العقيدة والإيمان المتعدي في القرآن الكريم
فئة : أبحاث عامة
العقيدة والإيمان المتعدي في القرآن الكريم
ملخص:
يسلط هذا البحث الضوء على المفهوم الاجتماعي للإيمان بوصفه الهدف الأساس للرسالة السماوية، ويبيّن أنّ المفهوم السائد للإيمان على أنه العقيدة يكاد يكون مجرّد وسيلة لا غاية. فالإسلام والإيمان من المفاهيم الأساسية التي ركزت عليها آيات القرآن الكريم، وهما مصدران مشتقّان لغوياً من السِلْم والأَمْن، لكننا نرى العالم الإسلامي يعيش حالة مزرية من الصراعات والنزاعات الطائفية والسياسية التي استمرت فيه لقرون عديدة وراح ضحيتها الملايين من الأبرياء. لقد تم حصر مفهوم الإيمان في الفقه الإسلامي ضمن دائرة الاعتقاد والإقرار بوجود الخالق والتصديق بالرسل والغيبيات (الملائكة، اليوم الآخر، الجنة، النار، إلخ)، وهذا ما يسمى فقهياً بـ "العقيدة". أما مفهوم الإيمان المتعدّي، والمتمثل في عملية منح الآخرين الأمن، فقد غاب بشكل كامل عن التداول، رغم أنه الأقرب للمصدر اللغوي "الأمن". ونتيجة لذلك، تم التركيز بشدة على فكرة "العقيدة"، بينما أصبح موضوع السلم والأمن هامشياً في الفقه الإسلامي. وتكمن أهمية هذا البحث في تركيزه على المعنى المتعدي للإيمان، هذا المعنى الذي غاب عن الاستخدام العملي وضاع عبر العصور لأهدافٍ نعتقد أنها سياسية وعسكرية. الأمر الذي أدّى إلى تحريف الهدف الرئيس من الرسالة السماوية، وهو نشر السلام والأمان في المجتمعات الإنسانية.
هناك العديد من المصطلحات في القرآن الكريم قد تم تحريف معناها الحقيقي، واستعيض عنها بمعانٍ شائعة قد تكون بعيدة عن المعنى الأصلي المراد لها. ومثالاً على ذلك سنتطرق في هذا البحث لمفهوم "الإيمان" ومشتقاته، كيف ورد في القرآن الكريم، ونقارن هذا المعنى بما هو سائد ومتعارف عليه بين المسلمين. وفي المقابل، هناك مصطلحات تعدّ محورية في الدين الإسلامي، ولا نجدها إطلاقاً في كتاب الله عز وجل، مثل مصطلح "العقيدة"، حيث لم يرد الفعل "اعتقد" أو اسم الفاعل "مُعتَقِد" في كتاب الله حتى ولو مرة واحدة. فلا نجد عبارات "هذا جزاءُ ما كنتم تعتقدون" أو "تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعتقدون"، بل نجد عبارات العمل تتكرر مراراً في العديد من الآيات كما سنرى لاحقاً في هذا البحث.
ليس هذا البحث دعوة للإلحاد أو لإنكار الذات الإلهية، بل على العكس تماماً. إن وجود الله بالنسبة لنا هو أمر موضوعي ولا يخضع للإرادة البشرية، كوجود الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار. وإذا استعرضنا قصص الأنبياء والرسل في القرآن الكريم، نجد أن رسالة السماء لجميع الأقوام. وعلى مر العصور، كانت تتمحور بشكل رئيس على عبادة الله عز وجل "يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره"، والعبادة تكون بطاعة الأوامر والابتعاد عن النواهي. هل طلبت رسالة السماء الاعتراف أو الاعتقاد والتصديق بوجود الخالق بشكل صريح؟ وهل كان الطلب صريحاً أم جاء مبطناً وكتحصيل حاصل؟ أم إنه بمجرد القبول والامتثال لأوامر الله عز وجل وطاعته فيما أمر ونهى، فإن الاعتراف بوجود الخالق قد حصل بشكل تلقائي؟
لقد ركزت كتب الفقه على الإيمان بمفهوم الاعتقاد أو التصديق أو الإقرار بوجود الخالق (العقيدة)، فكتبت المجلدات وأسهبت في شرح معنى الإيمان (بمفهوم العقيدة) وخلافات الطوائف والفرق في هذا الخصوص. يقول ابن تيمية رحمه الله: "تعد مسألة الإيمان من أهم مسائل العقيدة الإسلامية على الإطلاق، ولا ريب أن أول خلاف وقع في الأمة كان فيها، وكان الخلاف فيها محورًا رئيسًا تبلورت حوله آراء عدة فرق، وصار معلمًا بارزًا لكل منها"[[1]]. وتعددت الأقوال في مفهوم مصطلح الإيمان؛ فمنهم من يرى الإيمان اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ومنهم من يحسبه تصديقاً بالقلب، وإقراراً باللسان، ومنهم من يحصره بقول اللسان فقط، بينما آخرون حصروا الإيمان بالمعرفة فقط.
أما لغةً، فيقول الأزهري: "الإسلام إِظْهَار الخُضوع والقَبول لما أَتَى بِهِ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِه يُحقَن الدَّم، فَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك الْإِظْهَار اعْتِقَاد وتصديقٌ بِالْقَلْبِ فَذَلِك الْإِيمَان، الَّذِي يُقال للموصوف بِهِ: هُوَ مُؤمن مُسلم، وَهُوَ الْمُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله، غير مرتاب وَلَا شَاك، وَهُوَ الَّذِي يَرى أَن أَدَاء الْفَرَائِض واجبٌ عَلَيْهِ، وَأَن الْجِهَاد بِنَفسِهِ وَمَاله واجبٌ عَلَيْهِ، لَا يدْخلهُ فِي ذَلِك رَيب، فَهُوَ الْمُؤمن وَهُوَ المُسلم حقًّا"[[2]]. ويقول الراغب الأصفهاني "آمن إنما يقال على وجهين: أحدهما: متعديًا بنفسه، يقال: آمنته، أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله مؤمن، الثاني: غير متعدٍ، ومعناه صار ذا أمن، .... قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} قيل معناه: بمصدق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن"[[3]].
لقد قعَّدَت كتب الفقه لمفاهيم محددة في القرآن الكريم بعيداً عن أصلها المتمثل في الجذر اللغوي، باعتبار أن ما ورد في كتب السيرة والحديث النبوي هو الناظم لهذه المعاني كما يقول ابن تيمية "ومما ينبغي أن يعلم: أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم"[[4]]. ونحن هنا لا نوافق ابن تيمية فيما ذهب إليه؛ لأن كتب السيرة والأحاديث ظنية الثبوت وظنية الدلالة، ولا يمكن أن ننفي المفاهيم الواضحة الجلية في القرآن الكريم اعتماداً على مفاهيم مغايرة ربما وردت في رواية أو حديث منسوب للنبي.
لقد ورد الفعل الثلاثي المزيد بحرف "ءَامَنَ" في القرآن الكريم 536 مرة في 478 آية، وهذه الإحصائية تشمل الفعل "ءَامَنَ" حصراً بصيغة الماضي والحاضر، مرتبطاً بضمائر المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث. ولا تشمل الأسماء المشتقة أو المصدر[[5]].
ومن جهة أخرى، فقد ورد الفعل الثلاثي "أَمِنَ" في القرآن الكريم 19 مرة في 15 آية [[6]]. وقد جاء هذا الفعل دائماً بمعنى الشعور الذاتي بالأمن الذي هو نقيض الخوف. وقد ورد "الإيمان" كمصدر للفعل المتعدي الثلاثي المزيد بحرف "ءَامَنَ" في القرآن الكريم 44 مرة في 41 آية منفصلة [[7]]. فهل جاء هذا المصدر دائماً بالمفهوم اللازم المتمثل بالاعتقاد والإقرار والتصديق؟ أم إنه جاء متعدّياً بمفهوم منح الأمن للغير؟
والسؤال الذي يطرح نفسه، طالما أن كلا الفعلين مشتق من مصدر "الأَمْن"، لماذا بقي الفعل الثلاثي "أَمِنَ" يحمل مفهوم الأمن، بينما تم سحب معنى الفعل الثلاثي المزيد بحرف "ءَامَنَ" ليعطي مفهوم "الاعتقاد والتصديق والإقرار"؟
يتدرّج هذا البحث في الاستدلال على فرضيّته عبر المحاور التالية:
- البحث اللّغوي في الفعل الثلاثي وتعديته بالهمزة
- البحث الدلالي في معنى فعل "أَمِنَ" و"ءَامَنَ" في القرآن الكريم
- تعيين مدلول الإيمان المتعدي: من خلال الفعل "ءَامَنَ" بمعنى "مَنَحَ الأمن للآخرين"
- تعيين مدلول الإيمان المتعدي: من خلال اسم الفاعل "مُؤمِن" بمعنى "من يمْنَحُ الأمن للآخرين"
- معنى فعل "ءامَنَ بـ" و"ءامَنَ لـ"
- آيات بحاجة لمزيد من التدبر بخصوص الفعل "ءَامَنَ" بمعنى الاعتقاد والتصديق
- العقيدة في القرآن الكريم
- الظلم وهلاك القرى
- الحساب يوم القيامة على الأعمال فقط
- الفرق بين المسلم والمؤمن
- الخاتمة
*-الفعل الثلاثي وتعديته بحرف الألف
يمكن تعدية الفعل الثلاثي اللازم في اللغة العربية عن طريق إضافة الهمزة في أوله، ليصبح فعلاً ثلاثياً متعدّياً مزيداً بحرف (يحتاج لمفعول به). لنستعرض فيما يلي بعض الأفعال التي وردت في القرآن الكريم ونحاول مقارنة بعضها مع بعض بهدف إعطاء القارئ فكرة مبسطة عن عملية تعدية الفعل الثلاثي بالهمزة:
حَزِنَ – يَحْزَنُ – فهو حَزِين أَحْزَنَ – يُحْزِنُ – فهو مُحْزِن
أَمِنَ – يَأْمَنُ – فهو أَمِين ءَاْمَن – يُؤْمِنُ – فهو مُؤْمِن
سَلِمَ – يَسْلَمُ – فهو سليم أَسْلَمَ – يُسْلِمُ – فهو مُسْلِم
ونرى جليّاً في الأمثلة السابقة أنه في الفعل الثلاثي اللازم يكون تأثير الفعل في الفاعل نفسه. أما عندما تضاف الهمزة إلى أول الفعل، فإنه يصبح فعلاً ثلاثياً متعدّياً مزيداً بحرف، وينتقل أثر الفعل من الفاعل إلى المفعول به.
مثال: فَرِحْتُ بنجاحي، وهنا أنا من فَرِحَ، بينما "أفرَحْتُ والدي بنجاحي"، فإن والدي هو الذي فرِحَ. وبالطريقة نفسها يمكن القول: "أَمِنْتُ شرّ أعدائي"، وهنا أنا من شَعَرَ بالأمن. أما إذا قلت: "ْءَامَنْتُ جيراني من الخطر"، فإن جيراني من سيَشْعُرون بالأمن.
*- معنى فعل "أَمِنَ" و"ءَاْمَنَ" في القرآن الكريم
لقد ورد الفعل الثلاثي "أَمِنَ" في القرآن الكريم دائماً بمعنى الشعور الذاتي بالأمن، والذي هو نقيض الخوف. وفيما يلي أمثلة على بعض الآيات التي ورد فيها الفعل "أمِنَ":
- "فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًۭا ۖ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا۟ تَعْلَمُونَ٢٣٩"[[8]]
- "أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰٓ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـٰتًۭا وَهُمْ نَآئِمُونَ ٩٧ أَوَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰٓ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًۭى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ٩٨ أَفَأَمِنُوا۟ مَكْرَ ٱللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ ٩٩"[[9]]
- "ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ ١٦ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًۭا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ١٧"[[10]]
وكما ذكرنا، فإن مصدر هذا الفعل هو "الأمْن" ونقيضه هو "الخوف" كما جاء في الآية الكريمة:
- "وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌۭ مِّنَ ٱلْأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُوا۟ بِهِۦ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُو۟لِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلَّا قَلِيلًۭا ٨٣"[[11]]
ومن مشتقات الفعل الثلاثي "أَمِنَ" وردت الصفة المشبهة "أمِينْ" واسم الفاعل "ءَامِنْ" كما في الآيات التالية:
- "وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِنًۭا وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلْأَصْنَامَ ٣٥"[[12]]
- "وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ٢ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ٣"[[13]]
وقد وردت هذه الثنائية للفعلين الثلاثي (على وزن فَعَلَ أو فَعِلَ) والثلاثي المزيد بحرف (على وزن أَفْعَلَ) مرات عديدة في القرآن الكريم. أما الفعل المزيد "ءَامَنَ"، فإنه مشتق من الفعل الثلاثي اللازم "أَمِنَ" بعد أن تمت تعديته بالهمزة. ونجد في قواميس اللغة العربية المعاني الرئيسة التالية لهذا الفعل [[14]]:
- ءَامَنَه: أزال عنه الخوف، أو أعطاه الأمان
- ءَامَن به: وثق به وصدّقه. ومنها ءامَنَ بالله: أي اعتقد وصدق وأذعن لله.
- ءَامَنَ له: انقاد له وأطاعه.
سنعتمد في هذا البحث مبدأ تفسير القرآن بالقرآن بوصفه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
سينطلق هذا البحث من ركيزتين أساسيتين، واضحتي المعنى:
v الركيزة الأولى: "ٱلَّذِىٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍۢ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍۭ٤"[[15]]. لقد جاء الفعل "ءَامَنَ" بمعنى "أزاح الخوف ومنح الأمن"، والمعنى واضح ولا يحتاج لاجتهادات في التفسير.
v الركيزة الثانية: "هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٢٣"[[16]]. لقد ورد اسم الفاعل "المُؤمِن" في هذه الآية كأحد أسماء الله الحسنى، واسم الفاعل "المُؤمِن" جاء بمعنى "من يمنح الأمن والأمان".
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ورد الفعل "ءَامَنَ" أو اسم الفاعل "مُؤمِن" في آيات أخرى مرتبطاً بمفهوم منح الأمن؟
*- الإيمان المتعدي: الفعل "ءَامَنَ" بمعنى "مَنَحَ الأمن للآخرين"
لنتدبر الآيات التالية التي تدعم المعنى الذي ذهبنا إليه لفعل "ءَامَنَ":
o قصة ذي القرنين عند مغرب الشمس: "حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍۢ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًۭا ۗ قُلْنَا يَـٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًۭا ٨٦ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابًۭا نُّكْرًۭا ٨٧ وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًۭا ٨٨"[[17]].
هل الفعل "ءَامَنَ" في هذه الآية جاء بمعنى الاعتقاد والتصديق بالله عز وجل؟ أم جاء نقيضاَ لفعل "ظَلَمَ"؟ لو كان الظلم هنا بمعنى الكفر بالله، فليس من حق ذي القرنين أن يعذب من ظلم، فعقوبة الكفر هي من اختصاص رب العالمين يوم الحساب. ومن ثم، كيف سيكشف ذي القرنين على قلوب الناس، ليتبين من هو المؤمن إذا كان المعنى هو الاعتقاد والتصديق بوجود الله؟ لا شك أن الفعل "ءامَنَ" جاء هنا بمعنى منح الأمن للغير، وهذا أمر يمكن استبيانه من تصرفات المرء. فالشخص المؤمن (المسالم)، والذي يعمل صالحاً لن يخفى على أحد. أما الشخص الظالم، فيمكن معرفته بسهولة عن طريق شكاوى المظلومين. الاعتقاد والتصديق بوجود الله عز وجل هو إحساس داخلي لا يمكن لأحد أن يطلع عليه ويُقيِّمَه.
o إذا قبلنا المعنى السابق لعبارة "ءَامَنَ وعَمِل صالحاً" كما في الآية 88 من سورة الكهف، بمعنى منَحَ الأمن وعَمِلَ صالحاً، فما الذي يمنع أن تأتي هذه العبارة بالمعنى نفسه في الآيات التالية التي وردت فيها هذه العبارة:
- "إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَأُو۟لَـٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْـًۭٔا ٦٠"[[18]].
- "وَإِنِّى لَغَفَّارٌۭ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ ٨٢"[[19]].
- "فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَعَسَىٰٓ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ ٦٧"[[20]].
- "وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌۭ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ ٨٠"[[21]].
- "وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَـٰدُكُم بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰٓ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا۟ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ ٣٧"[[22]].
وهناك آيات وردت فيها العبارة نفسها، ولكن باختلافات بسيطة لا تغير المعنى كما في الآيات التالية:
- "وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۖ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ٤٨"[[23]].
- "إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًۭا صَـٰلِحًۭا فَأُو۟لَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍۢ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭا ٧٠"[[24]].
- "يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـٰلِحًۭا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًۭا ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ٩"[[25]].
o إذا كانت عبارة "ءامَنَ وعَمِلَ صالحاً" هي بصيغة المفرد، وجاءت بمعنى مَنْح الأمن للغير والقيام بالعمل الصالح، ألا ينطبق ذلك على المجموعات من البشر من خلال عبارة "ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ"؟ لقد وردت هذه العبارة 51 مرة في القرآن الكريم في50 آية منفصلة[[26]].
ألا يشير هذا التكرار لعبارة "ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ" على أهمية هذا الموضوع في الرسالة السماوية؟ وهل المعنى في هذه العبارة سينحرف عن مصدر الفعل "ءَامَنَ" وهو "الأمْن"؟
o "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا۟ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓا۟ أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُ ۗ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ ١٣"[[27]].
كما ذكرنا، فإن الإيمان السائد بمفهوم "العقيدة" هو أمر باطني لدى الإنسان، وهو شيء مجرد لا يمكن التأكد منه بالحواس الخمس، ولكنه يبقى أمراً محصوراً بين المرء وربّه، فهو العليم بذات الصدور. ومن حقّنا أن نتساءل كيف يمكن لله عز وجل أن يطلب منا أن نؤمن كما آمن الناس في هذه الآية، إذا كان معنى الفعل "ءَامَنَ"، والذي تكرر أربع مرات في نفس الآية، هو الاعتقاد والتصديق بوجود الخالق؟ وكيف لي أن ألمس الإيمان الباطني لأولئك المؤمنين حتى أحاول أن أفعل مثلهم؟
أما إذا كان المعنى هو منح الأمن للآخرين، فهذا شيء ملموس وظاهر للعيان. فأنا إذا دخلت سوقاً تجارياً أو مطعماً، فأنا سأرى جليّاً أن الناس تؤمن بعضها البعض، وأن المكان ءَامِن. وهنا ما عَلَيَّ إلا أن أُؤمِنَ الآخرين كما هم ءامَنوا بعضهم البعض.
o وقد اقترن فعل "ءَامَنَ" في العديد من الآيات بالقتل والاقتتال كنقيضين. ويحق لنا أن نسأل لماذا تم هذا الربط، إذا كان معنى الفعل "ءَامَنَ" هو اعتقاد وإقرار وتصديق بوجود الله؟
- "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا۟ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقًۭا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ٩١"[[28]].
تستنكر هذه الآية على أهل الكتاب (بني إسرائيل) قتلهم أنبياء الله مع ادعائهم بأنهم كانوا مؤمنين. لا يمكن للمؤمن أن يقتل أحداً، فكيف به يقتل أنبياء الله؟
- "ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَلَّا نُؤْمِن َلِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍۢ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌۭ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيِّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ١٨٣"[[29]].
تشير هذه الآية إلى أن الله قد أرسل رسلاً بالبينات وبالذي طلبه أهل الكتاب، وهو القربان الذي تأكله النار، ومع ذلك قاموا بقتل هؤلاء الرسل مع أنهم تعهدوا بأن يؤمنوا لهم. ونرى أيضاً كيف تستنكر الآية هذا الإيمان إذا اقترن بالقتل.
نَخلص مما سبق، أن الفعل "ءَامَنَ"، وخاصة عندما يأتي مجرّداً وغير مرتبط بحرف جر، اللام أو الباء، لم يأتِ في القرآن الكريم إلا بمعنى منح الأمن للغير. وكما سنرى لاحقاً، هناك آيات محدودة العدد في القرآن الكريم قد لا يستقيم فيها هذا المعنى للفعل "ءَامَنَ"، ولا تزال بحاجة لمزيد من التدبر.
*- الإيمان المتعدي: اسم الفاعل "مُؤمِن" بمعنى "من يمْنَحُ الأمن للآخرين"
لقد ورد اسم الفاعل "مُؤمِن" في القرآن الكريم بصيغة المذكر أو المؤنث 29 مرة في 21 آية. أما كلمة "مُؤمِن"، بصيغة الجمع المذكر أو المؤنث، فقد وردت 200 مرة في 180 آية [[30]].
o لنتدبر الآيات التالية، والتي ورد فيها اسم الفاعل "مُؤمِن" بالمعنى الذي ذهبنا إليه:
- "وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًۭا ١٢٤"[[31]].
- "مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًۭا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةًۭ طَيِّبَةًۭ ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ٩٧"[[32]].
- "وَمَنْ أَرَادَ ٱلْـَٔاخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًۭا ١٩"[[33]].
- "إِنَّهُۥ مَن يَأْتِ رَبَّهُۥ مُجْرِمًۭا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ٧٤ وَمَن يَأْتِهِۦ مُؤْمِنًۭا قَدْ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلْعُلَىٰ ٧٥"[[34]].
- "وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًۭا وَلَا هَضْمًۭا ١١٢"[[35]].
- "فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَـٰتِبُونَ ٩٤"[[36]].
- "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةًۭ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًۭا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍۢ ٤٠"[[37]].
نلاحظ بوضوح أنه تم استخدام اسم الفاعل "مُؤمِن" عوضاً عن الفاعل "مَنْ ءَامَنَ" في الآيات السابقة، وبقي العمل الصالح في نفس السياق. ومنه نستنتج أن اسم الفاعل "مُؤمِن" في هذه الآيات يشير إلى "من يمنح الأمن للغير"، وإذا اقترن هذا الفعل مع العمل الصالح، فالنتيجة هي الفوز بالجنة.
o "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَـًۭٔا ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَـًۭٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ وَدِيَةٌۭ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُوا۟ ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّۢ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍۭ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـٰقٌۭ فَدِيَةٌۭ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةًۭ مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًۭا ٩٢ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًۭا مُّتَعَمِّدًۭا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَـٰلِدًۭا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًۭا ٩٣"[[38]].
لنتمعن في هذه الآيات العظيمة المتعلقة بقتل المؤمن وصرامة العقوبة التي وعدها الله لمرتكبي هذه الجريمة النكراء، ألا وهي القتل المتعمد للإنسان المؤمن. نلاحظ هذا التكرار لكلمة "مُؤمن" في الآيتين السابقتين الأمر الذي يدل على أهمية الحفاظ على حياة المؤمنين، وأن القتل المتعمد للمؤمن جزاؤه الخلود في الجحيم.
أيضاً لابد من الإشارة إلى أن الكفارة المذكورة، وهي تحرير رقبة مؤمنة لا يمكن أن تدل على الرقبة التي تعتقد وتصدق بوجود الله؛ فالاعتقاد والنوايا لا يعلمها إلا الله عز وجل ولا يمكن لأحد أن يكشف على القلوب ليحدد عقيدة الإنسان. أما إذا كان المؤمن هو الإنسان الذي يعيش بأمان وسلام مع الآخرين، فهذا أمر يمكن التحقق منه بسهولة. وللتوضيح نقول، لا يجوز أن تكون كفارة القتل الخطأ أن تعتق إنساناً مجرماً أو لصًّا فاسقاً، بل يجب أن يكون إنساناً ممن يعيشون بسلام مع الآخرين. (نحن نرى أنه بالحجة المنطقية يستقيم المعنى).
وتوضح الآيتان "إِنَّهُۥ مَن يَأْتِ رَبَّهُۥ مُجْرِمًۭا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ٧٤ وَمَن يَأْتِهِۦ مُؤْمِنًۭا قَدْ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلْعُلَىٰ ٧٥"[[39]] أن المجرم جاءت نقيضاً للمؤمن، مما يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه. كما أن الآية "أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًۭا كَمَن كَانَ فَاسِقًۭا ۚ لَّا يَسْتَوُۥنَ ١٨"[[40]] قد ربطت بين المؤمن والفاسق كنقيضين.
وفي الآية التالية "أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِى ٱلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ ٢٨"[[41]] تمت المقارنة بين الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض. فهل الذين ءامنوا هنا تدل على من اعتقد وصدق بوجود الله؟ وما علاقة عدم الإيمان (بمعنى إنكار الذات الإلهية) بالفساد في الأرض؟ هناك ناس كثيرون من الملحدين ومع ذلك لا نراهم مفسدين في الأرض، بل على العكس، قد يكونون أكثر إصلاحاً من غيرهم.
لنتدبر قول الرجل المؤمن من آل فرعون، والذي يكتم إيمانه، والتي وردت في الآيات ٢٨ إلى ٤٥ في سورة غافر. ونلاحظ أن فعل "يكتم" جاء بصيغة المضارع، وليس الماضي (كتم)، مما يدل أن كتمان الإيمان ما يزال مستمرّاً أثناء محاورته لقومه. والمتدبر لهذه الآيات يرى بوضوح، لا لبس فيه، أن الرجل يصرح علانية أنه يعترف بوجود الله وهلاك قوم نوح وعاد وثمود، ويعترف بيوم الحساب وبالجنة والنار. ويذكرهم بنبي الله يوسف عليه السلام، وأن الآخرة هي دار القرار. ويستنكر على قومه دعوتهم له ليكفر بالله ويشرك به، وفي النهاية يفوض أمره لله عز وجل.
"وَقَالَ رَجُلٌۭ مُّؤْمِنٌۭ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـٰنَهُۥٓ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّىَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَـٰذِبًۭا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُۥ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًۭا يُصِبْكُم بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌۭ كَذَّابٌۭ ٢٨ يَـٰقَوْمِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَـٰهِرِينَ فِى ٱلْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ٢٩ وَقَالَ ٱلَّذِىٓ ءَامَنَ يَـٰقَوْمِ إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ ٱلْأَحْزَابِ ٣٠ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍۢ وَعَادٍۢ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًۭا لِّلْعِبَادِ ٣١ وَيَـٰقَوْمِ إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ ٣٢ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍۢ ۗ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍۢ ٣٣ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّۢ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِۦ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِنۢ بَعْدِهِۦ رَسُولًۭا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌۭ مُّرْتَابٌ ٣٤ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِىٓ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ أَتَىٰهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍۢ جَبَّارٍۢ ٣٥ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـٰهَـٰمَـٰنُ ٱبْنِ لِى صَرْحًۭا لَّعَلِّىٓ أَبْلُغُ ٱلْأَسْبَـٰبَ ٣٦ أَسْبَـٰبَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰٓ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ كَـٰذِبًۭا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍۢ ٣٧ وَقَالَ ٱلَّذِىٓ ءَامَنَ يَـٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ٣٨ يَـٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا مَتَـٰعٌۭ وَإِنَّ ٱلْـَٔاخِرَةَ هِىَ دَارُ ٱلْقَرَارِ ٣٩ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةًۭ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًۭا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍۢ ٤٠ وَيَـٰقَوْمِ مَا لِىٓ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلنَّجَوٰةِ وَتَدْعُونَنِىٓ إِلَى ٱلنَّارِ٤١ تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِۦ مَا لَيْسَ لِى بِهِۦ عِلْمٌۭ وَأَنَا۠ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّـٰرِ ٤٢ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُۥ دَعْوَةٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَا فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ٤٣ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِىٓ إِلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌۢ بِٱلْعِبَادِ ٤٤ فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِ مَا مَكَرُوا۟ ۖ وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرْعَوْنَ سُوٓءُ ٱلْعَذَابِ ٤٥"[[42]].
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف لهذا الرجل أن يكتم إيمانه بالله بعد كل ما قال، إذا كان معنى الإيمان هو التصديق بوجود الله؟ ألا يعتبر قوله اعترافاً صريحاً بالله وتصديقاً للرسل واليوم الآخر؟ أم إن الإيمان جاء من مصدر فعل "ءَامَنَ" بمعنى أنه كان لا يريد أن يحارب موسى وبني إسرائيل؟ ونرى أن المعنى يستقيم إذا اعتبرنا ذلك الرجل بأنه رجل مؤمن، ويريد بداخله أن يمنح الأمن لموسى ولبني إسرائيل. هذه الإرادة بمنح الأمن للآخرين هي ما كان يكتمه في نفسه. أما اعتقاداته بالله وتصديقه للرسل واليوم الآخر، فقد جهر بها صراحة. ونحن لا نظن أن فرعون كان يعاقب من يعتقد بغير فرعون بصفته "ربكم الأعلى"، ونلاحظ أن موسى عليه السلام لم يدعُ فرعون لعبادة الله، بل سأله فقط أن يرسل معه بني إسرائيل ليخلصهم من الاضطهاد من فرعون وجنوده.
لقد ذكر هذا الرجل المؤمن في حواره كلمة "الله" 15 مرة، ومع ذلك ذكر الله في كتابه أنه "يكتم إيمانه". ألا يدعونا هذا للتساؤل عن المعنى الحقيقي لفعل "ءَامَنَ" ولاسم الفاعل "مُؤْمِن"؟ بينما فرعون لم يذكر كلمة "الله" لا في هذا الحوار ولا حين أدركه الغرق، بل أشار إليه بـ "إله موسى" أو "الذي ءامنت به بنو إسرائيل".
*- معنى فعل "ءامَنَ بـ" و"ءامَنَ لـ"
رأينا في الفقرات السابقة، أن الفعل الثلاثي المتعدي المزيد "ءَامَنَ" لم يخرج عن معنى المصدر "الأمْن" بمفهوم "منح الأمن للغير"، وقلنا إن قواميس اللغة تعطي معانٍ أخرى لهذا الفعل، إذا اقترن بحرف الجر الباء أو اللام حيث، يكون معنى "ءَامَنَ بـ" هو اعتقد وأقر وصدَّقَ، ومعنى "ءَامَنَ لـ" هو انقاد وأطاع، بينما بقي الفعل الثلاثي اللازم "أمِنَ" بمعنى شعَرَ بالأمن.
لنرى هل فعلاً يمكن أن يتغير معنى الفعل إذا اقترن بحرف الجر الباء أو اللام من خلال المحاكاة مع أفعال مشابه. لننظر إلى الفعل "أَقسَمَ" في الأمثلة الثلاثة التالية:
- أقسمت ألا أخون وطني.
- أقسمت بالله ألا أخون وطني.
- أقسمت لوالدي ألا أخون وطني.
في المثال الأول، جاء القَسَم مجرّداً ومبهماً، فلا يعلم السامع بماذا أقسمت، هل أقسمت بالله أم بشرفي أو معتقدي أو بشيء آخر؟ المهم أن السامع قد فهم أني أقسمت بشيء، لابد أن يكون مقدساً لدي أو له قيمة كبيرة. أما في المثال الثاني، فإن القَسَم قد تم بالله عز وجل، ولابد أن هذا التحديد قد أعطى قداسة كبيرة للقَسَم حيث، يفهم السامع أني لن أخالف هذا القَسَم مهما كان الثمن. أما في المثال الأخير، فنجد أن القَسَم عاد مبهماً، ولكن قمت بتخصيص القسم لوالدي فقط. فأنا ملزم بالقسم لوالدي فقط، ولا أحد غيره يستطيع أن يحاسبني إن خالفت قسمي.
ومن الجدير ذكره أن الفعل "أقسم" في جميع الأمثلة السابقة لم يخرج عن معنى "القَسَم"، وما حدث هو على مبدأ زيادة في المبنى تؤدي لزيادة في المعنى. إذا قسنا على الفعل "ءَامَنَ" من خلال أمثلة مشابهة:
- ءامَنْتُ جيراني فلن يصيبهم مني أي مكروه.
- ءامَنْت بالله جيراني فلن يصيبهم مني أي مكروه.
- ءامَنْتُ لجاري زيد فلن يصيبه مني أي مكروه.
نلاحظ في المثال الأول أن الأمان الذي أعطيته لجيراني جاء مبهماَ، ولا أحد يعرف هل ءامَنْتُهم بالقانون (حسب القوانين الجزائية المعمول بها)، أم ءَامَنتُهم بالمال (لقاء جزية مادية)، أم ءَامَنتُهم بالخوف منهم (كوني ضعيفاً)، أم ءامَنتُهم بأخلاقي الرفيعة؟
أما في المثال الثاني، فقد تمت عملية الإيمان بالله، وهنا إضافة "بالله" أعطت عملية الإيمان قداسة كبيرة، فلا يمكن لأحد أن يزاود عليها بالمال أو بثغرة في القانون، ولا يمكن لي أن أخرق هذا الإيمان، إذا أصبحت قويّاً أو تخلّيت عن بعض أخلاقي.
ولتوضيح الفكرة نتوسع قليلاَ في الشرح، لنفرض أني ءامَنْتُ جاري بجزية مالية مقدارها ألف دينار، كأن أقول: "ءَامَنتُ زيداً بألف دينار". هذا الإيمان ضعيف وهش لأنه إيمان باطل؛ إذ يمكن أن يدفع لي أحدهم ألفي دينار بهدف خرق عملية الإيمان التي تمت بيني وبين جاري زيد، فما الذي يمنعني من ذلك؟ وإن كنت ءامَنتُه بالقانون، فماذا سيحدث إذا غابت سلطة القانون أو وجدت فيه ثغرات؟ وإن كنت ءامَنْتُه بأخلاقي الرفيعة، فيمكن لهذه الأخلاق أن تتأثر حسب الظروف الشخصية، فهي بالتالي ليست ضامناَ لعملية الإيمان. أما عندما تمت عملية الإيمان "بالله"، فلا أستطيع أن أخرق هذا الإيمان لأي سبب ومهما كانت الظروف.
أما في المثال الثالث، فأنا ءامَنتُ زيداً فقط، ومن ثم هذا الإيمان مخصص له فقط وليس لغيره.
وفي جميع الأمثلة السابقة، نرى أن الفعل "ءَامَنَ" مثله مثل الفعل "أقسم" لم يخرج أو يحيد عن معنى المصدر "أمْن" أو "قَسَمْ" على التوالي. وأن أحرف الجر الباء واللام لم تغير معنى الفعل، بل أعطت توضيحاً أو تخصيصاً للفعل من خلال زيادة المبنى أدت لزيادة المعنى.
وتجدر الإشارة إلى أنه في الأمثلة السابقة للفعل "ءَامَنَ" تم تحديد المفعول به، وهم الجيران. ولكن كثيراً من الآيات القرآنية التي ورد فيها الفعل "ءَامَنَ" لم يذكر فيها المفعول به، بل تم السكوت عنه لتكون عملية "الإيمان" متعدية ومطلقة التأثير، وتشمل كامل البيئة المحيطة من بشر وشجر وحجر.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أهمية الحديث النبوي عن الإسلام والإيمان، حيث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلِمُ مَن سلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ، والمؤمِنُ من أمِنَه النَّاسُ على دمائِهم وأموالِهم"[[43]].
ويعكس هذا التعريف للمفهوم المتعدي للإسلام والإيمان، الجوهر الحقيقي للرسالة السماوية، ويعطي مبدأي "السلم" و"الأمن" الأهمية القصوى في المجتمعات الإنسانية.
لنحاول استعراض بعض الآيات القرآنية لتوضيح الفكرة، وللقارئ أن يتأمل في معنى الفعل "ءامَنَ بـ":
- ورد الفعل "ءامَنَ" بصيغة الجمع في الآية الثانية من سورة البقرة "الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَـٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًۭى لِّلْمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ ٣"[[44]]. وجاء الفعل مقترناً بحرف الجر "بـ".
نحن نرى أن جملة "يؤمنون بالغيب" تدل على أن المتقين يمنحون الأمن للغير بالغيب؛ أي بغياب أي سلطة رقابة قانونية أو أعراف عشائرية أو غيرها. أما المعنى السائد، فهو الإيمان اللازم بالغيبيات (أي التصديق والاعتقاد بوجود الغيبيات مثل الملائكة والجنة والنار وما شابه)، ونحن لا ننكر هذا التفسير إذا اعتمدنا المصطلح السائد للفعل "ءَامَنَ بـ"، ولكننا نميل أكثر للتخلي عن المصطلحات البشرية والالتزام بمصدر الفعل اللغوي. فقد وردت كلمة "الغيب" في القرآن بمعنى "الماضي والمستقبل" كقوله تعالى: "هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ۖ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰن ُٱلرَّحِيمُ٢٢"[[45]]، أو بمعنى غياب الرقابة كما في قول امرأة العزيز في سورة يوسف "ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى كَيْدَ ٱلْخَآئِنِينَ ٥٢"[[46]].
- ومن الآيات التي احتار فيها المفسرون عندما يَطلُبُ الله عز وجل من الذين ءَامَنوا أن يؤمنوا بالله كما في الآية: "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلًۢا بَعِيدًا ١٣٦"[[47]].
فتارة يقولون إنها تخاطب أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع أن الآية تذكر الكتاب الذي أنزل من قبل، وتارة يقولون إنها تطلب من المؤمنين أن يؤكدوا إيمانهم مرة ثانية، وتارة تقول إن الطلب هو المداومة والاستمرار على الإيمان، أو تجديد الإيمان وخلافه. ولسنا هنا بهدف استعراض هذه التفاسير، فيمكن الرجوع لها في كتب التفسير. أما إذا اعتمدنا معنى الإيمان المتعدي بأنه عملية منح الأمن للغير، فيصبح للآية معنى واضح وهو: الآية تخاطب كل من ءَامَنَ على وجه الأرض (بمعنى عاش ومنح الأمن للغير) بأن يكون إيمانه بالله وكتبه ورسله؛ أي مستعيناً بالله وبتعاليمه لكي يكون إيمانه راسخاً قويّاً ومقدّساً.
- "وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌۭ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍۢ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌۭ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمْ ۚ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ ٦١"[[48]].
لقد ورد الفعل "ءَامَنَ" في هذه الآية مجرداً ومقترناً بحرفي الجر الباء واللام، فهل تنطبق المعاني الثلاثة التي أوردناها للفعل "ءَامَنَ" كما جاء في قواميس اللغة؟ هل يستقيم أن تخبرنا الآية أن الرسول يعتقد ويصدق بوجود الله عز وجل، وهو الذي رأى جبريل عليه السلام وتلقى الوحي منه؟ وهل يستقيم أن الرسول يؤمن للمؤمنين بمعنى ينقاد لهم ويطيعهم، أم من المفترض أن المؤمنين ينقادوا ويطيعوا الرسول، لا العكس.
تتحدث الآية عن الذين يؤذون النبي، ولذلك نرى أن معنى الفعل "ءَامَنَ" في هذه الآية وفي جميع المرات التي ورد فيها هو أقرب ليكون بمفهوم منح الأمن للآخرين؛ بمعنى أن النبي يؤمن بشكل مطلق مستعيناً بالله، ولكن إيمانه مخصص وموجه للمؤمنين، ولا يمكن أن يكون مؤمناً لمن يؤذيه، وهو بالطبع رحمة لكل الذين ءَامنوا.
- "أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ نَصِيبًۭا مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا۟ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ سَبِيلًا ٥١"[[49]].
"قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًۭا ۖ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱلْبَـٰطِلِ وَكَفَرُوا۟ بِٱللَّهِ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ ٥٢"[[50]].
"أَوَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًۭا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ ٦٧"[[51]].
لقد ورد في الآيات السابقة مفهوم الإيمان بالجبت والطاغوت والباطل. ماذا يعني أن تؤمن بالباطل؟ هل ذلك يعني أنك تصدقه وتعتقد بوجوده؟ كلنا يعلم ويصدق أن الباطل موجود. هل يعني الإيمان بالباطل هو اتباعه والسير وراءه؟ إذا كان الجواب نعم، فلماذا لا يستخدم الفعل "اتبع الباطل" عوضاً عن "ءامَنَ بالباطل"؟
نحن نعتقد أن الإيمان بالباطل أو الطاغوت هو أن تمنح الأمن للآخرين بأمور باطلة مثل:
- أن تؤمن الناس بالجزية أو بالمال، فمن يدفع يحصل على الأمن.
- أن تؤمن الناس باستعبادهم والطغيان عليهم.
- "لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦"[[52]].
توضح هذه الآية المبدأ الأساسي في الدين، وهو نفي الإكراه عنه، ولا شك أن الإكراه مرتبط بالطغيان، ولذلك فهي تطلب أن نكفر بالطاغوت، وأن نؤمن بالله بصفته العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
وقد وردت آيات عديدة للفعل ارتبط فيها "ءَامَنَ" بحرف الجر الباء، وكان الاسم المجرور: اليوم الآخر، يوم الحساب، الرسل، الملائكة، الآيات، الحديث، القرآن، الكتاب، الباطل، الطاغوت، الجبت. وعدد المرات التي ورد الفعل بهذه الصيغة هو ٨٣ مرة. أما عدد المرات التي وردت فيها عبارة "ءَامَنَ بالله" تحديداً 77 مرة، وورد الفعل "ءَامَنَ لـ"14 مرة، و"ءَامَنَ مع" 10 مرات؛ أي إن مجموع المرات التي ورد فيها الفعل "ءَامَنَ" مقترناً بحرف الجر الباء أو اللام أو حرف الجر "مع"184 مرة من أصل 536 مرة؛ أي إن حوالي ثلثي الحالات التي ورد فيها الفعل "ءَامَنَ" جاء مجرداً من أي إضافات. ومعنى الفعل في هذه الحالة هو "مَنَحَ الأمن وأَزالَ الخَوفَ عن الآخرين".
وكما بينا سابقاً، فإن ارتباط الفعل بحرف الجر اللام يعطيه نوعاً من التخصيص، فعبارة "ءَامَنَ لرسول" تعني أن الأمان مخصص لذلك الرسول حصراً. أما اقتران الفعل بحرف الجر "مع"، فالمفهوم واضح بأنه تمت مشاركة الفعل من قبل أكثر من طرف.
برأينا تكمن المشكلة في فهم معنى الفعل "ءَامَنَ بـ"، عندما يقترن بحرف الجر الباء. وقد أوضحنا أن حرف الباء في هذه الحالة هو باء الوسيلة أو باء الاستعانة. فمثلاً، عندما تقول سافرت بالطائرة، فمفهوم أن الطائرة كانت الوسيلة أو الأداة التي استعنت بها لأداء عملية السفر. كذلك عندما تقول "ءَامَنتُ بالله أو بملائكته، أو بكتبه، أو برسله، أو باليوم الآخر، أو بالقرآن"، فإن كل ما جاء بعد حرف الباء ما هو إلا الوسيلة التي استعنت بها للقيام بعملية الإيمان (أي منح الأمان للآخرين). وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإيمان لغةً هو مصدر الفعل "ءَامَنَ" تماماً كما هو مصدر الفعل "أَطْعَمَ" وهو الإطعام. أما مفهوم الإيمان والإطعام، فإنه عملية تتجسد على الواقع من خلال عمل وجهد يقوم به الإنسان كي يمنح الأمن أو الطعام للآخرين. ولكي نفهم الفرق بين الإيمان والأمان، علينا أن ندرك الفرق بين الإطعام والطعام. فكما أن الإطعام هو عملية منح الطعام للآخرين، فإن الإيمان هو عملية منح الأمان للآخرين.
*- آيات بحاجة لمزيد من التدبر بخصوص الفعل "ءَامَنَ" بمعنى الاعتقاد والتصديق
الإيمان المتعارف عليه فقهياً وهو الاعتقاد الباطني والإقرار والتصديق بوجود الخالق عز وجل، والإذعان له، يتحقق دائماً عن طريق الامتثال لأوامر الله والابتعاد عما نهى.
سنستعرض في هذه الفقرة الآيات التي نعتقد أن الفعل "ءَامَنَ" قد يكون بعيداً عن مفهومه المتعدي، وقد يكون أقرب لمفهوم العقيدة، وهذه الآيات مازالت بحاجة إلى المزيد من البحث والتدبر.
- "وَجَـٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًۭا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓا۟ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ٩٠"[[53]].
لا شك أن فعل "ءامَنَ" في عبارة "ءامَنْتُ أنه لا إله إلا الذي ءامَنَت به بنو إسرائيل" لا يمكن أن يأتي بمعنى أن فرعون منح الأمان لقوم موسى بسبب الحرف المشبه بالفعل "أَنَّ"، والذي جاء مباشرة بعد الفعل "ءامنْتُ"؛ فالمعنى واضح تماماً أن فرعون صدق واعترف وأقر أنه لا إله إلا الذي ءامنَت به بنو اسرائيل.
أثناء البحث في القراءات العشر الموثقة للقرآن الكريم، وجدنا أن ثلاث قراءات (الكسائي، حمزة، وخلف العاشر) جاءت بكسر الهمزة "إنه" بدلاً من "أنه"[[54]]. وقرأ خلف عن حمزة بالوقوف بعد "ءامَنْت" ومن ثم تابع "إنه لا إله إلا الذي ءامنَت به بنو إسرائيل". ونحن نعتقد أن هذه القراءة تدعم المعنى الذي ذهبنا إليه بأن معنى الفعل "ءامَنَ" هو منح الأمن لغيره. وهنا نفهم أن فرعون حين أدركه الغرق، أعلن أنه أعطى الأمان لبني إسرائيل، ثم اعترف بوحدانية إله بني إسرائيل.
- "وَلَا تَنكِحُوا۟ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌۭ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌۭ مِّن مُّشْرِكَةٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا۟ ۚ وَلَعَبْدٌۭ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌۭ مِّن مُّشْرِكٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُو۟لَـٰٓئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ ۖ وَٱللَّهُ يَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِۦ ۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٢١"[[55]].
جاءت المقارنة في هذه الآية بين المؤمن (ـة) والمشرك(ـة). فإذا كان المشرك هو من يدعو مع الله إلهاً آخراً، فمعنى المؤمن بأنه من يمنح الأمن لا يستقيم هنا. ولكن من جهة أخرى، نرى أن كلمة "مشرك" لم تُحَدَّد وجاءت مطلقة، فلم تذكر الآية "مشرك بالله". وباعتبار أن "مشرك" هو اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المزيد بحرف "أشرَكَ"، فيمكن سحب معنى اسم الفاعل ليدل على إشراك أمور أخرى، وطالما الحديث يتم عن النكاح، فلابد أن يكون الإشراك محصور بأمور تهم العلاقة الزوجية. بمعنى آخر، عندما يقرر الزوجان الارتباط بعلاقة زوجية، فمن المهم جدّاً أن يسود الأمن بين الطرفين، وعلى كل طرف أن يؤمن الطرف الآخر (يزيل أي مخاوف لدى الطرف الآخر). وبنفس الوقت، يجب على كل طرف ألا يشرك في هذا الزواج أي قوانين أو أعراف أو عادات خارج نطاق العقد المبرم بينهما. في هذه الحالة، فإن معنى فعل "ءَامَنَ" يستقيم بأن يكون بمفهوم منح الأمن للآخرين. ونلاحظ أن الآية موجهة للناس، وليس فقط لأتباع الرسالة، لعلهم يتذكرون. مما يدل أن الموضوع هو اجتماعي بحت ولا يرتبط بالاعتقاد والتصديق بوجود الخالق.
- "وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةًۭ مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍۢ مِّنْهُنَّ جُزْءًۭا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًۭا ۚ وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌۭ ٢٦٠"[[56]].
تدعو هذه الآية للتساؤل، هل فعلاً كان لدى إبراهيم عليه السلام شك بوجود الخالق وقدراته على إحياء الموتى؟ وهل فعلاً كان بحاجة إلى دليل حسّي حتى يطمئن قلبه؟ ولماذا سأله ربه أولم تؤمن؟ إذا كان إحياء الموتى في هذه الآية هو إحياء بيولوجي مادي، وأن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرى عملية الإحياء ليطمئن قلبه بالإيمان، فإن معنى الفعل "ءَامَنَ" الذي ذهبنا إليه لا يستقيم، ولابد أن يكون بمعنى الاعتقاد والتصديق والإذعان لله عز وجل.
وهنا لدينا وجهة نظر أخرى، فإذا عدنا لسياق الآيتين قبلها في القرآن الكريم، نرى أنها تتحدث عن إحياء الموتى:
"أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَآجَّ إِبْرَٰهِـۧمَ فِى رَبِّهِۦٓ أَنْ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِـۧمُ رَبِّىَ ٱلَّذِى يُحْىِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحْىِۦ وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٢٥٨ أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍۢ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامٍۢ ثُمَّ بَعَثَهُۥ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۢ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِا۟ئَةَ عَامٍۢ فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةًۭ لِّلنَّاسِ ۖ وَٱنظُرْ إِلَى ٱلْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًۭا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ٢٥٩"[[57]].
ونرى أن إبراهيم عليه السلام كان يعلم تماماً أن الله يحيي ويميت، لكنه لم يعترض على الذي حاجه بأنه هو أيضاً يستطيع أن يحيي ويميت. فهل الحديث عن الموت والحياة يدور عن كائنات عضوية حية أو ميتة؟ جاءت الآية التالية لتوضح المعنى بأن الحديث عن إحياء قرى أو مدن. فالملك أو الوالي يستطيع أن يميت بلداً ما بقطع الإمدادات عنه أو بالتضييق على أهله، كما أنه يستطيع إحياء هذا البلد بتشجيع سكانه ومنحهم الحوافز المادية لإنعاش النشاطات الزراعية والتجارية والاجتماعية. لذلك لم يعترض إبراهيم عليه السلام على قدرة ذلك الرجل على الإحياء والإماتة.
ولكن الموت والحياة قد تأتي بمعنى مجازي، فالشخص الذي يعيش في ضلال ويأس، يمكن أن نقول عنه إنه ميت، وتستخدم هذه الصفة للأشخاص في لغتنا المحكية بأن نقول عن فلان إنه ميت. وقد ورد في القرآن الكريم مثل هذا الاستخدام في الآية: "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱسْتَجِيبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٢٤"[[58]].
نحن نعتقد أن إبراهيم عليه السلام كان يعتبر قومه من الموتى بسبب ظلمهم وشركهم، فأراد أن يسأل ربه ليريه كيف يمكنه إحياء هؤلاء الموتى؟ وجاء السؤال "أولم تؤمن؟" ليدل على أن إبراهيم قد ءامَنَ قومه ولكنه لازال عنده خوف منهم ويحتاج أن يطمئن قلبه. عندها أمره ربه بأن يأخذ أربعة من الطير، وأمره أن يعتني بها حيث، تصبح معتادة عليه (فصرهن إليك) ومن ثم وضع كل طير على جبل، ولا شك أن إبراهيم عندما دعا هذه الطيور عبر إشارة ما، فإن هذه الطيور قد عادت إليه.
والعبرة من القصة أن إحدى وسائل إحياء الموتى (المتبلدة قلوبهم) هو الاعتناء بهم ومعاملتهم برفق وبعدها يمكن أن يصبحوا من المؤلفة قلوبهم. وتجدر الإشارة إلى الطلب في خاتمة الآية بأن يعلم إبراهيم أن الله عزيز حكيم، الأمر الذي يشير أن عملية ائتلاف القلوب يجب أن تترافق بعزة النفس (ألا تتذلل لهؤلاء الناس) وبالحكمة أيضاً (أن تكون حكيماً في هذه العملية). هذا والله أعلم.
- "وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـٰنٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلْـَٔاخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّۢ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌۭ ٢١"[[59]].
لقد تم في هذه الآية الربط بين الإيمان بالآخرة وبين الشك فيها، الأمر الذي يجعل الإيمان بالمفهوم اللازم (العقيدة) هو أقرب للمعنى؛ أي التصديق بالآخرة بمقابل الشك فيها.
- "تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآئِهَا ۚ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَمَا كَانُوا۟ لِيُؤْمِنُوا۟ بِمَا كَذَّبُوا۟ مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَـٰفِرِينَ ١٠١"[[60]].
لقد تم في هذه الآية الربط بين الإيمان بالبينات وبين التكذيب بها، الأمر الذي يجعل الإيمان بالمفهوم اللازم (العقيدة) هو أقرب للمعنى؛ أي التصديق بالبينات بمقابل تكذيبها.
- "إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢"[[61]].
"إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٩"[[62]].
"إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ ١٧"[[63]].
تعدد الآيات السابقة الملل المختلفة، ونحن نرى أنه من الصعب أن يأتي معنى "الذين ءَامنوا"؛ بمعنى "الذين منحوا الأمن للآخرين" في هذه الآيات إذا كان الذين هادوا هم أتباع موسى، والنصارى هم أتباع عيسى عليهما السلام، وتحتاج هذه الآيات لمزيد من التدبر.
- "ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِۦ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةًۭ وَعِلْمًۭا فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا۟ وَٱتَّبَعُوا۟ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ ٧"[[64]].
إذا كان من يحملون العرش ومن حوله هم الملائكة كما هو معروف في التفسيرات التراثية، فإن معنى "يؤمنون به" لا يمكن أن يكون بمفهوم منح الأمن للغير. كيف يمكن للملائكة أن تمنح الأمن للغير؟ وهل هي مخيرة أم مسيرة؟ ومن جهة أخرى، فإن المعنى التراثي لفعل "ءَامَنَ" أيضاً لا يستقيم. هل للملائكة خيار في أن تؤمن بالله أو تكفر؟ نحن نعتقد أن من يحمل العرش ومن حوله، لابد أن يكون شيئاً آخراً لا نعلمه، وإلا فكلا المعنيين للفعل "ءَامَنَ" لا يستقيمان.
*- العقيدة في القرآن الكريم
وجدنا في الفقرات السابقة، أن الإيمان في القرآن الكريم لم يخرج عن دائرة المفهوم المتعدي، والمتمثل بعملية منح الأمان للآخرين. فأين طلب الله عز وجل من عباده أن يعتقدوا ويقرّوا بوجوده؟ هل جاء هذا الطلب بشكل صريح أم مستتر، منطقي وتلقائي (لزوماً)؟
لم ترد مفردة "العقيدة" في كتاب الله نهائياً، ولكن هذا لا يعني أن العقيدة لم تطلب من عباد الله. في الحقيقة، إن الطلب بالإقرار والتصديق بوجود الله جاء في عشرات الآيات في القرآن الكريم. إن جميع الأفعال التي ترتبط باسم الجلالة أو أحد أسمائه الحسنى، تحمل في دلالتها معنيين:
- المعنى الأصيل للفعل والمشتق من الجذر اللغوي، وهذا ما سنطلق عليه الدلالة المباشرة للفعل.
- المعنى الاعتقادي والمتمثل بالإقرار والتصديق بوجود الله، وهذا المعنى جاء مستتراً وبشكل غير مباشر؛ أي لزوماً ومنطقياً. فعلى سبيل المثال، إذا سمعنا أحدهم يقول: "توكلت على الله" فنحن نستنتج منطقياً ولزوماً (بشكل غير مباشر) أن القائل يعتقد ويصدق ويقر بوجود الله، وإلا فكيف يتوكل عليه؟
وبتدبر آيات القرآن الكريم، نجد العشرات من الآيات التي ارتبط فيها الفعل باسم الجلالة أو أحد أسمائه الحسنى، فعلى سبيل المثال، لا الحصر:
o "بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ١"[[65]]
o "قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوٓا۟ ۖ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ١٢٨"[[66]]
o "فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُۥٓ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣٢"[[67]]
o "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ ذِكْرًۭا كَثِيرًۭا ٤١"[[68]]
o "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَقُولُوا۟ قَوْلًۭا سَدِيدًۭا ٧٠"[[69]]
o "قُلِ ٱدْعُوا۟ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُوا۟ ٱلرَّحْمَـٰنَ ۖ أَيًّۭا مَّا تَدْعُوا۟ فَلَهُ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًۭا ١١٠"[[70]]
إن جميع هذا الأفعال التي وردت في الآيات السابقة، والتي ارتبطت باسم الجلالة أو أحد أسمائه الحسنى، تفيد الاعتقاد والإقرار والتصديق بوجود الخالق عز وجل بشكل غير مباشر (لزوماً)، فكل فعل من هذه الأفعال، له معنى أصيل (مباشر) مرتبط بالجذر اللغوي للفعل، وله ذلك المعنى غير المباشر والمرتبط بالعقيدة بوجود الله. هذه هي العقيدة كما وردت في القرآن الكريم. ومن الجدير ذكره، هذا التناغم بين كتاب الله المقروء (القرآن) وكتاب الله المنشور (الوجود الكوني). فكما أننا لا نستطيع رؤية العقيدة عند الإنسان؛ لأنها باطنية وغير ظاهرة، كذلك لا نجد مفردة "عقيدة" في القرآن الكريم.
*- الظلم وهلاك القرى
رأينا في الفقرات السابقة أن الفعل "ءَامَنَ" جاء نقيضاً لفعل "ظَلَمَ" و"فَسَقَ"، وأن الإيمان جاء نقيضاً للإجرام والظلم والفساد في الأرض. وبتدبر قصص الأنبياء في القرآن الكريم، نرى بوضوح، أن "الظلم" و"الفساد" و"الإجرام" و"الطغيان" كانت السبب الرئيس لإهلاك القرى. لننظر إلى الآيات التالية:
o "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا۟ ۙوَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ وَمَا كَانُوا۟ لِيُؤْمِنُوا۟ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ ١٣"[[71]].
o "وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُۥٓ أَلِيمٌۭ شَدِيدٌ ١٠٢"[[72]].
o "وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰٓ أَهْلَكْنَـٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا۟ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًۭا ٥٩"[[73]].
o "وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍۢ كَانَتْ ظَالِمَةًۭ وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ ١١"[[74]].
o "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِىٓ أُمِّهَا رَسُولًۭا يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ٥٩"[[75]].
o "وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ وَعَادٌۭ وَثَمُودُ ٤٢ وَقَوْمُ إِبْرَٰهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍۢ ٤٣ وَأَصْحَـٰبُ مَدْيَنَ ۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٤٤ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌۭ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍۢ مُّعَطَّلَةٍۢ وَقَصْرٍۢ مَّشِيدٍ ٤٥"[[76]].
o "وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌۭ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ ٤٨"[[77]].
o "يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْـَٔاخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧"[[78]].
o "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُوا۟ ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٤٧"[[79]].
o "وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا۟ غَيْرَ سَاعَةٍۢ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا۟ يُؤْفَكُونَ ٥٥ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ وَٱلْإِيمَـٰنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ ۖ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ٥٦ فَيَوْمَئِذٍۢ لَّا يَنفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ٥٧"[[80]].
o "وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا وَمِثْلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفْتَدَوْا۟ بِهِۦ مِن سُوٓءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا۟ يَحْتَسِبُونَ ٤٧"[[81]].
o "تَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا۟ وَهُوَ وَاقِعٌۢ بِهِمْ ۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِى رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ ٢٢"[[82]].
o "وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْـَٔازِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَـٰظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍۢ وَلَا شَفِيعٍۢ يُطَاعُ ١٨"[[83]].
o "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَـٰدُ ٥١ يَوْمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوٓءُ ٱلدَّارِ ٥٢"[[84]].
o "إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ ٧٤ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ٧٥ وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا۟ هُمُ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٧٦"[[85]].
o "هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِى كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ ٢١ ٱحْشُرُوا۟ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُوا۟ يَعْبُدُونَ ٢٢ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْجَحِيمِ ٢٣ ........قَالُوٓا۟ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ ٢٨ قَالُوا۟ بَل لَّمْ تَكُونُوا۟ مُؤْمِنِينَ ٢٩ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـٰنٍۭ ۖ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًۭا طَـٰغِينَ ٣٠.......... فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍۢ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ٣٣ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ٣٤ ........... إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا۟ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَلِيمِ ٣٨ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٩"[[86]].
وقد ذكرت الآيات السابقة هلاك القرى والأقوام الظالمة والمجرمة بشكل عام دون تخصيص. ولكن ورد هذا الأمر مفصلاً في قصص معظم الأنبياء:
o قوم نوح عليه السلام:
- "وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ٣٧ .......وَقِيلَ يَـٰٓأَرْضُ ٱبْلَعِى مَآءَكِ وَيَـٰسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِىَ ٱلْأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًۭا لِّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ٤٤"[[87]].
- "فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ ۙ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّۢ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ٢٧ فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى نَجَّىٰنَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٢٨"[[88]].
- "وَقَوْمَ نُوحٍۢ لَّمَّا كَذَّبُوا۟ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَـٰهُمْ وَجَعَلْنَـٰهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةًۭ ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّـٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًۭا ٣٧"[[89]].
- "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًۭا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ ١٤"[[90]].
- "رَّبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوَٰلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًۭا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَلَا تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلَّا تَبَارًۢا ٢٨"[[91]].
لقد فصل الله عز وجل قصة قوم نوح في العديد من الآيات في سور مختلفة. وبين بشكل واضح أن قوم نوح كانوا قوماً ظالمين فاستحقوا العذاب الأليم.
o قوم شعيب عليه السلام:
- "وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًۭا فَقَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱرْجُوا۟ ٱلْيَوْمَ ٱلْـَٔاخِرَ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٣٦"[[92]].
- "وَلَا تَبْخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ١٨٣"[[93]].
- "وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًۭا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ بِرَحْمَةٍۢ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا۟ فِى دِيَـٰرِهِمْ جَـٰثِمِينَ ٩٤"[[94]].
- "وَإِن كَانَ أَصْحَـٰبُ ٱلْأَيْكَةِ لَظَـٰلِمِينَ ٧٨ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍۢ مُّبِينٍۢ ٧٩"[[95]].
ومن الواضح في الآيات السابقة أن العقاب نزل بأهل مدين بسبب ظلمهم وفسادهم في الأرض.
o موسى عليه السلام وقوم فرعون:
- "فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًۭا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٢١"[[96]].
- "وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ١٠ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ ١١"[[97]].
- "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًۭا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةًۭ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَٱلْمُفْسِدِينَ٤"[[98]].
- "فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ١٦ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ١٧"[[99]].
- "فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمِّ ۖ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٤٠"[[100]].
- "ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ١٧ .... فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ٢٤"[[101]].
وتوضح هذه الآيات كيف أن فرعون طغى وعلا في الأرض، وما فعله من ظلم بحق النساء والأطفال، وكان هو وجنوده قوماً ظالمين، فاستحقوا عقاب الله عز وجل. ولا نعتقد أن الله قد أنزل بفرعون وجنوده هذا العذاب انتقاماً لنفسه، سبحانه وتعالى؛ لأن فرعون قال أنا ربكم الأعلى. ونلاحظ أن طلب نبي الله موسى من فرعون كان فقط أن يرسل معه بني إسرائيل، ولم يطلب منه التوحيد أو عبادة الله كما في باقي قصص الأنبياء.
o قوم لوط عليه السلام:
- "إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ١٦١ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌۭ ١٦٢ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٦٣...... أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ ١٦٥ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ١٦٦"[[102]].
- "وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُوٓا۟ إِنَّا مُهْلِكُوٓا۟ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا۟ ظَـٰلِمِينَ ٣١ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًۭا ۚ قَالُوا۟ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهْلَهُۥٓ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُۥ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ ٣٢"[[103]].
لقد عاقب الله عز وجل قوم لوط بسبب ارتكابهم الفاحشة وظلمهم واعتدائهم على الآخرين، وخاصة عمليات الاغتصاب التي كانت ترتكب بحق عابري السبيل، حتى إنهم أرادوا اغتصاب الملائكة في بيت لوط عليه السلام، بعدما عزلوه ومنعوه من التواصل مع العالمين. ونحن نعتقد أن جرائم الاغتصاب بالإكراه بحق الغرباء وعابري السبيل هي المقصودة بالفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين. أما الشذوذ الجنسي، فكان معروفاً في الحضارات القديمة التي سبقت عصر إبراهيم ولوط عليهما السلام.
o قوم صالح عليه السلام:
- "فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـٰلِحًۭا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ بِرَحْمَةٍۢ مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِىُّ ٱلْعَزِيزُ ٦٦ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا۟ فِى دِيَـٰرِهِمْ جَـٰثِمِينَ ٦٧"[[104]].
- "وَلَا تُطِيعُوٓا۟ أَمْرَٱلْمُسْرِفِينَ١٥١ ٱلَّذِينَ يُفْسِدُون َفِى ٱلْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ١٥٢"[[105]].
لقد عاقب الله عز وجل قوم صالح بسبب ظلمهم وفسادهم واقتتالهم على اقتسام المياه التي يبدو أنها كانت نادرة في قريتهم.
*- الحساب يوم القيامة على الأعمال فقط
سؤال يطرح نفسه، هل الحساب يوم القيامة سيكون على الأعمال أم على المعتقدات؟ بمعنى آخر، هل الإنسان سيحاسب على أعماله وأفعاله التي قام بها في حياته الدنيا أم هناك محاسبة على ما دار في خاطره أو ما اعتقد به؟
طبقاً لما جاء في كتاب الله، نرى أن الحساب يوم القيامة سيكون فقط على الأعمال والأفعال التي قام بها الإنسان. فيما يلي بعض الآيات التي تثبت أن دخول الجنة أو النار سيكون بالأعمال فقط.
- "إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةًۭ وَٰحِدَةًۭ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌۭ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ٥٣ فَٱلْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌۭ شَيْـًۭٔا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٥٤"[[106]].
- "وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِىٓ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٧٢"[[107]].
- "فَذُوقُوا۟ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَـٰكُمْ ۖ وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١٤"[[108]].
- "وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍۢ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ ٢٧ وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍۢ جَاثِيَةًۭ ۚ كُلُّ أُمَّةٍۢ تُدْعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَـٰبِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٨ هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٩"[[109]].
- "هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ١٤ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَآ أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ١٥ ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوٓا۟ أَوْ لَا تَصْبِرُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١٦ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍۢ وَنَعِيمٍۢ ١٧ فَـٰكِهِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَىٰهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ ١٨ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ هَنِيٓـًٔۢا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١٩"[[110]].
- "إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـٰلٍۢ وَعُيُونٍۢ ٤١ وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ٤٢ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ هَنِيٓـًٔۢا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣"[[111]].
- "إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا۟ ٱلْعَذَابِ ٱلْأَلِيمِ ٣٨ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ٣٩ إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ ٤٠"[[112]].
- "يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌۢ بِٱلْكَـٰفِرِينَ ٥٤ يَوْمَ يَغْشَىٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا۟ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ٥٥"[[113]].
- "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَا تَعْتَذِرُوا۟ ٱلْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ٧"[[114]].
- "ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُوا۟ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ٣٢"[[115]].
- "وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةًۭ وَٰحِدَةًۭ وَلَـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَلَتُسْـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ٩٣"[[116]].
والجدير ذكره أنه لا توجد آية واحدة في القرآن الكريم تتوعد الإنسان بالعقاب أو الفوز بالجنة بما كان يعتقد في نفسه، ولن يحاسب على الأفكار التي دارت في نفسه، ولكن الحساب سيكون على الأعمال التي قام بها فقط.
ويحتج البعض بالآية ٢٨٤ من سورة البقرة بأن الله سيحاسب الناس على ما يدور في أنفسهم، سواء أبدوه أو أخفوه، بينما البعض يقول إن هذه الآية نسخت بعدما اشتكى الصحابة لرسول الله بأنهم حملوا مالا طاقة لهم به. ونحن نعتقد بعدم وجود آيات منسوخة في القرآن الكريم، وبتدبر بسيط للآية 284 والآية التي قبلها في سورة البقرة "وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍۢ وَلَمْ تَجِدُوا۟ كَاتِبًۭا فَرِهَـٰنٌۭ مَّقْبُوضَةٌۭ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًۭا فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌۭ قَلْبُهُۥ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌۭ ٢٨٣ لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ ٢٨٤"[[117]] يتضح أن الأمر يتعلق بالشهادة. فإذا ما دُعِيَ الإنسان للشهادة، فهو حتماً محاسب على الأشياء التي يبديها أو يخفيها أثناء إدلائه بها.
*- الفرق بين المسلم والمؤمن
كما ذكرنا سابقاً، فإن الإيمان هو بالتعريف العملية التي يتم فيها منح الأمن للآخرين، تماماً كما هي عملية الإطعام، والتي يتم فيها منح الطعام للآخرين. والإسلام على نفس السليقة يمكن تعريفه بأنه العملية التي يتم فيها منح السلم للآخرين.
لتحديد الفرق بين المؤمن والمسلم، لابد من معرفة الفرق بين الإيمان والإسلام. وكما ذكرنا، فإن جذر وأصل الإيمان هو "الأمن"، كما أن جذر وأصل الإسلام هو "السلم"؛ فما هو الفرق بين الأمن والسلم؟
كما يقال، تعرف الأمور بنقائضها، فإن الأمن نقيضه الخوف، والسلم نقيضه الحرب. انطلاقاً من ذلك، نجد أن السلم هو المرحلة الأولى المطلوبة لتحقيق الأمن، فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك دولتان متحاربتان؛ فالمطلب الأول من الدولتين هو أن تتوقفا عن القتال، لتسود بينها حالة من السلم. صحيح أنه في هذه المرحلة هناك سلام بين الدولتين، ولكن لا يوجد أمن وأمان. فكلتا لدولتين في حالة تأهب وحذر، والحدود مغلقة، وليس هناك أي علاقات اقتصادية أو دبلوماسية بين البلدين. مع مرور الزمن، وعندما تتوطد العلاقات بين الدولتين، ويبدأ التعاون التجاري والثقافي وتفتح السفارات والحركة عبر الحدود، فيمكن أن نقول إن البلدين يشعران بالأمن.
وبناءً عليه، يمكننا القول إن كندا والولايات المتحدة هما دولتان يسود بينهما الأمن؛ فهما دولتان مؤمنتان. أما دولتا كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، فيسود بينهما حالة من السلم، ولكن لا يوجد بينهما أمان، فهما دولتان مسلمتان.
ومما سبق نستنتج أن المسلم هو كل شخص يمنح السلام لغيره، والمؤمن هو كل شخص يمنح الأمان لغيره. والمؤمن هو بالضرورة مسلم، ولكن العكس غير صحيح. فليس شرطاً أن يكون المسلم مؤمناً. فالمسلم يعيش بسلام مع من حوله، ولكن هذا لا يمنع أن يكون جميع من حوله، أو بعضهم، يعيش في حالة خوف من ذلك المسلم. بمجرد أن تشعر بالخوف من شخص ما، فحكماً هو غير مؤمن؛ لأنه لم يمنحك الأمن.
مثلاً، تذهب للصائغ لتشتري بعض المجوهرات؛ الصائغ هو حكماً يمنحك السلام، فهو ليس في حالة حرب أو قتال معك. ولكنك في نفس الوقت أنت خائف من أن يغشك في عيار الذهب أو وزن المجوهرات أو سعرها. الصائغ في هذه الحالة يكون مسلماً لك وليس مؤمناً. لننظر لحالة مماثلة، ولكن الصائغ هنا هو صديق حميم لك، أو هو من أحد أقاربك المعروفين بالنزاهة والأخلاق؛ فعندما تذهب لتشتري منه، فأنت تشعر بالأمان تماماً، ولديك قناعة تامة أنه لن يغشك في شيء على الإطلاق. هنا الصائغ يكون مؤمناً بالنسبة لك، وهو بالضرورة مسلم أيضاً.
من الأمثلة السابقة، نرى أن المسلم هو وصف عام ينطبق على كل من عاش بسلام مع الآخرين. أما المؤمن، فهو حالة خاصة أعمق من المسلم، ولابد أن تتوفر فيها جميع السبل التي تضمن إزالة أي نوع من الخوف من صدور الآخرين، مهما صغر أو كبر. فالإسلام أولاً ومن ثم يأتي بعده الإيمان، والذي يتطلب جهوداً ليست بالسهلة.
أما ما ورد في كتب الفقه أن الإيمان هو تمام الطاعة لله عز وجل، ولكي يسمّى المرء مؤمناً يجب عليه أن يؤدي ما أوجبه الله ويدع ما حرمه الله، وأن المسلم هو من أدى الواجبات مع بعض النواقص أو المعاصي، وأن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الاعتقادات الباطنة، فنحن نرى أن هذه التعاريف تحتاج إلى مراجعة جذرية.
الخاتمة
حاولنا في هذا البحث إلقاء الضوء على المفهوم المتعدي للإيمان كما جاء في القرآن الكريم، حيث ورد الإيمان في أغلب الأحيان بالمعنى المتعدّي المشتق من الجذر اللغوي "الأمْن"، والمتمثل بمنح الأمن للآخرين، بما يضمن للمجتمعات الإنسانية العيش بأمن وسلام مع بعضها البعض، بينما ركزت كتب الفقه الإسلامي على المفهوم اللازم للإيمان (العقيدة)، بوصفه إقراراً وتصديقا بوجود خالق هذا الكون، وغاب المفهوم المتعدي للإيمان لأسباب سياسية وعسكرية لتبرير البطش وتخويف الآخرين.
الإيمان بمفهومه السائد كاعتقاد وإقرار باطني بوجود الخالق هو أمر متروك لله عز وجل، بينما ينحصر مقصد الرسالة السماوية في الأعمال الفعلية التي يقوم بها الإنسان من خير أو شر. وأن الحساب يوم القيامة لن يكون إلا على الأعمال التي ارتكبها الإنسان في حياته الدنيا، ولا يوجد حساب على المعتقدات أو الأفكار التي تدور في نفس الإنسان، إذا لم يترتب عليها عمل له نتائج ملموسة.
إن المفتاح للفوز بالجنة هو الإيمان، بمفهوم "منح الأمن للآخرين" والعمل الصالح، والإنسان غير المؤمن، الذي يظلم ويطغى ويتكبر وينشر الفساد في الأرض، فهو غير مكلف في أداء تعاليم الرسالة السماوية ما لم يؤمن أولاً. ومن هنا، نفهم خطابات التكليف التي دائماً ما جاءت بصيغة "يا أيها الذين ءامنوا".
إن الله عز وجل غنيّ عن العالمين، ولا يحتاج اعترافاً أو إقراراً من أحد. هو فقط أخبرنا أنه موجود كإله خالق ومدبر لهذا الكون، وطلب منا أن نطيع أوامره. وأن الأمر بعد ذلك يعود لنا ولخياراتنا الشخصية. ولكن، بمجرد أن يقبل الإنسان طاعة أوامر الله، يكون قد اعترف بوجود الله بشكل تلقائي.
وختاماً، لا يسعنا إلا التأكيد أن هذا البحث هو مجرد وجهة نظر لا تحمل الحقيقة المطلقة، هدفها لفت الانتباه إلى قضية غائبة عن التراث المألوف، وهي قابلة للنقاش والمراجعة الموضوعية البناءة. ونأمل أن يكون هذا البحث نقطة البداية في تعميق ونشر الإيمان المتعدي بين الناس جميعاً.
[[1]] كتاب الإيمان الأوسط – شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية – دراسة وتحقيق الدكتور علي بن بخيت الزهراني، ص 13
[[2]] كتاب تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الجزء 15، ص 369
[[3]] كتاب المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، دار القلم، الدار الشامية – دمشق، بيروت، ص 91
[[4]] كتاب الإيمان، تأليف العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، عمان، الأردن، ص 224
[[5]] راجع الجدول 1 في ملحق البحث. (يمكن تحميل الملحق من الرابط المُشار إليه في آخر الكتاب)
[[6]] راجع الجدول 2 في ملحق البحث. (يمكن تحميل الملحق من الرابط المُشار إليه في آخر الكتاب)
[[7]] راجع الجدول 3 في ملحق البحث
[[14]] معجم المعاني – نسخة إلكترونية
[[26]] راجع الجدول (4) في ملحق البحث. (يمكن تحميل الملحق من الرابط المُشار إليه في آخر الكتاب)
[[30]] انظر الجدولين رقم 5 و6 في ملحق البحث. (يمكن تحميل الملحق من الرابط المُشار إليه في آخر الكتاب)
[[43]] الراوي: أبو هريرة، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترمذي
[[54]] https: //www.nquran.com/ar/index.php?group=tb1&tpath=2&sorano=10&ayano=90
[[86]] الصافات: 21-23، 28-30، 33-34، 38-39
[[102]] الشعراء: 161-163، 165-166