العلاقة بين الدين والدولة: من السياق الغربي إلى السياق العربي
فئة : مقالات
العلاقة بين الدين والدولة: من السياق الغربي إلى السياق العربي
عند الحديث عن العلاقة بين الدين والدولة في السياق العربي الإسلاماتي، ثمة مفارقتان ينبغي أخذهما في الحسبان. من ناحيةٍ أولى، يبقى شبح السياق «الغربي» حاضراً، حضوراً صريحاً أو ضمنيّاً، ولدرجةٍ أو لأخرى، على الرغم من تناول المسألة في السياق العربي. والمسافة (الفكرية) بين السياق العربي والسياق الغربي هي نقطة صغيرة فقط. وهذا هو السبب الذي جعلني أعنون كلمتي، مؤخراً، في إحدى الندوات، بـ «العلاقة بين الدين والدولة: من السياق الغربي إلى السياق العربي»، على الرغم من أنَّ العنوان والموضوع المقترح، كان «الدين والدولة في السياق العربي». ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يبدو أنَّ لهذا الموضوع أهميةً استثنائيةً أو خاصةً، في السياق العربي الإسلاماتي، يندر وجود ما يماثلها في بقية مناطق العالم وثقافاته عموماً، وفي العالم الغربي الأوروبي خصوصاً. وثمة جهودٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ تحاول نقد أو انتقاد هذه الأهمية وتلك الاستثنائية، وترى فيهما مبالغةً وإفراطاً غير مستحسنين ولا محمودي العواقب في التركيز على هذا الموضوع في السياق العربي الإسلاماتي؛ لأن الإفراط في تسليط الضوء على هذا الموضوع يحجب الضوء عن مواضيع أكثر أهميةً وأولويةً، كالديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان والحريات الأساسية والعدالة الاجتماعية... إلخ. والمفارقة تكمن، تحديداً، في بذل الكثير من الوقت والجهد والانتباه والتفكير، للقول بضرورة عدم بذل الكثير من الوقت والجهد والانتباه والتفكير، في هذا الخصوص. وإضافة إلى المفارقتين المذكورتين، ينبغي عدم الانزلاق إلى تناولٍ للموضوع تهيمن فيه الأيديولوجيا على حساب المعرفة، والتقييم أو التقويم على حساب الوصف والتحليل، بل ينبغي لأي رؤيةٍ معياريةٍ أن تتأسس معرفيّاً، وتتسلح بأدوات المعرفة الوصفية والتحليلية، لتغتني بها، وتغنيها، في الوقت نفسه.
انطلاقاً مما سبق، سأبدأ بتناول العلاقة بين الدين والدولة (الحديثة)، في السياق الغربي، تمهيداً لتناول تلك العلاقة في السياق العربي.
1) الدين والدولة (الحديثة) في السياق الغربي
يمكن النظر إلى صلح ويستفاليا (عام 1648م) على أنه حجر الأساس في نشوء (مفهوم) الدولة الحديثة. وارتبط ذلك الصلح، وهذا النشوء، بمسائل رئيسةٍ ذات صلةٍ بالعلاقة بين الدين والدولة.
فمن ناحيةٍ أولى، أصبح هناك اعترافٌ وقبولٌ رسميٌّ، أوليٌّ ومبدئيٌّ، بالتعددية الدينية. فبعد أن كانت الكاثوليكية هي الصيغة الوحيدة المقبولة للمسيحية في أوروبا، قبل صلح أوغسبورغ (عام 1555م)، ومن ثم أصبحت (البروتستانتية) اللوثرية مقبولةٍ، جزئيّاً ونسبيّاً، بعد ذلك الصلح، جاء صلح ويستفاليا ليعمِّق هذه المقبولية وليجعلها تشمل (البروتستانتية) الكالفينية أيضاً. وإيجاد أساسٍ مشترك بين أبناء البلد الواحد، يتجاوز الاختلافات الدينية، هو أحد أهم أسس (مفهوم) المواطنة بالمعنى الحديث للكلمة. وبهذا المعنى كانت وتكون الدولة الحديثة دولةً قوميةً/ وطنيةً، فثمة انتماء قوميٌّ/ وطنيٌّ يتجاوز الانتماء الأخرى بدون أن يتضمن بالضرورة إقصاءً لها أو موقفاً عدائيّاً تجاهها.
من ناحيةٍ ثانيةٍ، يحيل صلح ويستفاليا ونشوء الدولة الحديثة على لحظة علمانيةٍ تأسيسيةٍ أو لحظةٍ تأسيسيةٍ للعلمانية، في سيرورة فصل الدولة عن الكنيسة. فقد تضمن الصلح إقراراً بالسيادة المطلقة للدولة على إقليمها ومواطنيها، وهي سيادةٌ لم تعد موضع منازعة مع الكنيسة (الكاثوليكية)، كما كان الحال قبل ذلك. وينبغي الإشارة هنا إلى أن فصل الدولة عن الكنيسة، أو العكس، لم يكن يعني، حينها، فصلاً للدين عن الدولة. على العكس من ذلك تماماً، ففصل الدولة عن الكنيسة عنى حينها أن الدولة، وليس الكنيسة، هي صاحبة الحق في التدخل في شؤون مواطنيها وأمورهم الدينية. والدولة حينها كانت ممثلةً برأسها، الملك أو الأمير أو ما شابه. والناس، حينها كانوا على دين ملوكهم الذين، بوصفهم وحدهم أصحاب السيادة، لهم حق تقرير مصير رعاياهم واعتقاداتهم وشؤونهم الدينية.
التطورات التاريخية اللاحقة، في الغرب الأوروبي، أفضت إلى زيادةٍ تدريجيةٍ في قبول التعددية والاختلافات الدينية، وتجسَّد ذلك القبول، بدايةً، في مفهوم/ سياسة التسامح الجزئي، فالكلي أو شبه الكلي، ثم تحوَّل ذلك القبول إلى تقبُّلٍ، وبلغ ذروته، في العقود الأخيرة، مع سياسة/ مفهوم الاعتراف. ومرة أخرى، ينبغي ألا نسقط الحاضر على الماضي، ونهمل حقيقة أن التسامح كان، في المراحل الأولى من نشأة الدولة الحديثة تسامحاً جزئيّاً ومشروطاً بشروطٍ تعجيزيةٍ، في أحيانٍ كثيرةٍ، حتى في فترة ما بعد صلح ويستفاليا. وقد يكون كافياً، في هذا السياق، التذكير أنَّ جون لوك أحد أبرز آباء مفهوم التسامح الحديث كان يشدد على معقولية، بل وضرورة، عدم التسامح مع الكاثوليك ومع الملحدين؛ فكلاهما لا يمكن الوثوق بهما، من جهة نظره، فالملحدون بلا أخلاقٍ موثوقةٍ، لمجرد كونهم ملحدين، والكاثوليك لا يمكن الوثوق بهم؛ لأنه لديهم ولاء لسلطة دينية/ سياسية خارج الدولة (إنكلترا).
إنَّ ارتباط حداثة الدولة الحديثة بالعلمنة ارتباطٌ جزئيٌّ، كما أشرنا آنفاً؛ والقول بوجود ذلك الارتباط لا يعني (إعادة) التبني الكامل للأطروحات الثلاث للنظرية أو النظريات التقليدية للعلمنة والمتمثلة في 1)، أفول الدين أو المعتقدات والممارسات الدينية، 2)، خصخصة الدين وغيابه أو تغييبه عن المجال العام 3)، التمايز بين المجالين، الديني وغير الديني (العلماني). فقد تم تفصيل نظرية/ نظريات العلمنة التقليدية على المقاس الأوروبي، والنظر إلى كل مقاسٍ مختلفٍ على أنه استثناءٌ، كما هو الحال مع الاستثناء الأمريكي، أو شذوذٌ، كما هو الحال مع الوضع العربي/ الإسلاماتي عموماً. وبلغت المركزية الأوروبية التي تتأسس عليها نظرية/ نظريات العلمنة الأوروبية ذروتها، حين تحوَّلت إلى ما يشبه سرير بروتوس، حيث صار هناك حديثٌ وصفيٌّ/ معياريٌّ عن ضرورة حصول تغييرٍ في ثقافةٍ ما، لكي تناسب (مقاس) الثقافة الأوروبية وعلمنتها، بوصف ذلك التغيير السبيل الوحيد للحداثة والتحديث. لكن، في العقود الخمسة الأخيرة، حصلت تغيراتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، في هذا الخصوص، فظهرت أطروحاتٌ تقول بوجود حداثاتٍ متعددةٍ وعلمانياتٍ متعددةٍ، وتعرضت نظرية/ نظريات العلمنة التقليدية إلى هزاتٍ نقديةٍ وانتقاديةٍ شديدةٍ، وذهب بعض الباحثين من قطب الحديث عن «النموذج الأوروبي/ الغربي» إلى قطب الحديث عن «الاستثناء الغربي/ الأوروبي». وهكذا تحول الأنموذج المهيمن إلى مجرد استثناءٍ أو حالةٍ خاصةٍ ينبغي عدم اتخاذها معياراً أساسيّاً، فضلاً عن أن يكون وحيداً، لفهم بقية الحالات والحكم عليها أو محاكمتها.
(الإفراط في) استحضار العلاقة بين الدين والدولة، في السياق الغربي، عند الحديث عن تلك العلاقة في السياق العربي، يتضمن، غالباً على الأقل، إقراراً بوجود اعتقادٍ مهيمنٍ بالمركزية الأوروبية/ الغربية، في هذا الخصوص. وتتراوح النظرة إلى تلك المركزية بين كونها أنموذجاً يحتذى ويقتدى به، أو أنموذجاً لما ينبغي الحذر منه وتجنب السير على غراره، أو في طريقه، قدر المستطاع. بعيداً عن القطبين المذكورين، يمكن لاستحضار العلاقة، أو بالأحرى العلاقات، بين الدين والدولة في السياق الغربي، عند الحديث عن تلك العلاقة في السياق العربي، أن يساعد على فهم تلك العلاقة من منظور مقارن، من دون التأسس على أحكامٍ معيارية، تمجيديةٍ أو تنديديةٍ، صريحةٍ أو ضمنيةٍ. على هذا الأساس، يمكن المحاججة بأن ذلك الاستحضار ليس سلبيّاً بالضرورة، وبأنه يمكن أن يكون إيجابيّاً ومفيداً وضروريّاً أيضاً. وتلك الإمكانية الأخيرة هي أحد أسباب استحضاري للعلاقة بين الدين بالدولة في السياق الغربي عندما طُلب مني التحدث عن تلك العلاقة السياق العربي، وسأبين، في ما يلين من خلال بعض المقارنات، الضمنية أو الصريحة، بين السياقين، معقولية ذلك الاستحضار، وقابلية الإمكانية المذكورة للتحقق.
2) الدين والدولة (الحديثة) في السياق العربي
في السياق العربي عموماً، وفي المشرق العربي خصوصاً، ارتبط نشوء «الدولة الحديثة» بتضعضع الإمبراطورية/ الخلافة العثمانية و/ أو بتبلور نزعاتٍ وطنيةٍ أو قوميةٍ لا تتأسس، بالدرجة الأولى، على الانتماء الديني. ونجد ذلك واضحاً في كتابات بطرس البستاني، في نفير سوريا، مثلاً وخصوصاً. ومثل سقوط الخلافة العثمانية لحظةً مهمةً، وربما مفصليةً، كما ترافق مع، أو أفضى إلى، العديد من المسائل المهمة في خصوص مسألة العلاقة بين الدين والدولة.
فمن ناحيةٍ أولى، ترافق انحسار الخلافة العلمانية، وسقوطها، مع هيمنة الاستعمار الأوروبي على هذه الدول الناشئة، وكان لذلك الاستعمار دورٌ كبيرٌ، ليس في رسم حدود تلك الدول الوليدة، فحسب، بل في بناء أو قيام مؤسساتها ونظامها السياسي والاقتصادي والتربوي إلخ، أيضاً. فافتقدت عددٌ من تلك الدول الأساس الأيديولوجي التأسيسي، كما افتقرت، لاحقاً، بعد الاستقلال، لدرجةٍ أو لأخرى، إلى سياساتٍ وطنيةٍ تستهدف الصالح العام وتوحيد المواطنين في مواطنةٍ تستوعب وتتجاوز سياسيّاً الانتماءات فوق الوطنية، والانتماءات تحت الوطنية، في الوقت ذاته. كل ذلك، وغيره، يمكن أن يساعد على تفسير عدم تحوُّل الدولة العربية الحديثة، عموماً، أو في حالات ليست قليلةً، إلى دولة أمة، كما حصل في السياق الغربي، أو بقاء تلك الدولة الأمة بالغة الهشاشة وفي حالة صراعٍ، صريحٍ أو ضمنيٍّ، مع الانتماءات فوق/ تحت الوطنية، وكونها قابلةً للانحلال سريعاً، أو لصعود أو هيمنة الانتماءات المضادة للانتماء الوطني، في المجال السياسي. ويمكن للانتماء الديني، بصيغه المختلفة (الإسلامي مقابل المسيحي أو اليهودي، الانتماءات المذهبية والطائفية المختلفة... إلخ)، أن يكون أحد أهم أشكال تلك الانتماءات المضادة للانتماءات السياسية الوطنية. والغياب، الجزئي أو الكلي، للسمة الوطنية في سياسات بعض الدول والأنظمة السياسية التي تحكمها مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً، وربما عضويّاً، بلاديمقراطية تلك الأنظمة أو استبداديتها. وفي ظل غياب الديمقراطية، وغياب المساواة السياسية والحقوقية، في المجال السياسي، يصعب حضور قيم التسامح والاعتراف عموماً، وفي الميدان السياسي خصوصاً.
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، وبالموازاة مع سقوط الخلافة العثمانية، برمزيتها الدينية الكبيرة، وتشكل الدول العربية الحديثة، في ظل هيمنة الاستعمار الغربي، بوصفه مسيحيّاً و/ أو علمانيّاً، ونتيجةً لذلك، ظهر تيار الإسلام الحركي أو السياسي، كما حصل، لأول مرةٍ، انخراط عددٍ كبيرٍ من الناس («العاديين») في السياسة والشأن (الوطني) العام. ومنذ ذلك الحين، تراوح واقع ذلك «الإسلام السياسي/ الحركي» بين النشاط السياسي الوطني، من أجل التحرر من الاستعمار والاستبداد، والنشاط الجهادي الذي يود الهيمنة على الدولة والمجتمع، وفرض رؤيته عليهما، وقمع كل معارضةٍ له أو اختلافٍ عنه. وفي ظل التصحر السياسي، أو غياب أو تغييب النقاش النشاط السياسي الحر، في المجال العام، بدا، في أحيانٍ ليست قليلةً، أن «الإسلام السياسي/ الحركي» هو البديل الوحيد الفعلي للأنظمة الاستبدادية القائمة أو الممكنة. وتبنى كثيرون نظرةً جوهرانيةً سلبيةً للإسلام (السياسي) من حيث إنه، بوصفه نصّاً وتاريخاً، يتضمن، بالضرورة، «نُسغاً عنفيّاً»، وإنه يتناقض بالضرورة مع أسس أو قيم الديمقراطية والعلمانية والمنظومة العالمية المعاصرة لحقوق الإنسان. ووفقاً لتلك النظرة الثقافوية، تبنى كثيرون أطروحة أنَّ «الإسلام (السياسي) هو المشكلة» و«العلمانية هي الحل»، في عملية قلبٍ أو عكسٍ لشعار «الإسلام هو الحل».
في مقابل تلك النظرة الثقافوية الجوهرانية، يمكن المحاججة، مع كثيرين، بضرورة تبني رؤيةٍ تاريخيةٍ أو تاريخانيةٍ، لإظهار أنَّ تاريخ العالم الإسلامي يحفل بالكثير من القواسم المشتركة مع تواريخ العوالم أو الثقافات الأخرى، وأن صيرورته تحتوي الكثير من التغيرات والتحولات المهمة. ويبدو ذلك واضحاً «حتى» في مسألة العلاقة بين الدين والدولة، بل ربما أمكن القول إنَّ الصلة بين الدين والدولة، في تاريخ العالم الإسلامي، أقل قوةً من تلك الصلة في بعض العوالم والثقافات الأخرى، بما في ذلك العالم أو الثقافة الغربية. فعلى العكس من المسيحية (الكاثوليكية) ليس هناك في تاريخ الإسلام مؤسسةً دينيةً مماثلةً للكنيسة التي كانت في عهودٍ مضت أشبه بالدولة ضمن، أو إلى جانب، دولةٍ أخرى، وبالتالي ليست هناك ضرورةٌ للحديث عن العلمانية بهذا المعنى في العالم الإسلامي. ويمكن للنظرة التاريخية/ التاريخانية أن تبيِّن أنَّ التاريخ العربي الإسلاماتي كان يتضمن، دائماً تقريباً، فصلاً، جزئيّاً ونسبيّاً، على الأقل، بين رجال السياسة أو السلطة السياسية ورجال الدين أو السلطة الدينية، وأنَّ الطرف الثاني كان، دائماً تقريباً، خاضعاً للأول أو محكوماً بقوته، أو غير قادرٍ على مجابهته غالباً.
ولعل التمييز، الجزئي والنسبي، بين المنظورين السني والشيعي، ضروريٌّ ومفيدٌ، في هذا السياق. فمن منظور ولاية الفقيه الشيعية، تكون هناك مماهاةٌ بين رجل الدين ورجل السياسة، ويتم التحدث عن سلطةٍ دينيةٍ أو توكيلٍ دينيٍّ/ إلهيٍّ لرجل السياسة/ الدين. لكن الحالة الشيعية المتمثلة في ولاية الفقيه (الدولة الدينية)، هي استثناءٌ ليس له حضورٌ كبيرٌ في التاريخ العربي الإسلاماتي. وفي السياق العربي و/ أو المعاصر، تبدو هذه الاستثنائية موضع شكٍّ وتهديدٍ وجوديٍّ متزايدٍ، منذ «نجاح الثورة الإيرانية» ووصول «ولي الفقيه» إلى السلطة السياسية في إيران، خصوصاً. فقد كان ذلك النجاح أو النموذج أحد العوامل التي أفضت إلى وجود توجهٍ، ضمنيٍّ أو صريحٍ، متزايدٍ، لدى متبني الإسلام السني الحركي السياسي أو الجهادي، لقيام «دولة رجال الدين»، أي دولةٍ يهيمن رجال الدين فيها وعليها. وقد ظهر ذلك، ظهوراً واضحاً ونموذجيّاً، في دولة رجال الدين الطالبانية في أفغانستان، مثلاً وخصوصاً.
«العالم السني»، عموماً، يرفض تبني مصطلح الدولة الدينية، من خلال رفض أطروحة وجوب أن يتقلَّد رجال الدين مقاليد السلطة السياسية، ورفض القول بوجود تكليفٍ إلهيٍّ خاصٍّ برجال الدين بما يجعلهم معصومين. ولهذا السبب، نجد أن (بعض) متبني الإسلام السياسي/ الحركي يطالبون بدولةٍ إسلاميةٍ، ويرفضون، في الوقت نفسه، أن تكون تلك الدولة دولةً دينيةً. ويمكن لهذا التمييز، بين الإسلام، أو ما هو إسلاميٌّ، والدين، أو ما هو دينيٌّ، أن يفتح الطريق، ويفسح المجال، لتجاوز الصراع الأيديولوجي بين القائلين بالدولة (الإسلامية/ الدينية) المستحيلة؛ لأن المدني يمكن أن يكون، من جهةٍ أولى، إسلاميّاً وعلمانيّاً، في الوقت نفسه، ومن جهةٍ ثانيةٍ، لا دينيّاً ولا علمانيّاً، في الوقت نفسه. ويمكن لتجاوز التقابل بين الديني والعلماني أن يسمح بتجنب الإفراط في التركيز على مسألة العلاقة بين الدين والدولة في السياق العربي، على حساب التركيز على مسائل يمكن المحاججة بانها أكثر أهميةً وإلحاحاً، كمسائل الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية والتربية والاقتصاد... إلخ. فالقول بدينية أو إسلامية أو علمانية الدولة أو أي أيديولوجيا لا يفضي إلى معرفة مدى انسجام تلك الدولة أو الأيديولوجيات مع مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقيم المواطنة التعددية والاختلاف واحترام الحريات. ولا يكفي، في هذا الخصوص، القول بأولوية الديمقراطية، بل ينبغي مناقشة التوتر، الفعلي أو الممكن دائماً، بين الديمقراطية والليبرالية، وبحث مدى إمكانية موازنة الديمقراطية بين الليبرالية والجماعاتية، عموماً أو من حيث المبدأ، أو في السياقات العربية، خصوصاً.
في سياقٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ يحفظ الحقوق والحريات الفردية، ويؤسس للحقوق الجماعاتية عليها، وليس العكس، يمكن لنظرة الدولة وسلطاتها للدين أن تلعب دوراً مهمّاً، وربما حاسماً، لا في علاقة الدولة بالدين فحسب، بل في مدى ديمقراطية الدولة واحترامها للحريات والحقوق الفردية والجماعاتية أيضاً. فهذه النظرة قد تكون سلبيةً، من حيث إنها ترى في الدين خطراً على الدولة والمجتمع والمجال العام، وبالتالي، ينبغي حماية المجالات المذكورة منه، وحصره في المجال الفردي والخاص. في المقابل، يمكن لهذه النظرة أن تكون إيجابيةً وترى في الدين أحد المصادر الأخلاقية، الأساسية والإيجابية، للفرد والمجتمع والمجال العام عموماً. ومن زاويةٍ نظرٍ أخرى، يمكن إبراز إمكانية أن يمارس الدين دوراً إيجابيّاً، بقدر حضوره بوصفه قيماً إنسانيةً وأخلاقيةً عامةً؛ في حين أن هذا الدور يمكن أن يكون سلبيّاً، بقدر حضوره بوصفه معايير تتضمن قسراً وإرغاماً ورؤيةً أحاديةً ملزمةً للجميع. بين هذين الاحتمالين القطبيين، تنوس العلاقة بين الدين والدولة، لا في السياق العربي فحسب، بل في العالم بأسره عموماً، أيضاً.