العلمانية في احتمالاتها المتعددة!!
فئة : مقالات
العلمانية في احتمالاتها المتعددةᵎᵎ*
المقولات النظرية في صيغة المفرد لا توجد إلا في إدراك يعزلها عن الحياة التي تنظر إلى المقولات دائماً بصيغة الجمع. فالعولمة المشتقة من عالم موحّد تتضمن عولمة الغنى وعولمة الفقر والإرهاب، وعولمة "التطرّف الديني" دون أن تتضمن لزوماً عولمة الاعتراف المتبادل بين البشر. وكذلك حال العلمانية في أشكالها المتعددة: العلمانية الصلبة المستندة إلى تراث الثورة الفرنسية، والعلمانية "الطريّة" على الطريقة التركية، والعلمانية المستبدة التي أخذ بها الاتحاد السوفييتي ذات مرّة، والعلمانية التلفيقية التي عرفتها بعض الأنظمة العربية قبل سقوطها، وتلك العلمانية الملتبسة في الولايات المتحدة، "البلد الحر" الذي تمنع بعض مدارسه حتى اليوم تدريس "نظرية دارون"،... فما يوجد هو "علمانيات" مرتبطة بأشكال متنوعة من التطوّر الاجتماعي.
وما ينطبق على العلمانية يندرج فيه مصطلح "حرية الضمير"، أو "حرية المعتقد". فهذه الحرية المرتبطة بمفرد إنساني محدد تستدعي بدورها منطقياً حريات تحايثها تنطوي على حرية التعبير والانتقال والخيار السياسي... ولعل هذه الحرية، بصيغة الجمع، هي التي جاءت بمفهوم لا ينقصه الارتباك: حقوق الإنسان، التي تختصر أحياناً في شكلية فقيرة مرجعها: حق الرأي والتعبير. ولهذا ردّ البعض، وليس بلا حق، على "حقوق الإنسان" بمنظور نقدي يقول بـ: حقوق الشعوب، ذلك أنّ حقوق الإنسان ليس لها معنى في بلد مستبد تابع يأتمر بالخارج، ولا يتصرّف بإرادته ومشيئته.
ومثلما أنّ النص الأدبي لا وجود له مفرداً، لأنه أثر لعمليات الإنتاج والإرسال والاستقبال، وهي علاقات اجتماعية متداخلة، فإنّ معنى العلمانية يمتدّ إلى علاقات اجتماعية لا تنفصل عنه: الحوار المجتمعي، الأجهزة المدرسية والإعلامية، الوعي السياسي الصادر عن الفرد لا عن "الجماعة"، ممارسات النظام السياسي الذي يعترف بإرادة شعبه أو ينكرها. ولهذا فإنّ الحديث عن علمانية نظام مستبد مسكون بالمفارقة، فنظام كهذا يجتث الحريات جميعاً، ويجعل من العلمانية موضوعاً أقرب إلى الاستحالة. قال عبد الرحمن الكواكبي: "إذا طال عهد المستَبَدّ بهم بالاستبداد تطبّعوا بطباعه". والاستبداد الطويل العهد فرض إرادة وحيدة متعالية على مجموع "متجانس"، يرى في الاستبداد أمراً طبيعياً (لأسباب مختلفة) إن لم يرَ في الحرية، التي لا يعترف بها، تهديداً لذاته، بقدر ما يرى في غيره الذي يطالب بحريته تهديداً أكثر خطراً.
كلما تراجعت الحرية، أي الحق في الاختلاف والمبادرة، آثر رافضو "المجتمع المتجانس الصامت" الرحيل والانتقال، واختار المنتمون إلى "الأقلية"، إثنية كانت أو دينية، الهجرة النهائية. كما لو كانت المواطنة في معناها البسيط لا تستوي من دون "حرية المعتقد" مهما كان شكله. فإنسان "المعتقد الأضعف"، في شروط البؤس والاستبداد، هو "الإنسان الأضعف"، ما ينقل المواطنة من حيّز القانون والدساتير إلى حيّز "المنازلة"، عسكرية كانت أو جسدية.
ومع أنّ كلمتيّ "الأغلبية" و"الأقلية" تشيران إلى فرق في العدد لا يلتبس لزوماً بثنائية الغَلَبة والهزيمة، فإنّ هذه "الثنائية" في البلدان التي لم تصبح "مجتمعات" تنزاح إلى مسار آخر، حيث "الأكثرية العددية" كثيرة الحقوق قليلة الواجبات، على مبعدة عن "الأقلية" التي تغدو كثيرة الواجبات وقليلة الحقوق. وبداهة فإنّ بلدان "الأغلبية الغالبة"، التي هي بلدان "الأقلية المغلوبة"، لا تعرف الديمقراطية، ذلك النظام الاجتماعي الذي لا يعترف بالأقلية والأكثرية على مستوى الحقوق والواجبات. ولهذا، فإنه لا معنى للحديث عن العلمانية وحرية المعتقد في البلدان التي لا تحكمها القوانين، ولا إمكانية لوجود علماني صريح، أو لوجود إنساني "ضعيف الطائفة"، طالما أنّ "الكثير" يلتهم "القليل" ويطبق قانون الكثرة على "القلة"، وأنّ ما يعترف به العقل تغزوه الغرائز.
يضيء مآل "مسيحيي العراق" دلالة الفرق بين القانون والغريزة، مشيراً إلى العلاقة العضوية بين الهجرة وإهدار حقوق "المذهب الضعيف". ففي زمن الحكم الملكي، الذي سبق ثورة 1958، عرف مسيحيو العراق الاستقرار وتمتّعوا بحقوق المواطنة، ولم يتغيّر وضعهم في الأنظمة اللاحقة، التي اتسمت بتراجع فاجع للحريات الديمقراطية. كفلت لهم تلك الأنظمة حرية المعتقد الديني، وأدرجتهم في أجهزة الدولة الإدارية، في انتظار تبدّد الدولة في العراق وسيطرة "الغرائز" على المعايير العقلية، حيث خضع المسيحي، مثل غيره ربما، إلى استلاب مزدوج أفقده "ضعفه العددي" حق المواطنة، وأفقده "ضعف مذهبه" الحق في الحياة، فصار ثنائية رهيبة مداها الموت والهجرة.
في العالم العربي أعادت بلدان الاحتراب الطائفي تعريف "الإنسان ذي البعد الواحد"، الذي قال به ذات مرّة الألماني الأمريكي الجنسية هربرت ماركوز. فإذا كان الإنسان ذو البعد الواحد، في تصور الفيلسوف، هو الذي اختزلته البيروقراطية ـ التقنية في كيان ممتثل، جوهره خارجه، محكوم بالاستهلاك والقبول، فإنّ إنسان البعد الواحد في بلدان الاحتراب الطائفي يختصر في طائفته، كما يخترعها الوعي العدواني الممتثل. تغيب من الإنسان مزاياه الفردية، ويسلب منه تاريخها، ويتحوّل إلى وجود مجرد من "الواجب" إلغاؤه. فهو المختلف الشاذ، الذي تأمر "الفضيلة الطائفية" بالتخلّص من اختلافه وشواذه، كما لو كان هلاك "الإنسان المختلف" طريقاً إلى الخلاص.
وإذا كان في العقل الإنساني الذي روّض غرائزه ما يميّز بين العام والخاص والنسبي والكلي، فإنّ الانفعال الغريزي المحصّن بمقدّس مفترض يعتنق مبدأ "الحقيقة المطلقة" المسكون بالمفارقة، لأنّ المطلق الوحيد فيه هلاك نقيضه "الكافر" وإعدام الحقيقة. وبقدر ما أنّ نقيض الحقيقة الكليّة الطائفية يختزل في إنسان ذي بعد واحد ممثل بكفره، فإنّ الذي آمن باحتكار الحقيقة المقدّسة يختزل في بعد إيماني يجسّد الحقيقة والإرادة السماوية العليا. ولهذا، فإنّ الأخير لا "آخر" عنده، لأنه هو الواحد و"الآخر" معاً. وهو ينبذ الآخر لأنه ينبذ معنى الاختلاف القائل بالنسبية وبإمكانية الحوار، ويعتنق "بداهة الفرق الشامل" التي تقسم البشر والكون كله إلى كافر ومؤمن. لا غرابة، والحال هذه، أن يكون "الاستبداد المقدّس" أكثر أشكال الاستبداد استبداداً، فأحد الطرفين فيه يتماهى بالإرادة الإلهية، ويسوّغ كل ما يقوم به بإرادة متعالية تقرّر أشكال "القصاص" المختلفة ولا تقبل بالمساءلة، ذلك أنّ المساءلة تخصّ لوناً من البشر قطع مع الإرادة الإلهية.
يقول الشيخ محمد عبده في دراسته "الاضطهاد والنصرانية": "ليس في الإسلام سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوى إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين، يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم". الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، إشراف محمد عمارة، ص: 285ـ288. "لا يتراءى في القول "مؤمن كامل" أو "كافر كامل"، إنما ينفتح على معرفة "الحقيقة الدينية"، التي تقبل بالنسبي، وتختزل "الجهاد الديني" إلى الموعظة الحسنة. والواضح في القول، من دون تفصيل كبير النتيجة التالية: "إنّ من لا يعترف بدين الآخر، مهما كانت مصادره، لا يعترف بدينه الخاص به، بل لا يعترف بالأديان جميعاً". شيء يقترب من القاعدة القائلة: من يوغل في اليسار يصل إلى اليمين، التي تصبح في حال الإيمانية المكتفية بذاتها: من يعتقد بتجسيد الحقيقة الإلهية كاملة يصل إلى الكفر بها، ويغدو نقيضاً لما يعتقد أنه يجاهد في سبيله.
بين المؤمن العارف بحقيقة الدين والآخر الذي يجهل حقيقته مسافة تساوي الفرق بين الكفر والإيمان، ما يعطف الإيمان على المعرفة، وما يعطف المعرفة الدينية على الاعتراف بالإنسان وبخياره الديني. وفي حدود كهذه لا تحضر "اللفظية الدينية" وحيدة، إنما يسبقها ارتقاء ثقافي ـ معنوي، يربط بين الخيار الديني أو "حرية الضمير" والوقائع الاجتماعية. فالمسيحي العربي لا يساوي "الغربي المسيحي"، بقدر ما أنّ المسلم العربي لا ينتمي، لزوماً، إلى "الشرقي المسلم"، ذلك أنّ في الصفتين تجريداً لا يتفق لزوماً مع الوقائع الفعلية. وما إلغاء "الوقائع" كما اللواذ بتجريد لفظي يأتي إلا على جهل مأزوم يأخذ بعموميات لا تحديد فيها"، وتتكشّف أزمة اجتماعية تحجب ذاتها بحجب وقائع الحياة الفعلية.
وما "الإسلاموفوبيا"، التي انتشرت في الغرب مؤخراً إلا صورة عن "الجهل العنصري"، الذي ينكر مبدأ السببية الاجتماعية ويكتفي بقسمة جائرة ومريضة بين "غرب متحضر" و"إسلام متوحش"، متناسياً "حقوق الإنسان" ودور الغرب، لأسباب مختلفة، في بؤس و"هوان الشرق". فالشعبوية الصاعدة منذ عقود في بعض بلدان الغرب ترى في "المهاجرين المسلمين" سبباً في الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية، متناسية "السياسات الداخلية" والعجز عن إيجاد بديل سياسي ـ اجتماعي جديد. ولذلك يبدو "المهاجر" وجوداً خارجياً يهدد سلام المجتمع وقيمه الثقافية، دون النظر إلى الأسباب التي دعته إلى الهجرة، أو الالتفات إلى "العمل الأسود" الذي يقوم به، كما أظهر بيير بورديو في كتابه الكبير: "بؤس العالم".
والواضح في بعض ممارسات المجتمعات الغربية إنكار الآخر بعد "اختراعه"، وأَبْلَسة الآخر بعد الاختراع وقبله. وما ردّ الفعل على "الإسلام الإرهابي"، كما يقال ـ بعد الاعتداء الذي وقع على مجلة "تشارل إبدو" الفرنسية ـ إلا صورة عن أبلسة الدين الإسلامي وإعادة إنتاج هذه الأبلسة بشكل موسّع. بيد أنّ الأمر له سببيته "المادية" التي تشمل الفقر والعنصرية وترك "الأموات يذهبون إلى قبورهم"، وعدم الاكتراث بصور "مواتهم" ...... ففي "كره الغرب" المتمتع بالاستقرار وبالسلع الضرورية وغير الضرورية "كراهية لمجتمع آخر"، سمته البؤس والاستبداد والاضطرابات القاتلة، ففي كراهية "الآخر الغربي" احتجاج مأزوم للأنا "غير الغربية"، التي لا تعي شروط تقدّم الآخر ولا أسباب تخلّف مجتمعها. والمحصلة أنّ لكل مجتمع شكل وعيه الديني، ما يستحضر شكلين من الدين والمعتقدات: دين الأقوياء الذي يفسّر بشروط اجتماعية لا بمقولات دينية، و"دين الضعفاء"، هؤلاء الضعفاء الذين يقومون بتفجيرات صاخبة كي يبرهنوا أنهم ليسوا ضعفاء، وأنهم كانوا أقوياء ذات مرّة، ويستعدون لاستعادة قوتهم القديمة بوسائل تعبّر فعلياً عن ضعفهم.
في كتابه "أزمة المجتمع العربي"، الذي ظهر في نهاية القرن الماضي، أظهر سمير أمين العلاقة بين أزمة المجتمع العربي الشاملة وصعود "التيارات الدينية المتشددة". فالتشدّد الديني لا يصدر عن الدين بل عن حاضنته الاجتماعية التي تطرد التشدّد في سياق معين وتستولده في سياق آخر. كانت أزمة المجتمع "بنيوية" تحتشد بالفساد والقمع والبطالة والانتقال الكاسح من "الأحزاب السياسية" إلى "الجماعات" وسيطرة الخوف، التي تجعل من الشأن السلطوي، كما الشأن الديني، محرّماً لا يجوز المساس به أو الاقتراب منه، خلافاً لزمن ما قبل "الاستقلال الوطني". ففي النصف الأول من القرن العشرين قبل "وفود الدولة الوطنية" ندّد الشيخ محمد عبده بالتكفير، ولم يكن مصطلح "الدولة المدنية" يعني الخروج عن المعتقد الديني، وكتب المصري علي أدهم مقالته الشهيرة: "لماذا أنا ملحد"، ورد عليه رجل دين أزهري بلغة حوارية هادئة. كان في السياق الثقافي ـ السياسي ما يضع إنسانية الإنسان خارج معتقده الديني، وكان فيه اعتراف متبادل بين البشر بعيد عن التكفير و"القدح الطائفي". ولعل ذلك السياق الذي تمازج فيه التسيّس الاجتماعي بالارتقاء المعنوي ـ الثقافي هو الذي سمح لطه حسين في الجزء الأول من كتابه: "الفتنة الكبرى" أن يقول: "ومع مقتل عمر انتهى الإسلام، ومع مجيء معاوية عاد العرب إلى جاهليتهم...".
كلما تقلص حيّز الحرية الاجتماعية فقد الوطن معناه واحتل الدين موقع الوطن، وكلما زاد الخوف الاجتماعي تعرّف الإنسان بمراجعه العضوية الهاربة من الوطن والمجتمع والدولة، وعاد إلى عشيرته وطائفته، وغدا مرجعه العشائري أو الطائفي مرجعاً وحيداً له. ولأنّ الطائفة، وكذلك العشيرة، لا وجود لها إلا في مواجهة طائفة أخرى، يغيب الاعتراف المتبادل بين البشر، وتتوزّع حقوقهم على الاحتراب والنزاع والصراع حتى الموت، إن كانت الشروط موائمة. والفرق بين العشيرة والطائفة أنّ إحداهما تلوذ بالمقدّس وتجعل من "اختلاف الآخر" حرباً مقدّسة، وأنّ ثانيتهما تكتفي بالانفصال الكامل فتطرد الآخر عوضاً عن أن تقتله.
والمسألة في النهاية لا تختزل إلى "العلمانية"، التي تنادي بحرية الضمير، بل تقوم في شروط الحوار المجتمعي، هذا الحوار الذي يلازمه بالضرورة ارتقاء قيمي، مرجعه العائلة والمدرسة ونمط الحياة الاجتماعية، وغيرها من المرافق التي تشرف عليها الدولة في التحديد الأخير.
للإنسان المغلوب أزمته وللإنسان الغالب، الآن، أزمته أيضاً. وفي زمن الأزمة الشاملة يعالج "الشعبوي الأوروبي" المهاجر المختلف عنه ديناً وثقافة بمنظور ديني، وينتج مسؤول الدولة الذي يدّعي العلمانية التعصّب الديني بوسائط إعلامية مختلفة، ويتحدّث "المسلم المتشدّد" عن "جاهلية مجتمع" تكتسحه الأعراف الدينية. في زمن سبق كان يقصد الذهاب إلى المستقبل، كان رجل الدين الأزهري يردّ على "خصمه" بتصورات غير دينية. كان الأول يعترف بالثاني، ويعترف بحقه في اختيار العقيدة التي يشاء، وفي الكلام الذي يعبّر به عن رؤاه.
لا معنى للعلمانية المكتفية بذاتها، فتحققها من تحقّق علاقات اجتماعية أخرى، ولا صوت للعلماني الذي عليه أن يلامس قضايا ما قبل العلمانية قبل أن يدعو إلى العلمانية، وأن يتطلع أولاً إلى إصلاح ثقافي ـ سياسي مجتمعي، مدخله نقد السلطة وتأمل شروط الفردية التي فرديتها من اختلافها، ذلك أنّ الاختلاف من سمات الحياة.
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد السابع، 2015، التي تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.