشري والقضاء على التشويهات التي قد تصيبه جراء الحوادث التي قد يتعرض لها في يومياته، أي التدخل لغرضٍ علاجي/صحي، فإنَّ ما يرفضه ويُدينه بشدة هو تحويل "الإنسان إلى وسيلة وأداة"، وبالتالي القيام بقمعه ووضعِ حَدٍّ لحريته، وتُصيّرهُ محض سلعة، من هنا وجه "هابرماس" جُهده الفلسفي لنقد "الحداثة التقنيَّة"، من خلال توجيه نقد للعقلانية الأداتية، ونحن نعلم جيّداً، أنَّ الأطروحة الثابتة في متن هذا الفيلسوف، هي "دفاعه الحداثة"، وذلك في مقالته المشهور بها على أوسع نطاق "الحداثة مشروع غير مكتمل" «la modernité: un projet inachevé»[10]، من خلال سعيه إلى تلخيص الحداثة من السمعة السيئة التي ألحقتها بها النزعة العلموية والوضعيَّة، وفتح المشروع الحداثي على آفاقٍ ومخارج أخرى، وقد وجد ذلك في نهاية المطاف، من خلال التعويل على العقلانية التواصليَّة، لذلك فالنقد الذي يوجهه هذا الفيلسوف لا يروم من خلاله إلى التقويض والهدم والتجاوز إلى ما بعدها، كما فعل فلاسفة "القول المضاد للحداثة"، بقدر ما يروم من ورائه إلى إعادة بناء مشروع الحداثة والعقلانيَّة الغربية، بعد أن تبيَّن له أن العقلانية عرفت انحرافاً عن مسارها وشهدت انزلاقاً نحو الأداتية، ومن ثمَّة، وجب إعادتها إلى طريقها الحقيقي، ومن جهةٍ مقابلة، إنَّ ما بلغته التقنيَّة الوراثية هو نتاج العقلانية والحداثة، فهو ليس غريباً عنها أو خارجاً عن سياقها، لذلك فإذ ما أرادت الحداثة أن تستمر وتُحافظ على وجودها عليها أن تتأمل ذاتها، خصوصاً وأنه "لم يعد بمقدور الحداثة استعارة معاييرها التوجيهيَّة منّ نماذج لحقبٍ أخرى، يجب عليها أن تعود إلى ذاتها، وأن تخلق معاييرها الخاصة من ذاتها"[11].
بيد أنه ورغم كلّ التهديدات المتوقعة جراء استخدام واللجوء إلى هذه التقنيات الوراثيَّة وما تطرحه من رهانات أخلاقية وأنطولوجيَّة، فإنَّ فيلسوفنا لا يتوقع من المجتمع أن يُقابلها بالرفض والاستهجان، نظراً للإغراءات والوعود والإمكانات التي تطرحها هذه التقنيات، والتي أشرنا إليها سابقاً، يقول "هابرماس" في هذا الصدد: "من وجهة نظر سوسيولوجية قلما يحتمل أن يرفض المجتمع في فترة مستقبلية هذا التحالف، طالما أن تحويل الطبيعة الإنسانية إلى تقنية قد يكون مبررا طبيا من منظور حياة أطول وصحة أفضل، ثمة ثابتة موجودة، وهي أن الأمل بحياة أكثر استقلالية هو أمل يواكب أهداف جماعية تعمل على تحسين الصحة وإطالة الحياة"[12].
ثمَّ إنَّ إلقاء نظرة خاطفة وسريعة على "تاريخ الطب"، لا يجعل أي إمكانيَّة للتفاؤل، من جهةٍ أخرى، فرغم الجدل الذي ما فتئت تُثيره وتُحدثه هذه التقنيات والممارسات، إلا أنه ولا أحد تمكّن من إيقاف فضول التكنولوجيا، وكلّ ذلك في أعيّن "هابرماس" يحملنا على التشاؤم، إذ يكتب قائلاً في شأن هذا الموضوع: "منذ بدايات التلقيح، وأوّل عمليات الدماغ والقلب المفتوح إلى العلاج الجيني، مروراً بنقل الأعضاء أو زرع أعضاء اصطناعية لم ينقطع الجدل حوّل الحدود المبررة التي يمكن أن تبلغها هذه العمليات وأهدافها الطبية، ثمَّ إنَّ لا شيء من هذا الجدل قد استطاع إيقاف التكنولوجيا"[13].
إنَّ المسألة المؤرقة في وعي "هابرماس" القلق، هو تشاؤمه من إمكانيَّة "تهذيب الطبيعة الإنسانيَّة بمعنى إعادة تقديس مشكوك فيها"[14]، ونظراً للتحديات التي وضعتنا التقنيَّة الوراثيَّة في مواجهتها، ما فتئ فيلسوف المدرسة النقديَّة التواصليَّة يؤكد عل ضرورة النظَّر بـ "تعقل إلى هذه البقية من المشاعر القديمة المرشحة للاستمرار في القرف الذي نظهره تجاه الخرافات التي أوجدتها التقنيَّة الجينيَّة"[15].
ونظراً لجملة هذه التحديات التي تُواجهها العقلانيَّة (التواصليَّة) يُمكّن فهم دعوة "هابرماس" المتواصلة في ضرورة أخلقة التقنيَّة الوراثيَّة، وحماية النوع الإنساني (الجنس البشري) من التهديدات الجديدة التي طالت معقله، وعليه يمكن التساؤل من جديد عن الرهانات/التحديات الأخلاقيَّة التي نتجت جراء التدخلات البيوتقنيَّة، وما الذي ستسفر عنه عمليَّة إلغاء الحدود بينَّ الطبيعي والمصطنع؟
ثانياً: العقلانية (التواصلية) والرهانات الأخلاقيَّة للنسالة الليبيراليَّة
يُعنى هذا العنوان -كما هو موضحٌ- بالبحثِ في الرّهانات والتحديات الأخلاقيَّة التي نتجت جراء التطبيقات التقنو-علميَّة على النوع البشري، وعن الدور الذي ينبغي أن تُؤديه الفلسفة والعقلانيَّة في خضم ما يحدثُ منّ تحوّلاتٍ علميَّة يُستحسنُ أن يُسايرها السؤال الأخلاقي عن حدودها ونتائجها، وإذ كنا نطرحُ هذا الموضوع في الفترة الراهنة، فذلك لأننا بصدد مواجهة "مسائل يفوق وزنها الأخلاقي الشجارات السياسية المعتادة"[16]، كمَّا نبه إلى ذلك "هابرماس"، وعليه يُمكن القول، إنّ الموقف النقدي الذي اتخذه هذا الفيلسوف ضد التطور التقنو-علمي وتطبيقاته المختلفة على الجنس البشري راجعٌ بالأساس كونه "يمس تجربتنا الأخلاقية"[17]. وفعلاً إذا ما فتئ "هابرماس" يؤكد على ضرورة الأخذ بالحيطة والحذر من هذه التهديدات الجديدة ومساءلتها أخلاقياً، إذ "ستضعنا في بعض الجوانب بمواجهة مسائل عملية تتعلق بالفرضيات الأولى المرتبطة بالحكم الأخلاقي وبالفعل الأخلاقي"[18].
وفعلاً، فالناظر إلى الفصل الثاني من كتابه العُمدة "مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة"، الموسُوم بـ "نحو نسالة ليبيراليَّة: النقاش حول فهم الجنس البشري لأخلاقياته" « Vers un eugénisme libéral: la querelle autour de la compréhension éthique que l’espèce humaine d’elle-même »، يقفُ عند امتعاض "هابرماس" واستيائه الشديد من العبث بالجينوم البشري وبالمادة الوراثيَّة الإنسانيَّة جراء الاختراق البيوتكنولوجي، وإن كان ذلك بحجة مسايرة التطور والتقدم التقنو-علمي، فهذه الحجّة التي يسوقها العلماء هي ضعيفة جدّاً في أعين "هابرماس" وتفتقد إلى مشروعيتها، فلا تطور وتقدم على حساب أخلاقيات النوع الإنساني، ولأنّ ذلك بإمكانه أن "يزعزعُ الفوارق الحادة بين الذاتي والموضوعي، بين ما ينمو طبيعياً وما هو مفبرك في أماكن لم تكن حتى الآن تحت تصرفنا"[19].
إنَّ الفلسفة اليوم معنية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، بالتدخل عن طريق سؤالها النقدي الذي لا يترك شيئاً إلاَّ وقام باستحضاره على طاولة المساءلة والتفكيك والنقد
ونظراً لحجم هذه التهديدات والتحديات، والتي تضع الإنسان في مواجهة قدرته على تحقيق الوفاق والعيش مع بين ما هو طبيعي فيه وما هو مصطنع، وعلى الفهم الأخلاقي الذي يكونه على نفسه، وفي ذلك يُخاطب "هابرماس" النسالة الليبيراليَّة بقوله: "على النسالة الليبيرالية أن تطرح على نفسها سؤالاً، عمَّا إذا كان الشخص المبرمج، وفي بعض الشروط سيكون قادراً على إدراك اختفاء الفارق بين ما يعتقده طبيعياً، وبين ما هو مصنوع، بين الذاتي وبين الموضوعي"[20].
في ضوء ذلك، على الفلسفة أن تُجدد من أدوارها ومهامّها وأن تتدخل لوضع حدٍّ من تجاوزات التقنية الوراثيَّة، إنَّ الفلسفة اليوم معنية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، بالتدخل عن طريق سؤالها النقدي الذي لا يترك شيئاً إلاَّ وقام باستحضاره على طاولة المساءلة والتفكيك والنقد. إنَّ هذه الخاصيَّة التي تمتاز بها هي ما يُخوِّلُ لها أن تُقدم خطابا أخلاقيا كونيّاً يُفكِّر في مصير الإنسانيَّة في أفق الثورة التكنولوجية، وضبط معايير عقلانيَّة تُنظِّم السلوك الإنساني، حيثُ تُحافظ على كرامته وانسانيَّته، ويبقى الدليل الأقوى على ذلك، أن مهمتها الدائمة عبر مختلف الحقبِ والعصور هي "تحرير الإنسان وإمكان الحفاظ على حريته ومعنى إنسانيَّة وعقلنة ذلك أو فهمه بصورة عقلانيَّة"[21].
لذلك، فإنَّ خطورة هذه التجاوزات، تعود بالدرجة الأولى، إلى التهديدات التي طالت ما هو ثابتٌ في طبيعتنا الإنسانيَّة؛ من كرامة وحرية وقدسية، كمَّا نبه إلى ذلك "هابرماس" في قوله: "إن التقدم المشهود في النسالة الذرية لما يزل يجعل ما نحن فيه بطبيعتنا مُمَهّداً دائماً للتدخلات البيوتقنية"[22].
لقد مثّل حدث "اكتشاف حمض DNA" وما تبعه ذلك من فك شفرة الجينوم البشري ومعرفة البرنامج الجيني للإنسان، مُنعرجاً حاسماً في فهمنا لطبيعتنا الإنسانيَّة، إذ أضحى من الممكن التحكم في تركيبة النظام الداخلي له، وما رافق ذلك من هوسٍ في تعديل تركيبته الجينيَّة وتعديلها نزولاً عند رغبة الأفراد في الحصول على لون بشرة ما، أو لون عينين مثلاً، وجسد أقوى ..إلخ، إذ يُعلق فيلسوف فرانكفورت أنَّ كلّ ذلك بمقدوره أن "يمسّ شروط النمو الطبيعي"[23]، خصوصاً إذا كان هذا التعديل مصحوباً بإضافة عناصر إلكترونيَّة بغيَّة الفوز بذاكرةٍ أقوى وقلب أكثر صلابة ..إلخ، إنَّ هذا التلاقي بين الإنسان والأداة، حسب "هابرماس" سيجعل مُستقبلاً "التمييز الحدسي بين ما ينمو طبيعيا وما هو مصنوع أو بين الذاتي والموضوعي يتلاشى"[24]، ثمَّ إن ذلك يطرح سؤالاً آخر، هل سيتمكّن الإنسان من التحكّم في الآلة أم إنَّ هذه الآلات والعناصر الاصطناعيَّة هي من ستتحكم في الإنسان، يقول "هابرماس": "وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة كتب ومقالات يقدمون لنا إنساناً يصار إلى تكميله بزرع البراغيث الإلكترونية، أو خلافاً لذلك إنساناً يرى نفسه مسبوقاً باستمرار بروبوتات أكثر ذكاء منه"[25].
ومن ثمَّة، فإنَّ التقنيَّة الوراثيَّة تطرح مسألة مهمة وأساسيَّة، تتعلق بالعلاقات الاجتماعيَّة، لأن هذه التقنيات ستقوم بإنشاء علاقات يصفها فيلسوف النظريَّة التواصليَّة بأنها "لا-متوازيَّة"، وفعلاً سنجد أنفسنا أمام علاقات جديدة تكون بين شخصٍ يتمتع ببنية جسديَّة صحيحة وكاملة، مُزود بعناصر غير طبيعيَّة، وذهن فائق الذكاء، وذاكرة قويَّة ...إلخ، وبين شخص طبيعي، يقول "هابرماس": "وأنا أرهن على أنه بمجرد أن يعرف (الانسان) أن جينومه الشخصي قد تمت برمجته لهو عامل يؤدي إلى اضطراب الوضوح الذي بموجبه نوجد نحن بوصفنا جسداً، (...)، وأنه من هذا الحدث سيولد نمط جديد من العلاقات اللامتوازية بشكلٍ فريدٍ بين الأشخاص"[26].
وعلى ضوء ذلك، يُمكن تفهّم تخوّف "هابرماس" وتوجسّه من التقنيَّة الوراثيَّة وتطبيقاتها المختلفة، كمَا يُمكننا تفهّم موقفه النقدي تجاهها، خصوصا وأنها تمُسّ الطبيعة الإنسانيَّة بإبعادها للتمييز بين ما ينمو طبيعياً وما هو غير طبيعي. إنَّ هذه المسألة تتخذُ أبعاداً أخلاقيَّة ونفسية أخرى، ويُمكننا أن نتحسّس نفسيَّة الفرد المـُبرمج أو الذي دُمجت فيه عناصر غير طبيعيَّة، بعد أن يعلم ذلك، كيف سينظر إلى ذاته من زاويَّة أخلاقيَّة ونفسية؟ وكيف ستؤثر على علاقاته الاجتماعيَّة الأخرى؟ واضح أن هناك الكثير من الأسئلة المـُعقدة التي من الواجب طرحها خصوصا عند النظّر إلى الدور الذي "تمارسه التقنية البيولوجية على تميّزات عادية بين ما ينمو طبيعياً وما هو مصنع، بين الذاتي والموضوعي، كيف يطور ذلك معرفتنا لذاتنا حتى الآن من زاوية أخلاقية الجنس البشري؟ وتؤثر في معرفة شخص جرت برمجته جينيا لذاته؟"[27].
وعطفاً على ما سبق، يُمكن القول، إنَّ ما يُؤرق وعي "هابرماس" القلق، وفي هذه المسألة بالذات، هو اختفاء الحدود بين الطبيعة والأداة، وقد أفصح عن هاجسه هذا قوله صراحة: "أما الظاهرة التي تهمني فهي اختفاء الحدود بين الطبيعة التي هي نحنُ والأداة العضوية التي نعطيها لأنفسنا"[28].
بل إنه يمكن القول، إنَّ هذا الانصهار بين الطبيعي والموضوعي سيُفقد الإنسان جميع خصائصه التي تميّزه عن بقيَّة الموجودات والأشياء الأخرى، ومنها على وجه التحديد خاصيَّة "العقلانيَّة"، ومنها تتفرع جميع الخصائص الأخرى من حرّيةٍ وكرامةٍ واستقلاليَّةٍ وإرادةٍ، وهو ما يُفقد "الطبيعة الإنسانيَّة" قيمتها وجوهرها، لأننا نُصبح كائنات ممزوجة بين الذاتي (ما لنا في طبيعتنا) وبين الموضوعي (ما هو خارج عن طبيعتنا). إنَّ هذا الاختراق يطرح مسائل أخلاقية في غاية التعقيد والصعوبة: ما التعريف الذي سنقدمه بعد اليوم للإنسان؟ هل هذا الوضع العلمي الجديد سيتجاوز النظر للإنسان حائزاً على خاصية العقلانيَّة (الإنسان حيوان عاقل) والنظّر إلى جسده الذي أصبح محل فضول علمي وربحٍ اقتصادي أيضا؟ وكيف سننظر إلى ذواتنا هل بوصفنا كائنات سلوكيَّة/معياريَّة أم خلاف ذلك؟ ما الفهم/الانطباع الذي سنكونه على ذواتنا بعد غزو عناصر اصطناعية طبيعتنا؟ يُلخص لنا "هابرماس" كلّ هذه التساؤلات في قوله: "تستدعي هذه الرؤية مسألة معرفة ما إذا كانت تقنية الطبيعة الإنسانية قد أدت إلى فهمٍ آخر لذاتنا (...) فبعد الآن لم يعد بالإمكان أن نفهم أنفسنا ككائنات حرة سلوكياً ومتساويين أخلاقياً نتوجّه بواسطة المعايير والحجج"[29].
إنَّ هذا الموقف الفلسفي الذي انتهينا إليه له أُفقه الإشكالي الخاص: ما هي التحديات التي تواجه مساعي العقلانيَّة التواصليَّة في إقامة مجتمع تواصلي يقوم على أخلاقيات النقاش والحوار وإقامة الحجّة والبراهين من أجل بلوغ الاتفاق والتفاهم والاجتماع؟
هذا ما سنحاوّل البحث فيه من خلال العنصر الآتي من هذه الدراسة.
ثالثاً: العقلانية (التواصليَّة) وتحديات الاندماج الاجتماعي في عصر التقنية الوراثية
من المعروف عند المتمرسين على النصوص الفلسفيَّة لـ "هابرماس" أنَّ القضيَّة الأساسيَّة التي أرقت وعيه هي البحث عن سبيلٍ لتحقيق الاندماج الاجتماعي بين أفراد لهم خلفيات فكريَّة وعقديَّة واثنيَّة متنوّعة، وهو الهاجس الأساسي الذي يرمي إليه من خلال "العقلانيَّة التواصليَّة-الكونيَّة"، وقد أفصح عن ذلك في مناسباتٍ كثيرةٍ، إذ يقول في هذا الصدد: "لقد حاولت في إطار نظريَّة الفعل التواصليّ إرساء معقوليَّة سلوكيَّة، مفادها أنّ شخصاً مُعيناً ومهما يكن محيطه الاجتماعيّ ولغته وشكل حياته الثقافيَّة، فإنّه ليس بمقدوره عدم الانخراط داخل المـُمارسة التواصليَّة"[30].
ممَّا سبق، يتبيّن لنا، أنَّ الهاجس الأساسي لـ "هابرماس"، هو إقامة فضاء عقلاني وتواصلي كوني، وأنَّ إمكانيَّة مُناقشة قضايا الشأن العام مُتاحة لجميع الذوات بغض النظّر عن انتماءاتهم العرقيَّة واللغويَّة والثقافيَّة والعقديَّة، ويبقى الدليل الأقوى على ذلك، أن أصبح "التواصل" هو عنوان مشروعه الفلسفي برمته، إلاَّ أنَّ السؤال الأساسي الذي نمتحنه في هذا المقام، يتعلقُ أساساً بالتحديات التي أوجدتها التقنيَّة الوراثيَّة أمام العقلانيَّة التواصليَّة في سعيها لتشييد مجتمع عقلاني متجانس بين وحداته، هو التالي: إلى أيّ مدى كانت التقنيَّة الوراثيَّة عائقاً أمام تحقيق التواصل والاندماج الاجتماعي؟ هل يُمكن للفرد المـُتفرد جينياً الاندماج والتواصل مع الأفراد الطبيعيين الآخرين، وبالتالي الارتقاء بالنقاش إلى منزلة الاتفاق والتفاهم، وهي إحدى الغايات الأساسيَّة للعقلانيَّة التواصليَّة؟ كيف ستؤثر هذه التقنيات على اجتماعيَّة الأفراد وعلاقاتهم مع الآخرين؟
في محاولة "هابرماس" لتقديم إجابات عن هذه التساؤلات وغيرها، يرى أنَّ للتقنيَّة الوراثيَّة دورا سلبيا جدّاً على الأفراد في عمليَّة التواصل والنقاش، ومن ثمَّة بلوغ التفاهم وتحقيق الاتفاق والإجماع، وفعلاً فالشخص المـُبرمج مسبقاً، لا يمكن في أيِّ حالٍ من الأحوال، أن تتعامل معه بـ "منطق المناقشة" La logique de la discussion، القائم على تبادل الردود والحجج والبراهين، والانفتاح على الآخر والسماع له، وكل ذلك في إطار أخلاقي يتأسس على الاحترام والاعتراف المتبادل، إنَّ الفرد المـُبرمج مُسبقاً، على حد توصيف فيلسوف التواصليَّة، لا يمكن أن نُعدّه أصلاً شخصاً عاقلاً، لأنه ببساطة لا يمتلك استعداداً للتواصل اللغوي مع الآخرين، ولا يمكن أن يُسهم في أجواء النقاش، يقول "هابرماس": "فقط منذ اللحظة التي يتم فيها فصل الاتحاد الوثيق عن الأم يدخل الولد في عالم أشخاص يأتون لملاقاته، ويتوجهون إليه ويخاطبونه، فالكائن المتفرد جينيا في أحشاء الأم كنموذج من جماعة ما قبل الولادة، ليس هو، بحال من الأحوال، شخصا منذ البداية، وفي البيئة العامة فقط لجماعة اللغة يتكون الكائن الطبيعي بصفته فردا وشخصاً عاقلاً".[31]
لأنَّ ما يُمثّل جوهرياً في صفة "العقل/العقلانيَّة"، وما يجعل من الفرد شخصاً عاقلاً، حسب "هابرماس"، في قدرته على الكلام والفعل والتفاعل، ويكون مسؤولاً عنها، "إنَّ ما نسميه "عقلانيَّة"، هو أولاً الاستعداد الذي تبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل، (...) منذ اللحظة حيث نتصور المعرفة بوصفها معرفة يتوسطها التواصل، عندئذٍ نقيس المعرفة نفسها بملكة يمتلكها أشخاص يتصفون بالمسؤوليَّة ويشاركون في تفاعل، توجههم وفقاً لمطالب مصداقيَّة تستندُ إلى اعتراف متبادل بينَّ الذوات".[32]
نزولاً عند ما سبق، فإنَّ التقنيَّة الوراثيَّة تمسّ أهم ما يُميز الكائن البشري عن الموجودات الأخرى، وهي طبيعته العقلانيَّة/التواصليَّة/الاجتماعيَّة، فالإنسان كائن تواصلي-اجتماعي بامتياز، وعبر هذه الطبيعة يتجاوز الفرد خندقة الذاتي الضيق وينفتح على الآخر، في إطار أخلاقي يروم إلى بلوغ الإجماع والاتفاق، من خلال تبادل الحجّة بالحجّة، ومن خلال هذه العمليَّة الحواريَّة-التبادليَّة، يرى "هابرماس"، أنَّ المتحاورين يتجاوزون الكثير من المفاهيم والتصورات التي كان يعج بها فكرهم قبل الانخراط في أجواء الحوار، غير أنَّ التقنيَّة الوراثيَّة تُفقد للكائن البشري هذه الخاصيَّة من خلال برمجته أو تعديله اصطناعيا أو العبث بمادته الوراثيَّة، فالشخص المـُبرمج يدخل إلى النقاش بعقليَّةٍ مغلقة مُبرمجةٍ مُسبقةٍ، وهو ما يتنافى والعقلانيَّة، وقد نبه صاحب "نظريَّة الفعل التواصلي"، إلى هذه القضيَّة الفكريَّة حين كان بصدد عرض مفهوم للعقلانيَّة التواصليَّة، لنستمع إلىّ قوّل "هابرماس": "إنّ مفهوم العقلانيَّة التواصليَّة مليئة بمعانٍ مرتبطة فيّ النهاية بالتجربة المركزيَّة بالخطاب المتمركز علىّ حجج، والقادرة علىّ استثارة موافقة دون إكراه وخلق إجماع، بواسطة هذا الخطاب يتجاوز المتحاورون الذاتيَّة الأصليّة لمفاهيمهم، وبفضل قناعاتهم المـُبررة عقلانياً هم يضمنون فيّ آنٍ واحد العالم الموضوعيّ والبينذاتيّ لحياتهم"[33]
إنَّ هذا الانصهار بين الطبيعي والموضوعي سيُفقد الإنسان جميع خصائصه التي تميّزه عن بقيَّة الموجودات والأشياء الأخرى، ومنها على وجه التحديد خاصيَّة العقلانيَّة
هنا بالذات، وفي أعيِن "هابرماس"، فإنَّ الذوات تعمل بطريقةٍ تواصليَّة عن طريق الوسيط اللغوي، وفيها تُدمج الذوات مع بعضها البعض وتتفاعل فيمَا بينها، طبعاً فكلّ الذوات خاضعة لـ "العالم المعيش" Le Monde vécu، ومن ثمَّة تنفتح الذوات على جملة التقاليد والثقافات المنضويَّة في عالم المعيش، وتتمازج تأويلاتهم المختلفة، ومن ثمَّة يمكن القول مع "هابرماس" إلى "أنَّ ما يحوّل الجهاز العضوي بالولادة إلى شخص بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، فهو الفعل المفرد اجتماعيا ومن خلاله يقبل الشخص في السياق العام لتفاعلات عالم المعيش ومتقاسم تذاوتيا"[34].
وفي هذا الإطار، يرى "هابرماس" أنّ الهويَّة الذاتيَّة تتشكّل من خلال انخراط الأفراد في أجواء النقاش مع الآخرين في فضاء عمومي، من خلال هذه "العمليَّة التذواتيَّة" La Relation Intersubjectivité، التي يقوم بها الأفراد لبلوغ التفاهم والاتفاق في مسألة أو مشكلة ما تتعلق بالشأن العام [35]، أين تنفتح الذات على الذوات الأخرى، وتكّون علاقة معها، ومن ثمَّة فإنَّ ما يصنع هويتنا هو هذا الاحتكاك مع الآخر والانفتاح عليه، والتأثير فيه والتأثر به، وأن يعترف بي وأعترف به، أيّ أن يكون هناك "اعتراف متبادل"، فالكائن الإنساني بوصفه حيوانا اجتماعيا، هويته تتحدد انطلاقاً من طبيعته الاجتماعيَّة هذه، لنستمع إلى قول فيلسوف التواصليَّة: "إنه بالعلاقات التذاوتية مع الغير تتشكل الذاتية التي تجعل من الجسد البشري الوعاء الحي للروح، إن الهو الفردية لا تتطور إلا عن طريق التخارج الاجتماعي ولا يمكنها علاوة على ذلك، أن تثبت إلا في شبكة من علاقات الاعتراف ظلت سليمة"[36]. هذه العلاقات ضرورية من أجل تطوير الهوية والمحافظة عليها، بل إنَّ هذا الفيلسوف يذهب إلى أقصى من ذلك، حين يرى أنّ الطفل يولد صفحة بيضاء -على حد تعبير "جون لوك"- وأنّ ما يُشكّل هويته وصفاته وتفردهُ هو وجوده في فضاء اجتماعي؛ أي كعضو وجزء أساسي من ذلك الفضاء الذي يغزوه التعدد والتنوّع، منّ خلال التواصل والحوار والنقاش، وهي صفات تمّيز الفرد وتصنع تفرده، والتي لا يُمكن أن تُغيرها فيه التقنيَّة الوراثيَّة، فـ "في الشبكة الرمزية علاقات متبادلة من الاعتراف التي تمارس بين أشخاص فاعلين بطريقة تواصلية، يأخذ المولود الجديد هوية "أحد ما" كواحدٍ "بيننا"، ويتعلم كيف يكتسب هويته بنفسه - يتعلم ذلك بوصفه شخصاً بشكلٍ عام، أو كجزء أو عضو (أو أكثر) من جماعة (أو جماعات) اجتماعية، وكفردٍ لاشك بوحدته وقد تكونت صفاته التي لا تتغيّر بشكلٍ أخلاقي"[37].
ولعله في حكم النافل منّ القوّل، إنَّ النقد الهابرماسي للتقنيَّة الوراثيَّة يندرج ضمن مشروعه الأعم، وهو إعادة بناء العقلانيَّة والحداثة الغربيَّة، فهذه الأخيرة قد انحرفت عن طريقها بعد أن تماهت مع متطلبات الفلسفة العلمويَّة والوضعيَّة، التي انتهت إلى نزعةٍ تشييئيَّة ورياضيَّة وأداتيَّة في نظرتها للوجود والطبيعة والإنسان، دون الأخذ بعينِ الاعتبار الأبعاد الأنطولوجيَّة والأخلاقيَّة والنفسية والاجتماعيَّة والأنثروبولوجيَّة التي يمتاز بها الكائن الإنساني، والتي تُحدد هويته وطبيعته، بحجة استمرار البحث العلمي وعدم إعاقته وإيقافه، لذلك فقد عمل هذا الفيلسوف على مُجاوزة هذه العقلانيَّة الأداتيَّة-التقنيَّة إلى عقلانيَّة أخرى جديدة (تواصليَّة)، تقوم على التواصل والنقاش وأخلاقياته، تحفظ للإنسان كرامته وطبيعته وهويته وتفرده، وتحمي إرثه الجيني من التدخلات والانتهاكات لحرمته من خلال التعديلات الاصطناعيَّة، من هنا أمكن تفهم دعوة "هابرماس" إلى وضع رقابةٍ أخلاقيَّة على الخطاب العلمي-التقني، الذي قاد في النهايَّة إلى عصرٍ جديدٍ تفقد فيه الإنسانيَّة طبيعتها وكرامتها وقُدسيتها، إذ يقول: "إنَّ ما يضعه العلم تقنياً بتصرفنا يجبُ أن يكون خاضعاً لرقابة أخلاقية"[38].
بقي لنا في الأخير الإشارة، إلى أنَّ مُقاربة فيلسوف التواصليَّة "يورغن هابرماس" لموضوع الطبيعة الإنسانيَّة في ظلِّ عصر التقنيَّة الوراثيَّة، والرهانات الأخلاقيَّة المترتبة عنها، والتحديات الكبيرة التي تواجه العقلانيَّة، وما يستلزم ذلك من آلياتٍ فكريَّة ومنهجيَّة لمـُجاوزتها، لها أهميَّة كبيرة في واقعنا العربيّ، إذ إنَّ ما يحتاج إليه العقل العربي هو التفكير في هذه الموضوعات بكل جرأة وشجاعة، ومن ثمَّة مواكبة مُستجدات الراهن وما تطرحه عليه من رهاناتٍ وتحدياتٍ أخلاقيَّة، يستلزم التفكير فيها والاشتغال عليها.
قائمة المصادر والمراجع:
1- المصادر الأجنبية:
- Jürgen Habermas: Théorie de l’agir communicationnelle, «Rationalité de l’agir et rationalisation de le société», Tome1, traduit de l’allemand par Jean-Marc Ferry, Fayard, 1987.
- Jurgen Habermas: Ecrits politiques: culture, droit, histoire, traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochilitz, les éditions du Cerf, 1990
- Jurgen Habermas: Logique des sciences sociales et autres essais, traduit de l’allemand par Rainer Rochlitz, 1re édition «Quadrige».
2- المصادر المترجمة إلى العربية:
- يورغن هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دراسات فلسفيَّة وفكريَّة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى، 1995
- يورغن هابرماس: العلم والتقنية كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2003
- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، نقله إلى العربية جورج كتورة، مراجعة أنطوان هاشم، المكتبة الشرقية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2006
- يورغن هابرماس: أيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم ناشرون - منشورات الاختلاف، لبنان-الجزائر، الطبعة الأولى، 2010
3- المراجع بالعربيَّة:
- كمال بومنير: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، منّ ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون- منشورات الاختلاف، لبنان - الجزائر، الطبعة الأولى، 2010
- علي عبود المحمداوي وآخرون: البيوتيقا والمهمة الفلسفيَّة، أخلاق البايولوجيا ورهانات التقنية، منشورات الاختلاف-منشورات ضفاف، الجزائر-لبنان، الطبعة الأولى، 2014
[1]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، نقله إلى العربية جورج كتورة، مراجعة أنطوان هاشم، المكتبة الشرقية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2006، ص37
[2]- المصدر نفسه، ص27
[3]- المصدر نفسه، ص28
[4]- كمال بومنير: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، منّ ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون- منشورات الاختلاف، لبنان - الجزائر، الطبعة الأولى، 2010، ص28
[5]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص34
[6]- يورغن هابرماس: العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2003، ص109
[7]- المصدر نفسه، ص5
[8]- Jürgen Habermas: Théorie de l’agir communicationnelle, «Rationalité de l’agir et rationalisation de le société», Tome1, traduit de l’allemand par Jean-Marc Ferry, Fayard, 1987, p395
[9]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص34
[10]- أنظر: يروغن هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دراسات فلسفيَّة وفكريَّة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى، 1995
[11]- «La modernité ne peut plus emprunter ses critères d’orientation aux modèles des autres époques. Elle doit exclusivement recourir à elle-même-il lui faut créer sa propre normativité à partir d’elle-même».- Jurgen Habermas: Ecrits politiques: culture, droit, histoire, traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochilitz, les éditions du Cerf, 1990, p140
[12]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص34
[13]- المصدر نفسه، ص35
[14]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[15]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[16]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص26
[17]- المصدر نفسه، ص38
[18]- المصدر نفسه، ص39
[19]- المصدر نفسه، ص55
[20]- المصدر نفسه، ص66
[21]- علي عبود المحمداوي وآخرون: البيوتيقا والمهمة الفلسفيَّة، أخلاق البايولوجيا ورهانات التقنية، منشورات الاختلاف-منشورات ضفاف، الجزائر-لبنان، الطبعة الأولى، 2014، ص09
[22]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص33
[23]- المصدر نفسه، ص55
[24]- المصدر نفسه، ص60
[25]- المصدر نفسه، ص53
[26]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص55
[27]- المصدر نفسه، ص ص 32-33
[28]- المصدر نفسه، ص32
[29]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص53
[30]- يورغن هابرماس: أيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم ناشرون - منشورات الاختلاف، لبنان-الجزائر، الطبعة الأولى، 2010، ص30
[31]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص46
[32]- يورغن هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، مصدر سابق، ص482
[33]- «Ce concept d’une rationalité communicationnelle est chargé de connotations qui remontent, en dernière instance, à l’expérience centrale de la force propre au discours argumenté, capable de suscité un accord sans contrainte et de créer un consensus, au moyen de ce discours argumenté, les différents interlocuteurs dépassent la subjectivité initiale de leurs conceptions et, grâce à la communauté de leurs convictions rationnellement motivées s’assurent en même temps de l’unité du monde objectif et de l’intersubjectivité de leur vie». -Jurgen Habermas: Logique des sciences sociales et autres essais, traduit de l’allemand par Rainer Rochlitz, 1re édition «Quadrige», p445.
[34]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص46
[35]- Jürgen Habermas: Théorie de l’agir communicationnel, Tome 1, op cit, p395
[36]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص45
[37]- يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، مصدر سابق، ص46
[38]- المصدر نفسه، ص33