العلاقة بين الإسلام والمسيحية في أوروبا؛ الماضي والحاضر والمستقبل( )


فئة :  ترجمات

العلاقة بين الإسلام والمسيحية في أوروبا؛ الماضي والحاضر والمستقبل( )

العلاقة بين الإسلام والمسيحية في أوروبا؛

الماضي والحاضر والمستقبل([1])

أولاً- تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية في أوروبا:

التفاعل الثقافي مقابل المواجهة السياسية الأيديولوجية

من خلال نظرة شاملة لتاريخ الثقافات، هناك فرق صارخ في التأثيرات المتبادلة للعالمين الإسلامي والمسيحي. يعود تأثير الفكر الأوروبي على العالم الإسلامي إلى بداية القرن التاسع عشر فقط، بينما كان للحضارة الإسلامية تأثير عميق على الثقافة الأوروبية المسيحية -في طريقها الطويل إلى تطوير العلوم والتكنولوجيا-، في وقت سابق ومورس لعدة قرون؛ بمعنى آخر لم يكن للثقافة الأوروبية تأثير خاص على العالم الإسلامي لأكثر من ألف عام، بل استفادت من «التنوير» الإسلامي المبكر في جميع مجالات الثقافة والعلوم.

طبقاً للحقائق التاريخية، فإن تكوين الحياة الفكرية الأوروبية في العصور الوسطى، كان إلى حد كبير نتيجة لازدهار الحضارة الإسلامية في إسبانيا. لمدة خمسة قرون -من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر على وجه الدقة- كان تاريخ الحضارة العالمية هو تاريخ الإسلام. ومقارنة بالحضارة المسيحية في أوروبا في ذلك الوقت، كانت الحضارة الإسلامية أكثر تطوراً واستنارة. ففي فترة حاسمة تبلغ حوالي مائتي عام، مكّن اللقاء مع الحضارة الإسلامية أوروبا من تطوير كلياتها في جميع المجالات العلمية، وخاصة في الفلسفة والطب وعلم الفلك والكيمياء والرياضيات. وكان الإنجاز العظيم للعلماء المسلمين في العصور الوسطى هو الحفاظ على كنوز الفلسفة اليونانية القديمة والعلوم للأجيال القادمة. أصبح العلماء المسيحيون على دراية بالمفاهيم الأساسية للميتافيزيقيا الأرسطية، عبر الفلاسفة العرب في إسبانيا، من خلال ترجماتهم وتعليقاتهم. وكان للفيلسوف العربي ابن رشد، الذي ولد في قرطبة عام 1126، التأثير الأكبر من خلال شرحه لأرسطو. دَرَسَ العديد من العلماء المسيحيين في الكليات العربية في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وفالنسيا وطليطلة. قام المفكرون المسيحيون العظماء لذلك الوقت، مثل ألبرتوس ماغنوس Albertus Magnus، وروجر بيكون Roger Bacon، وطوماس الأكويني Thomas von Aquin، وويليام فون أوكهام Wilhelm von Ockham، وجيربرت أوريلاك Gerbert von Aurillac، والذي أصبح فيما بعد البابا سيلفستر الثاني، على سبيل المثال لا الحصر، بتطوير مهاراتهم الفكرية وفن خطابَتِهم في هذه المراكز التعليمية.

جذبت «المكتبة الأوروبية الكبيرة» في طليطلة Toledo -حيث تأسست مدرسة الترجمة عام 1130- الطلاب والعلماء من جميع أنحاء أوروبا. وكان للطب العربي الإسلامي تأثير هائل على تطور فنون العلاج في أوروبا. كان جميع أساتذة الطب الأوائل في الجامعات الأوروبية المنشأة في القرن الثاني عشر، طلاباً سابقين لعلماء عرب. وتم تدريس العمل الأساسي للباحث الطبي الأكثر شهرة؛ ابن سينا، «القانون في الطب» (canon medicinae)، في جميع الكليات الطبية الأوروبية الرئيسة لأكثر من ستة قرون. في عام 1587 أنشأ الملك الفرنسي هاينريك الثالث Heinrich III كرسياً باللغة العربية في المعهد الملكي Collège Royal لتعزيز البحث الطبي في فرنسا. ويمكن أيضاً تتبع التأثيرات المماثلة على تطوير الأساليب العلمية في مجالات الرياضيات وعلم الفلك والكيمياء والهندسة المعمارية والموسيقى والمهارات الصناعية. فقد دحض عالم الفلك العربي محمد بن جابر بن سنان البتاني (Albatenius، 858-929) العقيدة البطلمية لمركزية الأرض قبل وقت طويل من نشر كوبرنيك أطروحته الشهيرة حول دوران الكواكب السماوية De Revolutionibus orbium coelestium في القرن السادس عشر. وكانت الفترة الرومانية للفن الأوروبي مدينة بعمق للهندسة المعمارية الإسلامية، ولا سيما في إسبانيا. ودون الخوض في مزيد من التفاصيل، يمكن القول ببعض التبرير بإن الحضارة الإسلامية، التي ازدهرت في جنوب أوروبا حتى أواخر القرن الثاني عشر، وتجاوزت في إنجازاتها العالمية حتى المساهمة السابقة للإمبراطورية الرومانية في تطور الحضارة، انتشرت عبر أنحاء العالم. لقد استيقظت أوروبا من «سباتها الدوغمائي» في العصور الوسطى، وبالتالي أعدت نهضة أوروبية مبكرة؛ أي رؤية عالمية مستنيرة وعقلانية وغير عقائدية.

كان التأثير أحادي الجانب بالكامل؛ لأن الحضارة الأوروبية في ذلك الوقت لم تكن قادرة على المساهمة بأي شيء في تطور الحضارة الإسلامية. وعلى الرغم من هذا التأثير الثقافي الغني، الذي أفاد الحضارة المسيحية في أوروبا، إلا أن العلاقات على المستوى السياسي نادراً ما اتسمت بالانفتاح والتسامح. كان شارلمان (747-814) أحد الاستثناءات، حيث حافظ على علاقات ودية مع العباسيين في بغداد، بل إن هارون الرشيد كان يحترمه بصفته حامياً للمسيحيين الشرقيين، مع منحه حقوقاً بروتوكولية معينة في القدس. وفي فترة تاريخية لاحقة، أظهر فريدريك الثاني (1194-1250)، «ملك صقلية والقدس»، انفتاحاً صادقاً على الثقافة الإسلامية -على الرغم من مشاركته في الحروب الصليبية. كان حريصاً على التعلم من علماء الإسلام المتقدمين. وتجدر الإشارة إلى أن هذين الحاكمين الأوروبيين كانا مهتمين بالإمبراطورية الإسلامية في الشرق، وليس بالأراضي الأوروبية -المتمركزة في قرطبة- حيث، وعلى الرغم من التأثير الثقافي الغني، لم يحدث أي تقارب سياسي بينهم.

تهيمن الحروب الصليبية، التي بدأت في القرن الحادي عشر، على التاريخ السياسي للعلاقات الإسلامية المسيحية في أوروبا، سعى الباباوات من خلالها إلى تأمين هيمنة غير مقيدة للكرسي الرسولي، وخاصة على الغرب المسيحي. وسرعان ما تطورت الحروب الصليبية إلى مؤسسات استعمارية إمبريالية، أرادت الدول الأوروبية من خلالها تأمين مصالحها الاقتصادية والتجارية الحيوية. لم يكن الدين سوى ذريعة للخطط الاستعمارية للحكام الأوروبيين، وهي خطط كانت موجهة ليس فقط ضد المسلمين في الأرض المقدسة، بل وأيضاً ضد الإمبراطورية البيزنطية المسيحية -وهو ما ظهر بشكل واضح في الحملة الصليبية الرابعة، التي شنها دوق البندقية، إنريكو داندولو Enrico Dandolo، حيث غزا ونهب القسطنطينية عام 1204، بينما نجح «الاسترداد Reconquista» الإسلامي عام 1187 باستعادة صلاح الدين للقدس، وأدى الاسترداد المسيحي في الأخير إلى إنهاء الوجود الإسلامي في أوروبا بسقوط غرناطة عام 1492. لكن في الجزء الشرقي من أوروبا، لم تكتف الإمبراطورية العثمانية الناشئة بغزو بيزنطة (القسطنطينية)، مركز المسيحية الشرقية، في عام 1453، ولكنها توسعت تدريجياً إلى أبواب فيينا (1683).

على الرغم من التأثير الغني للثقافة الإسلامية على تطور الفكر الأوروبي، فإن هذا التاريخ المعقد من الاصطدامات بين المسيحيين والمسلمين في أوروبا الغربية والجنوبية والشرقية والشرق الأوسط جعل من المستحيل إجراء «حوار ثقافي» حقيقي. ففي سياق المواجهات السياسية العسكرية في ذلك الوقت، وخاصة من جانب المسيحية، كان الدين بمثابة أداة أيديولوجية للدفاع عن مصالح الحكام الأوروبيين، بما في ذلك حامل الكرسي الرسولي في روما. ويفسر هذا «تاريخ سوء التفاهم المتعمد وغير المتعمد»، الذي ميز اللقاء الإسلامي المسيحي في أوروبا على مر القرون. خلق «صدام الحضارات» المبكر -منذ العصور الوسطى- إرثاً من المواجهة وانعدام الثقة وسوء الفهم الذي ظل قائماً حتى يومنا هذا. فالأحكام المسبقة المعادية للإسلام في أوروبا، والتي أصبحت الآن خبيثة مرة أخرى في ترتيب/نمط جديد من السياسات العالمية، هي انعكاس لهذا التاريخ المليء بالصراعات في العلاقات الإسلامية المسيحية، كما ينعكس في توسع الإمبراطورية الإسلامية في أوروبا منذ القرن الثامن، وما حدث بعد ذلك من الاسترداد المسيحي والحروب الصليبية. وفي سياق هذه المواجهة الأوروبية المتضاربة مع الإسلام، فإن العقيدة السائدة في أوروبا، كما قال إدوارد سعيد، جعلت الإسلام غريباً، بل هو في الواقع تجسيد للأجنبي في حد ذاته، على عكس كل الحضارات الأوروبية منذ العصور الوسطى وما بعدها.([2])

مع ظهور الاستعمار الأوروبي، تحولت العلاقات الأوروبية مع الإسلام مرة أخرى نحو الهيمنة السياسية و«الوصاية الثقافية». شكلت سياسات القوة الأوروبية الخريطة السياسية للشرق الأوسط حتى يومنا هذا. وجرت محاولات لإضفاء الشرعية على الهيمنة السياسية والعسكرية من خلال الادعاء أيديولوجياً بتفوق أوروبا المسيحية على الثقافة العربية الإسلامية. وتم إحياء الأحكام المسبقة القديمة التي تم رعايتها منذ الحروب الصليبية، بل عُزِّزت. وتزامن هذا التطور مع خلق حقائق سياسية ودستورية جديدة في أراضي فلسطين بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وإعادة تنظيم وقع بشكل خاص على حساب الوجود الإسلامي التاريخي في القدس.

ثانياً- المفاهيم الميتافيزيقية في الإسلام والمسيحية وتأثيرها في تصميم/تكوين العلاقات بين المجتمعين في أوروبا

بهدف التعرف بشكل أوضح على الجذور الأيديولوجية للعديد من المواجهات المذكورة أعلاه، يجب أن نفكر بإيجاز في أوجه التشابه العقائدي الميتافيزيقي، التي لا يمكن إنكارها بين الإسلام والمسيحية، والتي يمكن أن توفر الأساس لحوار مستنير بين الثقافتين في ميادين الدين والثقافة والسياسة. من المعروف أن كلتا الثقافتين تستند على الإيمان بإله واحد. فالتوحيد هو جوهر موقفهم الديني من الكون، ومفهوم التفرد (الوحدة) -(الوحدانية)- أكثر دقة، وبدرجة أعلى من التجريد في الإسلام منه في المسيحية، ففي مفهومها عن الله، القائم على التثليث، يمكن أيضاً رؤية آثار تعدد الآلهة. ويمكن للفهم الإسلامي عن الله أن يساعد المسيحية في توضيح مفهومها الخاص عن التوحيد، والتشكيك بشكل حاسم في أي عناصر مجسمة في عقيدة ثالوث الإله الواحد([3]). علاوة على ذلك، فإن لكلا الديانتين طبيعة عالمية، ومن ثم فإنهما منفتحتان على البشرية جمعاء. إن فكرتهما عن الله ليست فكرة إله القبيلة. إنها تستثني جميع أشكال التمييز فيما يتعلق بالمشاركة/الانتماء في جماعة المؤمنين. قد تخلق عالمية إعلانهم تنافساً بين الديانتين، بما أنهما تسعيان للوصول إلى البشرية جمعاء، لكن تؤكد هذه العالمية انفتاحهما على جميع الأجناس والشعوب والمجموعات العرقية والمجتمعات اللغوية. وأحد العوامل الموحدة في مجال اللاهوت هو الدور المركزي الذي ينسبه الإسلام إلى يسوع بين جميع الأنبياء. ويؤيد الإسلام أيضاً المعتقدات المسيحية المتعلقة بالحمل الطاهر باليسوع وبراءته. ومع ذلك، لا يجب التغاضي عن الاختلاف الجوهري بين عقيدتي الإيمان، جانب ينظر إلى اليسوع على أنه ابن الله، والجانب الآخر يعده واحداً من بين العديد من الأنبياء، وإن كان الأكثر سموّاً بينهم. ويمكن أيضاً العثور على آراء مماثلة في الديانتين فيما يتعلق بالقيامة واليوم الآخر.

على الرغم من ذلك، فإن هذه التشابهات «البنيوية» للعقيدة الميتافيزيقية لم تصبح أبداً أساساً لحوار صادق بين الديانتين. بالنسبة إلى المسيحية على وجه الخصوص، كانت الاختلافات العقائدية مهمة بشكل متزايد، وقد أدى تصنيف النبي محمد على أنه «زنديق» إلى تسميم العلاقات على مر القرون. أدى الافتقار إلى الثقة، وحتى انعدام الثقة العميق، إلى تحديد العلاقة بين الجماعتين بشكل دائم، والتي يمكن عدّها أيضاً جزئياً كنتيجة للنزاعات المسلحة المستمرة منذ قرون في أوروبا والشرق الأوسط. لا يزال التحيز العدائي ضد الإسلام يميز العديد من المقاربات الأوروبية تجاه قضايا العالم الإسلامي، سواء من حيث عقائدهم الدينية أو معاييرهم الأخلاقية أو طريقة الحياة الناتجة عنها، إلخ. وكما لاحظ المفكر الباكستاني المولود في النمسا محمد أسد، فإن أوروبا تحدد التهديدات العسكرية التي تشكلها القوى الإسلامية -وتحديداً الإمبراطورية العثمانية- بالإسلام في حد ذاته، وبالتالي برسالة النبي.([4])

كانت هناك عقبة أخرى أمام التفاهم الحقيقي والحوار، تتمثل في أن الأبحاث الأوروبية عن الإسلام كانت لفترة طويلة في أيدي المبشرين المسيحيين الذي تعاملوا مع الموضوع بطريقة اعتذارية apologetischen وجدلية للغاية. ونتجت عن ذلك صورة مشوهة بشكل غريب للإسلام، من جميع جوانبه الدينية والسياسية والاجتماعية. وهذا التوجه للعقيدة السائدة كان له تأثير سلبي عميق على صورة الإسلام في الرأي العام الأوروبي، وهو تأثير لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. فللنظام الذي رسخ نفسه اليوم على أنه «استشراق» جذوره التاريخية في منهج اعتذار apologetischen المسيحية للإسلام؛ ومنذ البداية، اعتبر المرء أن التعاليم المسيحية هي في موقع متفوق على «البدعة» الإسلامية. ويؤكد إدوارد سعيد بجدارة في كتابه المؤثر «الاستشراق»: «يحتاج الاستشراق لاستراتيجيته إلى موقع تفوق، يضع الإنسان الغربي في مجموعة من العلاقات الممكنة مع الشرق، دون أن يفقد اليد العليا»([5]). وهذا النهج الأوروبي المركزي هو أحد العقبات الرئيسة أمام التفاهم بين المسلمين والمسيحيين حتى يومنا هذا.

يفشل هذا المنهج التفسيري تماماً عند مواجهة مهمة التشكيك النقدي في الأحكام المسبقة السائدة، بوصفها إرثاً من النزاعات السابقة. على العكس من ذلك، إنه يعزز هذه الصور النمطية في شكل عقيدة جديدة لـ«صراع الحضارات»، والتي بموجبها يتم تقديم الإسلام بوصفه تهديداً لأمن أوروبا، وعائقاً أمام الحفاظ على الحرية («الليبرالية»)، ونظام القيم وأسلوب الحياة فيها. ويعدّ الاستشراق، أي النظام الحديث للدراسات الإسلامية، في كثير من النواحي، وخاصة فيما يتعلق ببياناته المعيارية، جزءاً من «حملة صليبية» أيديولوجية جديدة في ظل ظروف أواخر القرن العشرين.

من بين الأحكام المسبقة التي أثرت على العلاقات بين الإسلام والمسيحية منذ زمن الحروب الصليبية والحروب مع الإمبراطورية العثمانية، يذكر المرء الطبيعة العدائية للإسلام، سواء في رسالته الدينية أو السياسية. وتتموضع هذه الصورة النمطية في سياق التفسير المسيحي لمفهوم الجهاد القرآني، وقد تكون بمثابة مثال على حجم العمل المتبقي، الذي يتعين القيام به في السعي من أجل نقل عادل ومتوازن للرسالة الإسلامية إلى أوروبا. لقد علّم/درَّسَ العلماء المسيحيون لقرون بأن الإسلام يبرر بشكل عام وبلا تحفظ الحرب ضد غير المؤمنين؛ أي المسيحيين أنفسهم. تم اجتزاز مقاطع معينة من القرآن من سياقها عمداً -بقصد «إثبات» الطبيعة العدوانية للإسلام. والسورة الثامنة، الآية 39، على وجه الخصوص هي التي تستخدم لهذا الغرض. ويتم السكوت عن التحفظات الواضحة في سورة 22، الآية 39، والتي بموجبها لا يجوز العنف إلا في حالة الدفاع عن النفس (يعطى الإذن لأولئك الذين يقاتلون؛ لأنهم ظلموا ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير﴾ سورة الحج، الآية 39، أو الوصية في سورة البقرة، الآية 190، حيث يتم التعبير عن هذا المبدأ بشكل أكثر إيجازاً: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. إن التفسير الخاطئ لتعاليم القرآن حول استخدام القوة هو المثال الرئيس للصورة المشوهة للإسلام في العقائد المسيحية. وقد أدى جو الشك العميق الذي خلقه هذا بدوره إلى استمرار سوء فهم الإسلام، واعتبر تهديداً للحضارة المسيحية في أوروبا، بل في الواقع كدين ينكر حق المسيحية في الوجود.

إلى جانب هذا الحكم المسبق حول الطبيعة «العدائية» للإسلام يأتي حكم مسبق آخر، مفاده أن الإسلام يرفض الحرية الدينية، وهذا هو سبب عدم توافقه مع تصور العالم الليبرالي لأوروبا العلمانية (والتي تحدد هذا التصور، ليس فقط بسبب هويتها الأصلية، على أساس التاريخ المسيحي، وإن كان الواقع الاجتماعي العلماني مختلفاً). ويبدو أن العديد من «المستشرقين» وخبراء الإسلام يتجاهلون عن عمد الصياغة الواضحة جدّاً في سورة البقرة، الآية 256: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

بالنظر إلى هذا القول، لا يمكن بأي حال من الأحوال استخدام مصطلح الجهاد لإثبات موقف الإسلام العدواني أو العدائي تجاه المسيحية. وحتى يومنا هذا، لا تزال مثل هذه الأحكام المسبقة مُنتشرة في المحاضرات الأكاديمية وفي الكتب المدرسية. إن التحريف المتعمد، وحذف مقاطع نصية تفسيرية إضافية، وقطع بعض الصيغ من السياق العام للقرآن، يجعل الحاجة إلى منهجية تفسيرية جديدة في الحوار بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا أكثر وضوحاً/ضرورة. وقد أكد المشاركون في ندوة حول مفهوم التوحيد في الإسلام والمسيحية، التي عقدت في روما عام 1981، بشدة على الحاجة إلى تصحيح هذه المواقف الأحادية الجانب: «... إن أحد العقبات الرئيسية أمام التفاهم والتعاون المتوازن بين الإسلام والمسيحية هو استمرار الصور النمطية الخاطئة في الكتب المدرسية. يجب وضع برنامج عمل ملموس، يتم من خلاله مراجعة جميع الكتب المدرسية، لضمان تعريف المسيحيين منذ سن مبكرة بثقافة الإسلام الحقيقية، ومدى قربها من المسيحية ومساواتها بها».([6])

ثالثاً- الوضع الراهن والآفاق المستقبلية للعلاقات الإسلامية المسيحية في أوروبا

من الواضح أن مجموعة معينة من المصالح، حتى في الوضع الحالي في أوروبا، تحافظ على الأحكام المسبقة، التي تم نقلها على مدى فترة طويلة من الزمن. فمنذ نهاية الشيوعية واختفاء مخطط الصديق والعدو المرتبط به (الأيديولوجي)، استُغِلَّ الإسلام في كثير من الميادين كبديل لصورة العدو السابقة، التي حاول الغرب من خلالها تأكيد هيمنته العالمية. هذه المجموعة الدولية الجديدة، التي يصور فيها الإسلام على أنه تهديد للهوية الأوروبية والأمن، لها تأثير مباشر على العلاقات الإسلامية المسيحية في أوروبا. تعمل أطروحة صموئيل هنتنغتون حول «صدام الحضارات»([7]) كمبرر للحفاظ على الأحكام المسبقة التاريخية الموصوفة أعلاه. أثار وجود مجتمعات أكبر من المسلمين -وخاصة العمال المهاجرين- ردود أفعال معادية بشكل متزايد، بل وأحياناً معادية للإسلام في أوروبا. لقد تم تصوير هذه المجتمعات على الدوام كتهديد للتماسك الاجتماعي والثقافي في أوروبا. وفي ظل هذه الظروف، من الصعب جدّاً الحفاظ على جو من الحوار والتعاون أو تعزيزه، خاصةً عندما تستغل الجماعات السياسية في أوروبا عمداً، بل وحتى من أجل الإثارة، الأحكام المسبقة التقليدية المعادية للإسلام. وقد أوضحت الحملة ضد الأستاذة الألمانية آن ماري شيميل Annemarie Schimmel، المعترف بها في جميع أنحاء العالم كخبيرة في الإسلام، وما يسمى بقضية رشدي، للجمهور المعني بأن هناك خطراً حقيقياً، يتمثل في إمكانية اندلاع «حرب ثقافية» جديدة في أوروبا. وقد تم تشويه سمعة السيدة شيميل على الرغم من -أو ربما بسبب- جهودها المستمرة طوال حياتها لتقديم صورة متوازنة وموضوعية عن الإسلام في أوروبا -وفي العالم الغربي ككل-.

في هذا الصدد، تلعب وسائل الإعلام، التي تخضع إلى حد كبير لتأثير المصالح الخاصة، دوراً سلبياً للغاية، وتعرقل في كثير من الأحيان. وقد ساهمت بعض الإنتاجات الحديثة من صناعة السينما الأمريكية بشكل كبير في إدامة صورة العدو على حساب الإسلام وعلى حساب المجتمعات المسلمة في قارتنا.

في الوضع التاريخي الحالي، تتأثر العلاقات الإسلامية المسيحية أيضاً بشكل كبير بمصير المسلمين في البوسنة والهرسك. كان انعدام الثقة المتجذر في هذه الجالية المسلمة في أوروبا بلا شك، أحد أسباب تقاعس أوروبا الأولي في الفترة الحاسمة التي أعقبت انهيار الاتحاد اليوغوسلافي. إن السلبية الأوروبية في مواجهة الجرائم ضد الإنسانية، وحتى التطهير العرقي وأعمال الإبادة الجماعية في البوسنة، قد أثرت بشدة على العلاقات الإسلامية المسيحية، ليس فقط في أوروبا، بل وأيضاً على المستوى المسكوني ökumenisch العالمي. ولا يمكن تفسير التقاعس -أو الفشل في البداية في تقديم المساعدة- إلا من خلال التاريخ الطويل للمواجهات الإسلامية المسيحية، كما أشرنا إلى ذلك هنا. وتعد المأساة في البوسنة مثالاً آخر محزناً، أظهر لنا مدى ضآلة التقارب اللاهوتي والفلسفي الميتافيزيقي بين الديانتين -أو الثقافتين- والذي كان له تأثير، لايزال قائماً حتى الآن، على الواقع الاجتماعي والسياسي الملموس.

هناك عامل مهمّ آخر في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا المعاصرة، وهو بلا شك الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين -وخاصة الخلاف حول مكانة القدس-. من جهة، وكما أوضح إدوارد سعيد بشكل مؤثر، فإن التفاهم المتبادل الأفضل والتعاون المنسجم بين المسيحيين والمسلمين ليس بالضرورة في مصلحة الدولة اليهودية في فلسطين وأنصارها في أوروبا وخارجها([8]). ومن جهة أخرى، فإن الاحتلال الإسرائيلي للقدس غير مقبول، ليس للمسلمين فقط، بل وأيضاً للمسيحيين ككل. ففي التشكيلة العالمية الحالية، تفتح مسألة القدس فرصة للعمل المشترك للطائفتين الدينيتين، على اعتبار أنها مسألة استراتيجية منسقة لاستعادة القانون الدولي، واحترام حقوق جميع الطوائف الدينية التوحيدية في مدينة القدس.

بشكل عام، يمكن القول إن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا دخلت مرحلة حاسمة في نهاية الألفية الثانية من العصر المسيحي. وقد تم توضيح ذلك بشكل كافٍ من خلال الظروف الصعبة التي تواجه الجاليات المسلمة المهاجرة، والتعامل مع الأزمة في البوسنة من قبل الدول الأوروبية. ولسوء الحظ، فإن إرث الاسترداد Reconquista والحروب الصليبية لا يزال حاضراً، خاصة منذ نهاية الصراع بين المعسكر الشرقي ونظيره الغربي، حيث اختفت صورة العدو التي طغت، أو امتصت العداوات التاريخية الأخرى، لما يقرب من نصف قرن.

تتميز الحالة الراهنة للعلاقات الإسلامية المسيحية في أوروبا بأشكال جديدة من المواجهة، تغذيها الأحكام المسبقة المستمرة منذ القرون الماضية. فحتى أجزاء من النخبة المثقفة في أوروبا تمارس بوضوح المحافظة على صورة العدو «الإسلام»، كما في بعض التصريحات حول ما يسمى بقضية رشدي، أو في معاملة العلماء المسيحيين الذين -مثل آن ماري شيميل- يسعون جاهدين لخلق صورة متوازنة عن الإسلام. يبدو أن أوروبا في التشكيلة الحالية -مع الفراغ الأيديولوجي الذي خلفه انهيار الكتلة السوفيتية- ليست مستعدة بعد للتخلي عن الأحكام المسبقة القديمة وصور العدو. إن الانشغال التبريري والمتحمس للاهوت المسيحي المبكر بالإسلام، والذي كان ينظر إليه على أنه نسخة مضللة من المسيحية («Arabia haeresium ferax»)، احتُفِظَ به في شكل علماني في أوروبا العلمانية: يُنظر إلى الثقافة الإسلامية من وجهة نظر نظامنا القيمي الأوروبي فقط. يُنظر إلى التطورات السياسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وحركات التجديد الإسلامي في هذه المناطق، أنها تهديد للمصالح الأوروبية الحيوية، كما يُنظر إلى المهاجرين المسلمين على أنهم حلفاء محتملون لهذه الحركات الجديدة، مما يعني تهديداً للهوية الثقافية لأوروبا. وفي هذا السياق بالذات، «هناك إجماع حول "الإسلام" كنوع من كبش الفداء لكل ما لا نحبه في التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة» (إدوارد سعيد)([9]).

على ضوء هذه الخلفية، يجب علينا تقييم العلاقة المستقبلية بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا بعناية. بالنظر إلى التوترات الجديدة، لا ينبغي أن يكون نموذج هنتنغتون لصراع الحضارات هو المرشد بأي حال من الأحوال، وكما أوضحت الخلافات السياسية (العالمية) الأخيرة، فإن هذا المبدأ يخدم بشكل أساسي مصالح أولئك الذين يسعون إلى تبرير جديد لاستمرار الوصاية على العالم الإسلامي -مصلحة في الهيمنة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالصراعات في الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع العربي الإسرائيلي. يجب أن يقوم أي منظور مستقبلي على فكرة حوار الحضارات التي تفترض المساواة بين الشركاء -وليس علاقة تفوق وتبعية([10]). ويجب التغلب بشكل دائم على العقائد الأوروبية ذات النزعة المركزية للمستشرقين، وأيديولوجية تفوق الحضارة المسيحية الغربية. وفي هذا -وليس في شيطنة الإسلام- يكمن المعنى الفلسفي الأعمق لـ«التنوير» الأوروبي.

في نظرنا يجب أن يبنى الحوار الصادق على التشابه البنيوي للرسالة التوحيدية بين المسيحية والإسلام. ولن يكون هذا ممكناً إلا مقابل التخلي عن التوجه «التبشيري» الحالي. لا يجب أن يُنظر لوجود الإسلام في أوروبا -ممثلاً ليس فقط من طرف السكان المسلمون في البوسنة، بل وأيضاً من قبل الجاليات المسلمة في البلدان الأوروبية الأخرى- على أنه تهديد، ولكن كفرصة لبناء جسور التفاهم بين الإسلام والغرب. ويجب قبول المجتمع متعدد الثقافات كحقيقة في أوروبا، إذا أردنا وقف العزلة المتزايدة بين الديانتين والمجتمعات الثقافية، داخل قارتنا وخارجها. وفي هذا السياق، يجب على المرء أن يمتنع بشكل نهائي عن الاستخدام الانتقائي والجدالي لمصطلح «الأصولية». فغالباً ما أدى هذا المصطلح إلى تشويه سمعة حركة التجديد الإسلامي والإسلام ككل. يجب استبدال هذا المصطلح بمصطلح أكثر دقة، يصف بشكل مناسب ظاهرة التعصب الديني في جميع الأديان.

سيكون لتطور الصراع للسيادة على فلسطين والقدس تأثير كبير على العلاقات المستقبلية بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا. ففقط إذا تم النظر إلى الموقف الأوروبي على أنه عادل ومتوازن -وليس كمعارض للحقوق الإسلامية الأساسية في القدس، أو على أنه يدعم بشكل أحادي القوة المحتلة في فلسطين- يمكن تعزيز التفاهم بين المسلمين والمسيحيين. ولا يمكن التغلب على انعدام الثقة الناتج عن الوجود الاستعماري السابق لأوروبا في المنطقة، إلا من خلال سياسات عادلة، تحترم حقوق المسلمين في الشرق الأوسط.

في هذا التقييم للآفاق المستقبلية، يجب على المرء ألا يتجاهل «تباين» ثقافي معين -‍انحراف عن الفهم الثقافي الذاتي- والذي يمكن أن يصبح عقبة خطيرة أمام الحوار والتفاهم المتبادل. على عكس التفسيرات، هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن أوروبا العلمانية، ضيعت كثيرا وعيها الديني (المسيحي) -حتى إن البعض قد يقول: بهويتها المسيحية-، بينما يشهد العالم الإسلامي في الوقت نفسه نهضة في هذا الوعي الديني الثقافي (فهم الذات). ويبدو أن كلا المجتمعين ينظر إلى الآخر على أساس إطار تأويلي مختلف، ومن خلال أنظمة قيم مختلفة وافتراضات أنثروبولوجية معينة.

سيكون من الأهمية بمكان ألا يسمح كلا الجانبين، المسيحيين والمسلمين، لأطراف ثالثة بالتأثير على علاقاتهم في أوروبا. يجب أن يكون أي حوار مستقبلي، إذا لم يكن محكوم عليه بالفشل، مباشراً؛ ولا يجب أن تحدده المصالح الجيوسياسية للأطراف الخارجية -مهما كان مصدرها. لا يجب أن يطغى على مستقبل العلاقات المسيحية الإسلامية في أوروبا إحياء روح الحروب الصليبية، بل يجب أن يسترشد بالفهم المتبادل للحقائق اللاهوتية الأساسية والقيم الأخلاقية المشتركة بين الحضارتين، ويمكن أن يكون التشابه الهيكلي للرسالة الدينية لكلا الديانتين بمثابة أساس لفهم اجتماعي وثقافي وسياسي أفضل.

([1]) الندوة الدولية الثانية لحوار الحضارات. «اليابان والإسلام والغرب». (Kuala Lumpur, Malaysia, 2. – 3. September 1996)

نشر النص الأصلي بالإنجليزية من قبل المنظمة العالمية للتقدم بفيينا عام 1996، وأعيد نشره بجريدة IKIM Journal (Malaysia), Bd. 7, Nr. 1, Jänner – Juni 1999, S. 97 – 107. ونشرت المنظمة العالمية للتقدم الصيغة الألمانية للنص عام 2003. وهي الصيغة التي نعتمد عليها في هذه الترجمة.

([2]) The European doctrine "turned Islam into the very epitome of an outsider against which the whole of European civilization from the Middle Ages on was founded." (Edward Said, Orientalism. Nachdruck, New York: Vintage Books, 1979, S. 70.)

([3]) فيما يخص التوحيد، انظر هانس كوكلر.

Hans Köchler (Hrsg.), The Concept of Monotheism in Islam and Christianity. Wien: International Progress Organization/Braumüller, 1982

([4]) انظر:

Muhamad Asad und Hans Zbinden (Hrsg.), Islam und Abendland. Begegnung zweier Welten. Olten/Freiburg i. Br.: Walter-Verlag, 1960, S. 193

([5]) Orientalism depends for its strategy on positional superiority, which puts the Westerner in a whole series of possible relationships with the Orient without ever losing him the relative upper hand." (Orientalism, S. 7.)

([6]) The Concept of Monotheism in Islam and Christianity, S. 133

([7]) „The Clash of Civilisations? “in: Foreign Affairs, Bd. 72, Nr. 3, Sommer 1993, S. 22-46

انظر أيضاً كتاب هنتنغتون:

The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. New York: Simon & Schuster, 1996

صاغ المصطلح في الأصل المستشرق برنارد لويس Bernard Lewis. انظر مقالته:

„The Roots of Muslim Rage, “in: The Atlantic Monthly, Bd. 266, September 1990, S. 60

([8]) انظر بشكل خاص إلى تحليلاته التي يشير فيها إلى الدور الذي لعبته إسرائيل في إيصال المنظور الغربي للعالم الإسلامي منذ الحرب العالمية الثانية.

("the role of Israel in mediating Western ... views of the Islamic world since World War II"): Covering Islam. How the Media and the Experts Determine How We See the Rest of the World. London / Henley: Routledge & Kegan Paul, 1981, S. 31

([9]) "... there is a consensus on 'Islam' as a kind of scapegoat for everything we do not happen to like about the world's new political, social, and economic patterns." (Covering Islam, S. XV.)

([10]) انظر هانس كوكلر وغودرون غرابهير.

Hans Köchler und Gudrun Grabher (Hrsg.), Civilizations – Conflict or Dialogue? Studies in International Relations, XXIV. Wien: International Progress Organization, 1999