العلاقة بين الفلسفة والدين، بين الديمقراطية والإسلام في ضرورة التحليل المفاهيمي والنقدي

فئة :  مقالات

العلاقة بين الفلسفة والدين، بين الديمقراطية والإسلام في ضرورة التحليل المفاهيمي والنقدي

العلاقة بين الفلسفة والدين، بين الديمقراطية والإسلام

في ضرورة التحليل المفاهيمي والنقدي

من الناحيتين المنطقية والتاريخية، يبدو «طبيعيّاً» هيمنة التوتر على العلاقة بين الفلسفة والدين. فمن الناحية المنطقية، يبدو أنَّ الطرفين يشغلان الحقل المعرفي- الروحي ذاته، حيث إنهما يتناولان، في كثيرٍ من الأحيان، الأسئلة ذاتها، لكنهما يتعاملان معها تعاملاً مختلفاً. ففي حين أنَّ الفلسفة تحوِّل هذه الأسئلة إلى تساؤلات مفتوحة تغني الفكر، وتثير التفكير، وتصبح نقطة انطلاقٍ لأسئلةٍ جديدةٍ وإجاباتٍ مختلفةٍ، يميل الدين إلى القضاء على هذه الأسئلة وإغلاق آفاقها الممكنة، من خلال تقديم إجاباتٍ يقينيةٍ ونهائيةٍ عنها. ومن الناحية التاريخية، اتسمت العلاقة بين الفلسفة والدين بالسمة الصدامية غالباً؛ وبدا ذلك واضحاً، وضوحاً خاصّاً وكبيراً، في العصور الوسطى، «الإسلامية» و«المسيحية»، على حدٍّ سواءٍ، حيث كان حضور الدين طاغياً ومهيمناً. وفي مناظرته مع رينان، جمع الأفغاني بين الرؤيتين المنطقية والتاريخية، حين أشار إلى أن «الصراع بين الدين والفلسفة سيستمر استمرار التاريخ الإنساني» نفسه.

وعلى الرغم من اشتراك العالمين «الإسلامي» و«المسيحي»، في العصور الوسطى، بتلك الهيمنة الدينية، إلا أن ذلك لا ينفي وجود اختلافاتٍ مهمةٍ، فيهما وبينهما، في خصوص العلاقة بين الفلسفة والدين. وأحد الاختلافات الأساسية، في هذا المجال، تكمن في أن توما الأكويني، بوصفه (أحد) أبرز الفلاسفة المسيحيين، حاول آنذاك شرعنة الدين، أو إظهار معقوليته، من خلال اللجوء إلى الفلسفة؛ أي من خلال البرهنة العقلية على أحقية وجود الدين ومعقولية أطروحاته الأساسية. في المقابل، حاول ابن رشد، وهو (أحد) أبرز الفلاسفة المسلمين، أن يبيِّن أن الدين يسمح بالتفلسف ويحضُّ عليه؛ وعلى هذا أساس هذا التسويغ الديني، حاول ابن رشد إظهار مشروعية الفلسفة. وباختصارٍ، أعطى توما الأكويني للفلسفة سلطة تحديد أو إثبات مشروعية الدين ومعقوليته نظريّاً، في حين أن ابن رشد قد رأى أنَّ الفلسفة هي من تحتاج إلى التسويغ الديني، لا العكس، وأنَّ الدين هو الذي يمنح الفلسفة مشروعية الوجود، ويبين مدى فائدة هذا الوجود وضرورته، لا العكس.

وعلى الرغم من أنَّ العلاقة بين الفلسفة والدين، تختلف جذريّاً، في العالم المعاصر، عما كانت عليه في العصور الوسطى، إلا أنه من الممكن أن نجد، في هذا العالم، صيغاً جديدةً ومماثلةً أو مشابهةً للاختلاف السابق بين ابن رشد وتوما الأكويني. ولتوضيح الصيغة المعاصرة من هذا الاختلافــــ، سأحاول في هذا النص أن أجيب عن السؤال التالي: ما الذي يمكن و/ أو ينبغي للفلسفة أن تفعله، عند تناولها للدين أو الظاهرة الدينية؟ الإجابة باختصار هي أن مهمة الفلسفة تتجسد، خصوصاً أو تحديداً، في التحليل المفاهيمي والنقد على الطريقة الكانطية. وسأشرح في ما يلي هذه المهمة المزدوجة.

إضافةً إلى المواجهة المباشرة المستمرة بين الفلسفة والدين، ثمة صيغٌ معاصرةٌ، غير مباشرةٍ، للمواجهة بينهما، وتكمن، خصوصاً أو تحديداً، في المواجهة بين العلم والدين، على الصعيد المعرفي، وبين الديمقراطية (العلمانية) والدين أو الإسلام (السياسي أو الجهادي)، على الصعيد السياسي والثقافي عموماً. وهذه المواجهة بين الدين، من جهةٍ، والعلم والديمقراطية، من جهةٍ أخرى، هي مواجهةٌ غير مباشرةٍ مع الفلسفة؛ لأن العلم هو ابن الفلسفة تاريخيّاً، ولأن مواجهة الدين مع العلم هي، في الواقع، مواجهةٌ مع فلسفة العلم تحديداً. في المقابل، ترتبط الديمقراطية (العلمانية) بالفلسفة، من خلال الارتباط الوثيق بين القيم الديمقراطية، من جهةٍ، وقيم الفلسفات العقلانية التنويرية والليبرالية ونضال الفئات المضادة للسلطة الدينية من أجل العلمانية، والتخلص من هيمنة هذه السلطات، والمساواة الأخلاقية والقانونية بين الأفراد/ المواطنين، من جهةٍ أخرى.

في المواجهة بين العلم والدين، يمكن للتحليل المفاهيمي وممارسة النقد الفلسفي، على الطريقة الكانطية، أن يسمحا لنا بتجاوز، ليس الإمبرياليتين العلمية والدينية، على الصعيد المعرفي، فحسب، بل والإمبريالية الفلسفية أيضاً. وأقصد بالإمبريالية، في هذا السياق، نزعة الهيمنة الشاملة التي ترفض الاختلاف الأفقي، ولا ترى إلا تراتبيةً عموديةً، يحتل فيها صاحب هذه النزعة أعلى المراتب، فيما تأتي الأطراف الأخرى في الأسفل، بالمعنى المعياري للكلمة. فالإمبريالية العلمية تتمثل في علمويةٍ ترى أن العلم هو وحده القادر على الوصول إلى الحقيقة (و)الموضوعية في ميدان المعرفة؛ وكل ما عداه من المعارف، بما فيها المعارف الدينية والفلسفية، لا قيمةً (كبيرةً) له موضوعيّاً. وتتبنى الإمبريالية الدينية منطقاً مشابهاً، لكنها تضع الدين في المرتبة الأعلى بالتأكيد، وترى أنَّ قيمة المعارف الأخرى تعتمد على مدى تطابقها مع المعرفة الدينية وخدمتها لها؛ وكل معرفةٍ تتناقض مع المعرفة الدينية معرفةٌ زائفةٌ بالتأكيد. وإضافة إلى التحليل الفلسفي للمفاهيم الأساسية المؤسسة لكل طرفٍ عموماً، ولعلاقتهما بالميدان المعرفي خصوصاً، يمكن للفلسفة أن تقوم بتحديد المشروعية، الجزئية والنسبية التي يتمتع بها كل طرف في المجال المعرفي، وحدود هذه المشروعية، في الوقت نفسه. وفي هذا التحديد للمشروعية وحدودها، يمكن للنقد أن يتخذ نمطاً كانطيّاً.

وإضافةً إلى نقد الإمبرياليتين السابقتين، يمكن وينبغي للفلسفة أن تمارس نقداً ذاتيّاً تجاه إمبرياليتها الخاصة التي تتمثَّل في «نزعةً فلسفويةً» ترى أن الفلسفة ليست رأس الحكمة وقمة المعارف، من حيث المكانة، فحسب، بل هي أيضاً منبع الخير (وأساس الجمال)، في استعادةٍ، جزئيةٍ أو كاملةٍ، ضمنيةٍ أو صريحةٍ، للمماهاة السقراطية/ الأفلاطونية بين الحقيقة والخير. ووفقاً لهذه النزعة، لا يكون الخير و/ أو الحقيقة إلا من حيث كونهما مرتبطين بالفلسفة، ولا تكون الفلسفة إلا من حيث كونها حقيقيةً وحقةً و/ أو خيرةً وأخلاقيةً. من الواضح سلبية هذه النزعات الإمبريالية، وضرورة الحد من حضورها وتأثيرها، من خلال موقفٍ مزدوجٍ، يقرُّ بمشروعية كل ميدانٍ أو مجالٍ، من جهةٍ، ويعترف بوجود حدودٍ لهذه المشروعية، من جهةٍ أخرى.

في خصوص العلاقة بين الديمقراطية (العلمانية) أو العلمانية (الديمقراطية) والإسلام، نرى أنَّ التحليل المفاهيمي النقدي هو أهم ما يمكن أن تقوم به الفلسفة. وسأقوم، في ما يلي، بالإشارة المكثفة إلى بعض الإشكالات الأساسية التي ينبغي لمثل هذا التحليل أن يثيرها ويتعامل معها. وبقيامي بذلك، أود أن أعطي أنموذجاً عمليّاً للعلاقة، المباشرة وغير المباشرة، بين الفلسفة والدين (الإسلام).

قبل الإجابة عن السؤال المتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية (العلمانية) أو العلمانية (الديمقراطية) والإسلام، ينبغي أن نعلم ما المقصود تحديداً بالمفاهيم التي يتضمنها هذا السؤال. ففي خصوص مفهوم الإسلام، هل نقصد، بهذا المفهوم، الإسلام بوصفه ديناً، أم الإسلام بوصفه تديناً. وبكلماتٍ أخرى، عند الحديث عن الإسلام، هل نقصد الإسلام النصي (إسلام القرآن والأحاديث) أو الإسلام الأول (إسلام الرسول) أم الإسلام التاريخي (الإسلام كما تجلَّى في ممارسات المسلمين عبر التاريخ). قد يُظنُّ أنَّ مثل هذه التمييزات لا تضيف إلا تعقيداتٍ، لا فائدةً (كبيرةً) تُرجى منها. للرد على مثل هذا الظن المحتمل، نطرح السؤال التالي «هل يُبيح الإسلام العبودية؟». لقد كان المسلمون يبيحون العبودية، نظريّاً وعمليّاً، حتى النصف الثاني من القرن العشرين؛ لكن، في الوقت الحالي، معظمهم، على الأقل، لا يبيحها. ومن هنا نقول، في ردنا على السؤال السابق: من جهةٍ أولى، إنَّ الإسلام النصي أو الإسلام الأول (كان) يبيح العبودية، ومن جهةٍ ثانيةٍ، إن الإسلام التاريخي، بوصفه إسلام المسلمين المعاصر، لا يبيح العبودية حاليّاً، على الرغم من إباحته لها سابقاً، وإلى فترةٍ قريبةٍ، نسبيّاً.

من دون إقامة مثل هذا التمييز المفاهيمي، لا يمكن الإجابة (بدقةٍ) عن السؤال المذكور، وستفتقر محاولات الإجابة إلى أداةٍ مفاهيميةٍ لا غنىً عنها. وانطلاقاً من مفهوم «الإسلام التاريخي»، يمكننا تأكيد المحايثة الدائمة للهيرمينوطيقية أو التأويلية لكامل الحقل الديني (الإسلامي). فالإسلام إسلاماتٌ دائماً. ومحاولة اختزاله إلى إسلامٍ واحدٍ، أو منظورٍ أحاديٍّ، يعبِّر عن جهلٍ معرفيٍّ، و/ أو سوء نيةٍ أخلاقيةٍ، و/ أو انحيازٍ أيديولوجيٍّ غير موضوعيٍّ، أو عن كل ذلك، في الوقت نفسه. ويفيد مفهوم «الإسلام التاريخي» في تجنب الوقوع في أي نزعةٍ ماهويةٍ أو ثقافويةٍ ترى أن للإسلام، بوصفه ديناً أو ثقافةً، ماهيةً واحدةً ثابتةً أو جامدةً تجعله يقبل أو لا يقبل، بالضرورة، الديمقراطية. فتاريخية الظاهرة تنفي سكون ماهيتها، وأحادية هذه الماهية، ولا-جدليتها، في الوقت نفسه.

وتبرز أو تتأكد ضرورة التحليل والتحديد الفلسفي للمفاهيم من مسألتين. تكمن المسألة الأولى في كون هذه المفاهيم تجمع بين الوصف والتقييم، في آنٍ واحدٍ، وتنتمي إلى ما يسمى في الفلسفة بــ «المفاهيم المعيارية الكثيفة thick normative concepts». ومن هنا ضرورة التمييز بين البعدين التقييمي والوصفي، وتنوع حضورهما وتباينه، لدى مستخدمي هذه المفاهيم، وتأثير ذلك في عمليات وحالات (سوء) التواصل، و(سوء أو عدم) الفهم، و(عدم) الاتفاق بينهم. وتتعلق السمة الثانية بكون السمة الهرمينوطيقية ليست محايثةً لمفهوم الإسلام، فحسب، بل هي حاضرةٌ، أيضاً، حضوراً كبيراً وواضحاً، في كل المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية والعلمانية والحداثة السياسية. ولا يمكن لأي نقاشٍ، أن يستحق هذا الاسم فعلاً، وأن يكون مجدياً وبناءً، بدون تحديدٍ مبدئيٍّ، ليس للمعاني الأولية المختلفة لهذه المفاهيم وغيرها، فحسب، بل وللعلاقات القائمة أو الممكنة بينها، أيضاً.

ففي خصوص مفهوم العلمانية، ينبغي أن نعلم ما المقصود تحديداً بهذا المفهوم، وما المقابل له في اللغات الأجنبية (الإنجليزية خصوصاً). لقد تجاوز الفكر العربي، منذ وقتٍ طويلٍ، الخلافات المتعلقة بكسر عين العلمانية أو فتحها. وحصل اتفاقٌ، (شبه) كامل، على أن الاشتقاق يتعلق بالعالَم، وليس بالعِلْم، وأنه يرتبط بما هو دنيويٌّ، أو دهريٌّ، أو أرضيٌّ، وما شابه. وعلى هذا الأساس، تنحَّت الأسئلة المتعلقة بالمبنى، لتفسح مجالاً أكبر للأسئلة المتعلقة بالمعنى. ومن الأسئلة الأساسية المطروحة، في هذا الخصوص: هل المقصود هو المفهوم الأيديولوجي «secularism»، أم المفهوم التحليلي «secularity»؟ وهل يتم التمييز، في الفكر والنقاش المتعلق «العلمانية»، بين هذين المفهومين، أم إن ثمة دمجاً مؤسفاً بينهما، (كما هو الحال، في معظم الكتابات والنقاشات العربية، في هذا الخصوص)؟ وما التعريف المُتبنى، في كل استخدامٍ؟ وكيف نفهم علاقة كلٍّ منهما مع العلمنة/ التعلمن «secularization»؟

ثمة إجماعٌ على أنَّ العلمانية تتضمن تمايزاً/ فصلاً بين طرفين أو أكثر، لكن هناك اختلاف كبير ومهمٌّ، في هذا الخصوص. فهل المقصود هنا هو فصل الدين أم الكنيسة عن الدولة أم عن السياسة أم عن السيادة؟ فعلى سبيل المثال، إذا كان المقصود هو «فصل الكنيسة عن الدولة أو السياسة»، يمكن المحاجة، كما فعل بعض المفكرين، بأن لا كنيسة في الإسلام، وبالتالي بأن لا معنىً (إيجابيّاً) للحديث عن العلمانية في المجتمعات و/ أو الدول ذات الغالبية المسلمة. وانطلاقاً من هذه المحاجة، رأى الجابري، على سبيل المثال، وجوب استبعاد شعار «العلمانية» من قاموس الفكر القومي العربي الحديث، وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية. ومن المهم الإشارة، في هذا الخصوص، إلى أنَّ العلمانية التي قال الجابري بضرورة استبعادها، أو عدم تناولها، في الفكر العربي الحديث، تعني تحديداً «فصل الدين عن الدولة». في المقابل، وخلال تشديد الجابري على زيف هذه المسألة وعدم ملاءمتها لواقعنا، قام بحركةٍ بالغة الأهمية والدلالة والطرافة: لقد شدد على الحاجة إلى فصل الدين عن السياسة، في العالم العربي الإسلامي...! وتكمن الطرافة في أن هذا الفصل الأخير هو، تحديداً أو خصوصاً، ما يعنيه مفهوم العلمانية، عند كثيرين ممن يتناولون هذه المسألة، في العالم العربي، بل وفي العالم الغربي أيضاً.

انطلاقاً من ذلك، يبدو واضحاً أنَّ تحديد موقف الجابري، وغيره من المفكرين العرب، من العلمانية، يقتضي التحديد الدقيق لمعنى هذا المفهوم أو المصطلح، والابتعاد عن أي إجابةٍ تبسيطيةٍ. فللإجابة عن سؤال «هل الجابري مع العلمانية أم ضدها؟»، ينبغي الابتعاد عن أي إجابةٍ تبسيطيةٍ على شاكلة «نعم فقط» أو «كلا فقط»؛ فكلا الإجابتين التبسيطيتين تجسدان فوضى المفاهيم والمصطلحات السائدة، في كثيرٍ من النقاشات الفكرية المنتشر في الفكر العربي، الحديث والمعاصر، وسوء الفهم الذي تتضمنه و/ أو تفضي إليه. ومن دون تحديد هذه المفاهيم وتحليلها وتوضيحها، من المرجح أن يبقى التبسيط هو السائد غالباً، في النقاشات التي تتناول العلاقة، الممكنة أو الفعلية، للإسلام بالنموذج العلماني أو بالديمقراطية العلمانية. ولهذا التبسيط أسباب متعددةٌ ومعقدةٌ، يأتي، في مقدمتها، التناول الأيديولوجي (بالمعنى السلبي للكلمة) المتطرف لهذه المسألة وانقسام غالبية من يتناولونها إلى إسلامويين، يرون أن «العلمانية هي المشكلة»، وأن «الإسلام هو الحل»، وعلمانويين، يرون أن «الإسلام هو المشكلة»، وأن «العلمانية هي الحل».

وثمة فرقٌ كبيرٌ، بين القول إن العلمانية تعني «فصل الدين عن الدولة»، والقول إنها تعني «فصل الدين عن السياسة». فعلى سبيل المثال، انطلاقاً من التعريف الأول، يكون مشروعاً، من حيث المبدأ، تأسُّس الأحزاب أو الخيارات السياسية، أو تأسيسها، على أساسٍ دينيٍّ، في «الدولة العلمانية». في المقابل، يُمنع أو يمتنع ذلك، وفقاً للتعريف الثاني. واختيار أحد هذين التعريفين ليس مسألةً اصطلاحيةً أو اعتباطيةً، كما ينبغي لهذا الاختيار ألا يتأسس على المعنى اللغوي، أو على النشأة التاريخية، فحسب، بل ينبغي له، أيضاً وخصوصاً، أن يتأسس على التحليل الفلسفي المنطقي لنوع الانفصال أو الفصل المطلوب و/ أو المرغوب، من جهةٍ أولى، ولإمكانيته وواقعيته أيضاً، من جهةٍ ثانيةٍ. فعلى سبيل المثال، هل يمكن، بالفعل، ألا يتأثر الناخبون بانتماءاتهم وثقافتهم الدينية، حين يقومون بعملية الانتخاب السياسية؟ وكيف نفهم الحديث عن اتسام النظام السياسي لبعض الدول بالديمقراطية والعلمانية، مثل بريطانيا وألمانيا، على الرغم من عدم انفصال الدولة عن الكنيسة في بريطانيا، وعدم انفصال الدين عن السياسة في ألمانيا؟

وفي هذا السياق، يكون فهم العلاقة القائمة و/ أو الممكنة، بين الديمقراطية والعلمانية، غايةً في الأهمية. والسؤال الأساسي هنا هو: هل العلمانية سمةٌ من سمات الديمقراطية، (فنظراً إلى كون المساواة القانونية والحقوقية بين المواطنين أحد أهم مبادئ الديمقراطية او أسسها، تكون العلمانية سمةً من سمات الديمقراطية، من حيث تعلقها بالمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية) أم إن الديمقراطية هي إحدى مكونات ما يُسمَّى «النموذج العلماني»؟ تبدو أهمية الإجابة عن مثل هذا السؤال كبيرةً، بل حاسمةً، ليس على صعيد الفهم النظري للمفهومين فحسب، بل على صعيد الممارسة العملية، والأيديولوجيا السياسية، والتقييمات الأخلاقية، أيضاً. فإذا كانت العلمانية جزءٌ أو سمةٌ من سمات الديمقراطية، يصبح النضال من أجل الديمقراطية، وضد الاستبداد والديكتاتورية، نضالاً من أجل العلمانية أيضاً، بالضرورة. في المقابل، عندما تكون الديمقراطية جزءاً من «النموذج العلماني» -الذي يضم، إضافةً إلى العلمانية والديمقراطية، منظومة حقوق الإنسان خصوصاً- يكون المقابل المناقض لها هو «النموذج الديني» تحديداً. وتبني هذا المنظور يجعل التحالف مع القوى المستبدة والديكتاتورية ممكناً نسبيّاً وجزئيّاً، وفقاً لمنطق «ضرورة قبول السيء تجنباً لما هو أسوأ». وعلى هذا الأساس، نفهم التحالف المريب لكثير من النخب العلمانية مع النظم الاستبدادية، لمواجهة ما يسمونه بالتطرف الديني الإسلاموي، مع العلم أن الإسلاموية ظاهرةٌ سياسيةٌ أكثر من كونها ظاهرةً دينيةً؛ وأن جهادية الإسلامويين هي، بالدرجة الاولى، حصيلة تغييب السياسة في المجتمع، وحصر أدواتها بأيدي السلطة الحاكمة، أكثر من كونها حصيلة حضورٍ ما لنصوصٍ دينيةٍ، وتفسيراتٍ معينةٍ لهذه النصوص

ولا يمثِّل حضور الدين أو التدين، في السياسة وفي الدولة، مشكلةً (كبيرةً)، طالما تمَّ فهمه وتأويله، على أساس منظومة حقوق الإنسان، ومبادئ الديمقراطية، والحريات الفردية الأساسية. ولهذا لا نرى مشكلةً (كبيرةً) في حضور الدين في المجال العام، وفي عدم الفصل (الكامل) بين الكنيسة أو الدين والدولة أو السياسة، في بعض الدول الأوروبية. ويمكننا تشبيه الوضع، تشبيهاً جزئيّاً ونسبيّاً، بوضع العلاقة بين الفلسفة والدين في أوروبا، في العصر الوسيط. فالدين المسيحي المعاصر يتم أنسنته أو تأويله، على أساس قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، وبما لا يتعارض مع هذه القيم، كما حاول توما الأكويني أن يعقلن الدين ويقيمه على أساسٍ فلسفيٍّ عقلانيٍّ ومعقولٍ. في المقابل، نجد أن الاتجاه الإسلامي السائد في تناول العلاقة بين حقوق الإنسان والديمقراطية، من جهةٍ، والدين الإسلامي، من جهةٍ أخرى، يقوم على إخضاع الأولى للثانية وتفسيرها بها وتفصيلها عليها، كما فعل ابن رشد حينما رأى أن الشريعة هي صاحبة الحق في تحديد مدى مشروعية، أو عدم مشروعية، الفلسفة والمستجدات في الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية عند المسلمين.

إضافةً إلى الاتجاه الإسلامي، ثمة اتجاهٌ إسلامويٌّ يرفض معظم أو كل القيم الإيجابية للحداثة، وكامل منظومة الديمقراطية، والعلمانية، وحقوق الإنسان، تقريباً. ولا يمكن، أو بالأحرى ينبغي عدم، مواجهة هذا التيار الإقصائي بعلمانويةٍ إقصائيةٍ مماثلةٍ تعمل على اجتثاث الدين والمتدينين من الحياة السياسية، ومن المجال العام بأكمله. فهذه العلمانوية غير ديمقراطيةٍ، من ناحيةٍ، وتفضي، على الأرجح، إلى تعزيز قوة التطرف الديني السلبي (الجهادي أو الإسلاموي)، من ناحيةٍ أخرى. ويمكن لتحليل مفهوم السياسة أن يبيِّن أن المشكلة، في خصوص العلاقة بين الديمقراطية والدين، لا تكمن، في الدرجة الأولى أو أساساً، في حضور السياسة في الدين، أو في حضور الدين في السياسة، كما يعتقد كثيرون. فلا مشكلةً في حضور الإسلام السياسي، إذا كان بالفعل سياسيّاً، وليس جهاديّاً. المشكلة الأكبر، في هذا الخصوص، تكمن في أن الإسلام السياسي المزعوم ليس سياسيّاً، بل إسلامٌ جهاديٌّ؛ أي إنه لا يقوم على منطق التفاوض والتسويات السلمية بين أطرافٍ حرةٍ، وإنما على منطقٍ ساعٍ إلى قسر الآخرين وإكراههم على قبول ما لا يرغبون به، ولو اقتضى ذلك استخدام العنف. إن تغييب السياسة، وحضور القسر والإكراه، في صورته الإسلاموية أو العلمانوية، هو ما يتناقض مع الديمقراطية، وليس وجود ارتباطٍ أو اتصالٍ ما بين الدين والسياسة.

أود، أخيراً، الإشارة إلى أن الفلسفة أصبحت مضطرةً إلى التخلي عن كونها تأملاتٍ فرديةً تتخذ، أحياناً أو غالباً، شكل «هواجس أو أحلام يقظة المتنزه المتوحِّد أو الجوال المنفرد الروسوي». فقد أصبح البحث الفلسفي غالباً (في أوروبا، وفي العالم الأنجلوسكسوني على الأقل) عملاً جماعيّاً وتعاونيّاً بمعنيين: من جهةٍ أولى، لا يتم إنجاز «أي» بحثٍ، ونشره، إلا بعد أن يخضع غالباً لمناقشاتٍ عديدةٍ في محاضراتٍ، وسيميناراتٍ، وورشاتٍ، وجلسات نقاشٍ وحوارٍ. ومن جهةٍ ثانيةٍ، يسعى البحث الفلسفي إلى الاستفادة من المنجزات المعرفية، في الحقول الأخرى، والتعاون معها، لفهم الظاهرة المدروسة. وينطبق هذا الأمر على دراسة الدين والظواهر المتعلقة به. ففي المؤسسة البحثية التي أعمل على إنجاز مشروعي البحثي فيها، عن الإسلام (السياسي) وعلاقته بالديمقراطية والعلمانية، ثمة مختصون من ميادين وحقولٍ مختلفةٍ (اللاهوت، علم اجتماع الدين، أنثروبولوجيا فلسفية واجتماعية، تاريخ، علوم اللغة، فروعٍ فلسفيةٍ مختلفة... إلخ). وفي هذه المواجهة المعرفية، لم تعد الفلسفة أم العلوم، بل إحداها أو إحدى الميادين المعرفية فقط؛ كما لم يعد الدين هو مجال المقدس الذي ينبغي تعظيمه أو انتهاكه، بل حقل دراسةٍ تهدف إلى الفهم والإفهام، بالدرجة الأولى.